الفصل الثاني
الوجهات التعليمية في الإنجيل الثاني
سبق ودرسنا وجهات من إنجيل مرقس، وقد ألمحنا في ما سبق إلى فكره اللاهوتي. أما في هذا الفصل فنتوقف عند الوجهات التعليمية التي فيه. وندرس أولاً علاقة مرقس بالإنجيل، وثانياً، علاقة مرقس بتعليم يسوع. ونتوقّف في القسم الثالث عند تعليمه للرسل حول الآلام والقيامة.
1- مرقس والإنجيل
ندرس هنا كلمتين: أنجل، إنجيل (أونجليون)، كرز، كرازة (كروساين). ونبدأ بالكلمة الأولى.
أ- الإنجيل
أولاً: استعمال الكلمة
إنّ استعمال مرقس للفظة "إنجيل" يدلّ على فكرة مبتكرة لديه. فقد كتب في بداية إنجيله: "بداية إنجيل يسوع. المسيح". ثم قدّم لنا يسوع وهو "يعلن إنجيل الله". وقال: "آمنوا بالإنجيل" (1: 14- 15). وسيقول فيما بعد: "من يخسر حياًته من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلّصها" (8: 35). ثم: "ما من أحد ترك بيوتاً، اخوة، أخوات، أماً، أباً، أولاداً أو حقولاً من أجلي ومن أجل الإنجيل إلاّ ونال مئة ضعف" (10: 29). وفي قلب "الخطبة الاسكاتولوجية" التي تعلن الإضطهادات للتلاميذ، أكّد يسوع: "يجب أولاً أن يُعلن الإنجيل على جميع الشعوب" (13: 10). وأخيراً، في حديث عن المرأة التي أفاضت على رأسه نارديناً ثميناً أعلن: "حيث يُعلن الإنجيل في العالم كله، يُخبر أيضاً بما فعلت، تذكاراً لها" (14: 9).
لا ترد كلمة "إنجيل" عند لو. أما في أع 15: 7 فنقرأ "كلمة الإنجيل"، وفي 20: 24: "إنجيل نعمة الله". وهكذا لا نجد لفظة "إنجيل" في المعنى المطلق في مؤلف لوقا. كما لا نجدها عند مت. بل نقرأ: "إنجيل الملكوت" أو "هذا الإنجيل" (4: 23؛ 9: 35؛ 24: 14؛ 26: 13. المقطعان الأخيران يوازيان مر). تعود اللفظة مراراً وكأنها لا تحتاج إلى تحديد ما عدا في 1: 1 (إنجيل يسوع المسيح) وفي 1: 14 (إنجيل الله). بهذا يتميّز مر عن سائر الأناجيل. وبهذا بدا الإبتكار عند الإنجيلي الثاني.
لم يستقِ مر هذه اللفظة من مرجع سابق في 1: 1. وفي 8: 35 و 10: 29، كل شيء يدلّ على عمله التدويني. فقد زاد "من أجل الإنجيل" على عبارة "من أجلي". لقد غابت هذه الإضافة من مت ولو. إكتفيا فقط بعبارة "من أجلي" بالنسبة إلى 8: 35 (مت 16: 25= لو 9: 24). أما بالنسبة إلى القول الثاني فقال مت 19: 29: "من أجل اسمي". وقالت لو 18: 29: "من أجل ملكوت الله". وهكذا نكون أمام أمر خاص بمرقس.
في 13: 10 يبدو ذكر الإنجيل الذي يُعلن على جميع الأمم بشكل معترضة تتحدّث عن الإضطهاد المعلن للتلاميذ. وكنا قد قرأناها آ 9: "تمثلون أمام الولاة والملوك من أجلي" ومن الواضح أنّ مر أقحم المعترضة وقدّم تفسيراً جديداً لعبارة "من أجلي". فقال: "من أجل الإنجيل". أخيراً، إن 14: 9 شبيه بما في 13: 10. وقد زيد على خبر المسح بالطيب في بيت عنيا فكرة قد تكون جانبيّة. أما يكون مر قد أضافها؟
نعود إلى "إنجيل الله" الذي أعلنه يسوع في الجليل (1: 14): يبدو أنه يجب أن ننسب العبارة أيضاً إلى مر. وقد نستطيع العودة إلى ملخّص سابق يقول: "تمّ الزمان. إقترب ملكوت الله. توبوا وآمنوا بالإنجيل" (1: 15). قد نكون هنا أمام فقاهة قصيرة. لا نعجب إن وجدنا هذه العبارة في قلم مر. وإن جاءت من محيطه فقد تبنّاها.
ثانياً- معنى هذه الكلمة
إذن، شدّد مر على هذه الكلمة. لماذا؟ ما هو معناها؟ نبدأ في النهاية.
* الإنجيل في العالم كله
حسب 13: 10 و14: 9، يجب أن يُعلن الإنجيل في العالم كله. لا شكّ في أن مر تطلّع إلى مهمّة الكنيسة كما بدت في أيامه. فكرازة الإنجيل تتضمّن تذكّر واقع محدّد مثل المسح بالطيب في بيت عنيا (14: 9). وذلك بالنظر إلى دفن يسوع، بالنظر إلى سرّ المسيح المائت والقائم من الموت، الذي أعطاه مر أهميّة كبرى خصوصاً منذ 8: 31.
ويتبع هذه الكرازةَ بالنسبة إلى المرسلين، الإضطهادات (13: 10) التي تجد ذروتها في "الشهادة" التي يؤدّونها أمام الولاة والملوك. وهذه الشهادة ليست شهادة الأقوال البشرية: "لستم أنتم المتكلّمين، لكن روح أبيكم هو المتكلّم فيكم" (آ 11). إذا كان الله قد وعد المرسلين المضطهدين بقوّته، فيجب أن نستنتج (حسب مر) أن الله يعمل الآن في كرازة الإنجيل التي تقود إلى الإضطهاد.
* من أجل المسيح
حين يُضطهد هؤلاء لأنهم أعلنوا الإنجيل، فهم يُضطهدون من أجل المسيح (13: 9- 10). التضحية حتى بالحياة من أجل الإنجيل، هي التضحية من أجل المسيح (8: 35؛ 10: 29). والتوازي بين عبارة "من أجلي" وعبارة "من أجل الإنجيل" يدهشنا. نلاحظ أولاً أن "الإنجيل" يدلّ هنا على دينامية عمل يجب أن نكرّس نفوسنا له. لسنا فقط أمام خسران الحياة بسبب الإيمان بالإنجيل أو بالتعليم الذي تسلّمناه، بل من أجل الإنجيل الذي نعلنه بدورنا.
هذا ما يبيّنه سياق 8: 35: "إن استحى أحد بي وبكلماتي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ" (آ 38). وسياق 10: 29 هو أيضاً أكثر وضوحاً. فالذين (حسب بطرس) قد تركوا كل شيء ليتبعوا المسيح هم أولئك الذين اختارهم (رج 3: 14- 15) لكي يكونوا معه ولكي يشركهم في عمله (1: 14، 38- 39). وحين يعد الذين تركوا كل شيء "من أجلي ومن أجل الإنجيل"، نتطلّع إلى تجرّد قبلوا به ليجعلوا نفوسهم لا خدمة الإنجيل ويعلنوه. إذن، لا يكفي أن نقول إن المسيح هو موضوع الإنجيل. فنحن ندرك العلاقة بين الواحد والآخر، ندركها في الحياة والعمل: إن عمل المسيح يتواصل اليوم في عمل تلاميذه. ومن صار مرسلاً، جعل نفسه في خطى المسيح، جعل عمل المسيح عمله، وطريق المسيح طريقه مع ما فيها من تهديد حتى خسارة النفس. ونستطيع القول إن الإنجيل المعلن الآن هو المسيح نفسه الحاضر حضوراً ديناميكياً متواصلاً. وهذه هي الوسيلة من أجل التلميذ ليكون مع المسيح، ليقاسمه مصيره، ليعمل معه.
ثالثاً: لغة المرسلين
لهذا استعمل مر لغة المرسلين في الكنيسة، لكي يتحدّث عن نشاط يسوع في الجليل: إن يسوع "أعلن إنجيل الله" وطلب الإيمان مع التوبة فقال: "آمنوا بالإنجيل" (1: 14- 15). في هذه الحالة الأخيرة، تدلّ اللفظة على تعليم أو بالأحرى على موضوع هذا التعليم: تمّ الزمان. هي ساعة تدخّل الله الحاسم. تمزّقت (إنشقّت) السماوات، وأرسل الله ابنه، وبدأت الحرب الأخيرة ضدّ إبليس (1: 10- 13).
وبعد وقت قليل، سوف نرى علامات تدلّ على أعمال الله وانتصاره، على أعمال قدرة يتمّها يسوع. والإيمان بالإنجيل يعني أن نتقبّل (بعد أن نتعرّف إليه) الله الذي يتدخّل لكي يُقيم ملكوته. وهو "إنجيل الله". لا لأن البشارة تأتي منه وحسب، بل لأنه يحرّك الحدث الاسكاتولوجي الذي يقابل إعلان الإنجيل. بدأه يسوع وهو يتواصل ويبقى العلامة التي بها عرف مر عمل الله في زمانه. لهذا، ما إن قدّم لنا شخص يسوع (1: 14- 15) حتى أسرع فروى لنا نداء التلاميذ الأربعة (آ 16- 20) الذين بهم سيتواصل العمل (3: 13- 14؛ 6: 7).
رابعاً: بدء إنجيل يسوع
والآن نعود إلى أولى كلمات الإنجيل: "بدء إنجيل يسوع". حين يتحدّث مر عن رسالة يوحنا يرى فيها "بدء إنجيل يسوع المسيح". كيف يمكن أن يكون هذا، إن كان يحتفظ للمسيح بالإعلان الأول لإنجيل الله (1: 14)؟ كل شيء يتوضّح إذا فهمنا أن الإنجيل هو حدث قبل أن يكون تعليماً.
لا يهتمّ مر بيوحنا المعمدان إلاّ من وجهتين: عبره يحقّق الله مواعيده (آ 2- 3). ثم إن تعليم يوحنا يعني يسوع الذي هو أقوى منه (بقدرة الله)، الذي يعمّد بالروح القدس (آ 6- 8). وهكذا تكون رسالة يوحنا جزءاً من الحدث الاسكاتولوجي الذي يتثبّت بواسطة إعلان يسوع في الجليل والتلاميذ عبر العالم. عاد مر من زمنه إلى بداية هذا الخبر حيث يتدخّل الله لكي يقيم ملكه. وقبل أن يظهر يسوع، كان إنجيل يسوع المسيح قد ظهر، لا لأن يوحنا كان قد أعلنه، بل لأن زمن الخلاص تدشّن بكرازته.
ب- الكرازة
أولاً: الكلمة في إنجيل مرقس
إن هذه الملاحظات عن "الإنجيل" كما في مر، تحتاج أن نكمّلها بدرس لفظة "كاروساين" (كرز، أعلن) التي تعني الإنجيل ثلاث مرات (1: 14؛ 13: 10؛ 14: 9)، وتعرف استعمالات أخرى في تسع حالاًت. نحن في أكثر الأحياًن أمام آيات دوّنتها يد مرقس.
مرتين "أعلن" يوحنا المعمدان إمّا معمودية التوبة (1: 4)، وإمّا مجيء "الأقوى"، أي المسيح (1: 7). فبحسب موقع الفعل في الجملة، يبدو أن هذا "الإعلان" يشكّل في ذاته الحدث الذي به يبدأ الله بتحقيق النبوءات (1: 1- 3). ثم يأتي "إعلان" إنجيل الله بواسطة يسوع في الجليل (1: 14)، الذي يدلّ على بداية "الزمان" (كايروس).
ويرد فعل "أعلن" مرتين من دون مفعول به. فيدله على أول نشاط يسوع الذي "خرج" لأجل ذلك (1: 38- 39). وبعد هذا، أسّس يسوع الإثني عشر لكي "يكرزوا" بدورهم (3: 14). وفي الواقع، "كرز" المرسلون ونادوا بالتوبة (6: 12). نستطيع أن نلاحظ وحدة هذه النصوص كلها. أعلن (كرز)، أعلن الإنجيل، أعلن التوبة الضرورية، كل هذا يميّز زمن الخلاص، ويدلّ على تدخّل الله في وسطنا، من يوحنا المعمدان حتى الآن.
وهناك ثلاث حالاًت لا تشير من قريب إلى النشاط الرسولي: حين يتحدّث مر عن شفاء الأبرص الذي رغم توصية يسوع "طفق يعلن أشياء كثيرة" (1: 45). أو عن متشيطن الجراسيين "الذي أخذ يعلن في الدكابوليس (المدن العشر) كل ما صنعه يسوع له" (5: 20). أو عن شهود معجزة كانوا "يعلنون" رغم أن يسوع طلب منهم الصمت (7: 36). ولكن في هذه الحالاًت أيضاً، نحن أمام إعلان تدخّلات الله في وسطنا بواسطة وقائع محدّدة (رج 2: 12؛ 5: 19؛ 7: 37). وحين يتكلّم مر عن الذين نعموا بالمعجزات أو شاهدوها، فهو يفكّر أيضاً بواجب الكنيسة "الرسولي". ففي مقطع تدويني، يرينا يسوع وهو يدعو الذين أرادهم وجعلهم إثني عشر "لكي يكونوا معه، ولكي يرسلهم للكرازة" (3: 14). كيف لا نتذكّر ذلك حين نرى ابن جراسة الذي شُفي، يتوسّل إلى يسوع "لكي يكون معه". أما يسوع فكلّفه بأن يذهب إلى بيته وإلى أهله ليخبرهم (ليعلن لهم، ليكرز) بما صنعه الرب له (5: 18- 19).
ثانياً: خلاصة
يهتم مر بقيمة يراها حاضرة، بإنجيل يسوع المسيح الذي أرسلت الكنيسة لكي تعلنه في العالم كله. وحين كان يدوّن إنجيله، ففعل "أعلن، كرز" والاسم "إنجيل" كانا قد صارا معروفين في اللغة المسيحية، وارتبط الواحد بالآخر. ونحن نستطيع أن ننسب إلى بولس اختيار كلمة "إنجيل" ونشرها في العالم المسيحي، لكي تدلّ على كرازة ناشطة، على تعليم أساسي تحمله الكنيسة.
إنطلق مر من هذه اللفظة التي تسلّمها من محيطه، أو بالأحرى من العمل الذي تتضمّنه هذه اللفظة، فعاد إلى الأصول، إلى أبعد من كرازة الرسل الفصحية. عاد إلى رسالة يسوع والتهيئة لها في مهمّة يوحنا المعمدان. حينئذ بدأ الله يتدخّل في هذا العالم بشكل حاسم. ومهمّة الكنيسة تتابع مهمة يسوع وتدلّ اليوم على عمل الله في وسطنا.
بهذه الروح استعمل مر التقاليد الشفهية والمراجع المكتوبة التي وصلت إليه، والتي تدلّ في نظره على الصراع الاسكاتولوجي الذي قامت به قدرة الله لإقامة الملكوت. وهكذا صارت أحداث حياة يسوع على الأرض "إنجيل": هنا يفترق مر عن بولس الذي تطلّع بشكل خاص إلى آلام المسيح وقيامته.
نحن لا نقول إنه تصوّر كتابه بشكل كرازة أو كعرض لما تعلنه الكنيسة. إن عبارة "بدء الإنجيل" التي نجدها في 1: 1 لا تشكّل فقط عنوان الكتاب أو مادته. إنه يفكّر أيضاً في خبر يفسرّ الحاضر، خبر تدخّل الله الاسكاتولوجي في هذا العالم. أو خبر تجليّ المسيح حيث يكشف عن نفسه ويكشف عمّا يتمّه الله به في وسطنا. هذا الخبر يحدد كخبر سارّ ليسوع المسيح ابن الله.
2- مرقس وتعليم يسوع
في الغة مر يتميّز فعل "علّم" (ديدسكاين) تميّزاً واضحاً عن فعل "أعلن". فالتعليم يتبع الإعلان ويمتدّ بعده. وبعد أن لخّص مر في ألفاظ قاطعة الإنجيل الذي أعلنه يسوع (1: 14)، أرانا إياه في كفرناحوم: "دخل يوم السبت إلى المجمع، وكان يعلّم" (1: 21). إن مر لا يمزج بين الفعلين، ولا يجعل أبداً "أعلن" بعد "علّم" (رج مت 4: 23؛ 9: 35).
مرات عديدة نرى يسوع يعلّم دون أن نعرف موضوع تعليمه (1: 21- 22؛ 2: 13؛ 6: 2، 6 ب، 34؛ 10: 1؛ 11: 18؛ 14: 49). لا يُحدّد هذا التعليم إلا بالنسبة إلى الأمثال في ف 4 (آ 1- 2)، وإلى الأنباء بالآلام والقيامة (8: 31؛ 9: 31)، والى بعض كلمات وردت هنا أو هناك (11: 17؛ 12: 35، 38؛ رج 12: 14: طريق الله). ويُذكر مرة واحدة تعليمُ الرسل (6: 35).
ليست المشكلة أن نحدّد الوضع الخاص الذي فيه أدخل مر فعل "ديدسكاين" أو الإسم "ديداخي". فقد تسلّمهما مراراً من مراجعه أو من التقليد (11: 27؛ 12: 14، 35، 38). كما تسلّم من التقليد أيضاً لقب "رابي" أو "ديدسكالوس" (معلّم) وطبّقه على يسوع. غير أننا نتوقّف عند ما يميّز تعليم يسوع في إنجيل مرقس.
أ- التعليم عمل قدرة
قيل وكُرّر أن مر لا يهتمّ كثيراً بتعليم يسوع. إنه يتميّز في هذا المجال عن مت. لا شكّ في أن مر لم يجهل تقليد أقوال يسوع. ولكن كيف نوفّق هذه المعرفة مع واقع يرينا أنه يهمل أن يستقي من هذا التعليم على قدر إشاراته إلى هذا التعليم (كان يعلّم. ولكن، ماذا كان يقول؟)؟ هل فرضت عليه مراجعُه التصميم؟ أو بالأحرى، إن فعل التعليم نفسه يرتدي في نظره أهمّية كبرى، وذلك بمعزل عن التعليم المعطى.
بعد إجمالة 1: 14- 15 ودعوة الرسل الأربعة (آ 16- 25)، نشهد مع مر يوماً رسولياً ليسوع: نراه يعلّم في هيكل كفرناحوم (آ 21- 28). ويلاحظ مر: "كانوا متعجّبين من تعليمه. فقد كان يعلّمهم كمن له سلطان، لا كالكتبة" (1: 22). ويلي هذا شفاء الممسوس (فيه شيطان) (آ 23- 26). ويستخلص مر: "كانوا كلهم متحيّرين بحيث تساءلوا قائلين: ما هذا؟ تعليم جديد مع سلطان! يأمر الأرواح النجسة فتطيعه" (آ 27).
لقد تحيرّ الحاضرون وخافوا بسبب قدرة الله التي تجلّت في المعجزة. ولكن لماذا بدأوا وتساءلوا عن تعليم جديد يُعطى بسلطان (اكسوسيا)، مع أن الإنجيلي لم يتحدّث عن هذا التعليم منذ آ 22؟ قدّم لوقا المتتالية عينها، ولكن دهشة الحاضرين تشير فقط إلى المعجزة: "ما هذه الكلمة"؟ أي الكلمة التي بها طرد يسوع الشيطان. أو حسب المعنى السامي لكلمة "لوغوس" (دبار): "ما هذا الشيء"؟ مهما يكن من أمر، فما يلي يبدأ مع "هوتي" ويبدو واضحاً: أصل دهشتهم هو أن يسوع "أمر بسلطان وقدرة على الأرواح النجسة فخرجوا" (لو 4: 36). أما مت فلا يورد المعجزة ولا دهشة الحاضرين، ولكنه يُتبع عظةَ الجبل بملاحظة توازي توازياً تاماً ما قرأنا في مر 1: 22: "كانت الجموع مندهشة من تعليمه: كان يعلّمها كمن له سلطان، لا ككتبتهم" (مت 7: 28- 29).
من الواضح أن مت ولو يميّزان تمييزاً واضحاً بين تعليم يسوع ومعجزاته. أما مر فيربط الإثنين في تجل واحد لقدرة الله. في نظر مت، يدلّ يسوع على سلطانه بتعليمه (رج مت 5: 21- 48). أما مر فلا يهتمّ إلا بهذا الظهور مهما كان التعليم المعروض هنا. فكأني بالكلمة التي تعلّم وبالكلمة التي تطرد الشياطين قد صارتا كلمة واحدة، صارتا تعبيراً عن ذات القدرة الإلهية الواحدة. لهذا نفهم لفظة "اكسوسيا" بمعنى السلطان الإلهي كما في 3: 15 و6: 7 حيث نحن أمام سلطان يسلّم للإثني عشر لكي يطردوا الشياطين (رج 2: 10؛ 11: 28، 33. في 13: 34، هناك خيرات يتصرف بها الخدم).
يمتلك يسوع هذا السلطان حين يعلّم: ظلّ السامعون مدهوشين حسب 1: 22؛ 6: 2؛ 9: 18. وسيكونون كذلك أمام المعجزات حسب 7: 37 (رج 6: 2). إن تعليم يسوع هو عمل قدرة الله. فالله يفعل في وسطنا، بهذه الكلمة (كلمة يسوع) التي تعلّم والتي تطرد الشياطين وتشفي.
وهذا العمل يجب أن يتواصل في الكنيسة. وهذا ما نراه بوضوح من خلال إعلان الإنجيل. غير أن مر لا ينسى أن يبيّن كيف ضمّ يسوع الإثني عشر إلى رسالته التعليميّة. فقد سبق إرسالهم مع سلطان على الأرواح النجسة، هذه الكلمات: "وكان يجول في المدن المجاورة وهو يعلّم" (6: 6). وحين عادوا "أخبروه بكل ما فعلوا وبما علّموا" (6: 39). هذا يدلّ على أنهم دُعوا ليعلّموا ويطردوا الشياطين على خطى المعلّم ومثاله. ويجب أن نرى في نشاطهم (كما يقول مر) قدرة الله الفاعلة. أجل، إن اهتمام مر كبير برسالة التعليم في الكنيسة.
ب- التعليم في الأمثال
ويحدّد مر للمرة الأولى في ف 4 موضوع تعليم يسوع، فيورد بعض الأمثال. فصل مؤلّف من عناصر متنوّعة، وقد عاد مر إلى المراجع لكي يدوّنه بطريقته، مع التشديد على السرّ المسيحاني.
أولاً: الزرع والسراج
لا نتوقّف أولاً عند 4: 10- 13 الذي قيل بأنه يعبّر عن فكر مر. بل نلاحظ انتباهه إلى الواقع الذي تعيشه كنيسته حين يقدّم تفسير المثل (آ 14- 20). فعلى الحالاًت الأربع المعدّدة، لا يفسرّ مصير الحَبّ مع بعض التفاصيل إلا في حالتين: وضع الأرض الحجرة: يطبّق على أناس يقعون في أولا تجربة أو اضطهاد من أجل الكلمة. ثم وضع الأرض التي يملأها الشوك: يطبّق على الذين يتركون هموم العالم وغرور الغنى وسائر الشهوات تحنق الكلمة (آ 17، 19).
كيف لا نقرّب هذين التنبيهين من نصّين دلّ فيهما مر على اهتمامه بالإنجيل. الأول (8: 34- 38): من الأفضل أن نخسر حياًتنا من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل، لا أن نستحي به وبكلامه أمام البشر. الثاني (10: 23- 30): يندّد يسوع بخطر الغنى ويعد بخيرات كثيرة (مع الإضطهادات) لمن يترك كل شيء من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل. إن كل أقوال يسوع هذه يراها مر مصوّرة أمامه في خبرة الكنيسة (لا ننسَ أننا في رومة في السنوات 65- 70). وهكذا نقرّب بين "الكلمة" التي يتحدّث عنها المثل، و"الإنجيل" الذي ما زالت الكنيسة تعلنه.
ويتبع تفسيرَ المثل حالاً قولٌ عن السراج الذي "يأتي" (المجيء) لا ليوضع تحت المكيال أو تحت السرير، بل على المنارة. "لا خفيّ إلا سيظهر، ولا مكتوم إلا ويعلن" (آ 21- 22). هنا نفكّر في كلام تكرّر: يجب أن يُعلن الإنجيل لجميع الأمم. وتحدّث النصّ بشكل غريب عن سراج "يأتي، يجيء"، مع العلم أن الأشكال الثلاثة الأخرى لهذا القول تتحدّث عن شخص يأتي بالسراج ويجعله على المنارة (مت 5: 15؛ لو 8: 16؛ 11: 33). لقد جعل مر من السراج شخصاً حياً، ولجأ إلى الفعل الذي يدلّ عادة على مجيء المسيح في وسطنا.
إذن، نجد هنا اهتمام مر بشخص يسوع، وبالعلاقة الحميمة بين المسيح والإنجيل. حينئذ نفهم التنبيه الذي يلي: "تبصروا (إنتبهوا) فيما تسمعون" (آ 24). أراد لو 8: 8 أن يصحّح هذه العبارة بعد أن شدّد مراراً على استعدادات السامعين تجاه كلمة الله، فكتب: "إنتبهوا إلى الطريقة التي بها تسمعون". ولكن، في نظر مر، إذا كان من الأهمية بمكان أن تُقبل البذرة في أرض طيبة، فذلك من أجلها ومن أجل ما ينكشف فيها. ماذا يعني ذلك؟
ثانياً: لماذا الأمثال
قال يسوع: "لكم أعطي سرّ ملكوت الله. أما لأولئك، للذين من الخارج، فيحصل لهم كل شيء بأمثال" (4: 11). هذه الكلمة هي جواب يسوع إلى "الذين يحيطون به مع الإثني عشر" والذين يسألونه عن "الأمثال". ويتبعها إيراد أش 6: 9- 10 الذي يبدأ بـ "هيناً" (لكي): "لكي ينظروا نظراً ولا يروا، ويسمعوا سمعاً ولا يفهموا، لئلا يتوبوا فيُغفر لهم". ثم وبّخهم يسوع لأنه لم يفهموا "هذا المثل".
إن آ 10- 13 تقطع الإطار الجغرافي لتعليم يُعطى للجميع على البحيرة، وتبدأ سؤالاً وجواباً عامين يتجاوزان وضع مثل الزارع الذي ضرب وسوف يفسرّ. لا شكّ في أننا أمام تجميع تدويني يعود إلى مراجع سبقت مر. فنصّ أشعيا معروض في التقليد الأولاني، وهو يرد هنا بشكل قريب من الترجوم الفلسطيني. ثم يشك الشّراح في أدن مر استنبط بنفسه هذه العبارة: "لكم أعطي سرّ ملكوت الله". غير أننا أمام نصّ يدخل في نظرة مر.
* سرّ ملكوت الله
في نظر مر، سرّ ملكوت الله هو في النهاية سرّ المسيح. لقد صار ملكوت الله قريباً حسب 1: 15، لأن يسوع، ابن الله، قد بدأ حربه ضدّ إبليس (1: 10- 13)، ولأنه بأعماله القديرة (بما فيها تعليمه)، جعل الله نفسه يعمل في العالم (1: 21 ي). وسيدلّ الكتاب كله على هوية يسوع فيشير إلى العمل الذي يتمّ به والذي يشرك فيه تلاميذه. هكذا يستنير "سرّ ملكوت الله" (صيغة المفرد). أما مت ولو فتحدّثا عن "أسرار" (ملكوت الله) (صيغة الجمع)، وكأنها مضمون متنوعّ لتعليم له وجوه متعدّدة. قد يكون مر صحّح النصّ أو أخذه من بولس أو من مرجع آخر. فهو يريد أن يحدّثنا عن سرّ ظلّ خفياً حتى ذلك الوقت، ثم ظهر حين تمّ الزمان. وإن هو جمع الأمثال، فهو لم يجمعها كعيّنات من تعليم يسوع (تدلّ على الموضوع، على الطريقة)، بل لأنها تدلّ على عمل الله الحاضر فينا منذ ظهر المسيح في العالم.
* سرّ خفي
هذا السرّ الذي أعطي "للذين أحاطوا بيسوع مع الإثني عشر" يبقى خفياً "للذين من الخارج". مهما كان المرجع الذي جاءت منه هاتان العبارتان، يجب أن نتأمّل في بُعدهما الجماعي: نحن أمام (في الرسائل البولسية) الذين ظلّوا خارج الكنيسة (1 تس 4: 12؛ 1 كور 5: 12؛ كو 4: 5؛ 1 تم 3: 7). أما "الذين يحيطون بيسوع مع الإثني عشر"، فهم جماعة المؤمنين الملتئمين حول الرسل.
ونجد صورة عن هذا التعارض بين الفئتين في السياق السابق. فخلال الفصول الثلاثة الأولى من مر، برز التعارض بين قبول ابن الإنسان ورفضه (2: 1- 3: 6)، بين التلاميذ (وخصوصاً الإثني عشر) (3: 13) والذين يتهمون يسوع بأن فيه شيطاناً أو بأنه أضاع رشده (3: 21- 30)، بين عائلته الحقيقية والذين يستبعدون نفوسهم من هذه العائلة (3: 32- 35). ويستطيع مر أن يلاحظ في أيامه فشل الإنجيل، والمقاومة التي تصل إلى اضطهاد التلاميذ. وهكذا تتواصل في الكنيسة دراما يسوع الذي يتجاهله الناس ويعارضونه ويفترون عليه. سرّه يبقى خفياً على "الذين من الخارج".
* الهدف الأخير للأمثال
ولكن حسب مر، لا تتوخّى الأمثال أن يبقى هذا السرّ خفياً، فينظر الناس نظراً ولا يرون. فالمعنى الأخير والذي لا شكّ فيه للأداة "هيناً"، لا يجب أن ينسينا السياق. بما إن هذه الأداة هي تدوينية (أي: دوّنها مر)، فيجب أن نفهمها على هذا المستوى. نحن أمام شرح لاهوتي يلجأ إلى أشعيا، لا أمام شرح سيكولوجي لفشل الأناجيل. وهذه الغائية الكتابية لا تعتبر أنها تعتر عن نيّة يسوع حين علّم بالأمثال وترك جانباً حرّية السامعين الشخصيّة. لا ينتزع مر شيئاً من تفسير مثل الزارع، الذي يرى في استعدادات كل إنسان أسباب فشل "الكلمة" أو نجاحها. كما لا ينتزع شيئاً من التنبيه الخطير الذي يلي: "إنتبهوا لما تسمعون. فبالكيل الذي تكيلون به يكال لكم". هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، لا ينسب مر إلى يسوع تفسيراً "باطنياً" (محفوظاً لقلّة ضئيلة). لقد دلّنا على انقسام بين التلاميذ والذين من الخارج على أساس النظر إلى أعماله يسوع وتعاليمه. وهذا الإنقسام لا يقلّل من ملحاحيّة الكرازة. فالزارع يزرع رغم مظاهر الفشل. والسراج "جاء" لكي يُوضع على المنارة، "لأن لا خفيّ إلا سيظهر". ويجب أن يُعلن الإنجيل.
* علاقة آ 11- 12 مع آ 33- 34
إذن، لسنا أمام دمج بين آ 11- 12 والخاتمة في آ 33- 34: "وبكثير من مثل هذه الأمثال كان يلقي عليهم الكلمة، على قدر ما كان لا وسعهم أن يفهموا. ولم يكن يكلّمهم بغير مثل؛ إلا أنه لا الخلوة كان يفسرّ لتلاميذه الأخصّاء كل شيء".
هناك شرّاح يجعلون تعارضاً بين آ 33 وآ 34. يقولون: تعبّر الأولى عن الهدف التربويّ في الأمثال. وتتحدّث الثانية عن تعليم خاص ومحفوظ للتلاميذ. كلا. فالتمييز بين هذين التعليمين عند يسوع (كما في آ 11- 12) لا يدلّ على أن يسوع (في مر) يخفي سرّه على العدد الكبير من الناس.
ولكن إذا كانت آ 11- 12، 33- 34 لا تتضارب، فهي لا تتكرّر أيضاً. أولاً، نحن أمام الفئات ذاتها من السامعين. فالتعارض هو بين التلاميذ و"هم" أي الجمع (في آ 33- 34). فهل يخفي تعارضاً بين الذين يحيطون بيسوع مع الإثني عشر والذين من الخارج (آ 15- 12)؟ هذا هو السؤال الذي نطرحه على نفوسنا. فإذا كنا رأينا في الفصول الثلاثة الأولى الخصوم يعلنون عن ذواتهم، فلا ننسَ أن الجمع ظلّ كتلة لا إسم لها، ولكن كتلة متعاطفة مع يسوع إلى أن يتلاعب بها "عظماء الكهنة" خلال المحاكمة أمام بيلاطس (15: 11). هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، إن عطيّة سرّ ملكوت الله حسب آ 11 لا تتماهى مع تعليم خاص يقدّمه يسوع للتلاميذ حسب آ 34، ولا مع موهبة فهم الأمثال لأنّ التلاميذ لم يفهموا وقد وبّخهم يسوع من أجل ذلك في آ 13 و 7: 17- 18 (أما الخصوم فيفهمون، 12: 12). ولكن لأن سرّ الملكوت أعطي لهم (هذا لا يعني أنهم فهموا تعليم يسوع)، فقد تقبّلوا تعليماً خاصاً. وحين انفصلوا عن الجمع وأحاطوا بيسوع "مع الإثني عشر" أعطي لهم سرّ ملكوت الله.
وفي نهاية ف 4 هذا، نتساءل عن الجديد الذي أدخله الإنجيل الثاني. لسنا أمام موضوع تعليم جديد: فالزرع الذي يثمر، والسراج الذي يأتي لينير، والبذار الذي ينبت وحده، وحبّة الخردل، كل هذه الصور تعود إلى عمل الله الذي دشّنته بيننا أعمال قدرة يسوع (ف 1- 3). ولسنا أمام طريقة جديدة في التعليم، وكأن يسوع لجأ إلى لغة الرموز (3: 23). لسنا أمام نظرية عن الأمثال قدّمها لنا مر وهي تعمي الذين من الخارج، وتحفظ السرّ للذين في الداخل. فالذين نعموا بعطية الله لكي يفهموا، هم أيضاً لم يفهموا.
إن الجديد يكمن في التمييز بين تعليمين: تعليم للجميع "حسب ما يستطيعون أن يسمعوا". وتعليم محفوظ للذين تعلّقوا بيسوع مع الإثني عشر. فتجاه ما ظهر أمام الجميع حتى الآن، وما زال يظهر عبر الأمثال الواردة، كان انقسام. وصار التعارض عميقاً. غير أن بعضاً انفصل عن الجمع وانضمّ إلى يسوع مع الإثني عشر. إن آ 11- 12 تلقي ضوءاً على هذا الإنقسام، لا على مستوى الوقائع والقرارات البشرية، بل حين تحيلنا إلى موهبة الله ومخطّط نعمته السرّي. إن هاتين الآيتين تلخّصان بشكل ما ف 1- 3، وتبرّران تعليماً خاصاً للتلاميذ. كما تذكّران الذين يتوجّه إليهم، رغم عدم فهمهم، أن سرّ ملكوت الله (قدرة الله التي تعمل في يسوع) كان فاعلاً فيهم. وهما تدعوانهم إلى القيام بمجهود ليفهموا ما يفسرّ لهم. وهذه الفكرة عن تعليم مزدوج ستظهر أيضاً في 7: 14- 23 بالنسبة إلى "مثل" أيضاً. وسوف نعود إلى مدلولها في مر.
3- تعليم للرسل حول الآلام والقيامة
بعد اعتراف بطرس في قيصرية فيلبّس، بدأ تعليم محفوظ للتلاميذ (8: 31؛ 9: 31) حول آلام ابن الإنسان وقيامته. وموضوع هذا التعليم يعود في 10: 33 (بدون لفظة "علّم"). وفي كل مرّة، يشدّد الإنجيل بقوة على عدم فهم التلاميذ لهذا التعليم (8: 32- 33؛ 9: 32؛ 10: 35 ي).
لا نستطيع أن نشير هنا إلى كل السمات التي تدلّ على يد مرقس في تدوينه هذه النصوص. كما يجب أن نلاحظ أيضاً أن هذا التعليم هو جزء من مجموعة (8: 27- 10: 52) تتضمّن عناصر متنوّعة. قد يكون مر وجدها مشتّتة، فجمعها ووجّهها في خطّ هو خطّ إنجيله كله.
أ- ابن الإنسان
حين بدأ يسوع هذا التعليم، كان بطرس قد اعترف بأن يسوع هو المسيح، وكان التلاميذ تسلّموا توصية بالصمت (لا يقولون لأحد شيئاً، 8: 30). بعضهم رأوا أننا هنا أمام لقب يحمل خطراً: لهذا أحلّ يسوع محلّه لقب ابن الإنسان. ولكن من وجهة مر، لا التباس في لقب "المسيح". بل هو يعبّر عن مضمون الإنجيل (1: 1؛ 9: 41)، والتوصية بالصمت لا تدلّ على رفض، بل تشير إلى أن التلاميذ لامسوا سرّ شخص يسوع، كما كان الأمر بالنسبة إلى لقبَيْ قدّوس وابن الله (1: 24- 25، 34؛ 3: 11- 12). إن لقب "المسيح" في نظر مر يدلّ على الإيمان المسيحي الذي يرى في يسوع أكثر من نبي، أعظم من يوحنا المعمدان ومن إيليا (8: 28؛ رج 6: 14- 16). دور هؤلاء في مخطّط الله أن يعلنوا: ولكن مع يسوع ملكوت الله هو هنا.
من جهة ثانية، وحسب مر، لا يشير تعليم يسوع إلى لقب ابن الإنسان، بل إلى الآلام والقيامة. فعدم فهم التلاميذ يصطدم لا بتعبير ملغز، بل بالطريقة التي بها يتُمّ يسوع رسالته. وما يلفت النظر، هو أن "ابن الإنسان" هو اللقب الوحيد الذي لا تحفّظ فيه في مر ولا توصية بالصمت من أجله. إنه يبدو على لسان يسوع بحضور الجمع في تأكيدات قاطعة حول سلطته بأن يغفر الخطايا وبأن يرتب السبت (2: 10، 28)، حول مجيئه "في مجد أبيه مع ملائكته القديسين" (8: 38).
هل نقول إن مر ينسخ مراجعه وان تعارضت مع نظرته الخاصة؟ كلا ثم كلا. بل نتذكّر أن "ابن الإنسان" قد خسر من أهميته بقدر ابتعاد العبارة عن أصولها اليهودية. فمرقس وقرّاؤه يعتبرونها لقباً مقتلعاً من جذوره. وهو لا يمثّل إلا طريقة خاصة بها سمّى يسوع نفسه. وفي الأقوال التقليدية التي تحتفظ بهذا اللقب، لا يتركّز اهتمام مر عليه، بل على الجملة كلها. في 9: 41، المهمّ هو العمل الذي نقوم به من أجل المسيح.
إذن، حسب مر، لا يحُلّ يسوع لقباً محلّ آخر، ولا يرفض نظرة خاطئة عن شخصه. ولكنه يقدّم تعليماً يجب العودة إليه حول الطريقة غير المتوقّعة التي بها تتمّ رسالته. وذلك على أساس الإيمان بصفته "مسيحاً، وهو إيمان لم يعلنه بشر، بل وُلد في حلقة التلاميذ. إن هويّة يسوع لم تعد سراً لهم. ولكن يجب أن يفهموا طريقه فهماً صحيحاً.
ب- أقوال التلاميذ
إن هذا التعليم يتوجّه إلى التلاميذ. وهو يشرف على مجموعة 8: 27- 10: 52 التي تضمّ أقوالاً خاصة بالتلاميذ. لا نجد أخباراً بحصر المعنى، ولا دروساً تتوجّه إليهم. يُذكر الجمع فقط ثلاث مرات ليسمع نداء لكي يكون تلميذاً (8: 34)، أو لكي يتقبّل تعليماً لا يحدّد موضوعه (15: 1)، أو ليشهد معجزة تذهب فائدتها للتلاميذ (10: 14). أخيراً، إن تكلّم يسوع إلى أشخاص آخرين، فكلامه هو انطلاقة لتعليم خاص بالتلاميذ.
نجد أن معظم أقوال يسوع هذه تحمل فائدة جماعية. لقد سبق وأشرنا إلى تلك التي ربطها مر بمهمة الكنيسة الأساسية: إعلان الإنجيل (8: 35؛ 10: 29). وهناك أقوال أخرى تجيب على أسئلة طُرحت في الجماعة (9: 28- 29، 33- 50: الزواج والطلاق). والإنباءات الثلاثة بالآلام والقيامة، تتبعها أقوال تحدّد تصرف التلاميذ (8: 34 ي؛ 9: 33 ي؛ 10: 35 ي). وبعد الإنباء الثالث، بدا الجواب على طلب ابني زبدى نموذجياً مع كأس يشربانها ومعمودية يعتمدان بها (10: 35- 40). ومسألة السلطة والأولوية ستجد حلاً لها في متطلّبة الخدمة تجاه الجميع (آ 41- 44). وأخيراً هناك نداء للتعرّف إلى المثال الذي يقدّمه ابن الإنسان وهو الذي جاء ليخدم ويبذل حياًته فداء عن الكثيرين (آ 45).
وهكذا لا يتوسّع التعليم عن آلام ابن الإنسان وقيامته، من أجل ذاته، بل يتوجّه دوماً نحو إرشاد للتلاميذ والجماعة المسيحية. وإذا تحدّثنا عن كرستولوجيا، فيجب أن نقول كرستولوجيا (تعليم عن يسوع المسيح) تطبّق على الجماعة. فالحقيقة عن المسيح، يراها مر في حياة التلاميذ. هنا نكتشف نظرته إلى المسيح وإلى التلاميذ معاً. إختارهم يسوع "ليكونوا معه" (3: 14)، ليعملوا معه في إعلان الإنجيل والتعليم. إذن، يريدهم معه في طريقه. يريدهم أن يقاسموه وجوده المهدّد وهو عبد الله الذي يبذل حياًته عن الجميع. إن عمل الله الذي يتمّ بالآلام والقيامة يفرض على التلاميذ أمانة لكي يتبعوه ويرافقوه ويكونوا دوماً معه.
ج- الحياة الجماعية
تبدو الحياة الجماعية (في 8: 27- 10: 52) في أجلى مظاهرها على ضوء حياة الكنيسة في أيام مر. ذُكرت بمناسبة الحديث عن الكرازة الكرستولوجيّة في الجماعة الأولى. فالمسيح الذي مات وقام يشكّل موضوعها الجوهري. غير اننا نعرف أن مر يميّز بوضوح بين "أعلن" و"علّم". وهو لا يهتمّ هنا بالتأكيد على الكرازة، بقدر ما يهتم بالتذكير بنتائجها في حياة التلاميذ. لهذا نتعرّف إلى تأثير التعليم المُعطى للمؤمنين في الجماعات، على هذا القسم. وإذا عدنا إلى الإقرار الإيماني في المعمودية، فإن التعليم بالنسبة إليه يشبه تعليم يسوع للتلاميذ بعد اعتراف قيصرية.
قد نكون هنا أمام المفتاح الذي يتيح لنا أن نميّز بين تعليم يسوع للجمع وتعليم يُعطى للتلاميذ. فالعبارة التي تشير إلى التلاميذ تدلّ على يد مر فتميّزه عن مت ولو. هذا لا يعني أننا نرفض التقليد السابق الذي يتحدّث عن تعليم خاص منحه يسوع لتلاميذه. فإن كان قد جمعهم حوله، فلا شكّ في أنه كرّس لهم بعض وقته، ولكن يجب أن نقرّ بأن نهج مر يعكس بشكل مباشر حياة الكنيسة. ففي الكنيسة نشاط يتوجّه نحو "الجمع"، وآخر يُعنى بالمرتدّين. وقد انتقل التقليد عن يسوع هنا وهناك، وهو ما يشهد له مر. إنطلق مما قاله يسوع وعمله، فرسم عن رسالته لوحة تكشف التواصل بين يسوع والكنيسة.
وإذ نقول هذا نرفض لفظة "باطني" التي طبّقت بعض المرات على تعليم محفوظ للتلاميذ (حسب مر). ففي 8: 27- 10: 52 حيث نرى يسوع يعتزل الشعب ثلاث مرات (9: 30، 33)، نرى الشعب يظهر من جديد (8: 34؛ 9: 14- 15؛ 10: 1). وفي 8: 34، سوف يذكر "الجمع" مع التلاميذ. أجل، ان الجمع هو هنا ليسمع كلمات يفهمها مر بالنظر إلى الإنجيل الذي يجب أن يعلن لجميع الأمم (8: 35). والجمع (في 9: 14) هو خلفيّة لجدال بين التلاميذ والكتبة حول سلطان طرد الشياطين، وهو سلطان (حسب 3: 14- 15) يرافق الكرازة. ويدلّ 10: 1 (في رأس تعليم موجّه بشكل خاص إلى التلاميذ) أن مر لا ينسى أنه كان ليسوع تعليم معدّ للجميع. وهكذا يرى مر في رسالة يسوع على الأرض، كما في حياة الكنيسة، حركتين: يُعلن الإنجيل من أجل الجميع، وتظهر قدرة الله، ويُعطى تعليم على قدر طاقة السامعين (4: 33). ولكن اعتراف الإيمان بالمسيح يدُخل المؤمن في تعليم خاص لا ينتهي أبدأ.
د- عدم فهم التلاميذ
في هذا الإطار نتوقّف عند إلحاح مر على عدم فهم التلاميذ. هو يشدّد على هذا الوضع بمناسبة الإنباء بالآلام والقيامة (8: 32- 33؛ 9: 10، 32)، كما سبق له وشدّد في ضربه للأمثال (4: 13؛ 7: 18)، وتكثيره للأرغفة (6: 52؛ 8: 14- 21).
فالتلاميذ ظلّوا خلال حياتهم على الأرض أدنى ممّا أراد يسوع أن يعلّمهم. ولا يكتفي مر بأن يذكر هذا الواقع، بل يشدّد عليه، لماذا؟
نبدأ فنقول إن المكانة التي احتفظ بها مر لنداء التلاميذ الأولين (1: 16- 20)، لتأسيس الإثني عشر (3: 13- 19)، لإرسالهم في مهمّة (6: 6 ب- 13)، يدلّ على دورهم الفريد في أصل الكنيسة. وعدم فهمهم للأمثال لا يمنع يسوع من أن يقول لهم: "لكم أعطي سرّ ملكوت الله" (4: 11). وإذا كان مر قد اهتمّ بالإنجيل الذي يُعلن للجميع، وبتكوين خاص يُعطى للمرتدّين، فهو لا ينسى أن تلاميذ يسوع المباشرين هم ينبوع التعليم والكرازة. والتشديد على التعليم الخاص الذي قبلوه يدلّ على همّ "كنسي" بأن يقدّم كافلي تقليد يسوع في الكنيسة.
أما موضوع عدم فهمهم، فهو قريب بعض الشيء من السرّ المسيحاني، كما يدلّ معه على فكرة تدبير الوحي. فحسب 9: 9، إن وحي يسوع كابن الله يجب أن يبقى خفياً حتى قيامة ابن الإنسان. وهذا ما يسري على الأمر بالصمت للشياطين وبطرس. فالإعتراف الإيماني الأول بابن الله لا يظهر إلاّ بعد موت يسوع (15: 39). وهكذا شدّد مر على أن "إنجيل يسوع المسيح ابن الله" (1: 1) قد عرف بداية وتاريخاً قبل ظهوره الحالي. ولم يكشف عنه كشفاً كاملاَ إلاّ بعد حقبة تبدو كحقبة السرّ الذي يحُفظ ويُمنع فلا يفهمه التلاميذ.
غير أن هناك فرقاً بين السرّ المسيحاني (الذي رُفع الآن) وعدم فهم التلاميذ الذي لا يعتبره مر أبداً موقتاً (عكس الإنجيل الرابع). وقد يجد هذا الفرق صداه في خبرة الكنيسة. فالتوصية بالصمت تعبّر عن شعور يقول بأن ليس من الإفادة أن نسلّم إلى الجمع قبل الوقت الألقاب التي بها تعلن الجماعة كيان مخلّصها الإلهي. فقدرة الله يجب أن تظهر إلى العلن. ومعرفة يسوع الحميمة ليست مغلقة على أحد. ولكننا لا نصل إليها إلا إذا تعلّقنا به كتلميذ من تلاميذه. وانطلاقاً من هذا الوقت ومن اعتراف الإيمان الذي تقبّلناه في الجماعة، تبدأ تنشئة يجب أن نستعيدها دوما.
فحسب مر، لا يمكن أن تُلفظ ألقاب المسيح بدون التباس، إلا إذا التقينا به في سرّ آلامه. والتلميذ هو من يتبعه في طريق المعارضة والإضطهاد، ويقاسمه عمله بما فيه من صعوبات. حين يذكّرنا مر بهذه الأمور، فهو ينظر إلى أشخاص في عصره، إلى مسيحيين فضّلوا أن يتهرّبوا من هذه الوجهة المؤلمة في رسالة المعلّم. ونقول الشيء عينه حين يربط هذا النسيان بضلال حول السلطة في الجماعة. ولكن المهم ليس أن نتعرّف إلى أشخاص أشار إليهم الإنجيل، بل أن نحسّ بالمفارقة المسيحية الحاضرة في كل الأزمنة. فالإلتواءات التي يندّد بها، ترتبط "بأفكار البشر" (8: 33)، بتجارب دائمة ترافق المسؤولين في الجماعات. فمن خضع لنظرة البشر، عمل عمل الشيطان، وأساء إلى النصر الذي بدأ في البرية وتمّ عبر الآلام والقيامة. فقد وبّخ يسوع بطرس "حين رأى التلاميذ" (8: 33) وكأنه يريد أن يحذّر الجماعة: فيها وفيها يتواصل عمل الله الذي بدأه. فيها وبها تتحقّق "أفكار" الله.
خاتمة.
إن دراسة إنجيل يسوع وتعليمه في مر، لا تتيح لنا أن نستخرج نتائج محدّدة حول مراجعه. ولكنها أبرزت طريقته الخاصة في النظر إلى حياة المسيح والكنيسة.
1- نُسب إليه هدف كرستولوجي قبل كل شيء. في الواقع، إن سؤال "من هو يسوع" يرافق كتابه كله. ولكننا نخون فكره إن جعلنا من التعليم الذي يقدّمه كرستولوجيا بولسية. فمرقس يتحدّث بطريقة ملموسة، محسوسة. إنه يهتمّ ببعض وجهات الكرستولوجيا الأولانية. ولكنه اهتمّ بأن يجعل يسوع حاضراً في أخصائه، عاملاً معهم رغم جميع المضايقات.
2- حين نظّم مر التقاليد حول يسوع، عاد إلى بداية تاريخ عرف أنه مدعوّ ليعمل فيه، عاد إلى أولى ظهورات وعمل الله الاسكاتولوجي في هذا العالم. وهذا العمل هو بالنسبة إليه حاليّ، آنيّ، وهو يمرّ عبر رسالة التلاميذ. هذا الإحساس بعمل الله وسط البشر نجده في خصائص عديدة من كتابه. وهو يدلّ على نظرة إلى التاريخ حيث يلتقي الحاضر بالماضي دون أن يمتزجا.
إن عمل الله يتواصل وسط البشر. وهو يطلب أمانة التلاميذ الذين أعطي لهم سرّ الملكوت. قدّم مر صورة يسوع مع تلاميذه الذين ضمّهم إلى عمله. هو لا يفصلهم عنه كما لا يفصل عن جماعة أخصّائه المسيح الحيّ في كنيسته. يبقى عليهم أن لا يضلّوا، بل أن يدخلوا في نظرته ليقوموا برسالتهم خير قيام: يعلنون الإنجيل، يعلّمون البشر، يظهرون قدرة الله في هذا العالم.
في هذا الإطار، شدّد مر على امتيازات التلاميذ وعلى ضعفهم. فصلهم عن الجمع، ولكنه مزجهم أيضاً بالجمع. فجاء تعليمه اكليزيولوجيا وكرستولوجيا، جاء إرشاداً وكرازة.
3- وهكذا نتعرّف إلى صاحب الإنجيل الثاني. هو يشهد عن خبرته، خبرة إنسان أحسّ بعمق السرّ الذي انفتح له بالإيمان بالمسيع. وعندما كتب عرف أن على الإنسان دوماً أن يمرّ من العمى إلى النور، لانه يكتشف في يسوع الابن وقدّوس الله، لأنه يكتشف في يسوع عمل الله وإن لقي المعارضة والمقاومة.
وقدّم مر خبرته. عرف يسوع المسيح معرفة حميمة حين اشتغل في مشروعه الذي يتواصل في الكنيسة. وشارك الآخرين في العالم الرسولي فلاقى الفشل والإضطهاد. وهكذا فهم ما تعني رفقة يسوع. وذكّر الذين قد يكونون نسوها أن لا أمانة للمسيح، ولا فاعلية في العمل (للتلميذ وللكنيسة) خارج الطريق التي يرسمها يسوع. فالمجد هو في نهاية الجهاد. والأولوية تعود إلى الخدمة وبذل الذات. في هذا المجالس، يبقى على التلميذ أن يرتدّ كل يوم من منطق البشر إلى منطق الله