الفصل الأول: الإنجيل بحسب مرقس

الفصل الأول
الإنجيل بحسب مرقس
يبدأ الإنجيل الثاني بسلسلة من الأخبار القصيرة التي تتحدّث عن نشاط يسوع في الجليل ثمّ في أورشليم. وهو يحاول أن يعلن لنا منذ البداية ما يريد أن يقوله لنا: يسوع هو المسيح وابن الله. هذا ما تعلّمه تلاميذه خلال حياًته معه وبعد قيامته. وهذا ما نتعلّمه نحن حين نقرأ هذا الإنجيل بالروح التي كتب فيها. وهكذا نستطيع أن نهتف مع بطرس: أنت هو المسيح. ومع قائد المئة: في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله.
سوف نتوقّف في هذا الفصل الأول عند جذور الإنجيل بحسب مرقس، عند طريقته الروائية، وأخيراً عند عمله على مستوى الفقاهة (التعليم المسيحي) والكرازة المسيحية.
1- جذور الإنجيل الثاني
يتفق التقليد على نسبة الإنجيل الثاني إلى مرقس، وعلى اكتشاف مذكرات بطرس فيه. والنقل الحديث لا يعارض هذا القول وإن جادل حول دور القديس بطرس في عمل مرقس الذي يدعوه "ابنه" (1 بط 5: 13).
أقدم شهادة نقرأها عن مر، نجدها عند بابياس (بداية القرن الثاني). كان الشيخ يقول: مرقس، ترجمان بطرس، كتب ما تذكره من أقوال الربّ وأعماله. هو لم يتبع الرب ولم يسمعه، بل تبع بطرس. وكان كل همه أن لا يترك شيئاً مما سمعه، ألن لا يقول شيئاً فيه خطأ.
نستنتج من هذا النصّ ثلاثة أمور: كان مرقس ترجمان بطرس. تبع بطرس واستذكر تعاليمه. كان مرقس أميناً. وهكذا، حسب شهادة بابياس، نُسب إنجيل مرقس إلى شخص من الدرجة الثانية، ساعة كان بالامكان أن ينُسب إلى بطرس. هذا يعني أن لا شك في نسبة الإنجيل الثاني إلى مرقس.
تلك شهادة جاءت من آسية الصغرى (تركيا الحالية). وهناك شهادات من مصر (اكلمنضوس الأسكندراني) وإفريقيا الشمالية (ترتليانس) ورومة (يوستينولس وقانون موراتوري): دوّن مرقس إنجيله وارتبط ببطرس. ولكن، إذا عدنا إلى تاريخ الكتابة، فلا نجدها التقاليد اتفاقاً. قال ايريناوس إن مرقس دوّن إنجيله بعد موت بطرس. وقال اكلمنضوس الأسكندراني: خلاله حياة بطرس (إذن، عرف بطرس مسعى مرقس ورافقه في عمله).
هذا ما يقوله التقليد الخارجي (النصوص الآتية من خارج الإنجيل). ما الذي يقوله التقليد الداخلي (من نصوص الإنجيل)؟ لقد دوّن مر قبل سنة 70 بقليل، لأن لا تلميح إلى دمار أورشليم حتى في 13: 10 (ولا بدّ من قبل أن يكرز بالإنجيل في جميع الأمم). أمّا الكاتب فيتحدّث عنه سفر الأعمال (12: 12) ويدعوه يوحنا مرقس. رافق بولس وبرنابا في الرحلة الرسولية الأولى ثم فارقهما (أع 12: 2؛ 13: 5، 13؛ 15: 37- 39). ومرقس هذا كان مع بولس في سجنه (كو 4: 10؛ فلم 24؛ 2 تم 4: 11) كما ذكرته 1 بط 5: 13.
هذه المعطيات هي أكيدة. أما التقليد الذي يقول: إن مرقس بشّر في الاسكندرية، فيورده اسابيوس وايرونيموس. ولكن لا يشير إليه اكلمنضوس واوريجانس (اللذان هما من الأسكندرية). وقال ابيفانيوس إن مرقس كان تلميذ الرب. ولكن بابياس قال عكس ذلك.
وماذا عن المحيط الذي وُلد فيه هذا الإنجيل؟ في رومة كما يقول اكلمنضوس وإيرونيموس واوسابيوس وافرام. في الأسكندرية كما يقوله يوحنا فم الذهب. أمّا النقد الحديث فيشير إلى أنطاكية. مع أن هذا المركز الثقافي قد يمكنه أن يكون مهد الإنجيل الثاني، ولكن يبدو أن رومة هي الموضع الذي دوّن فيه مر. هناك تأثير المحيط الروماني: يفسرّ كلمة يونانية بطريقة رومانية (12: 42؛ رج 15: 16). إن وُجد في مت ولو سبعُ ألفاظ لاتينية، ففي مر نجد ثلاثة أضعاف هذا لعدد (2: 23؛ 5: 23).
ثم إن مرقس وجّه كتابه إلى مسيحيين من أصل غير يهودي، ويقيمون خارج فلسطين. فهو لا يهتمّ بأن يحدّد موقع الإنجيل من شريعة العهد (الميثاق) الجديد. كما لا نجد عنده إلا إشارتين أو ثلاثاً إلى تتمّة النبوءات (1: 2- 3؛ 14: 49؛ 15: 28). مقابل هذا، يفسرّ العادات اليهودية (7: 3- 4؛ 14: 12؛ 15: 42)، ويترجم الكلمات الآرامية (3: 17؛ 5: 41؛ 7: 11، 34؛ 10: 46؛ 14: 36؛ 15: 22، 34)، ويعطي بعض التحديدات الجغرافية (1: 5، 9؛ 11: 1) ويبرز مدلول الإنجيل بالنسبة إلى الوثنيين (7: 27؛ 10: 12؛ 11: 17؛ 13: 10). كم تختلف نظرة مرقس عن نظرة متى!
ولكن مرقس يلتقي مع متّى في ما يخصّ تأثير الجماعة المسيحية التي ينتمي إليها. فإلىرسة الليتورجية تعطي لوناً أكيداً لأخبار تكثير الأرغفة (6: 41؛ 8: 6 و7: 25- 30؛ 8: 14- 21) والتأسيس الأفخارستي (14: 16- 25). وقد نجد تأثيراً بسيطاً في الكلام عن الصوم (2: 20) ومسحة المرضى (6: 13) والصلاة (9: 29؛ 11: 24- 25).
أمّا الوجهة الابولوجية (الدفاع عن الإيمان) واللاهوتية، فلا نستطيع أن ننسبها إلى وسط فكري معيّن. هناك من تحدّث عن تأثير بولس على مر. ولكن ردّ الشّراح بأننا لا نجد حديثاً عن البرّ والنعمة... ما نستطيع أن نقوله هو أن كرستولوجية مر هي كرستولوجية مؤمن من المؤمنين. وكذا نقول عن مفهوم الخلاص والشمولية. حين رفض يسوع مطلب الامرأة الصوريّة: "أتركي الابناء يشبعون أولاً" (7: 27)، فكلامه بعيد عن بولس.
إذن، دوّن الإنجيل الثاني كاتبٌ قريب من الأحداث التي يوردها. هو لا يرتبط بالمحيط الذي انبثق منه، كما أنه يقدّم للتاريخ عناصر جديدة. كتاب يرتبط بشاهد يروي ما رأى. وبجماعة تنقل ما تؤمن به. إذا كان مت هو الشاهد الشخصي الذي يختفي وراء كنيسته، فمر يدلّنا على حصّة الشاهد وحصّة الجماعة الكنسيّة.
2- مرقس الراوي
حين ننتقل من الإنجيل الأول إلى الإنجيل الثاني، نشبه إنساناً يترك الكنيسة ليذهب إلى الطبيعة. فمرقس راوٍ بارع. يعود إلى مواد (ألفاظ، أسلوب)، سبقت عملة التدويني. إنشاء مر هو رتيب ولكنه يدهشنا. كما أن الأخبار تكثر فيها واو العطف (كاي) أو أدوات مثل "وفي الحال"، "من جديد" (لا نأخذها كإشارات كرونولوجية). وتتكرّر أفعال مثل "صنع، أراد، استطاع". عادة "نبدأ" بالعمل. وترد لفظة "الكثيرين". ولا يمتلك مرقس إلا لفظة واحدة لكي يحدّثنا عن نظرة يسوع الدائرية، سواء كانت نظرة حنان أو نظرة غضب (3: 5، 34؛ 5: 32؛ 10: 23؛ 11: 11). فالسياق يساعدنا على تحديد معنى الكلمة. إن النظر يلج إلى أعماق الإنسان مرتين، ولكن الإختلاف بين الفعلين يبقى طفيفاً (10: 21، 27).
أدرك مر كيف دعا المعلّم إليه بسلطان. ولكن إذ أراد أن يعبرّ عن هذا النداء، لم يكن لديه إلا فعل واحد، وقد استعمله أيضاً ليقول إن بيلاطس دعا قائد المئة (15: 44). ولكن أما يحمل هذا الفعل معنى لاهوتياً حين يدلّ على تولية الرسل في مهمّتهم بشكل احتفالي (3: 13؛ 6: 7)؟ أو هو يدلّ عل تعليم خاص يعطى للجمع الذي يتميّز عن الفريسيين (7: 14) أو للتلاميذ حين يُفصلون عن الجمع (8: 1)؛ ويعود هذا الفعل أيضاً حين يريد يسوع أن يستخرج درساً من الحديث فيدعو أعداءه (3: 23)، الشعب والتلاميذ (8: 34)، التلاميذ وحدهم (10: 42؛ 12: 43).
ونقول الشيء عينه عن الإشارات المكانية. فالتعليم يتمّ "في البيت" (7: 17؛ 9: 28، 33؛ 210: 15) أو "في الطريق" (8: 27؛ 10: 32). ولكن لا ننسى أن "البيت" هو الكنيسة. والطريق تدلّ على مسيرة على خطى يسوع.
فقر على مستوى الإنشاء والألفاظ، ولكن غنى وأصالة لدى الذي يعرف أن يرى الأشياء بعينيه، بل بقلبه. هناك كلمات "دارجة" استعملها مر وتهرّب منها لو. "الفراش" (2: 11). "القرى" (1: 38). "جميعاً" (14: 31). ونجد أيضاً تنوّع الألفاظ التي تصوّر الواقع الملموس: "إحدى عشرة لفظة للحديث عن البيت وأقسامه. 10 ألفاظ للحديث عن اللباس. 9 ألفاظ للحديث عن الطعام. وهناك الأرقام. ترد 36 مرة. يذكر الأثنا عشر تسع مرّات، و"ثلاثة أيام" مرتين. وهناك عشرة أرقام تتكرّر. وأهتم مر بصيغة التصغير. هناك الفتات وصغار الكلاب (7: 27- 28 وز) والسمكات الصغيرة (8: 7 وز). وهناك أيضاً بنيّة يائيرس (5: 41) كما يناديها والدها في مر 5: 23؛ رج 7: 25. ويتذكر مر القارب الصغير (3: 9)، والنعل الصغير (6: 9) والاذن الصغيرة التي قطعت لعبد رئيس الكهنة (4: 47).
وهناك شيء آخر يميّز مر عن لو: العبارات المرتبطة باللغة الآرامية (3: 17؛ 5: 41؛ 7: 11؛ 7: 34؛ 10: 46؛ 14: 36؛ 15: 34). ولا ننسَ أيضاً الأسلوب الشفهي الذي يجعل كلام مر قريباً من اللغة المحكية، لا اللغة الأدبية.
ويظهر فن الرواية في التكرار، وهكذا يتذكّر القارئ ما قيل. أعلن يسوع للمخلع: غفرت لك خطاياك. وفكر الكتبة في قلوبهم: من يستطيع أن يغفر الخطايا؟ وأخيراً، استعار يسوع العبارة عينها (2: 5، 7، 9، 10). ونجد الأسلوب عينه في 2: 15- 16؛ 6: 31، 32، 35؛ 9: 11، 12؛ 10: 38، 39.
وهناك أسلوب يبرز فيه الراوي الكلمة الهامة في الخبر. "لا أحد يستطيع أن يقيّده حتى بسلسلة" (5: 3). "هذا الذي قطعت رأسه يوحنا، هذا هو الذي قام" (6: 16). وكلمة الأَعمى: "أبصر الناس، أراهم مثل أشجار تمشي" (8: 24). ونجد أيضاً الرسمة السريعة عند مر.
1: 25- 27 4: 39- 41
طرد شيطان تهدئة العاصفة
هددّه يسوع فاستيقظ وهدّد
وقال وقال
أصمت وأخرج منه أصمت إسكت
(نتيجة الأمر: شفاء الممسوس) (نتيجة الأمر: هدوء البحر)
فذهل الجميع فخافوا جداً
حتى تساءلوا في مابينهم وطفقوا يقولون في مابينهم:
ما هذا؟ إذن، من هر هذا؟
ويمكننا أن نقابل بين شفاء الأعمى في بيت صيدا (8: 22- 26) والأصمّ الأبكم (7: 32 36). الكرازة الأولى في كفرناحوم (1: 21- 27) والكرازة في الناصرة (6: 1- 2). الإعداد للفصح (14: 13- 16) والإعداد للدخول إلى أورشليم (11: 1- 6).
3- مرقس والفقاهة المسيحية
ندهش حين نقرأ أخبار مرقس، لا حين نقرأ التعاليم التي يوردها. فهي بعيدة عن مت، وخطبه الخمس الطويلة. لا نجد في حصر المعنى إلا خطبتين لمرقس: خطبة الأمثال (4: 1- 34). والخطبة الاسكاتولوجية (13: 1 ي). هل ألغى مرقس خطبة الجبل (مت 5- 7)؟ هذا ما لم يتفق بعد عليه الشرّاح. أما التوصيات الكنسية والرسولية التي توسّع فيها مت مطولاً، فلم يبقَ منها إلا مقاطع قصيرة: أربع آيات بالنسبة إلى الأولى (6: 8- 9، 10- 11). و 12 إلى 16 آية فيما بعد (9: 33- 37، 42- 43، 47- 50؛ 9: 38- 41) ونقول الشيء عينه عن الجدال حول بعل زبول (3: 23- 30) والتويلات (قال الويل) ضد الكتبة والفريسيين التي تتضمن 3 آيات عند مر، 36 عند مت، 19 عند لو (مر 12: 38- 40).
مع أن مر يجمع أقوالاً متفرقة كما في مت (4: 21-25؛ 7: 6- 23؛ 8: 34- 9: 1)، إلاَّ أنه يختلف عن الإنجيل الأول فلا يهتم إلا قليلاً بخطب يسوع. هو يقول مراراً: "وكان يعلّم". "كان يتكلّم بالكلمة". ولكنه لا يقول ما هو مضمون هذا التعليم. نجد حالة واحدة عند مت (13: 54) في هذا المعنى. أمّا عند مر فمراراً (1: 39؛ 2: 2، 13؛ 4: 1، 2؛ 6: 2، 6؛ 6: 34؛ 10: 1؛ 11: 17؛ 12: 1، 35). في 1: 21 نجد عبارة عامة عن هذا التعليم (دخل المجمع وأخذ يعلّم) وفي الآية التالية (آ 22) نقرأ: "فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلّم كمن له سلطان لا كالكتبة". قد يقابل هاتين الآيتين ما نقرأ قبل عظة الجبل وبعدها (مت 4: 23 و7: 29). وهناك إشارة أخرى. أعلن مرقس عدة أمثال وذكر مثلاً واحداً (4: 2، 10، 13؛ 12: ا). قد يكون عاد إلى تقليد موسّع ولكنه اكتفى بالشيء القليل (13: 33، 35؛ مت 25: 13، 14، 19: الترتيب عينه).
إن لم نجد خطباً في مر، فهل تحلّ الأخبار محل الخطب فتقدم لنا تعليماً؟ قد يكون الأمر هكذا. ولكن لنتوقّف أولاً عند هذه الأخبار.
هناك أخبار قصيرة جداً مثل تجربة يسوع (1: 12- 13)، نداء التلاميذ الأولين (1: 16- 20)، الجدالات الأربعة الأخيرة في الجليل (2: 13- 3: 5). من جهة أخرى، هناك خمسة أخبار واسعة جداً: شفاء المخلّع (2: 1- 12). مجنون الجراسيين (5: 1- 17). شفاء ابنة يائيرس (5: 21- 43). استشهاد يوحنا المعمدان (16: 17- 29). طرد الروح النجس من الولد المصروع (9: 14- 29).
غير أن هذه الأخبار تمتلك سمات تجعلها قريبةً جداً من الواقع. فخبر تهدئة العاصفة في مر يزيد 3 أيات على خبر مت. وكذا نقول عن تكثير الأرغفة.
قيل أن مرقس يلخّص مت ولو. كلا. بل هو المعلّم الذي يتوقّف عند الشيء المهمّ ويجعله يدخل في ذهن القارئ. هناك إشارات جغرافية أو تفسير كلمات تتوجّه مباشرة إلى القارئ. ما يهمّ مرقس في النهاية، هو أن يحمل الخبر السعيد إلى مؤمني رومة وهو لا يحتاج من أجل ذلك إلى كلمات عديدة. هو يحتاج أن يجعل القارئ يرى في يسوع الناصري ابن الله، ذاك الذي جاء يخلّصنا.
خاتمة
يبقى مرقس بالنسبة إلينا أول مثل عن هذا الفنّ الأدبي الذي اسمه "انجيل". فتعاليم يسوع وأمثاله والجدالات وطرد الشياطين، كل هذا وضعه مرقس في هذا الخبر السعيد ووجّهه إلى كنائس انتشرت خارج فلسطين وعرفت ثقافة غريبة، قد تخسرها الإتصال بجذور الإنجيل. طرح علينا السؤال الأساسي: من هو هذا الرجل؟ وقدّم جواب المؤمنين الأولين الذين كانوا أول الشهود. يسوع هو المسيح وابن الله. ولكن من اكتفى بترداد هذا الجواب، يطرح عليه مرقس السؤال من جديد ويذكّره أن الإيمان يُختبرَ في الالتزام بدون مساومة على خطى يسوع الذي ما زال يحدّثنا في إنجيله وهو الحاضر دوماً وسط البشر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM