الفصل الرابع والثلاثون :تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة

الفصل الرابع والثلاثون
تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة
الخوري نعمة الله خوري

مقدمة
استقبل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في 23 نسان 993 1 اعضاء اللجنة البيبلية الحبرية بمناسبة مرور مئة سنة على إصدار رسالة الحبر الأعظم البابا لاون الثالث عشر: العناية الإلهية؛ ولمناسبة مرور خمسين سنة على إصدار رسالة الحبر الأعظم البابا بيوس الثاني عشر: فيض الروح القدس. وفي هذه المناسبة اعلن الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني عن ظهور وثيقة مهمة عن اللجنة البيبلية الحبرية حول: "تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة" وقد طبع نصّ هذه الوثيقة في روما في 18 تشرين الثاني 1993. تتألف اللجنة البيبلية الحبرية من اختصاصيين يعون مسؤوليتهم الكنسيّة ويتخذون مواقف محددة وهم يتمتعون بدعم الكنيسة.

القسم الأول: طرق ومقاربات لتفسير الكتاب المقدس
أولاً- الطريقة التاريخية النقدية
إنها الطريقة الضرورية لدراسة معنى النصوص القديمة دراسة علمية.
هذه الطريقة هي تاريخية ليست فقط لانها تدرس نصوصا قديمة وتدرس معناها التاريخي وحسب، بل لانها توضح المسار التاريخي لتكوين النصوص (القراءة التفصيلية) أثناء المراحل المختلفة لظهورها. تتوجّه النصوص البيبلية إلى عدة مجموعات من المستمعين الذين عاشوا في حقبات تاريخية مختلفة.
انها طريقة نقدية لانها تعتمد على مبادىء علمية موضوعية قدر الامكان حتى يستطيع القارىء المعاصر أن يفهم معنى النصوص البيبلية والذي غالباً ما يكون صعباً.
أ- هذه الطريقة تستند إلى شهادة المخطوطات الأكثر قدماً والأفضل شهادة وعلى أوراق البردي والترجمات القديمة وشهادة أباء الكنسة.
ب- إن وجود التكرار او الاختلاف في النصوص يبرهن ان بعض النصوص دوّنت في حقبات زمنية مختلفة مما يؤدي إلى نسبتها إلى عدة مصادر.
ج- اخيراً تنتهي هذه الطريقة بشرح النصّ بحدّ ذاته (القراءة الاجمالية) بواسطة العلاقات المتبادلة بين مختلف عناصره وباعتباره يحمل رسالة موّجهة من الكاتب إلى معاصريه. هكذا يُوضح النقد الأدبي المعنى التاريخي للنصّ بعبارة مفهومة من ابناء عصرنا.
لتقييم هذه الطِريقة، من الممكن الاعتبار انها طريقة موضوعية علمية فتحت مجالاً جديداً لتفسير الكتاب المقدس، وقد اضافت إلى اهتمامها بتاريخ تكوين النصوص (القرْاءة التفصيلية) اهتماماً بمعنى النصوص (القراءة الاجمالية). ولكن هذا التوّجه إلى درس عناصر النصّ لا يجب ان ينسيها اهتمامها بتاريخية النصّ. هذه الطريقة إلى جانب طرق اخرى في الشرح تمكّن القارىء المعاصر من أن يفهم معنى نصوص الكتاب المقدس.
ثانياً- طرق جديدة للتحليل الأدبي
1- الطريقة البلاغية
تعلّم هذه الطريقة الجديدة في تحليل الكتاب المقدس ان عدة نصوص بيبلية هي نصوص تحاول للاقناع، لذلك يجب اللجوء إلى الطريقة البلاغية لفهم هذه النصوص. كل خطاب يتضمّن ثلاثة عناصر: الخطيب، الخطاب، المستمعين.
أ- ان الطريقة البلاغية القديمة تميّز ثلاثة عناصر الاقناع لشرح نوعية الخطاب: سلطة الخطيب، التحليل الذي يعتمده الخطاب، المشاعر التي يثيرها لدى المستمعين.
ان تعددية المواقف والمستمعين تؤثّر بشكل ملحوظ على طريقة الكلام.
ب- ان الطريقة البلاغية الجديدة تدرس لماذا استعمال هذا النوع المحدد من الكلام هو نافع ويؤدي إلى الإقناع. إنها طريقة واقعية تدرس الأسلوب وطريقة الكتابة بصفتهما وسيلتين تؤثران على المستمع.
لتقييم النظرية، يمكن القول انها تكتفي بان تكون وصفية وغالباً ما تكون نتيجتها اسلوبية. انها طريقة اجمالية لا يمكنها لوحدها ان تكون طريقة مستقلة مكتفية بذاتها، اننا لا نعلم اذا كان مؤلفو الكتاب المقدس ينتمون إلى أوساط مثقّفة ولا نعلم إلى أي حد استعمل هؤلاء المؤلفون الطريقة البلاغية في كتاباتهم.
2- الطريقة السردية
ان العهد القديم يعرض تاريخ الخلاص وقد اصبحت رواية هذا التاريخ جوهر اعتراف الإيمان والليتورجيا والتعليم الديني. من ناحيتها تتضمّن الكرازة المسيحية الأولى رواية حياة وموت وقيامة المسيح، كما أنّ التعليم الديني يظهر بشكل روائي (1 قو 11: 23-25).
ان طرق التحليل هي متعددة. بشكل عام تعرض الطريقة السردية النصّ الذي تعالجه بطريقة روائية حتى يدخل القارىء في عالم النصّ. هذه الطريقة تركّز الإهتمام على عناصر النصّ، على الأشخاص وعلى وجهة نظر الكاتب.
تميّز بعض طرق التحليل السردي بين الكاتب الحقيقي والكاتب الضمني وبين القارىء الحقيقي والقارىء الضمني.
ان الكاتب الحقيقي هو الذي الّف النصّ، أما الكاتب الضمني فهو صورة الكاتب التي يخلقها النصّ تدريجياً اثناء قراءة النصّ (ثقافته، ميوله، إيمانه...). إن القارىء الحقيقي هو من وصل إليه النصّ بدءاً من المستمعين الأولين للبشارة وصولاً إلى القرّاء والسامعين في أيامنا هذه. أما القارىء الضمني فهو الإنسان القادر ان يتغيرّ ذهنياً وعاطفياً ليدخل في عالم النصّ فيتطابق مع وجهة نظر الكاتب الحقيقي من خلال الكاتب الضمني.
هذه الطريقة تستنتج من النصّ تعليماً عملياً ورعوياً. لذلك تحاول الطريقة السردية ان تضع النصّ في أطر تاريخية جديدة لفتح الطريق أمام فاعلية النصّ للخلاص. لذلك نقدّم رواية الخلاص والرواية في سبيل الخلاص.
لتقييم هذه النظرية، من الممكن الإعتبار انها مفيدة لانها تتطابق مع عدد كبير من النصوص البيبلية وتسهّل العبور من معنى النصّ في إطاره التاريخي (كما تحاول توضيحه الطريقة التاريخية النقدية) إلى وقع النصّ على القارىء اليوم. لكن التمييز بين الكاتب الحقيقي والكاتب الضمني يزيد مشاكل التحليل تعقيداً. ان دراستها الإجمالية للنصّ يجب تكملتها بدراسة تفصيلية.
3- الطريقة الرموزية
أول من وضع مبادءها هو اللغوي فرديناد دي سوسور الذي اعتبر ان كل لغة تحتوي على مجموعة علاقات تخضع لقواعد محددة. طوّر العالم الجيدراس جريماس هذه الطريقة وجعلها ترتكز على ثلاثة مبادىء اساسية:
أ- مبدأ الملازمة: كل نصّ يشكّل وحدة متكاملة، الدراسة تعالج النصّ بحد ذاته دون العودة إلى معطيات خارجية كالكاتب والأشخاص الذين يتوجّه إليهم النصّ والأحداث المروية وتاريخ كتابة النصّ.
ب- مبدأ تركيب النصّ: هناك علاقة بين مختلف عناصر النص.
ج- مبدأ قواعد النصّ: كل نصّ يخضع لقواعد محددة.
لتقييم هذه النظرية، من الممكن الإعتبار أن هذه الطريقة القت الضوء على ان كل نصّ بيبلي هو وحدة متكاملة يخضع لقواعد لغوية محددة. هكذا نستطيع ان نفهم الكتاب المقدس لإنّه كلام الله يعبرّ عنه كلام البشر. ولكن يجب ان تنفصل هذه الطريقة عن المبادىء الفلسفية وخاصة البنيانية، فالكتاب المقدس هو كلام عن الواقع اوحى به الله في تاريخ، لذلك يجب ان تنفتح هذه الطريقة على التاريخ.
ثالثاً- مقاربات مرتكزة على التقليد
أ- المقاربة القانونية
نشأتْ فيْ الولايات المتحدة منذ عشرين عاماً. انها تعتبر الكتاب المقدس ككل. تتم دراسة كل نصّ بيبلي على ضوء قانون الكتب، ان الدراسة النقدية تعترض على الافراط في اعطاء القيمة لكل ما هو اصلي واوّلي. الكتاب الملهم الذي عرفته الكنسة كقاعدة إيمان وعاشته في هذا الإطار يمكن التشديد على الشكل النهائي الذي يوجد فيه النصّ.
لتقييم هذه النظرية، يمكن القول انها يجب ان تأخذ بعين الإعتبار ان القانون اليهودي للكتب المقدسة يختلف عن القانون الذي تعترف به الكنيسة والذي يتضمّن الكتب القانونية الثانية. فإذا كانت مجموعة الكتب مختلفة، فالتحليل القانوني لا يمكن ان يكون متطابقاً. من ناحية اخرى، الكنيسة تقرأ العهد القديم على ضوء الحدث الفصحي (موت وقيامة المسيح) الذي يعطي المعنى النهائي للكتب. غير ان فهم الكتب على ضوء الحدث الفصحي لا يجب ان ينتزع الشرح الذي سبق حدث الفداء بل يجب احترام كل حقبة في تاريخ الخلاص: إذا عرمنا العهد القديم من مضمونه نحرم العهد الجديد من تعمقّه في تاريخ الخلاص.
2- المقارنة بالعودة إلى التقاليد اليهودية للتحليل
يستعين الشرّاح اليوم ببعض المراجع اليهودية لفهم العبارات والنصوص الغامضة والكلمات النادرة والصعبة، ونجد مراجع إلى هذه الكتب اليهودية في تحاليل الشّراح ولكن يجب الإنتباه: ان الشّراح اليهود يتكلمون عن ديانة الشعب اليهودي وطرق ممارستها. أما الشّراح المسيحيون، فالأساس بالنسبة إليهم هو الإيمان بيسوع المسيح القائم من الأموات.
رابعاً- المقاربة بواسطة العلوم الإنسانية
1- المقاربة السوسيولوجية: تدرس كيفية انتقال الشعب اليهودي من النظام القبلي إلى النظام الملكي وكيفية التحوّلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ولكن لا يمكننا الوثوق بهذه الدراسات دون تحفّظ لان النصوص البيبلية لا تعطي شرحاً وافياً لهذ المواضيع بشكل يمكّن الشّراح من الحصول على رؤية شاملة وموضوعية.
2- المقاربة الانتروبولوجية: تعالج هذه المقاربة اللغة، الفن، الديانة، الثياب، طرق التزيين، الأعياد، الرقص، الخرافات. في هذا المجال نجد ما يميّز الإنسان في محيطه الإجتماعي خاصة ميزات الإنسان الذي عاش في محيط البحر المتوسط: هل عاش في محيط قروي ام مدني، كرامته، تقاليده، طريقة تربية العائلة، المنزل، القربى، وضع الزوجة، طريقة التجارة، الملكية، الحرية، العبودية...
3- المقاربة البسيكولوجية: يقول علماء النفس ان الدين هو في صراع مع اللاوعي، هو يوجّه بطريقة غير مباشرة شهوات الإنسان ورغباته وطموحاته. في هذا الإطار حاول الشرّاح ان يوضحوا معنى طرق العبادة، الذبائح، الممنوعات، وحاولوا ان يشرحوا الكلام الرمزي للبيبليا والطابع التشبيهي للمعجزات. لكن إذا كان عالم النفس ملحداً، لن يستطيع أن يفهم معطيات الإيمان. فلا يجب بالتالي أن يلغي علم النفس حقيقة الخطيئة والخلاص.
خامساً- المقاربات السياقية
1- المقاربة التحريرية: نشأ لاهوت التحرير في أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية صعبة خاصة في اميركا اللاتينية حوالي سنة 1970 نتيجة حدثين هامين: المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي وجّه العمل الرعوي في الكنيسة نحو حاجات العالم الحالي. الإجتماع العام لاساقفة اميركا اللاتينية في مدلين سنة 1968 الذي طبّق تعاليم المجمع لحاجات اميركا اللاتينة. حسب هذه المقاربة. تتمّ قراءة موجّهة للبيبليا في سبيل حاجات الشعب: فبدلاً من القراءة الموضوعية للنصّ، نجد قراءة تغذي حاجات الشعب في صراعه الطبقي لتغيير بنية المجتمع. اهم مبادئها ان الله حاضر في تاريخ الشعب للانقاذ، انه إله الفقراء، لا ينصر الظالم ضد المظلوم. في هذا الاطار اصبحت جماعة الفقراء هي التي تتقبّل الكتاب المقدس لأنه كلام تحرير.
غير ان هذه القراءة لها مخاطرها: بما انها مرتبطة بحركة سياسية تتطور فملاحظاتها هي مؤقتة وآنية. فالإلتزام الإجتماعي والسياسي ليس وحده هدف شارح الكتاب المقدس وعلى هذه المقاربة ان تبتعد عن المبادىء التي طرحها كارل ماركس في صراع الطبقات.
2- المقاربة المرتبطة بتحرير المرأة: بدأ بعض الشّراح يطبّقون بعض مبادىء تحرير المرأة على الكتاب المقدس للحصول على حقوق المرأة.
هناك ثلاثة توجّهات:
أ- توجّه اصولي: يرفض سلطة الكتاب المقدس نهائياً لانه مكتوب بايدي الرجال ليسهّل سيطرة الرجل على المرأة.
ب- توجّه معتدل: يقبل بالكتاب المقدس شرط ان يعترف بحقوق الضعيف وخاصة المرأة.
ج- توجّه نقدي: يحاول إيجاد دور المرأة الإيجاب في حياة البشارة الرسولية وفي كنائس القديس بولس، قد تكون المساواة كانت سائدة انذاك.
سادساً- القراءة الأصولية
الكتاب المقدس هو كلام الله وهو معصوم عن الخطأ. يجب ان يقرأ حرفياً دون محاولة فهم النصّ بالعودة إلى تاريخ النصّ وطريقة تطوره. نشأت هذه المحاولة في زمن التجديد البروتستانتي كردّة فعل ضد الشرح الحر غير المقيّد.
حدّد الشرّاح البروتستانت المحافظون خمسة مبادىء اصولية: عصمة الكتاب المقدس، الوهية المسيح، ولادته من مريم البتول، عقيدة التكفير، قيامة الأجساد عند مجيء المسيح الثاني. هذه الطريقة لها اوجه ايجابية، غير انها تخضع لايديلوجية غير بيبلية وتفرض قراءة اصولية للكتاب المقدس ترفض كل بحث علمي ونقدي.

القسم الثاني- مسائل هرماناوية (تفسيرية)
اولاً- الهرماناوية الفلسفية
ظهرت بعض النظريات الفلسفية التي لاحظت المسافة التي تفصل بين عالم القرن الأول والقرن العشرين. حاول بعض الفلاسفة الوصول إلى الحقيقة التي يعبرّ عنها الكتاب المقدس إلى الإنسان المعاصر بالإستناد إلى بعض الفلسفات الوجودية كفلسفة هايدغير. هذا التفسير للكتاب المقدس له فائدة، لان الكتاب المقدس هو كلام الله موجّه إلى الناس الذين يعيشون في عصور مختلفة، كل نظرية تسهّل تأوين الكتاب المقدس لتغذية حياة المؤمنين هي مفيدة.
لكن يجب الإنتباه إلى ان بعض الطرق التفسيرية الفلسفية هي غير ملائمة لشرح الكتب المقدسة لانها مرتبطة بنظرية فلسفية محدّدة.
ثانياً- معنى الكلام الموحي
ان شراح الكتاب المقدس في القرون الأولى للمسيحية ميّزوا بين المعنى الحرفي والمعنى الروحي للنصّ. أما في القرون الوسطى فقد ميّز الشّراح داخل المعنى الروحي ثلاثة اوجه مختلفة: الحقيقة الموحاة، طريقة التصّرف، التحقيق النهائي.
إزاء هذه التعددية في المعاني، اعتمدت الطريقة التاريخية النقدية معنى وحيداً للنصّ.
1- المعنى الحرفي
يجب التمييز بين حرفي وحرفاني الذي يترجم النصّ كلمة كلمة. حين يعتمد النصّ التشبيه لا يجب اخذ تعليم النصّ على حرفيته: لتكن اوساطكم مشدودة (لو 12: 35) يعني الإستعداد.
ان المعنى الحرفي للكتاب المقدس هو الذي عبرّ عنه الكتّاب الملهمون من الروح القدس. هذا المعنى يريده الله الكاتب الأساسي. يمكننا ان نحدده بعد دراسة عميقة للنصّ من خلال وضع هذا الأخير في إطاره التاريخي والنقدي.
هل المعنى الحرفي هو وحيد؟ بشكل عام نعم. ولكن الكاتب الملهم يمكنه ان يعطي عدة مستويات في تعليمه ويزخر الإنجيل الرابع بالأمثلة.
من ناحية اخرى، حتى لو كانت العبارة تحمل معنى واحداً، فإن الوحي الإلهي يعطي العبارة معنى آخر. هذا هو الحال في كلام قيافا (يو 11: 50): انه تعبير سياسي مستند إلى حساب غير اخلاقي وفي الوقت عينه يتضمن وحياً إلهياً. هذان الوجهان ينتميان كلاهما إلى المعنى الحرفي. ويجب الإنتباه إلى الوجه الديناميكي لبعض النصوص: فالمزامير الملكية لا تقتصر فقط على الظروف التاريخية التي كتبت فيها حين تكلّم المزمور عن الملك، لقد اعطى صاحب المزمور الرؤية المثالية للملوكية بتطابق مع تصميم الله بشكل يجعل نصّه يتجاوز العرش الملكي التاريخي الذي يتحدث عنه.
2- المعنى الروحي
انه المعنى الذي يحتويه النصّ حين نقرأه تحت تأثير الروح القدس على ضوء الحدث الفصحي؛ العهد الجديد هو إتمام النبواءات: (كلام ناتان لداود عن ملك يدوم إلى الأبد يطبّق على المسيح القائم من الأموات).
يجب التمييز بين المعنى الروحي وبين الاستنتاجات الشخصية التي يوجهها الخيال او التفكير الشخصي.
إن القراءة الروحية التي تتم بين الجماعة او شخصياً لا يمكنها ان تكتشف المعنى الروحي الحقيقي إلا إذا رُبط النصّ بمعطيات واقعية ليست غريبة عنه. في هذا الإطار يجب وضع ثلاثة مستويات: النصّ البيبلي، الحدث الفصحي، الظروف الحالية للحياة في الروح. لقد حاول الشّراح القدماء إيجاد المعنى الروحي في أدق التفاصيل الواردة في العهد القديم وهذه الطريقأ غير مقبولة.
غير انه يوجد الوجه المثالي وهو ما تكشفه النصوص البيبلية نفسها: آدم صورة المسيح (روم 5: 14) الطوفان صورة المعمودية (1 بط 20:3-21)
3- المعنى التام
إنه معنى اعمق من النصّ يريده الله ولكن لا يعبرّ عنه الكاتب الملهم؛ نلاحظه حين ندرس النصّ على نور نصوص اخرى استشهدت به. ان متى 1: 23 يعطي المعنى التام لنبوءة اشعيا 7: 14 الذي يتكلم عن امرأة صبية ستحمل، وقد استعان متى بالترجمة السبعينية التي تكلّمت عن برثينوس (عذراء) ستحمل.
إن تعليم اباء الكنيسة وتعليم المجامع يعطي المعنى التام لتعليم العهد الجديد عن الله الآب والابن والروح القدس.
إن تحديد الخطيئة الأصلية الذي قدمه المجمع التريدنتيني يعطي المعنى التام لتعليم بولس في روم 5: 12- 21.
بإختصار ان المعنى التام هو طريقة اخرى تعبر عن المعنى الروحي للنصّ، حيث يتميّز المعنى الروحي عن المعنى الحرفي.
ان مبدأ المعنى التام يرتكز إلى ما يأتي: الروح القدس، الكاتب الأساسي للكتاب المقدس، يستطيع أن يوجه الكاتب البشري في اختيار عباراته بطريقة تعبرّ عن حقيقة لا يفهم الكاتب البشري عمق معناها. هكذا يظهر إطار جديد للنصّ، يعطي معاني جديدة كان الإطار الأول للنصّ قد تركها في الظلام.

القسم الثالث: الأبعاد التي تميّز التفسير الكاثوليكي
ان تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الكاثوليكية لا يطمح إلى ان يعتمد طريقة علمية محددة. ان كل الطرق العلمية التي تساعد على فهم معنى النصّ في إطاره اللغوي والأدبي والاجتماعي والديني والتاريخي هي مقبولة.
أولاً- التفسير في تقليد الكتاب المقدس
1- اعادة القراءة: لقد استشهدت الكتب المقدسة المتأخرة بالنصوص التي سبقتها، فأعادت قراءتها على ضوء معطيات جديدة: ميراث الأرض الموعود لابراهيم (تك 15: 7 و 18) اصبح الدخول إلى هيكل الله (خر 15: 17) ثم المشاركة في راحة الله (مز 132: 7-8) ثم الدخول إلى بيت المقدس السماوي (عب 6: 12 و 18- 20).
2- العلاقة بين العهد القديم والجديد: يؤكد كتّاب العهد الجديد ان العهد القديم الموحى من الله يأخذ ملء معناه في العهد الجديد. يقوله القديس بولس: ان المسيح مات من أجل خطايانا، كما جاء في الكتب، ودفن في اليوم الثالث، كما جاء في الكتب (1 كور 15: 3- 5). هذه العبارة هي نواة الكرازة المسيحية الأولى.
ثانياً- التفسير في تقليد الكنيسة
1- تكوين قانون الكتاب المقدس: بعد فترة طويلة من تاريخ شعب الله، حدّدت جماعات العهد القديم الكتب المقدسة التي تتضمن إيمان هذه الجماعات بالله. اضافت الكنيسة إلى نصوص العهد القديم الكتابات التي اعتبرتها حقيقة كتبها الرسل بوحي الروح القدس.
2- تحليل آباء الكنيسة للكتاب المقدس: اهتمّ اباء الكنيسة بتحليل الكتاب المقدس في عظاتهم وتعليقاتهم، وفي النقاشات اللاهوتية حيث كانت العودة إلى الكتب هي الأساس.
ثالثاً- مهمة الشرّاح
1- توجيهات عامة: على الشارح ان يشرح الكتاب المقدس في الكنيسة وان يضع في تصرف الرعاة والمؤمنين الغنى الموجود في الكتاب المقدس. على الشارح ان يستخدم الطريقة التاريخية النقدية، وان يستخدم إلى جانبها الطرق الكفيلة بشرح صحيح للكتاب المقدس، وعلى الشارح ان يوضح المعنى الكريستولوجي للنصوص ومعناها القانوني والكنسي.
2- البحث: ان شرح الكتاب المقدس واسع جداً بشكل لا يمكنه الاقتصار على شخص محدّد بل يجب ان يكون هناك عمل مشترك بين الاختصاصيين في مختلف المجالات.
3- التعليم: ان تعليم الكتاب المقدس هو مهم في معاهد اللاهوت والاكليريكيات. هذا التعليم يجب ان يكون ذا وجهة رعوية في الاكليريكيات دون ان يتخلى عن البعد العلمي. على المعلّمين ان يُفهموا الاكليريكيين انه عليهم ان يوقّروا الكتاب المقدس لانه يستحق القراءة الواعية والموضوعية.
4- النشر: نشر الكتب التي تشرح الكتاب المقدس هي ذات اهمية كبرى. تضاف إلى النشر وسائل الأعلام: الراديو، التلفزيون، الوسائل الالكترونية... بواسطة النشر يستطيع الشرّاح الكاثوليك التعرّف إلى اوساط شرح الكتاب المقدس خارج الكنيسة الكاثوليكية.
رابعاً- علاقة الكتاب المقدس مع اللاهوت العقائدي والأدبي
هناك علاقة وثيقة بين الكتاب المقدس واللاهوت العقائدي والأدبي. قبل البدء بشرح الكتاب المقدس، على الشّراح ان يتعلموا المبادىء اللاهوتية التي تُعلّمها الكنيسة لان الكتاب المقدس هو نصّ موحى من الله، استلمته الكنيسة لتبعث الإيمان وتوجه الحياة المسيحية. بالمقابل، ان عمل الشّراح في حقل الكتاب المقدس يجب ان يُوجّه اللاهوت العقائدي والأدبي.

القسم الرابع- تفسير الكتاب المقدس في حياة الكنيسة
أولاً- التأوين
1- مبادؤه: لقد كُتبت نصوص الكتاب المقدس في ظروف ماضية وبلغة مرتبطة بزمن معيّن. حتى تصبح هذه النصوص مقروءة ومفهومة من ابناء عصرنا، يجب تطبيق هذه النصوص على الظروف الحالية للمؤمنين والتعبير عنها بلغة ملائمة للعصر.
2- الطرق: ان التأوين يستلزم معرفة صحيحة للمعنى الحرفي للنص. ان الإنسان غير المطّلع على طرق شرح الكتاب المقدس، عليه ان يستعين بكتب توجّهه إلى فهم النصوص.
ان تأوين الكتاب المقدس انطلاقاً من الكتاب المقدس هو الطريق الفضلى، خاصة في النصوص التي استعملها العهد القديم نفسه في ظروف جديدة: المن في الخروج (خر 16) وفي سفر الحكمة (16: 20- 29).
ثم استعمل العهد الجديد هذه النصوص في أطر جديدة (يو 6). ان التأوين يجب ان يكون في علاقة مع سر المسيح والكنيسة، فلا يمكننا تأوين طرق التحرير فقط انطلاقاً من نصوص العهد القديم (خر 1- 2، مكابيين).
3- حدود التأوين: يجب الإبتعاد عن القراءات المحفوفة بالمجازفات والنظريات غير الموثوق منها، خاصة التي تستعمل النصّ لغايات ضيقّة (شهود يهوه)، او استعمال العهد الجديد في معنى يغذي مواقف معادية لليهود.
ثانياً- المثاقفة
يجب ان يتوجّه الكتاب المقدس إلى مختلف الحضارات والشعوب في مختلف الأوضاع الإجتماعية والسياسية التي يعيشون فيها.
ان سفر التكوين الذي يتضمّن وعد الله بالخلاص إلى كل قبائل الأرض له بعد شمولي وقد اكّد متى ضرورة تلمذة كل الأمم (متى 28: 18).
يمكن الوصول إلى هذه الغاية عن طريق الترجمات. هذه الترجمات تغيرّ احياناً بعض المعطيات والرموز لان طريقة التفكير واللغة تختلف من محيط إلى آ خر.
ثالثاً: هناك حاجة ملّحة لاستعمال الكتاب المقدس في الليتورجيا والقراءات الربيّة وفي العمل الرعوي وفي العلاقات المسكونية.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM