الفصل الخامس والثلاثون: أعمال الرسل وشهادة الكنيسة في الألف الثالث

الفصل الخامس والثلاثون
أعمال الرسل
وشهادة الكنيسة في الألف الثالث
المطران كيرلس سليم بسترس
رئيس أساقفة بعلبك وتوابعها
للروم الكاثوليك

يروي الفصل الأول من أعمال الرسل أنّ السيد المسيح من بعد قيامته بقي يتراءى لتلاميذه "مدّة أربعين يوما ويكلّمهم عن شؤون ملكوت الله" (1: 3). وفي ترائيه الأخير لهم قبل إرتفاعه، "سأله المجتمعون قائلين: يا رب، أفي هذا الزمان تردّ المُلْك لإسرائيل؟" (1: 6). بقي السيد المسيح يكلّم رسله، مدة ثلاث لسنين عن ملكوت الله. وبعد هذا كلّه نسمعهم في ترائيه الأخير لهم يسألونه عن الزمان الذي سوف يردّ فيه المُلْك لإسرائيل. ماذا كان جواب يسوع؟ قال لهم: "ليس لكم ان تعرفوا الأوقات والأزمنة التي أقرّها الآب بسلطانه الخاص. بيد أنّكم ستنالون قوة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة وإلى أقاصي الأرض" (1: 6- 8).
يوضح يسوع في جوابه ان ملكوت الله يختلف اختلافاً تاماً عن "مُلْك اسرائيل". ويتضمّن أمرين متلازمين: حلول الروح القدس على التلاميذ والشهادة للمسيح حتى أقاصي الأرض.
إن يسوع قد بشّر في أثناء حياته باقتراب ملكوت الله، وذلك منذ بدء رسالته، وفق ما جاء في الفصل الأول من إنجيل مرقس: "بعد ما ألقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل وهو يكرز بإنجيل الله ويقول: لقد تمّ الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وامنوا بالإنجيل" (مر 1: 14- 15). هذا الملكوت الذي اقترب بمجيء المسيح تحقق بحلول الروح القدس على التلاميذ. ويتحقق على مدى الزمن بحلول الروح القدس في قلب كل إنسان. إن ملكوت الله الذي بدأ كحبة خردل "يصير شجرة حتى إنّ طيور السماء تأتي وتعشّش في أغصانها" (متّى 13: 32)، عندما يصير كل إنسان ممتلئاً من روح الله ويعمل أعمال الله. ملكوت الله يتحقّق بقدر ما يتألّه البشر. وهذا التأليه ممكن لأن يسوع ابن الله قد أتى إلى العالم. لذلك يرتبط التبشير بملكوت الله بالشهادة ليسوع المسيح: "فتكونون لي شهوداً" (1: 6- 8).
إنّ ملكوت الله قد أتى إلينا في شخص يسوع المسيح ابن الله الذي فيه ملء الروح القدس. لذلك هو "الملكوت نفسه" (Autobasileia) حسب تعبير اوريجانوس. ولذلك نرى أن الكرازة الرسولية تتمحور حول الشهادة ليسوع المسيح. ويمكن اختصارها في النقاط التالية: 1) إن الزمان قد تمّ ونبوءات العهد القديم قد تحقّقت بمجيء يسوع المسيح وبما عمله الله من خلاله في حياته وموته وقيامته؛ 2) إنّ يسوع الذي صلبه اليهود قد أقامه الله، وبهذه القيامة أعلن الله أنّ يسوع هو المسيح المنتظر والربّ والمخلّص؛ 3) إنّ المسيح، بإرساله الروح القدس على التلاميذ، قد أظهر أنّه في مجد الله، وأنّ ملكوت الله يتحقّق على الأرض في الذين ينالون الروح القدس ويعملون أعماله الله؛ 4) إن يسوع المسيح سوف يأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات. وهذا القول ليس إنباء بحدث سوف يتمّ في المستقبل بقدر ما هو إعلان للقيمة الإلهية المطلقة لشخص يسوع المسيح وتعاليمه. فمن يؤمن به ويتّحد به ويقبل روحه القدّوس لا يُدان، بل يحصل منذ الآن على الخلاص.
إنّ سفر أعمال الرسل ليس له نهاية. فالآيات الأخيرة منه تتكلّم عن تبشير بولس بملكوت الله وبالربّ يسوع المسيح: "وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره، وكان يقبل جميع الذين يقصدونه، مبشّراً بملكوت الله، ومعلّماً بما يختصّ بالربّ يسوع المسيح، وبكل جرأة وحرّية" (28: 30). وهذا التبشير بملكوت الله وبالربّ يسوع المسيح يستمرّ في الكنيسة منذ ألفي سنة وسيبقى حتى انقضاء الدهر.
وإذا تساءلنا اليوم عن دور المسيحية في العالم، ليس لنا جواب آخر غير هذا التبشير بملكوت الله وبالربّ يسوع المسيح. وهذا ما أعلنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في رسالة له بعنوان "في مجيء الألف الثالث" (TERTIO MILLENIO ADVENIENTE)، أذاعها في 10 تشرين الثاني 1994 حول الإعداد ليوبيل السنة الألفين لميلاد السيد المسيح ولسّر التجسّد. وقد اختار موضوع هذا اليوبيل: "يسوع المسيح، مخلّص العالم الوحيد في الأمسِ واليوم وإلى الأبد" (رقم 40). ويقول في هذه الرسالة إن هدف اليوبيل هو "تقوية إيمان المسيحيّين وشهادتهم. فيكتشفون أولاً من جديد الكرازة أي تعليم الرسل في شخص يسوع المسيح وسرّه الخلاصي" (رقم 42)؛ ويكتشفون ثانياً "حضور الروح القدس وعمله في الكنيسة" (رقم 45)؛ ومع الإبن وفي الروح "يسيرون معاً إلى بيت الآب الذي يكتشفون كل يوم محبّته غير المشروطة لكلّ الخلائق البشرية وبنوع خاص للإبن الضال" (رقم 49).
إنّ سفر أعمال الرسل الذي تأمّلنا في مضمونه طوال أسبوع قد تابعت الكنيسة كتابته في حضور الروح فيها مدة ألفي سنة. وستستمرّ على كتابته في الألف الثالث. إن دور المسيحية في الألف الثالث يقوم على متابعة عمل يسوع المسيح وعمل الرسل. لقد مات يسوع، حسب قول إنجيل يوحنا "ليجمع في الوحدة أبناء الله المتفرّقين" (يو 11: 52)، "وإذ قد ارتفع بيمين الله، حسب قول بطرس في خطبته الأولى، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به" (2: 33)، أفاضه على التلاميذ. ويدعو بطرس جميع مستمعيه إلى تقبّل هذا الروح: "ليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس". ثم يضيف: "لأنّ الموعد هو لكم ولبنيكم، ولجميع الذين على بعد، بمقدار ما يدعو الربّ إلهنا منهم" (2: 38- 39).
دور الكنيسة في الألف الثالث يقوم على متابعة هذا العمل لتوحيد جميع أبناء الله، "القريبين والبعيدين" (راجع أف 2: 13، 17) إلى أيّ شعب انتموا وإلى أيّ دين انتموا، ليكتشفوا معاً محبّة الله الآب للجميع، ويسيروا معاً إلى بيت الآب. دور المسيحية في الألف الثالث يقوم على السعي ليصير البشر كلهم عائلة واحدة بل جسداً واحداً، هو جسد المسيح، ينسم فيه روح واحد، هو روح الله القدّوس. وهكذا يتحقّق ملكوت الله عندما يجتمع كل أبناء الله ليمجّدوا بفم واحد وقلب واحد اسم الله العظيم الجلال، إسم الآب بالإبن وفي الروح القدس. له المجد والعزة والإكرام والسجود إلى الأبد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM