الفصل الخامس عشر :سفر الأعمال والتاريخ

الفصل الخامس عشر
سفر الأعمال والتاريخ
الخوري بولس الفغالي

سؤال طرحه النقّاد خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. هل أراد لوقا أن يدون كتاباً تاريخياً أم كتاباً تقوياً؟ وان كان كتاباً تاريخياً، فما هي قيمته في نظر التاريخ؟ هل نحن أمام مفهوم حديث يورد الأحداث بالتفصيل وبموضوعية شخص ينظر إلى الأمور من الخارج؟ أم أمام نظرة تشبه تلك إلتي أشرفت على كتابة "الأسفار التاريخية" في العهد القديم؟

1- الآراء الحديثة
يطرح الشرّاح اليوم مسألتين اثنتين. أولاً: هدف الكتاب وفنّه الأدبي. ثانياً: التاريخ ونهاية الأزمنة.
أ- هدف الكتاب وفنّه الأدبي
لماذا كتب لوقا سفر الأعمال ولمن كتبه؟ يرى عدد من الشرّاح ان لوقا ما أراد أن يدوّن كتاب تاريخ، بل كتاباً تعليمياً من أجل بناء الجماعة. وقد وجّهه إلى مسيحيين هلينيين (تحضّروا بالحضارة اليونانية) ليصوّر لهم زرع الإنجيل في كل مكان وانتشار الكنيسة لدى الأمم الوثنية. هنا نقول إن سفر الأعمال ليس تاريخاً بالمعنى الحديث للكلمة. فلوقا لا يريد أن يورد الماضي كما حدث بالتفاصيل. ولا يريد فقط ان يرسم بطريقة "موضوعية" بداية المسيحية. هناك نظرة لاهوتية تهمّه بالدرجة الأولى.
ليست سفر الأعمال ايراداً لسيرة بطرس وبولس كما اعتاد الأدب الهلنستي ان يفعل فيتصّرف بحرية تجاه مصادره. وما أراد لوقا ان يقدّم جواباً يرضي فضولية معاصريه والأجيال المقبلة. إنه يريد ان يبني جماعته، سواء كانت أنطاكية أو غيرها من المدن. وهو لا يهتمّ بسيكولوجية أبطال عاشوا في الماضي مع بناء دقيق لعناصر التاريخ وتشعّباته. إنه يتوخّى الحاضر، ويجعل تعليمه اللاهوتي يمرّ في الخبر، ولكن بصورة خاصة في الخطب التي تتوزّع هذا الكتاب. وهكذا نكون أمام فقاهة معدّة لتعليم المؤمنين تعليماً دينياً.
هناك مسألتان يكتشفهما الشرّاح في مجمل سفر الأعمال. الأولى: الشمولية. الثانية: المسيحية والعالم الروماني. أما الشمولية فتعني أن الخلاص يتوجّه إلى الجميع، وأن على الإنجيل أن لا ينحصر في العالم اليهودي فيجعل من الكنيسة شيعة منغلقة على ذاتها. بل يجب ان ينتقل إلى الأمم الوثنية. وهو في الواقع سينتقل بصورة تدريجية. في فلسطين اولاً: أورشليم، السامرة، الساحل. ثانيا: في العالم اليوناني والروماني: من سورية، إلى تركيا، إلى أوروبا ووصولاً إلى قلب الأمبراطورية الرومانية، إلى رومة. هذا هو التعليم الذي وجّهه لوقا إلى المسيحيين الهلينيين فجعلهم يشعرون باعتزاز بقوة الإنجيل الذي لا يقف بوجهه شيء ولا بشر. وتساءل بعضهم: لماذا ذكر لوقا هؤلاء المؤمنين الآتين من العالم الوثني بهذا اليقين، وهو شمولية الإنجيل؟ اولاً، ليحميهم من هجمات المتهودين، أولئك المتعلّقين بالشرائع اليهودية والمحاولين فرضها على العالم الوثني. ثانياً، ليبيّن للامؤمنين ان مسألة الشمولية هي عنصر أساسي في الكرازة الرسالية. لا، ليست الرواقية وحدها تنظر إلى الكون وكأنه مدينة كبيرة (وكل بلد هو مدينة صغيرة). بل المسيحية تعتبر أن من واجبها أن تتوجّه إلى الجميع فلا تفرّق بين رجل وامرأة، بين عبد وحرّ، بين يهودي ويوناني (غل 3: 28؛ رج 1 كور 12: 13؛ روم 10: 12). ولا تفرّق بين يوناني ويهودي، بين ختان وقلف (عدم ختان)، بين اعجمي (شخص غير يوناني) واسكوتي (سكّان شاطىء البحر الأسود. كانوا يعتبرون آخر الناس)، بين عبد وحرّ (كو 11:3).
والمسألة الثانية ترتبط بالدفاع والتبرير (ابولوجيا). ليست مهمّة كالمسألة الأولى، ولكنها لفتت انتباه الشرّاح: لقد أراد كاتب سفر الأعمال ان يقدّم المسيحية للعالم الروماني في وجهها المشرق. هنا نتذكّر كل ما كان يقال عن المسيحيين من افتراءات حول الأسرار التي يمارسونها في عزلة عن الناس. وأراد لوقا أن يذكّر الناس أن المسيحيين لا يعادون الدولة، وبالتالي فهم يستحقّون الامتيازات التي منحت للعالم اليهودي بديانته المسموحة بها. هنا نتذكّر القول المشهور: "لا يحقّ للمسيحيين ان يعيشوا". كما نتذكّر في حياة بولس سلطة رومة وعدالتها حتى بالنسبة إلى سجين بسيط إتهمته امّته في أمور دينية لا تهمّ الدولة. رفع بولس دعواه إلى قيصر، فما تجرّأ أحد أن يعارض. شاور فستس مجلسه شوراه، ثم قال: "إلى قيصر رفعت دعواك، فإلى قيصر تذهب" (25: 11- 12). وهكذا تكون السلطات الرومانية، ويكون الوثنيون أولئك الذين توجّه إليهم لوقا في سفر الأعمال. وقد يكون تيوفيلوس ممثلاً لهذه الفئة الطيّبة التي يُطلب منها أن تبدّل نظرتها إلى الديانة الناشئة. هنا نتذكّر سفر الحكمة الذي توجّه بالدرجة الأولى إلى المؤمنين ليشجّعهم في الاضطهاد ويدعوهم إلى اكتشاف الحكمة التي يملكون في الكتاب المقدس. ويتوجّه أيضاً إلى اللامؤمنين ليخبرهم بحقيقة الديانة اليهودية ويدلّهم على الطريق التي تقود إلى معرفة الله الواحد.
وكانت مسائل أخرى أقل اهمية تحاول الدفاع أو الهجوم. مثلاً، أراد صاحب أعمال الرسل ان يصالح الكنيسة الكبرى والمسيحية الآتية من العالم اليهودي. لهذا كتب "تسوية" تزيل أثر كل خلاف بين بطرس وبولس. لا شكّ في أن غل 2: 6 ي قسمت حقول الرسالة بين بطرس (اؤتمن بطرس على الإنجيل للختان) وبولس (اؤتمن على الإنجيل للقلف، أو عدم الختان). ولكن الواقع هو أن بطرس عمّد كورنيلويس، وأن بولس كان يبدأ تبشيره في المجامع قبل أن يوجّه الإنجيل إلى الوثنيين. تلك كانت قسمة نظريّة أكثر منها عمليّة. لا شكّ في أن لوقا عرف بحبّه للسلام والمسالمة فتجنّب تصليب المواقف وجعْل الشخص يعارض الآخر ويقاومه. ولكن يبقى أن بولس ظلّ بولس في سفر الأعمال وبطرس ظلّ بطرس. وكلاهما دخلا في وجهة نظر لوقا.
وقال الشرّاح إن سفر الأعمال دوّن لتبرير بولس خلال محاكمته أمام محكمة الأمبراطور. ولكن في هذه الحال نتساءل: لماذا كتب ف 1- 12؟ وهل ننسى أن سفر الأعمال دوّن ليدافع عن بولس من هجمات المتهودين. فبولس هو الذي تابع عمل الرسل الأولين وجعل هذا العمل يمتدّ حتى أقاصي الأرض.
ورفض الشرّاح أن يعتبروا سفر الأعمال كتاباً تاريخياً بسبب التناقض الظاهر بين أعمال الرسل وكتابات بولس (مثلاً، بولس هو لدى لوقا خطيب كبير ومجترح معجزات. ولكنه يبدو غير ذلك في 2 كور 10: 10؛ 12: 12). ومع ذلك، لا نستطيع ان ننكر اليقين وهو أن لوقا يلقي نظرة على ماضي الجماعة الأولى، فيجمع في اضمامة واحدة أهمّ المعطيات في إطار لاهوته. فإن كان هذا التاريخ "غير موثوق به" فهو يظلّ تاريخاً، ولا يكون فقط فقاهة وكرّاساً يتضمّن بعض المواعظ. توقّفنا هنا عند المتسوى الأدبي وسنعود إلى مناقشة ما قيل على المتسوى التاريخى.
ب- التاريخ ونهاية الأزمنة
لماذا كتب لوقا هذا التاريخ؟ وكيف تجرّأ أن يزيد سفر الأعمال على النصّ الإنجيلي، ان يزيد كتاباً ثانياً على كتاب أول فجعل في إجمالة واحدة وعلى مستوى واحد حياة الكنيسة والحدث الخلاصي الذي أعلنه الإيمان، حدث يسوع المسيح؟
إن الجواب على هذا السؤال الجوهري يساعدنا على فهم سفر الأعمال. فقبل الجيل المسيحي الثاني الذي كان جيل لوقا، إنتطر المسيحيون عودة الرب في القريب العاجل. ولكن النهاية القريبة التي أُعلن عنها مراراً لم تحصل. وانتظار الخلاص الاسكاتولوجي اخذ يضعف في النفوس فيؤثّر على قرار الإيمان. في قلب هذه الأزمة وعى لوقا مستقبل الكنيسة: أمام الكنيسة مستقبل لا محدود، بدأ مع صعود يسوع المسيح. فعليها أن تقيم في العالم، في زمن الخلاص. عليها ان تعمل كمؤسّسة خلاص لتكفل التعليم الخلاصي. وهكذا أدخل لوقا التعليم الاسكاتولوجي في التاريخ، أدخل الآخرة في الزمن: إن الخلاص يأتي الآن في زمن الكنيسة التي تحمل الخلاص. رجعت المسألة الاسكاتولوجية إلى الوراء، بل أبعدت من الرؤية الأولى، وبدأ زمن الشهادة. قال الملاك للرسل: "ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء" (1: 11)؟ وقال كاسمان: "نحن لا نكتب تاريخ الكنيسة حين ننتظر كل يوم نهاية العالم". غير أن تأخر مجيء المسيح (باروسيا) دفع لوقا إلى أن يتخلّى عن الإنتظار القريب لليوم الاسكاتولوجي وأن يحلّ محلّه رؤية "تاريخ الخلاص" حيث تشكّل حياة يسوع "منتصف الزمن" بين زمن اسرائيل وزمن الكنيسة (هذه هي نظرية كونزلمان).
غير أن هذا البناء اللاهوتي والسيكولوجي يصطدم ببعض الصعوبات. وتطرح أسئلة: "أين نجد في النصوص خيبة أمل أمام تأخر مجيء المسيح؟ هل استبعد صاحب سفر الأعمال الإنتظار الاسكاتولوجي إلى مستقبل بعيد، إلى مستقبل لا أهمية له؟ ولكن لوقا لا يلغي إمكانية دينونة مفاجئة وقريبة. نقرأ في لو 10: 9: "توبوا: قد اقترب ملكوت السماوات". وفي 12: 36: "كونوا كرجال ينتظرون سيّدهم عند عودته من العرس ليفتحوا له حالما يوافي ويقرع". وفي 21: 34- 36: "كونوا على حذر... إسهروا... وصلّوا في كل حين". ويبدو أن لوقا انتظر الدينونة الأخيرة في نهاية جيله. نقرأ في 9: 27: "إن في القائمين ههنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله" (أي: التعرف إلى سيادة يسوع في القيامة، رج 22: 69). وفي 18: 8: "ولكن متى جاء ابن البشر فهل يجد الإيمان على الأرض" (هذا يدلّ على الجحود في نهاية الأزمنة، رج 2 تس 2: 3)؟ وفي 21: 32: "إن هذا الجيل لا يزول ما لم يتمّ الكلّ (قد يدلّ على نهاية الزمن، أو دمار أورشليم والهيكل). لقد وعى لوقا مستقبلاً من أجل الكنيسة ينطلق من ماضيها. ولكنه حين ثبّت فكرة بداية جديدة للتاريخ في يسوع المسيح أكدّ في الوقت عينه على فكرة النهاية. إذا كان هناك من بداية فلا بدّ من أن تكون نهاية.
و ذلك، فالانشداد الاسكاتولوجي قد خفّ كثيراً في الجيل الثالث وفي أعمال الرسل. مثلاً نقرأ في 19: 11: "وفيما الناس يسمعون ذلك، ضرب أيضاً مثلاً، لأنه كان قد اقترب من أورشليم، وكانوا يتوهّمون أن ملكوت الله موشك أن يظهر في الحال". إنتظر التلاميذ، شأنهم شأن اليهود، ملكوت الله الذي سيأتي قريباً (1: 6؛ مر 10: 37). فجاء مثل يسوع تحذيراً من الاعتقاد بمجيء الآخرة في وقت قريب. ونقرأ في 21: 8: "إحذروا أن يضلّكم أحد فإنّ كثيرين سيأتون باسمي ويقولون: أنا هو! وأيضاً الزمان اقترب. فلا تتبعوهم". وفي سفر الأعمال (1: 6-8) رفض يسوع الافصاح عن الزمان الذي فيه يردّ الملك لاسرائيل (أي: تأتي النهاية)، وأرسل تلاميذه من أجل الشهادة.
لقد أراد لوقا أن يحارب ضدّ النظريات الجليانية الخاطئة التي تهدّد رسالة الكنيسة وانطلاقتها إلى العالم. غير أن هذا لم يمنعه من أن يعتبر الأزمنة الحالية على أنها "الأيام الأخيرة" التي دشّنها مجيء الروح. قالت يوء 3: 1: "بعد هذا، أفيض روحي". أما سفر الأعمال فحوّل الكلام وقال: "في الأيام الأخيرة أفيض روحي" (2: 17). وسوف يتكلّم لوقا أيضاً عن الملكوت الآتي في بداية سفر الأعمال وفي نهايته. نقرأ في 1: 3: "كان يكلّمهم عن شؤون الملكوت". وفي 28: 23: "طفق يشرح لهم ملكوت الله". وفي آ 31: "كان يبشّر بملكوت الله". وبين البداية والنهاية هناك مقاطع عديدة تشير إلى هذا الملكوت. في 8: 12: بشّر فيلبس عن ملكوت الله (ولكن ربطه باسم يسوع المسيح، رج 28: 31). في 14: 22، حرّض بولس التلاميذ قال: "بمضايق كثيرة ينبغي لنا أن ندخل إلى ملكوت الله" (رج 17: 7؛ 19: 8؛ 20: 25). هنا نلاحظ اختلافاً صريحاً بين الإنجيل الثالث وسفر الأعمال. ففي الإنجيل يُعتبر الملكوت حاضراً منذ الآن في عمل يسوع الخلاصي. أما في سفر الأعمال فإن الروح يتابع هذا الحضور الخلاصي بملكوت مزمع أن يأتي.
لا نفرض على لوقا نظرتنا إلى التاريخ ولا نحسب أنه يحاول أن يفتح التاريخ على مستقبل لا محدّد في زمن الكنيسة. بل هو يضم زمن الكنيسة الحالي في وحدة الحدث المؤسّس، حياة يسوع المسيح. وإذا عدنا إلى لو 16: 16 (لقد بقي الناموس والأنبياء إلى يوحنّا، ومنذئذ يبشّر بملكوت الله) نستطيع أن نميّز حقبتين لا ثلاث حقبات: هناك زمن إسرائيل الذي يمتدّ إلى يوحنا المعمدان ضمناً. هناك زمن "خلاص الله" (28: 28؛ لو 3: 6) أي زمن يسوع وزمن الكنيسة اللذين انضما بانتظار الملكوت. فالكنيسة التي لا تسمّى تسمية مباشرة (بفم لوقا) اسرائيل الجديد، تتحد مع معلّمها في جسم واحد. في هذا المجالس يبدو لوقا قريباً جداً من بولس.
ارتبط سفر الأعمال بالإنجيل فحمل بشارة الخلاص. واتخذ انجيل لوقا بُعد التاريخ، فانطلق من الحدث الخلاصي الذي سيتردّد حتى أقاصي الأرض. إن تاريخ يسوع هو بداية تاريخ ديني يتواصل في الكنيسة.

2- القيمة التاريخية لسفر الأعمال
إن سفر الأعمال يقدم تاريخاَ دينياً في خط التواريخ البيبلية والاستذكارات التي عرفتها المجامع اليهودية في القرن الأول المسيحي. فما قيمة هذا التاريخ؟ نعالج هذا القسم في ثلاثة مقاطع: الأول: لوقا ونظرته إلى التاريخ. الثاني: دورة بطرس والتاريخ. الثالث: بولس وسفر الأعمال.
أ- لوقا ونظرته إلى التاريخ
كتب لوقا تاريخاً دينياً منطلقاً من عدة تقاليد جمعها في الكنائس وضمّها في مجموعة واحدة تتجاوب وحاجات قرّائه. كتب لوقا كل نصّ أع ولكننا نلاحظ في كل وقت قبضة الحدث الذي يحمله التقليد الشفهي على النصّ المكتوب. من جهة، يشكّل أع وثيقة تاريخية رئيسية عن وضع الفكر المسيحي في نهاية القرن الأول المسيحي. ومن جهة ثانية، كان نصّ أع صدى للاحداث الماضية. أراد لوقا أن يؤكّد على الوحدة الجذرية بين كنائس عصره والجماعة الأولى، فاختار عناصر تسلّمها من التقليد ورتّبها وأبرزها من أجل قرّائه. إرتبط لوقا بالتقليد، فما استطاع أن يخترع من نفسه هذه الأخبار وإلاّ هدّد القضية التي يدافع عنها في نظر معاصريه والسلطات الكنسية التي سمعت أقلّه بالأحداث الماضية.
فعل لوقا في أع كما فعل في إنجيله. حين عاد إلى مرقس، أظهر أمانة كبيرة وحرّية مدهشة في عرضه للأمور. فنحن لا نستطيع أن نعتبر الأخبار في أع وكأنها صورة فوتوغرافية عن الأحداث، ولا الخطب الصغيرة، كأنها نقل ونسخ لعظات حقيقية. ولهذا، حين نكون أمام قراءة أو شرح للكتاب، لن نتوقّف على مستوى الحدث لنقدّم براهين على النصّ. مثلاً، في إحدى التقاليد الشعبية التي استعادها لوقا عن يهوذا (1: 18)، لا نستطيع أن نفسّر موت الخائن "الذي سقط إلى الأمام" بأن نصعده إلى سطح المنزل الذي يتحدّث عنه 1: 20 انطلاقاً من مز 69: 26 (كما قال هانشن). فحين يترك المفسر النصّ ليعيد بناء الحدث على طريقته، فهو يخلق نصاً جديداً وخبراً جديداً. ونقول أيضاً: كل مرّة يرفض المفسّر تاريخية خبر انطلاقاً من نظرة مؤرّخية إلى التاريخ، فهو يضلّ ويُضلّلنا معه. مثلاً يلغي هانشن 1: 19 من تصوّره للحدث الخام، لأن بطرس لا يستطيع ان يقول "في لغتهم" (لغة من؟). ويلغي أيضاً آ 18 التي تتحدّث عن يهوذا، لأن الرسل كانوا على علم بما حصل. وهكذا، لن يكون البرهان في 1: 20 صحيحاً، لهذا نلغيه. ونلغي بالتالي 1: 16... وهكذا سقطت كل المقطوعة التي تتحدّث عن متّيا (1: 15-26). مثل هذه المواقف لدى الشرّاح، تخلق عند القرّاء سراب المؤرخية. ينزعون عنصراً من الخبر، فيسقط الخبر كله. هذا يبيّن على الأقل أن أخبار لوقا منظّمة بطريقة محكمة ومدهشة.
بعد هذا، لن يستطيع الشارح في القسم الأول من أع ولاسيّما في الخطب، إلاّ أن يقف على مستوى النصّ ليفهمه. ولكن هذا لا يمنعه من أن يشير إلى أمور تاريخية هي صدى لحدث حصل في الماضي. وفي وضع التوثيق الذي نعيشه، لا يستطيع المفسّر أن يعود إلى "الحدث" ليصوّره كما يشاء. كل ما يقدر أن يفعله، هو التحقّق من تأثير هذا التذكر أو ذاك في التقاليد التي جمعها لوقا.
ب- دورة بطرس والتاريخ
لا نستطيع أن نتحقق من القيمة التاريخية لكل حدث ورد في القسم الأول من أع. لهذا نتوقّف في كل حالة على العناصر التدوينية التي قد يكون لها هي أيضاً فائدة تاريخية على مستواها. فعلى المؤرخ أن يبحث عن تلاقي الإشارات والدلائل، عن التماسك والتباين في النصوص. وها نحن نقدّم بعض الملاحظات.
اولاً: تاريخية الخبر
ليست الخطب الواردة في أع ملخصات لخطب أطول، بل هي وحدات صغيرة محكمة التركيب وكاملة، حتى وإن انقطع المتكلم عن الكلام حين تصل الخطبة إلى الذروة. ذاك هو اسلوب لوقا الأدبي كما نراه خاصة في 7: 53؛ 10: 43؛ 26: 23. ولن نعجّل في أن ننسب إلى التقليد الأولاني عبارات لوقاوية أو رسمات خطب. ولكننا لا نستطيع إلا أن نقول بوجود مواضيع أدبية تقليدية تقابل عناصر سابقة للقديس بولس (1 كور 15: 3- 5). ويستعمل لوقا تعابير كرستولوجية قديمة لم تعد متداولة في عصره. واعتبر الأب دوبون أننا نرى في خطب بطرس انعكاساً للكرازة الرسولية. كما نلاحظ أن لوقا استعاد بعض عناصر الفكر البولسي التي لا تدخل دخولاً سهلاً في نظرته اللاهوتية: مثلاً التبرير وموت يسوع الخلاصي في 13: 38-39 و20: 28 (موضوعان لن يعود إليهما لوقا في عرضه اللاهوتي). وهذا ما نقوله عن خطبة اسطفانس بأسلوبها اللوقاوي: إنها تتضمّن عناصر غريبة ضدّ الشريعة وذبائح الهيكل لا تتفق وفكر لوقا العادي. إنّ تقيّد لوقا بمراجعه، قد يتجاوز الأفكار العزيزة على قلبه.
ثانياً: الأخبار
إن لأخبار دورة بطرس طابعاً خاصّاً يميّزها عن خبر الأسفار البولسية. نحن هنا أمام فنيّن أدبيّين مختلفين. بعد 15: 36 يقدّم لوقا خبر سفر، وقد يضع بعض الأمور الغريبة والتي لا فائدة منها (هذا يدل على تاريخيته). ولكننا أمام مجموعة متناسقة. أما في القسم الأولى من الكتاب، فنجد فسيفساء من الأخبار والخطب، نجد سلسلة من عناصر مختلفة ومكتوبة بلغة خاصة وغير مربوطة بعضها ببعض ربطاً محكماً. نحسّ أمام عدد من هذه الأخبار، أننا أمام تمثّلات نموذجية لا يريد بها لوقا أن يورد التاريخ، بل أن يكشف انطلاقاً من عناصر مختارة لمعناها، ينابيعَ الخلاص في فكر وممارسة جماعة البداية. إذن، لن نستطيع من الوجهة التاريخية أن نجعل قسمَيْ أع على المستوى نفسه. ففي القسم الثاني المنسَّق في تتابع متماسك، أورد لوقا للجماعات المسيحية الهلينية بداية تاريخها الخاصّ على خطى بولس. أما في القسم الأول، فإن لوقا يذكّرنا بالتاريخ الأولاني (أي: المرتبط بجماعة أورشليم) للجماعة اللوقاوية في سلسلة من اللوحات الحيّة والنموذجيّة. وهي في جزء منها تأملات لاهوتية تعود بنا إلى زمن البداية. ونورد على سبيل المثال خير العنصرة حول ولادة الكنيسة. والاجمالات حول الحياة المثالية في الجماعة، وخبر أول خطيئة وطرد حنانيا وسفيرة من الجماعة طرداً قادهما إلى الموت، وأصل الخدم حسب لوقا (أع 6: 1- 7)، وأصل الرسالة إلى الأمم (أنطاكية وكورنيليوس). إن هذه الأخبار المتنوّعة والقريبة من التقاليد المسيحية المتعدّدة، تحتفظ بفائدة كبيرة على المستوى اللاهوتي والتاريخي، شرط ان نقرأها في لغتها لا أن نكتبها على طريقتنا فنشوّهها.
ثالثاً: تسلسل الأحداث
كيف تبدو الأحداث في سفر الأعمال؟ إستعاد لوقا فكرة مر 7: 27 (دعي البنين اولاً يشبعون) وفكرة بولس في روم 1: 16 (خلاص كل من آمن، اليهودي أولاً ثم اليوناني) و2: 9 (الويل والعذاب لكل إنسان يعمل الشرّ من اليهود أولاً ثم من اليونانيين)، فقال: أعلن الإنجيل أولاً على اليهود ثمّ على الوثنيين. ولهذا نشر الأحداث في تسلسل ظاهر، مع أن الرسالة إلى إسرائيل ظلّت مع بولس بعد ذهابه إلى الأمم. فإذا انطلقنا من غل 2: 9 و1 كور 9: 19، 23 نرى أن نشاط الرسول يتوزّع بين اليهود والوثنيين. ومن جهة أخرى، حين يبدأ لوقا موضوعاً، فهو ينهيه ليقدّم لنا مجموعات مرتّبة ومنظّمة (رج مثلاً خبر يوحنّا المعمدان في لو 3: 1- 20). هذا ما فعله في أع حين قدّم لنا دورة بطرس. لقد جعل دخوله كورنيليوس في الكنيسة (10: 1- 11؛ 18) في نهاية هذه الدورة، وكأنه فعلة رمزية تجد جواباً في تأسيس كنيسة أنطاكية وتعدّ العدّة لعمل بولس. قد يكون خبر كورنيليوس حصل فيما بعد، ولكن الهم التاريخي يتبع الهم اللاهوتي ويخضع للفن الأدبي اللوقاوي. وإذا كان لوقا تكلم في 12: 17 عن موت بطرس، فلن نستنتج أن الأحداث التي حصلت بعد هذه الآيات وقعت حقاً بعد موت الرسول (رج 15: 32- 4). إذن، نتجنّب الإعتبارات التي تستند فقط إلى نظام التتاليات الاخبارية. ولنا مثل آخر في أسفار بولس الثلاثة إلى أورشليم: إنها ما زالت موضوع جدال.
ج- بولس وسفر الأعمال
هناك فرق واضح بين صورة بولس كما يقدّمها أع، وتلك التي تقدّمها الرسائل البولسية. إذن، ليس أع كتاباً تاريخياً. هذا ما قاله فيلهاور وهانشن اللذان استعملا هذرا الاختلاف ليقولا إن صاحب أع لم يكن رفيق بولس. وشدد بورنكام على "تقصير" لوقا. ورفض شرّاح آخرون الأخذ بعين الإعتبار بطريقة بولس الشخصية في عرضه الأمور او القول بتطوّر في فكر بولس. وإذ نحاول أن نضعف عناصر لوقا وبولس لكي نجمعها ونبرز النظرة الخاصّة بكل كاتب، فنحن نعارض بطريقة مصطنعة رجلين أو فكرين باسم منطق مصطنع أو لاهوت منغلق على ذاته. نحن ندرس فكر لوقا في أع. ثم ندرس فكر بولس في الرسائل. غير أن الدراسة التي تقابل أع مع الرسائل تبقى مهمّة، لأنها تكشف مسيرة فكر لوقا. من جهة، يصوّر لنا أع المحيط الجغرافي والاثني الذي فيه جرت رسالة بولس، وفي هذا السبيل يتمتع أع بقيمة لا تضاهى. ومن جهة ثانية، يبين الاختلاف بين أع وبولس مدى تطور الفكر في حقبة قصيرة نسبياً، كما يعطينا فكرة عن التعدّدية في الكنيسة. هناك اختلافات تتعلّق بعرض الوقائع وتصوير الأشخاص. وأخرى تتعلّق بالفكر اللاهوتي. إليك أهم هذه الاختلافات.
أولاً: إن إقامة بولس الثانية في أورشليم التي تتحدث عنها غل 2: 1- 10 (رج 1: 18) هي تلك المذكورة في أع 15: 4-29 رغم اختلاف بارز في وجهات النظر. ولكن إن عدنا إلى أع 9: 26- 30؛ 11: 30 و12: 25؛ 15: 4، نحسّ وكأننا أمام إقامة بولس الثالثة في أورشليم، لا إقامته الثانية. ولكن إلى أي حدّ نستطيع أن نستند إلى تسلسل الأحداث كما يبرز في القسم الأول من أع؟ تبقى المسألة موضوع نقاش.
بالإضافة إلى ذلك، نرى الصعوبات تتجمّع في خبر أع 15. أين نجعل خلاف أنطاكية الذي تتحدّث عنه غل 2: 11- 14 وأع 15: 1-3 (ولكن بطريقة مخفّفة)؟ هل نجعله قبل مجمع أورشليم أم بعده؟ ثم، ألاّ يجب أن نفصل بين الإتفاق الذي تحقّق في أورشليم والمقرّرات الطقوسية التي توردها رسالة أع 15: 29-30. إن بولس حين تحدّث عن اللحوم المكرّسة للأصنام (1 كور 10) تجاهل هذه المقرّرات ولاسيّما فيما يخصّ ذبائح الأصنام النجسة. وفوق ذلك، إذا عدنا إلى أع 21: 25، نسمع يعقوب يكلّم بولس عن هذه المقررات خلال إقامته الأخيرة في أورشليم. إذن، يبدو من الأفضل أن نستند إلى تقديم الوقائع حسب بولس، لا حسب اللوحة التي جمع فيها لوقا عناصر من أزمنة متنوّعة وأوساط مختلفة.
ثانياً: إذا قرأنا أع، نجد أن بولس هو خطيب عظيم ومجترح معجزات. غير أن الرسائل تصوّر لنا بولس متواضعاً وبسيطاً (2 كور 10: 10؛ 12: 12). ولكن لوقا أراد أن يعبرّ عن محبته لذلك الذي رافقه فتحدّث عنه. وقد استعاد لوقا بعض العبارات العزيزة على قلب بولس (مثلا، لقب ابن الله في 9: 20) في خطبة أثينة (أع 17: 23-27؛ ق روم 1: 29- 20).
ثالثاً: في أع، ظلّ بولس متحداً اتحاداً وثيقاً ببطرس ويعقوب. ولكن بولس يبدو أكثر تحفظاً رغم ما يقوله في غل 2: 9. نحن لن ننسى هنا موضوع الوحدة الأساسي الذي يشدّد عليه لوقا الذي اغفل الحديث عن الصعوبات بين المسؤولين الأولين في الكنيسة (أو هو خفّف هذه الصعوبات)، لكي يثبت وحدة الكنائس وارثة بولس في خطّ المؤسسين القدماء. ونحن نحسّ أن بولس كاد يصبح يهودياً باسم هذا التشديد على الوحدة، لئلا يكون بعيداً عن بطرس وبالأخص عن يعقوب. ولكن هذا لم يمنع لوقا من أن يذكر حرية الوثنيين المرتدّين بالنسبة إلى الشريعة (15: 10)، وأن يستعيد بعض التعابير البولسية حوله التبرير والنعمة (13: 48- 43؛ 14: 3؛ 15: 11؛ 20: 24). وقد أشرنا سابقاً إلى هدف لوقا الخاص الذي جعله ينظر إلى زمن البداية كمبدأ وحدة، لا إلى الزمن الآتي، وهكذا أخفى بعفن الشيء الموضوع الاسكاتولوجي.
رابعاً: قال الشرّاح: الرسل هم الاثنا عشر، والرسول كما قال 1: 21- 22 هو الذي رافق يسوع منذ عماده إلى صعوده، ونتساءل: كيف نسي لوقا ما طالب به مرارا رسولُ الأمم. لا شكّ في أن هناك فرقاً بين نظرة بولس ونظرة أع. ولكن لا ننسى أن 14: 4، 14 يسمّي بولس وبرنابا رسولين. وأن كلمة "رسل" استُعملت في الجمع لا في المفرد، فدلّت لا على هذا الشخص أو ذاك (حتى ولو كان بطرس)، بل على الحلقة الرسولية. ثم، إذا كان الرسل يقومون بخدمة الرسالة (1: 25)، فنحن نتساءل: لماذا لم يعد لوقا يتكلّم عن الاثني عشر بعد 6: 2 أي بعد تنظيم السبعة؟ ثم إن معنى 1: 21- 22 يتنوّع إن نظرنا إلى القرينة المباشرة. هل يعطي لوقا تحديداً لا زمنياً للرسالة؟ إذا عدنا إلى القرينة، نفهم أنه لكي يكون تواصل بين مجموعة يسوع وكنيسة العنصرة، يجب أن نملأ الفراغ الذي تركه يهوذا، وأن يستطيع يسوع أن يضم إلى مجموعة الاثني عشر تلميذاً يكون مثلهم. هناك من جعل لوقا يعارض بولس، وقد اخطأ. هناك من قال إن لوقا اخضع بولس المواهبي للنظم الكنيسة، فبدا وكأنه يقرأ أع بصورة معاكسة واضعا مسائلنا الحديثة داخل النصّ. ما يريد صاحب أع ان يبين، هو أن بولس يؤمّن رباط الوحدة بين مجموعة الرسل الأساسية (13: 31- 32) والزمن الحالي للكنيسة اللوقاوية.
خامساً: إختلف لوقا عن بولس، فلم يُبرز القيمة الخلاصية لموت يسوع. أجل، هناك مسافة لاهوتية شاسعة بين الاثنين. وهذا يدلّ على فضل لوقا في الحفاظ على هذا الموضوع في فم بولس في أع 20: 28. ثم إن لوقا عرف كيف يستوعب اللاهوت البولسي حول القيامة. توجّه لوقا إلى يونانيين تصدمهم فكرة القيامة، لا إلى يهود يشكّكهم صليب المسيح (1 كور 1: 23)، فشدّد على لاهوت الخلاص المؤسَّس على حدث القيامة (13: 30، 35-36؛ 17: 18، 31- 32؛ 23: 6؛ 24: 21؛ 26؛ 23). فهل نعتبر أن لوقا أخطأ لأنه كيّف تعليمه حسب العقلية المسيحية الهلينية؟ لا شكّ في أن لوقا ليس عبقرياً مثل بولس. ولكن كيف نُنكر حضور الروح في عمله. سار على خطى بولس، ولكنّه عرف أن يقدم المسيحية في إطار خبر أصيل. إن المواهب متنوعة، ولكن الروح الذي يمنحها واحد (1 كور 12: 4). وهكذا كانت لنا نظرات مسيحية متعدّدة في العهد الجديد، وليس آخرها وجه المسيح الذي نكتشفه في أربعة أناجيل هي تستقي في الواقع من ذلك الذي هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، من ذلك الذي تجسّد من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM