الفصل الثاني والعشرون : علامات الزمن

الفصل الثاني والعشرون
علامات الزمن
12: 54- 56

هذا المقطع الصغير هو واحد من هذه الأمثلة التي كان يسوع يتّخذها من حياة سامعيه اليومية، لكي يستخرج منها درساً وعبرة. فكما جعلهم يدركون سلوك الله تجاههم انطلاقاً من جوابهم على سؤال أولادهم (11: 11- 13)، إنطلاقاً من بحثهم عن خروف ضاع (15: 14- 17)، ها هو يدعوهم إلى تفكير خلاصي مشيراً إلى "شطارتهم" في تمييز الشتاء والحرّ.
نجد هذا المثل أيضاً في إنجيل متّى (16: 2 ب- 3) في وضع آخر وفي تعبير يختلف بعض الإختلاف. ولكن بما أنّ هذا المقطع غائب من عدّة مخطوطات في هذا الإنجيل، وبما أن مدلوله لا يبدو مختلفاً عن مدلول نصّ لوقا، نكتفي بهذا الأخير فندرس السياق والنص في حدّ ذاته وأخيراً الموضوع المركزي.
نشير على سبيل الملاحظة أن مخطوطات اسكندرانية مثل السينائي والفاتيكاني وعدداً كبيراً من المخطوطات التي دوّنت في قيصرية فلسطين البحرية، والسريانية العتيقة والترجمة القبطية، لا تتضمّن مت 16: 2 ب- 3. ولكن هناك عدّة مخطوطات قديمة ولها وزنها قد احتفظت بهذا النصّ الأصيل الذي يتميّز عن نصّ لوقا ولا يتفرّع منه. إنّ فعل "دياكريناين" (مت 16: 3) يبدو أقدم من "دوكيمازاين" (لو 12: 54. مفردة خاصة بلوقا) وقد يكون هو الكلمة العاكفة التي ربطت لو 12: 56 مع آ 57 في خلفيّتهما السامية.
أ- سياق النصّ
إن المقاطع السابقة في ف 12 قد جمعت عدة تعاليم قدّمها يسوع لتلاميذه: الشهادة التي عليهم أن يؤدّوها أمام الناس (آ 1- 12). إستعمال خيرات هذه الأرض (آ 13- 34). السهر بانتظار عودة السيد (آ 35- 48)، رسالة يسوع الخاصة وتأثيرها على تلاميذه (آ 49- 53).
وبعد آ 54- 56، تتركّز القطعة كلها على قرار نتّخذه الآن تجاه الدينونة الاتية: إن آ 57- 59 تدعو السامعين إلى تنظيم أمورهم قبل أن يمثلوا أمام الديّان. وترتكز 13: 1- 5 على خبرين متفرّقين مأساويين فتدعو الناس إلى التوبة. ويدلّ مثل التينة (13: 6- 9) على أنه لم يبقَ لنا وقت طويل من أجل التوبة.
تشكّل آ 54- 56 عنصراً أول في هذه القطعة حول القرار الذي نتّخذه فلا نتأخّر.
ب- نصّ الإنجيل
توجّهت الآيات السابقة إلى التلاميذ (12: 22، 41)، وهذا التوجّه وافق مضمونها: فمتطلّباتها الخطيرة (آ 1- 48) تفترض سامعين وطّدوا العزم على اتباع المعلّم حتى النهاية. والإشارات الخاطفة إلى قلق عميق لدى المعلّم وقلّة صبر (آ 49- 50) لا يمكن أن تُقال أمام الجموع، بل أمام حلقة صغيرة.
ومع آ 54، يتبدّل السامعون.
"وقال أيضاً للجموع" (آ 54 آ).
نلاحظ أن يسوع يتوجّه الآن إلى سامعين لم يعرفوا أن يميّزوا الحدث الذي يكوّن حضوره. في خبر مت 16: 1 الموازي، يقدّم يسوع جواباً إلى الفريسيين والصادوقيين الذين جاؤوا إليه يطلبون آية من السماء.
"متى رأيتم سحابة تطلع في المغرب، قلتم في الحال: جاء المطر. ويكون كذلك. وإذا هبّت ريح الجنوب، قلتم: سيكون حرّ. ويكون كذلك" (آ 54 ب- 55).
يهتمّ الفلاّحون دوماً بالطقس. وأهل فلسطين ولبنان وسورية يتميّزونه مسبقاً. ففي أيام إيليا، صعدت سحابة من البحر. وعند المساء كانت علامة مطر (1 مل 18: 44: هذا يدلّ على الأصل الفلسطيني لهذا النصّ). وعرف أيّوب ريح الجنوب وما تحمل معها من حرّ (أي 37: 17).
لاحظ يسوع هذه الأمور في أرض الناصرة، فانطبعت في ذاكرته مثل زنابق الحقل (مت 6: 28) وطيور السماء (مت 6: 26)، وطلوع الزرع (مر 4: 4- 8، 27- 29) والنموّ العجيب لحبة الخردل (مر 4: 31- 32)... ولكن الشيء الوحيد الذي يهمّه الآن هو العبرة التي يستطيع أن يستخرجها من هذه الصور الأليفة.
"أيها المراؤون! إنكم تعرفون أن تتأؤلوا وجه الأرض والسماء. وهذا الزمان كيف لا تفهمونه" (آ 56)؟
بدأ يسوع "درسه" في نداء عنيف: يا مراؤون (هيبوكريتس). ولكن يبدو أنّ هذه الترجمة لا توافق الوضع الحاضر الذي لا يلوم فيه يسوع محاوريه لأنهم يخفون شيئاً. هذه اللفظة تقابل في العبرية "حنف" (أي 34: 30، 36: 13 كما في السبعينية) وفي الأرامية "حنفاً" (في فم يسوع). هذه المفردة تعني الفاسد، الكافر (لا الخبيث). يستعمل لوقا هذه الكلمة أيضاً في 6: 42 (يا مرائي، أخرج أولاً الخشبة من عينك)؛ 13: 15 (يا مراؤون، كل واحد في السبت يحلّ ثوره)؛ ويستعملها متّى 13 مرّة.
يلوم يسوع الجموع الذين يحيطون به، ويلومهم بقساوة لأنهم لا يعرفون أن "يؤوّلوا هذا الزمان". إذن الفترة الحاضرة هي زمن خاص. وهناك آيات تساعدنا على تمييزه، كما أن هناك علامات تدلّ على اقتراب المطر أو الحرّ. إتّهم يسوع معاصريه بأنهم لا يعرفون ولا يدركون. بل هم يرفضون أن يروا. إنهم أكثر من مرائين. إنهم "عميان" بإرادتهم. إن سياق لوقا يدلّ بوضوح على هذا الزمان. حين جعل الإنجيلي آ 54- 56 صلة وصل بين الإشارة إلى رسالة يسوع (آ 49- 53) والقطعة حول التعجيل بالتوبة (12: 57- 13: 9)، حدّد رسالة يسوع كالمهلة الأخيرة المعطاة لإسرائيل لكي يبلغ الخلاص: هذه هي سنة النعمة (والرحمة) التي أعلنها يسوع في كرازة دشّنها في الناصرة (14: 18- 19).
لا يعدّد لوقا في هذا المقطع العلامات التي قدّمت لمعاصري يسوع لكي يؤؤلوا هذا الزمان. ولكنه ذكرها في مقاطع أخرى سوف نتوقّف عندها فنكتشف فكره.
خ- علامات هذا الزمان
أعلن يسوع مراراً في إنجيل لوقا أن رسالته تشكّل حقبة أصيلة في تاريخ شعب الله، وقدّم العلامات التي تبرّر إعلانه: في كرازته في الناصرة (4: 8- 21، أرسلني لأنادي... اليوم تمّت هذه الكتابة). في جوابه إلى مرسلي يوحنا المعمدان (7: 22- 23: إذهبا وأعلما يوحنا بما رأيتما وسمعتما). في جداله مع خصومه حول طرد الشياطين (11: 20: إذا كنت أنا باصبع الله أطرد الشياطين، فقد اقترب منكم ملكوت الله). ونستطيع أن نضمّ إلى هذه التصريحات نهاية مثل لعازر والغني (16: 27- 31) التي تجعلنا نستشفّ فكرة لوقا حول علامات الزمان.
نبدأ فنرتّب مختلف هذه الآيات في رسالة يسوع. فالتي نظهر في البداية هي عجائبه. لا يتردّد يسوع في إبراز دورها. تحيّر يوحنا المعمدان من هذا "المسيح" المتواضع والمسالم، فأرسل يسوع يقول له: "العميان يستعيدون النظر، والعرج يمشون، والبرص يطهّرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون..." (7: 22). عدّد يسوع هنا الأشفية الجسدية التي اجترحها (7: 21). صوّرها في ألفاظ أشعيا حين أعلن الخلاص (أش 29: 18؛ 35: 5- 6)، وبيّن أنها علامات عن مجيء ملكوت الله. نستطيع أن نقابل 4: 18 حيث يسمّى يسوع المرسل ليعلن للعميان العودة إلى البصر (رج أش 42: 7). يدلّ هذا النصّ أولاً (في أشعيا وفي الإنجيل) على رؤية الإيمان. ولكنه يلمّح أيضاً إلى معجزات يسوع في العميان (7: 21؛ 18: 35- 43) كعلامة عن استنارة القلوب (رج يو 9).
بعد هذا، نسب الخصوم إلى يسوع طرده للشياطين إلى قوة بعل زبول الذي يريد أن يضل الشعب ويميل به عن الله وشريعته (11: 15). رفض يسوع مقالهم: إن كنت أنا باصبع الله أطرد الشياطين، فقد اقترب منكم ملكوت الله (11: 20). إن ذكر اصبع الله يشير إلى معجزات موسى التي عارضها ممحرة فرعون ولكن عبثاً (خر 8: 15. ق مت 12: 28 الذكما يقول روح الله بدل اصبع الله). ولكن في عمل يسوع العجيب، قد تجلّى ملكوت الله وظهر معه زمن الخلاص النهائي.
تتنوّع فاعلية المعجزات بتنوّع الإستعدادات العميقة لدى الذين يشاهدونها. فبعضهم يرى فيها علامة رسالة يسوع الإلهية (5: 1- 11؛ 7: 16: مجّدوا الله قائلين؛ 8: 38؛ 19: 37)؛ إنهم منفتحون على نداء الله. وآخرون يرفضون هذا النداء: لقد لاحظ يسوع بعض المرّات فشل آياته. نبّه كورزين وبيت صيدا لأنهما لم تؤمنا رغم المعجزات التي صُنعت فيهما (10: 13). وفي نهاية مثل لعازر والغني، وحين توسّل الغني إلى إبراهيم لكي يرسل لعازر لكي يردّ اخوته، قال يسوع بفم إبراهيم: "عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا لهم، فإن قام واحد من الموتى لا يصدّقونه" (16: 31).
يرينا هذا المقطع الأخير أن الكتب المقدّسة هي علامة أفعل لتقود إلى التوبة. هذه فكرة رئيسية للوقا في إنجيله وفي سفر الأعمال (البرهان الكتابي). فالكتب تدلّ على مخطّط الله في مسيرته الكاملة، في ثوابته، في نواميسه، وفي اتجاهه نحو الهدف الأخير. قال يسوع في يو 5: 28: إن الكتب تشهد لي: فهي ترسم ملامح تعليمه وسرّه. وكل عمل يسوع هو تتمة الخلاص الذي تعلنه وتهيئه. فمن عرف أن يقرأ الكتب بدت أعمال يسوع وأقواله كهدف مواعيدها وآيات نهائية لمجيء ملكوت الله (4: 18؛ 7: 22).
وتساعد الكتب لوقا بصورة خاصة على الإشارة إلى آية أصيلة تدلّ على حضور الخلاص في عمل يسوع. فيسوع يعطي مرتين في إنجيل لوقا الدليل على رسالته: إعلان البشارة للفقراء (4: 18؛ 7: 22= مت 11: 5). إنه يعود إلى أش 61: 1 ويبرز إحدى الوجهات الجديدة من مسيحانيّته وذلك تجاه الآمال البشرية (على مستوى اللحم والدم) لدى عدد كبير من معاصريه (10: 21).
حين يوبّخ يسوع سامعيه لأنهم لا يعرفون أن يؤوّلوا هذا الزمان، فهو يشير بشكل ضمني إلى كل العلامات التي قدّمها: معجزات اجترحها، كتب أتمّها في تعليمه وحياته، اهتمام خاص بالفقراء. وحين يرى يهودي أمين لوحي موسى والأنبياء هذه الإشارات، فهو سيتعرّف إلى خلاص انتظره شعبه.
خاتمة
إن النصّ الذي درسناه توجّه أولاً إلى معاصري يسوع. فقد دعاهم إلى أن يميّزوا في هذه الرسالة القصيرة التي قام بها معلّم الناصرة، زمن الخلاص الذي انتظره اسرائيل من أجيال وأجيال.
ولكن أقوال يسوع لم تخسر معناها مع نهاية حياته على الأرض. فزمن يسوع هو حاضرٌ دوماً هنا. وملكوت الله ما زال حاضراً في التاريخ، وهو يتجلّى بشكل خفي في علامات يقدّمها لإيمان يعرف أن يميّزها. هذه العلامات هي لنا كلمة الإنجيل في سرّ الكنيسة. مع سلطتها وحياتها. وكل انسان مدعوّ بهذه الطريقة إلى التعرّف إلى حضور الله الذي يعمل في عالمنا. لا شك في أنه ليس من السهل أن نميّز هذه العلامات، فهي لا تفرض نفسها بالقوة، بل تقدم نفسها لنقبلها بحرية وبعد جهاد طويل.
ملكوت الله حاضرٌ هنا بقدرته الخلاصية، وهو في متناول من يطلبه بقلب صادق. فطوبى لمن ينفتح على ندائه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM