الفصل الثلاثون: "الساعة" في انجيل القديس يوحنا

 

الفصل الثلاثون
"الساعة"
في انجيل القديس يوحنا
الأب أيوب شهوان

مقدمة
أ- من الواضح أنَّ موضوع "ساعة" يسوع هو يوحناويّ حصرًا، ولكن فكرة "الساعة" بحد ذاتها ليست جديدة، إذ نجدها، بالمعنى الاسكاتولوجي، في دا 11: 40-45، حيث يجري الكلام على محاولة الملك أنطيوخوس أبيفانوس (+ 160 ق. م.) أن يُبيد كلَّ الشعب العبري. كان الأمر بالطبع مأساويًا، ولكن النبي تنبّأ بانتهاء حكم الملك المذكور، وصوّر سقوطَه بصُور أبوكاليبتية، وضعها في جوٍّ مسيحاني، كونها "ساعة التتميم".
وردَت الكلمة في الأناجيل الازائية، ولكن فقط في نقاط نادرة في إطار آلام يسوع. ففي ختام قصة النزاع في الجسمانية، مثلاً، نقرأ، في مرقس 14: 41، ما يلي: "حانت الساعة. ها إنَّ ابن الانسان يُسلم إلى أيدي الخطأة". واضحٌ أنَّ "الساعة" هنا هي ساعةُ الجانب المظلم من الآلام، لأنَّ يسوع يُسلّم إلى الخطأة. بذات التوجُّه، نجد آيةً مشابهة في لوقا 22: 35: "إنّما الساعة ساعتكم والسلطانُ سلطانُ الظلام".
ما هو مميّز عند يوحنا هو أنه يتكلّم على "الساعة" منذ بداية الانجيل. فكلُّ حياة يسوع هي بالتالي موجّهة نحو تلك "الساعة" التي ستكون ذروةَ وجوده الأرضي، ولكنها لن تكون كما عند الازائيين، ساعة الظلمات، حيث يُسلَّم المخلِّص إلى أيدي الخطأة، بل ساعة ارتفاعه على الصليب، التي هي واحدة مع ساعة التمجيد.
نصادف كلمة "ساعة" 26 مرة في يوحنا، ولها غالبًا معنى نوعيّ، أي أنه يدلّ على زمن محدد جيدًا، وعلى همّ في حياة يسوع (رج أيضًا مر 14: 35 في إطار الآلام). الساعة هي معتبرة أحيانًا مستقبلية (2: 4؛ 4: 21 و23؛ 5: 25 و28-29؛ 7: 30؛ 8: 20؛ 16: 2 و25 و22). وأحيانًا حاضرة (12: 23 و27؛ 13: 1؛ 17: 1).
مرات عدة، إذًا وفي ظروف متنوعة، يستعمل الانجيلي يوحنا عبارة "ساعة يسوع"، أو يضع كلمة "ساعة" على فم الرب، كي يشير بها إلى زمن حدده الآب لتتميم العمل الخلاصي. فما هي هذه الساعة؟
ب- يردُ عند يوحنا المعنى المعتاد للزمن حيث تعني الساعة وقتًا محددًا.
قال: "تعاليا وانظرا". فذهبا ونظرا أين يقيم. وأقاما عنده يوم ذاك. وكانت الساعة نحو العاشرة (1: 39). أنظر أيضًا الساعة السادسة (4: 6؛ 19: 14). والسابعة (4: 52)، والثانية عشرة (11: 9). "كان السراجَ المتّقد الساطع، وشئتُم أن تبتهجوا بنوره ساعة (5: 25). ثمَّ قال للتلميذ: "ها هي أمُّك. ومن تلك الساعة قبلها التلميذُ في خاصته" (27:19).
ج- من حيث الخلفية اللاهوتية تأتي كلمة "ساعة" من الأوساط الأبوكاليبتية (دا 7: 18 و19؛ أحنوخ 89: 72؛ 90: 1 و5؛ نج 3: 23؛ 4: 17 و18 و20؛ 9: 5 و20؛ نظح 1: 5 و11؛ 13:14؛ 15: 1؛ 3:18)، وتشير إلى الوقت الذي سيتمّ فيه، وبشكل نهائي، تصميمُ الله، الذي لا رجوع عنه، تمامًا كما هي الحال بالنسبة إلى "يوم الرب". نصادف هذا الاستعمال في الأناجيل الازائية وفي يوحنا (مت 24: 26 و44؛ 25: 13؛ لو 12: 40 و46؛ يو 5: 25 و28).
فعند قيامة يسوع فهم المؤمنون أن آخر الأزمنة قد بلغ إليهم (1 كو 10: 11). وهذا ما قادهم إلى أن يأوّنوا الساعة الاسكاتولوجية في أحداث الفصح، وحتى منذ توقيف يسوع (مت 45:26؛ مر 35:14 و41؛ لو 53:22).
عند يوحنا، تتم الساعة النهائية عند تمجيد يسوع على الصليب (يو 23:12 و27؛ 17: 1) وهذا ما يأخذه الانجيلي بعين الاعتبار (7: 30؛ 8: 20؛ 13: 1). إنها "ساعة يسوع"، أي ساعةُ رجوعه إلى الآب (13: 1)، الساعة التي قبلَها بالتمام (27:13)، والساعة أخيرًا التي سيتركه فيها تلاميذُه وحدَه (16: 32) الآب هو الذي يحدّدها، وبالاستناد إليها يحدّد يسوع عملَه كلّه. إذ فيها تبلغ رسالتُه تمامها. مع ذلك، منذ دخل يسوعُ الحياةَ العامة، أصبحت هذه الساعة ساعة الأجل الذي إليه يتقدّم، حاضرةً في كل ما يقول ويعمل، فهي تجلّي خلاص الله النهائي الموهوب للناس.
كل الانجيل الرابع منتظم حول الساعة: كتاب الآيات (2-12) يسير قُدُمًا على وقع التأكيد أن الساعة لم تأت بعد (2: 4؛ 7: 30؛ 8: 20)، أما كتاب الساعة (13-20)، فيبدأ بالتأكيد العلني أن الساعةَ قد أتت بالنسبة إلى يسوع ليعبر من هذا العالم إلى الآب (13: 1؛ رج 16: 32؛ 17: 1). في "كتاب الساعة"، في مواجهة يسوع تقف كلُّ قوَى الشرّ التي يُرمُز إليها بالشيطان. إنها الآلام.
نستعرض أهم المحطّات التي يجري فيها الكلام على الساعة. مركّزين بنوع خاص على عرس قانا، وعلى عبور يسوع من هذا العالم إلى الآب، عبرَ الآلام، ومن ثمَّ التمجيد.

1- ساعة اعتلان يسوع
1/ 1- الساعة في عرس قانا (4:2)
يتكلّم يسوع عن هذه الساعة مع بدء حياته العلنية، وحصرًا في عرس قانا، عندما طلبت إليه أمه أن يشيل العروسين من وضع حرج وقعا فيه بسبب نفاد الخمرة. ولكي يعبّرَ يسوعُ لأمّه عن الدافع الذي قد يبدو متعارضًا مع قبول طلبها، قال لها:
"ما لي ولك، يا امرأة" أما حانت ساعتي" (2: 4)
1/ 1/ أ- اعتلان مسيحانية يسوع
بالتأكيد، المقصود هو ساعة اعتلان سلطان يسوع المشيحاني للمرة الأولى. إنها ساعة هامة بنوع خاص، كما يُفهمنا ذلك يوحنا في ختام روايته حول حدث قانا، إذ يُبرز الأعجوبة على أنها "أولى" الآيات أو "بَدءُها" (رج يو 2: 11). ولكن، وفي العمق، تلُوحُ في الأفق ساعةُ آلام يسوع وتمجيده (رج يو 7: 30؛ 8: 20؛ 23:12-27؛ 13: 1؛ 17: 1؛ 19: 27)، التي سيُتمّم معها عمل الخلاص الموعود للبشريّة جمعاء.
عندما صنع يسوع هذه "الآية" على إثر تَدَخُّل مريم وتشفّعها، كشف بذات الفعل أنه المخلصَ المسيحانيّ المنتظَر. ففي حين يأتي مع أمه لملاقاة العروسين ومشاركتهما فرحَهما، وبالرغم من أن التركيز ينبغي أن يكون مبدئيًا على هذين الأخيرين، كون قرانهما هو الحدث الذي أزفت ساعته، فأنّ يسوع يصبح بدلاً منهما في الواجهة؛ فبعد صنعه الآية، بدأ عمله كالعروس الأسمى، مدشّنًا هكذا وليمةَ العُرس التي هي صورة ملكوت الله (رج مت 22: 2).
1/ 1/ ب- ساعة يسوع
نصادف هنا، وللمرة الأولى، الموضوعَ اليوحنويَّ المميَّز، أي موضوع الساعة، الذي سيرافق تقدُّم قصة البشارة في الانجيل عينه. إنَّ ساعةَ يسوع "التي لم تأت بعد"، كما في 7: 30 و8: 20، أو التي "هي الآن حاضرة"، كما في 12: 23؛ 13: 1؛ 17: 1، ستُربط دائمًا بتتميم رسالته، التي تبلغ زمنها الأقصى بالآلام، والموت والتمجيد. إن ليسوع موعدًا مع هذه "الساعة" غير الواضحة المعالم، والتي يبدو أنها تحدّد عمله. لا يستبق يوحنا الموضوع، لأنه يعتقد بالطبع أنّ يسوع، منذ بداية رسالته، يعلم أن ساعة آلامه آتية لا محالة. لذا، فإنَّ أيّة خارقة مذهلة، تحصل قبل الأوان، قد تتعارض مع التصميم الذي حدده الآب.
1/ 1/ ج- استفهامٌ أم تأكيد؟
ألَم تأتي ساعتي بعد؟ (2: 4 ب)
يمكن ترجمة الجملة اليونانية، οuπο εκει η ορα μοu إمّا كتأكيد سلبي: "ساعتي لم تأت بعد، وإمّا كجملة استفهام: "ألم تأتي ساعتي بعد؟" المخطوطات القديمة لا تتضمّن تشكيلاً، لذا يرتبط الخيار بين النفي والاستفهام بتفسير إطار النص.
يختار معظمُ المترجمين التأكيد السلبي- "ساعتي لم تأت بعد"، بالاستناد إلى الآيات التي فيها يلاحظ يوحنا أنه، بعد محاولة اليهود الفاشلة لتوقيف يسوع، "لم تكن ساعته قد أتت بعد" (7: 30؛ 8: 20). في هذه المقاربة، هناك مخاطرة، لأنه ليس يسوع هو المتكلّم، بل ناقل الخبر الذي يحلل الحدث بعد وقوعه هو الفاعل. إذا كانت هذه الملاحظة لا تسمح وحدها بنبذ الترجمة نفيًا، يبقى أن هذه الأخيرة هي أقل تأكيد غراماطيقيًا. بالاضافة إلى ذلك، لا يتواصل المعنى السلبي في الرواية: فكيف تمكّنت أمُّ يسوع، بعد الرفض الحازم، أن تتوجه إلى الخدام لينفذوا ما قد يقوله يسوع لهم، وكأنها لم تكن بحاجة إلى جواب ابنها؟
بالمقابل، تسمح الصيغةُ الاستفهاميّةُ إلى حدٍّ كبير بتواصل ردّة فعل مريم المباشرة مع جواب يسوع. أن يكون هذا ممكنًا في اليونانية، فيكفي لتأكيده المثل الواردُ في متى 8:16-9، حيث يسألُ يسوعُ تلاميذَه قائلاً: "يا قليل الايمان، لماذا تفكرون أن ليس عندكم خبز؟ ألا تفهمون بعد حتّى الآن؟ ألا تذكرون الخبزات الخمس لخسمة آلاف؟" إن القرابة من حيث التركيب ملفتة للنظر. يسأل يسوع أولاً التلاميذ الذين كانوا مرتبكين: "لماذا هذه الأفكار؟"، ثم يقدّم لهم سببًا للثقة. هكذا يدعو يسوع أمَّه إلى أن تتبيّن وتكتشف أن الساعة قد أتت بالنسبة إليه لكي يتدخّل وفق تصميم الله.
ينبغي أن يُفهم الجزء الثاني من الآية 4، وكأنّه مرتبط ارتباطا وثيقًا بالجزء الأول.
ولكنّنا نواجه هنا معضلتين صغيرتين: هل كلمات يسوع هي نفي أو تأكيد؟ إلى ماذا يلمح يسوع عندما يتكلّم على ساعته؟
تميل الآراء أكثر فأكثر إلى اعتبار الجملة استفهامية: "أمنَ المحتمل ألاّ تكون ساعتي قد أتت؟" تساوي هذه الصيغة الاستفهامية، التي هي إلى حدٍّ ما بلاغية، صيغةَ التأكيد، وتبدو بالتالي وكأن يسوع يعني بكلامه أن ساعته، بمعنى ما، قد حانت.
1/1/ د- "ساعتي"
التعبير "ساعتي" (2: 4 ب) هو فريد في الانجيل الرابع. لا ينبغي أن تُدرَج بين المرّات التي يرد فيها ذكر الساعة الفصحية، إلاّ إذا كانت الجملة تعلن أن هذه الساعة لم تصل بعد؛ ولكن إذا كانت الجملة استفهامية، فإطار النص يدعو إلى فهمها على أنها ساعة اعتلان يسوع، بالمجد المتجلّي في الآيات التي تُجرَى على يده، وبالتالي ساعة إعلان ابن الله للملكوت. إنه الزمن المسيحي الذي يُشخصنُ هنا بضمير المتكلم "ي" (μοu): "ساعتي أنا".
تدلّ كلمة "ساعتي" على افتتاح التبشير، وعلى تجلّي مجد يسوع من خلال نموذج الآيات الأولى؛ يمكن أن ليذهب أيضًا إلى أبعد، حتى ساعة الصليب التي ستكون ساعة العودة إلى مجد الآب. ساعة يسوع هي ساعة تمجيده. بطاعته حتى الموت، سيكشف يسوع بالتمام وحدته مع الآب ومحبته للناس.
في التقليد البيبلي (دا 11: 40 و45)، الساعة هي ساعة التتميم النهائي. في الانجيل الرابع، هذرا الموضوع هو هامٌّ جدًا، لأنه من الممكن الاعتقاد أنّ يسوع قد يريد هنا، وبكل بساطة، أن يتكلّم عن البرهة التي هو على وشك أن يصنع فيها أولى آياته. هو يعلن للسامرية: "ولكن تأتي ساعة، وقد أتت الآن، وفيها يعبد العابدون الحقيقيون الآب بروح وحق" (4: 23).
خلال عيد المظال سيقول يسوع إن "ساعته لم تكن بعد قد أتت" (7: 30؛ 8: 20). وعند اقتراب الآلام، بالمقابل، سيقول: "أتت الساعة" (12: 23؛ 13: 1؛ 17: 1).
أينبغى القول بأن يسوع، في 4:2 ب، قد يريد أن يتكلّم على ساعة الصليب؟ يعتقد ذلك العديد من المفسّرين، ولكن هذا من غير المحتمل على الاطلاق، لا بل بالأحرى غير ممكن تقريبًا، إذا كان لأقوال يسوع قيمة تأكيدية. يبدو بالتالي أنه قد ينبغي القول بأنّ كلمة "ساعتي"، بالنسبة إلى يسوع، تدلّ بطريقة شمولية على كل حياته العلنية، التي تبلغ ذروتها على الصليب. بتعبير آخر، يجري الكلام على ساعة اعتلان يسوع المسيحاني، التي تبدأ في قانا وتنتهي صباح الفصح في أورشليم.
ماذا يمكن أن يعني يسوع بقوله: "أما حانت ساعتي"؟
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما تعنيه بالنسبة إلى يوحنا "ساعةُ يسوع"، وما هي القيمة الرمزية للخمرة في هذا الجزء، يصبح أكيدًا أن هذه "الساعة" هي ساعة آلامه وقيامته؛ الخمرة هي رمز كلمته التي تكشف، ورمز إنجيله الذي يتجلّى بالتمام عندما تأتي ساعة عبوره من هذا العالم إلى الآب (رج يو 13: 1)"
1/ 1/ ه- خمرة قانا، و"اليوم الثالث"، و"ساعة يسوع"
يضفي التعبيران "اليوم الثالث" (2: 1) و"ساعة يسوع" على آية قانا معنى اسكاتولوجيًا، إذ يوجّهان أحداثَ حياة المخلّص الأخيرة نحو الآلام والتمجيد. كلمتان في رواية قانا تستحقان التوقّف عندهما، نجدهما أيضًا في مشهد الجلجلة، وهما "امرأة"، وهي الكلمة التي يستعملها يسوع عند توجهه بالكلام إلى أمه و"الساعة" وهي الكلمة المثقلة بالمعنى المسيحاني. في قانا وعند الصليب، نجد كلمة "الساعة": "ألم تأت ساعتي بعد؟" (في قانا)، "ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته" (على الجلجلة).
المسألة التي تُطرح هنا هي إذا ما كانت الساعة التي يتكلّم عنها يسوع هي ساعة موته وتمجيده، أو ساعة اعتلان مجده من خلال بدء الآيات، وذلك منذ حياته الأرضية. في الحقيقة يبيّن تجلي يسوع، في الآيات التي يصنع، يسوعَ أنه هو المخلّص، ويوجّه ناظرينا نحو التمجيد النهائي على الصليب، الذي به سيصبح مخلّص العالم ويجتذب الجميع إليه. يمكن اعتبار الساعتين، ليس متتاليتين، بل متوافقتين.
- اليوم الثالث في قصة قانا هو مرتبط باليوم الثالث لقيامة يسوع. يربط يوحنا صراحة بين "اليوم الثالث"، وبين "موت يسوع وقيامته"، في 2: 19-22. بالتالي، بالنسبة إلى يوحنا، كما بالنسبة إلى الازائيين وإلى بولس، "اليوم الثالث"، هو يوم قيامة المسيح (رج 1 كو 3:15-4). في الانجيل بحسب يوحنا، "اليوم الثالث" هو أيضًا مرتبط بـ "ساعة يسوع". يظهر هذا الرباط في يو 2: 1-4. يريد الانجيلي أن يخبر عن "آية" المسيح الأولى، بارتباط وثيق مع "اليوم الثالث" (2: 1) ومع "ساعة يسوع" (2: 4). في هذه "الساعة"، يكشف الآبُ "مجد" ابنه، أي كامل حقيقة شخصه. يتضمّنُ اعتلانُ يسوعَ، عندما تحينُ الساعة، الوجهين التاليين:
أ- علاقة يسوع بأبيه: هو ابن الآب منذ الأزل، وقبل أن يكون العالم (يو 17: 5؛ رج 1: 1-3). يكشفه هوية ابنه، يُعرّف الآب في الوقت عينه بذاته (17: 1: "أيّها الآب، مجّد ابنك لكي يمجدّك ابنك). في الواقع، ليس الآب والابن سوى واحد (10: 30).
ب- علاقة يسوع بالناس. في هذه "الساعة"، يكشف الآب السلطان الذي أعطاه لابنه على كل الناس، كي يعطيهم الابنُ الحياةَ الأبدية (17: 2)، أي الاعترافَ بالآب أنه إله واحد حق، وبيسوع المسيح أنه مرسَله (17: 3).
هذه هي الرسالة التي أوكلها الآب إلى الابن على الأرض، والتي أنجزها الابن. هكذا، مجَّدَ الآب (17: 4)، أي أنه أرانا وجهه (14: 9).
يأخذ الآن مجملُ جواب يسوعَ لأمّه معناه الحقيقيّ: يجيب يسوعُ أمَّه المهتمّة بتفصيل مادي، وهو نفاد الخمرة في وليمة العرس، قائلاً لها بأنّ لديه همَّ مسألة مختلفة تمامًا، ألا وهو مجيء ساعة اعتلانه مسيحًا، والانطلاق في رسالته العلنية. يبدو هذا الجواب وكأنه يتضمّن رفضًا لتتميم ما أوحت به مريم. مع هذا، فإنّ يسوع يصنع الآية، ولكن الخمرة التي يعطيها هو ستكون "آية"، هي آية الخمرة المسيحانية التي هي رسالتُهُ. في عرس قانا يتمّ للمرة الأولى اعتلان يسوع مسيحًا، من خلال موضوع الزواج. عرس قانا هو رمز العرس المسيحاني بين الله وشعبه. والذي عروسه هو يسوع.
1/ 1/ و- العلاقة بين قانا (2: 1- 12) وبين الجلجلة (19: 25-27)
يتّفق المفسّرون على أن لوحة مريم في قانا، وتلك التي عند الصليب، هما، في حبكة الانجيل الرابع، مرتبطان إلى حدّ كبير.
أ) في الحالتين، العذراء حاضرة، ولا تُنادى بالاسم "مريم" بل باللقبين: "أمّ يسوع" (2: 1؛ 19: 25) و"امرأة" (2: 4؛ 19: 26).
ب) في قانا، لم تأت بعدُ "ساعةُ يسوع" (2: 4)، ولكنها، على الجلجلة، قد حانت، عندما عبر يسوع من هذا العالم إلى الآب (13: 1؛ رج 27:19 ب: "ومن تلك الساعة..."). بالنسبة إلى يوحنا، تمثّل ساعةُ يسوعّ مجمل الأحداث الثلاثة: الآلام، والموت، والقيامة.
ج) تتم وليمة قانا في "اليوم الثالث" (2: 1)، الموافق للسادس بدءًا من تبشير يسوع. أيضًا، يحصل مشهدُ مريم قرب الصليب في اليوم السادس من الأيام الثمانية الأخيرة ليسوع، التي خلالها يُدرج يوحنا ما تعنيه ساعةُ يسوع، أي الآلام، والموت، والقيامة (رج 12: 1؛ 18: 28؛ 19: 31؛ 20: 1- 19).
إذا كان لآية قانا قيمة مسيحانية، أي إذا كانت تتعلّق بعمل المسيح بحد ذاته، يمكن الافتراض أن لحضور مريم عند الصليب أهميةً مماثلة. في الواقع، لهذين المشهدين جاذبية متبادلة. الواحد يؤدي إلى الآخر، والاثنان يتعلقان بالخلاص الشامل الذي يتحقق عندما تحينُ الساعة.
هناك تقارب بين وقفة العذراء ويوحنّا عند الصليب، وبين معجزة قانا، استنادًا إلى الدور المهمّ الذي لعبته أمُّ يسوع، ولذكر الساعة في قانا. عند الصليب، "ومن تلك الساعة"، أخذها التلميذ إلى خاصته. فالساعة التي سبق وأعلن عنها قد أتت. ونحن نعلم أن "الساعة" تلك، هي عبور يسوع من هذا العالم إلى أبيه، بمجد الصليب.
1/ 2- ساعة حاضرة منذ البداية (12:3- 15)
نكتشف بأنّ رؤية الصليب حاضرة منذ بداية الانجيل. بالتالي، ستكون هناك إشارات مغروسة في مختلف مراحل الانجيل بحسب يوحنا، تبيّن الاقتراب المأساوي من هذه "الساعة". مع البشارة التقليدية، يوحنا مقتنع بأنّ سرّ الصليب هو بالتأكيد الحدث الحاسم للخلاص. وسيفسّره من خلال لاهوت فريد نراه يُبنى شيئًا فشيئًا.
1/ 3- الساعة في لوحة لقاء يسوع بالسامرية (23:4)
مع يسوع أتت ساعة علاقات جديدة مع الله، ساعة عبادة جديدة:
"آمني، يا امرأة، ها إنها تأتي ساعةٌ حيث لا على هذا الجبل ولا في أورشليم تعبدون الآب. أنتم تعبدون ما لا تعلمون، أما نحن ما نعرف، لأن الخلاص يأتي من اليهود. ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حيث العابدون الحقيقيون يعبدون الآب بروح وحقٍّ، فالآب أمثالهم يبتغي عابدين، روحُ الله، فعلى عابديه أن يعبدوه بروح وحقٍّ" (يو 4: 21-24).
أساس هذه العبادة الشمولية هو كون الابن، بتجسده، قد أعطى الناسَ إمكانية أن يشاطروه عبادته البنوية للآب.
في الآيتين 23 و24، يتوسّع يسوع في الكلام على ما سيكون بعد الآن عبادة الآب الحقة، وهي تسمية أساسية وردت في الآية 21. يبدو أنّ عبارة "تأتي ساعة" تدلّ على مستقبل قريب. فعلى فم يسوع التاريخي، تعني أنّ إمكانية هذه العبادة الجديدة مرتبطة بالساعة المبهمة لتتميم رسالته، الوارد ذكرها في 2: 4. بإضافة جملة "وهي الآن" (4: 23)، يريد يوحنا بدون شكّ أن يقول للقارئ أنّ هذا المستقبل قد أصبح حاضرَه.
يتم كشف يسوع في حركتين، اللتين تدل عليهما الصيغتان،، تأتي ساعة" (4: 21 و23). في الجزء الأول من جوابه، الذي ما زال سلبيًا (4: 21-22)، يرمي يسوع جانبًا الإمكانيتين اللتين تتحدّث عنهما المرأة: أينبغي أن نعبد على هذا الجبل أو في أورشليم؟ تتضمّن الحركة الثانية ردَّ يسوع الايجابي (4: 23- 24)؛ يرافق استعادة "الساعة تأتي" تأكيد: على أنها "قد أتت"؛ تبدأ عبادة الزمن الجديد مع المسيح. هنا تأتي الآيتان حول عبادة الأزمنة المسيحانية.
يجيب يسوعُ بسلطان السامريّة التي اعترفت به نبيًا، بعبارة "آمني" التي تعادل وبدون شك كلمة "حقًا" المكررة التي تسبق- في 5: 25- إعلانًا آخر حول "الساعة التي تأتي". يتعلق الكشفُ هنا بعبادة الآب بروح وحق. تتضمّن الآيات 21-24 أربع جمل، اثنتان تبدأان بطريقة موازية: "تأتي ساعةُ" (4: 21 ب)، و"نعم، تأتي ساعة وهي حاضرة" (23:4 أ): يُعبّر عن مضمون هذا الاعلان بصيغة المستقبل: "تعبدون" و"يعبدون". الأولى تلغي كل شرط يتعلق بالمكان ("لا... ولا..." 21ج)، والثانية تقول عن الطريقة الجديدة للعبادة (23:4 ب). يلي كلاً من هاتين الجملتين تأكيد بصيغة الحاضر (4: 22ج و24). لنحاول أن نعيد رسم تقدم الفكرة.
مقابل البدلية التي تطلقها المرأةُ حول مسألة حاسمة، مبدئيًا، للخلاص، يرفض يسوع أن ينغلق بين هذين الخيارين الذين يفجره حاضره. معه تأتي الساعة حيث العبادة لم تعد تتعلّق بمكان محدد، حتى ولو كان مكانًا مقدّسًا.
لا تُفهم عبارة "تأتي ساعة" (4: 21) بمعنى الآلام (4:3)، بل بمعنى اسكاتولوجي وكرستولوجيّ. مع يسوع وبه أصبحت إمكانيةُ العبادة الحق حاضرةً، وشاملة (23:4)، حتى ولو كان تتميمها يتحقّق مع القيامة (2: 19- 22).
من كلام يسوع إلى السامرية، "ولكن تأتي ساعة، وهي الآن حاضرة" (23:4)، نتبيّن أن الساعة الاسكاتولوجيّة للعبادة الحقة للآب هي واحد مع حضور يسوع الحالي (2: 19-22). يسوع هو الآن مكان العبادة الاسكاتولوجيّة للآب.
1/ 4- ساعة سماع الموتى الصوت المحي (5: 25-26)
"الحقُّ، والحقّ أقول، أنَّ ساعة تأتي، وقد أتت الآن، وسمع فيها الموتى صوتَ ابن الله، والسامعون يحيَون. كما أن الآب له الحياة في ذاته، هكذا أعطى الابنَ أن تكون له الحياة في ذاته" (يو 5: 25-26).
"الساعة" هنا هي تلك التي فيها يعتلن عملُ الابن:
"سمع الموتى صوت ابن الله، والسامعون يحيون".
الساعة العظمى في تاريخ العالم هي التي فيها يُعطي الابنُ الحياةَ، مسمعًا صوته الخلاصي للناس الذين هم تحت سلطان الخطيئة. إنها إذًا ساعة الخلاص.
إن ذكر الساعة التي تأتي والتي هي حاضرة، هو استعادة حرفية لما ورد في 23:4، وينبغي بالتالي فهمه بذات الطريقة. هنا كما هناك، يرى يسوع مسبقًا النموَّ التاريخي لعمل إعطاء الحياة هذا، المرتبط بنشر كلمة المسيح الحي.
"ولا تعجبوا، فإنّ ساعة تأتي، وفيها يسمع صوته كلُّ من في القبور، فيخرجون: يخرج فاعل الصالحات إلى قيامة الحياة، وعامل السيئات إلى قيامة الدين" (5: 28-29).
إنّ التأكيد المزدوج على حياة أبدية هي حاضرة (5: 24 ب)، وعلى القيامة العتيدة المعلَن عنها هنا، ستوجد بطريقة ملتمّة جدًا في 6: 40 و45. يوحي محرّر 5: 28 ذاتُه بالتمييز بالأمر المزدوج التالي: لا يقول عن هذه "الساعة" الجديدة أنها "الآن" (يبقى هذا إذًا منظارًا ما زال مستقبليًا بالنسبة إلى القارئ)، ولا يستعيد كلمة "أموات" التي في الآية 25، ولكنه يتكلم بطريقة حسية على "الذين في القبور" (آ 28).
1/ 5- وقت يسوع يحدده الآب (2:7-6)
"وقرب عيد المظال عند اليهود، فقال له إخوته: "إذهب من هنا، وسر إلى اليهودية، فيرى تلاميذك أيضًا ما تأتيه من أعمال؛ لا يعمل في الخفاء من يبتغي الظهور، فاظهرنَّ للعالم، ما دمتَ تأتي هذه الأعمال. وما كان إخوته أنفسُهم يؤمنون به. قال لهم يسوع: "ما حان وقتي، ووقتُكم في كلّ حين...".
الجواب الذي يجلبه الإخوة على ذاتهم هو في البداية شبيه بالردّ الذي وجّهه يسوع إلى أمّه (رج 2: 4)، ولكنه مرفقٌ بتعليق صريح من قبل يسوع بالذات:
"ما حان وقتي، ووقتُكم في كلّ حين" (6:7).
يستعمل يوحنا هنا كلمة "وقت" (καιρος- أو "زمن")، بدلاً من كلمة الساعة، ولكن لها ذات المعنى اللاهوتي. المقصود هو الوقت الذي يحدده الله لتتميم تدبيره الخلاصي (بذات المعنى، رج متّى 18:26؛ روم 5: 6؛ أف 1: 10؛ أبط 1: 11). يُفسَّر هذا الاستبدال الاستثنائيّ بالتعارض بين "وقتي" و"وقتكم": ينبغي أن يتمسّك يوحنا بحفظ كلمة "ساعة" لعمل الابن. أما إخوته فليس لهم أية فكرة عن هذه الطاعة للتصميم الخلاصي، والوقت المناسب للعمل لا يبدو لهم خاضعًا سوى للإرادة البشرية. "قرّر أن تنطلق في احتلال العالم، فهو لا يرغب إلاّك!"، هذا هو بالايجاز التحدي الذي يوجهونه إلى المعلّم، الذي، في نظرهم، ينقصه الطموح.
"وكانوا يبغون اعتقاله، ولكنّ أحدًا لم يقبض عليه، لأنّ ساعته لمَا تحن" (7: 30).
يستعيد يوحنا هنا لصالحه تعبيرَ يسوع الوارد في 4:2، معطيًا له معناه الدقيق: الوقت الذي حدده الله لسرّ الآلام.
1/ 6- ساعةٌ شاءها الآب لا الأعداء (7: 20)
هذه الساعة المأساوية هو الآب مَن شاءها وحدّدها. ولكن، قبل مجيء "الساعة" التي اختارها التصميم الالهي، لا يستطيع الأعداء أن يمسكوا بيسوع. مرات عدة، بالفعل، جرت محاولات لتوقيف يسوع والقضاء عليه. عندما نقل يوحنا خبر إحدى هذه المحاولات، كان يرمي إلى أن يسلط الضوء على عدم قدرة الأعداء على تحقيق هدفهم، فيقول:
"كانوا يبغون اعتقاله، ولكنَّ أحدًا لم يقبضْ عليه، لأن ساعته لمَّا تحنْ" (يو 7: 30).
وعندما تأتي هذه "الساعة"، فإنها تبدو وكأنها أيضًا وفي الوقت عينه ساعةُ الأعداء. "إنها ساعتكم، إنه سلطان الظلمة"، يقول يسوع "لأولئك الآتين إليه من الأحبار، وقادة حرّاس الهيكل، والشيوخ" (لو 22: 52-53). في هذه الساعة المظلمة يبدو أنّ لا أحد بمقدوره أن يوقف سلطان الشرّ.
بالرغم من هذا أيضًا، فإنّ هذه الساعة تبقى تحت سلطة الآب. هو مَن سيسمح لأعداء يسوع أن يمسكوه، لأن ما هم فاعلوه يندرج سريًا في المخطط الذي شاءه الله من أجل خلاص الجميع.
1/ 7- ساعة الامساك بيسوع لم تأت بعد (يو 7:30 و8: 30)
طالما أن ساعة يسوع لم تأت، فلا يمكن لأحد أن يقبض على يسوع (7: 30؛ 8: 20). هذه الساعة هي مرتبطة بمشيئة الآب.
-7: 30: "سعوا عندها ليمسكوه، ولكن لم يُلق عليه أحد الأيدي، لأن ساعته لم تكن بعد قد أتت".
- 8: 20: "قال يسوع هذا الكلام، وهو يعلّم في الهيكل عند الخزانة، ولم يعتقله أحد، لأنّ ساعته لمَّا تحنْ" (8: 20)
يستعيد يوحنا بذات التعابير الملاحظة الواردة في 7: 30، والمقصود في الآيتين هو ساعة موته على الصليب.
1/ 8- ساعة يسوع عطاء حر (10: 17-18)
"يحبّني الآب لأني أجود بالنفس لكي أعود فأسترجعها. لا ينتزعها منّي أحد، بل من تلقائي أجود بها. لي سلطان أن أجود، ولس سلطان أن أعود فأسترجع، وهذه وصية قبلتها من أبي" (17:10-18).
لدى قراءة هذه الكلمات، يتأكّد لنا أن موت يسوع هو عنصر أساسي في نظرة يوحنا إلى يسوع، أنه "هو مَن يكشف الآب". إنّ تقدمة ذاته هي موضوع تعظيم هنا، بكونه موضوعًا أخيرًا من محبة الآب للابن، كما في 12: 1، وسيُعلَن عنها كونها البرهان الأخير على محبة يسوع لخاصته.
إنّ هذا الاعلان، الذي يلي تلميحات الفصلين 7 و8 إلى نيّة اليهود الاجرامية، ولكن العاجزة طالما أن "الساعة" لم تأت بعد، يؤكد وبكل وضوح أنّ يسوع لن يكون ضحيّة قدرية تاريخيّة أو ضحية إرادة الناس السيئة، التي من المحتمل ألاّ ينجو منها، بل سيكون لموته طابع عطاء ذاته الحر.
1/ 9- ساعة يسوع بيد الآب (29:10)
"وعادوا يبغون اعتقاله، فأفلت من يدهم" (10: 39).
يمكن أن نتصوّر، كما في 59:8، أن يسوع قد "أفلت من يدهم"، لأنّ ساعته لم تكن قد أتت بعد" (رج 7: 30؛ 8: 20)، "لأنّ لا أحد يمكنه أن يقتلع من يد الآب".
1/ 10- أتت ساعة تمجيد ابن الانسان (23:12)
سمعنا حتى الآن تكرارًا أن الساعة، التي حددها الآب، لم تكن بعد قد أتت (2: 4؛ 7: 30؛ 28:8). أما الآن، فقد أتت، وهي ساعة تمجيد ابن الانسان. موضوعُ المجد والرفع مرتبطان بلقب "ابن الانسان" الذي من المحتمل أن يكون فيه صدى لرفع "عبد يهوه" وتمجيده (أش 52: 13-53: 12).
ليلة الآلام، طلب "يونانيون"، صعدوا إلى أورشليم للفصح، أن "يروا" يسوع، فأجابهم قائلاً:
"أتت الساعة لكي يُمجّد ابن الانسان" (23:12).
يذكّر يوحنا، عندما يحدد أنّ هذه "الساعة" هي مرتبطة بطريقة خاصة بعيد الفصح، وفي هذا إشارة، ليس فقط إلى المعنى الزمني، بل أيضًا إلى موت يسوع وتمجيده، من خلال صورة "العبور" من هذا العالم إلى الآب. تذكّر كلمة "فصح" (فصح) بـ "عبور" الله ليخلّص شعبه، و"عبور" هذا الأخير من العبودية إلى الحرية.
1/ 11- قلق يسوع أمام ساعة الآلام التي أتت واستغاثته بالآب (27:12)
"الآن نفسي قلقة، فماذا أقول؟ يا أبت، نجني من هذه الساعة؟ ولكن من أجل هذا قد أتيت إلى هذه الساعة" (12: 27).
يعادل كلام يسوع هنا، أي "يا أبت، نجني من هذه الساعة"، كلامه المماثل: "يا أبتاه، فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39؛ مر 14: 36؛ لو 22: 32).
"الساعة" التي صلى يسوع أن تعبر عنه، في مر 14: 35، تضيئها في يوحنا "ساعة التمجيد" في 12: 23.
الجملتان، "لكن من أجل هذا قد أتيت إلى هذه الساعة" و"يا أبتاه، مجد اسمك"، هما صياغة يوحنوية للتعبير عن التسليم لإرادة الآب (مت 26: 39).
كل حياة يسوع الأرضية هي موجهة نحو هذه "الساعة". في لحظة غمِّ، وقبيل آلامه الخلاصية والمحيية، قالت يسوع:
"الآن نفسي مضطربة، فماذا أقول؟ أبتاه، نجّني من تلك الساعة؟ ولكن لأجل هذا بلغت إلى هذه الساعة" (يو 12: 27).
بهذه الكلمات كشف يسوع المأساة العميقة الضاغطة، أمام بروز مشهد الذبيحة التي كانت ساعتها تقترب. يمكنه أن يسأل الآب كي يُبعد عنه هذه المحنة الرهيبة، ولكنه يريد أن يواجه الحدث الآتي الأليم، مؤكدًا وقائلاً: "لهذا أتيت". نعم، لقد أتى ليكون الذبيحة الفريدة التي بها يهب الخلاص للبشرية.
لكلمات يسوع في 27:12 مواز في التقليد الازائي (مت 38:26؛ مر 14: 34؛ لو 22: 41). تتألف الآيةُ 27 من أربعة عناصر موزّعة على الشكل التالي:
- آ 27 أ تذكُرُ اضطراب يسوع وغمّه أمام الموت: "الآن، نفسي قلقة".
- آ 27 ج تطرح معضلة ما ينبغي أن يُنسَبَ إلى "الآب". أيَرفَع يسوعُ صلاةً إلى الآب، كي يُبعد الساعة؟ قد تصبح هذه الصلاة عندها شبيهة بصلاة الأناجيل الازائية حيث يتوجّه يسوع إلى الآب الذي عنده كل شيء ممكن، ليطلب أن تُبعد عنه الكأس. بتعبير آخر، في نص يوحنا، قد يطلب يسوع من أبيه أن يُبعد الساعة، وأن ينجّيه منها.
- آ 27 د، كما في الأناجيل الازائيّة، تتضمّن استعادة كلام على لسان يسوع: "ولكن لأجل هذا بلغت إلى هذه الساعة".
- ليس لهذا العنصر، في آ 27 ب، مواز حقيق إزائي. يتضمّن السؤال البلاغي: "فماذا أقول؟" الذي يُدخل هذا السؤال، المعتَبَر من جهة قيمته التقويمية، خيارًا بدليًا: إما الطلب أن يُنجّى من هذه الساعة، أو أن يتخذ قرارًا باتجاه هذه الساعة؛ يلعب البديل بين الصلاة "أيها الآب نجّني من هذه الساعة"، وبين القرار الذي يؤدي إلى الموقف بالذهاب إلى حيث يشاء الآب. يبرز يوحنا قرار يسوع: "لهذا، أتيت إلى هذه الساعة".
الساعة التي يجري الحديث عنها في مرقس هي ساعة كشف الله، وهو وقتٌ تبَانُ فيه الدينونة والخلاص، في التقاليد الأبوكاليبتية: يُفهم مرقس قارئه أن الوقت الذي فيه يُسلم يسوع هو "ساعة الله الاسكاتولوجيّة". يستعمل يوحنا ذات المعطيات ويربط مجيء الساعة بمجيء ابن الانسان.
1/ 12- اليونانيون وساعة يسوع: المجد والصليب (12: 20- 36)
"وكان يونانيون في الصاعدين ليقوموا بالعبادة في العيد" (12: 20). فدنوا من فيليبس - الذي كان من بيت صيدا الجليل- وسألوه قالوا: "نريد، يا سيد، أن نرى يسوع". فذهب فيليبس وقال لأندراوس، وذهب أندراوس وفيليبس، وقالا ليسوع" (12: 20- 22).
نجد هنا بعضًا من حركة التلاميذ الأوائل، المُستَعلمين عن اكتشافهم المسيح. كان أندراوس، الذي من بيت صيدا، مثل فيلبس، الرابط الأول في هذا النقل (رج 1: 40-44).
فقال لهما يسوع: "حانت الساعة لكي يُمجّد ابن الانسان. الحقُّ والحقَّ أقول، أنّ حبة الحنطة، إن لم تقع في الأرض، وتمُت، تبقى واحدة، وإن هي ماتت صارت حبّات" (23:12-24).
سيكون مجد يسوع بارتداد الأمم، كما يمثّله لنا هؤلاء اليونان: "وأنا إذا ارتفعت عن الأرض، جذبت إليّ الجميع" (يو 12: 22).
سيكون مجد يسوع بارتداد الأم، كما يمثّله لنا هؤلاء اليونان:
"وأنا إذا ارتفعت عن الأرض، جذبت إليّ الجميع" (يو 12: 22).
هكذا بالنسبة إلى يسوع، مداخلة اليونانيين هي بمثابة علامة يثبت له أن "ساعته" قد أتت الآن. حتى الآن، استطاع القارئ أن يفهم أن ساعة يسوع كانت تشير إلى الوقت المحدّد لتتميم رسالته (رج 2: 4)، وأنها كانت على علاقة بتوقيفه (رج 7: 30؛ 8: 20). يعلن يسوع الآن أنها ستكون ساعة "تمجيده".
"الآن نفسي قلقة، فماذا أقول: أنجني من هذه الساعة، أيها الآب؟ ولكن لهذا بلغت هذه الساعة" (12: 20)
"أيها الآب، مجّد اسمك"! (12: 28 أ)
فساعة يسوع أتت، في الوقت الذي انتقل من هذا العالم إلى الآب" (يو 13: 1)، في الوقت الذي دخل في الآلام: "يا أبت قد أتت الساعة، مجّد ابنك، ليمجّدك ابنك" (17: 1).
ما يميز يوحنا هو صياغة الصلاة الوجيزة التي تختم النقاش: "أيها الآب، مجِّد اسمك!" نحن نعلم أن يسوع لا يفتش على مجده هو الخاص الأرضي، لكن مجد الآب فقط. إذا كان مجد الله الحقيقي هو إرادته أن يخلّص العالم، فإنه يمرّ بالضرورة بهذه "الساعة" حيث يقبل ابنه حبة الحنطة هذه التي ينبغي أن تموت لتحيا. بصلاته هذه، يبيّن يسوع الطاعة الحرة التي أعلن عنها في 17:10 ت.
1/ 13- ساعة الارتفاع على الصليب (يو 12: 32)
هذه الساعة المصيرية هي في آن معًا ساعة الآلام وساعة التمجيد. فهي الساعة التي فيها "يُرفَع ابن الانسان عن الأرض" (12: 32). إنَّ ارتفاع يسوع على الصليب هو علامة الرَّفع إلى المجد السماوي. عندها ستبدأ مرحلة علاقة جديدة بينه وبين الانسانية، وخاصة بينه وبين التلاميذ، كما يعلن يسوع ذاته عندما يقول:
"قلت لكم هذه الأمور بلغة المجاز، وتأتي ساعةٌ لا أحدّثكم فيها بلغة المجاز، بل أخبركم عن الآب بجلاء" (يو 16: 25).

2- أتت ساعة الآلام والتمجيد
كتاب الساعة (13- 20)
تفتتح مرحلةٌ مطبوعةٌ بالجسامة الكتابَ الثاني، معطيةً إياه طابعه المميز (13: 1-2): إنه كتاب الساعة التي فيها، وبفعل حب سام، يعبُرُ يسوعُ من هذا العالم إلى الآب.
2/ 1- ساعة العودة إلى الآب (يو 13: 1)
الساعة الأسمى، في نهاية الأمر، هي تلك التي فيها يعود الابن إلى الآب. فيها يتوضح معنى ذبيحته، وتوضَع موضع التأكيد القيمةُ التي لذبيحة كهذه للبشرية المخلَّصة والمدعوّة إلى أن تتحد بالابن في عودته إلى الآب.
تشكّل الفصول 13: 1-26:17 مجموعةً يمكن تسميتها "وصية يسوع"، وهي تنتمي إلى النوع الأدبي الذي يدعى خطبة الوداع. تشكّل الآيات الثلاث الأولى من الفصل 13، بعد ختام "كتاب الآيات" (2-12)، مدخلاً، ليس فقط إلى وصية يسوع، بل إلى مجموعة الجزءين الأخيرين من الإنجيل، اللتين يقترح البعض عنونتهما "كتاب الساعة".
"قبل عيد الفصح، إذ كان يسوع يعلم أن ساعته كانت قد أتت لأن ينتقل من هذا العالم إلى الآب" (13: 1).
هي المرة الثانية التي يجري فيها الكلام على مجيء الساعة (في 23:12 هي ساعة التمجيد). توصف بأنها ساعة العبور من هذا العالم إلى الآب، وهي طريقة يوحناويّة للدلالة على موت يسوع، الموت الذي سيُقال عنه عادة أنه "عودة" إلى الآب، بعدما "أحب تلاميذه إلى الغاية" (εις τελος). لكلمة "غاية" أو "نهاية" (τελος) غالبًا معنى الانجاز، بمعنى التتميم. يرمي يوحنا بالتأكيد إلى اعلان أن يسوع قد أحبّ خاصته إلى الحدّ الأقصى. سيُستعاد موضوع المحبة ويُنمّى في كل مظاهره في باقي خطبة الوداع، حتى آخر جملة من الصلاة الكهنوتية في 26:17. في آخر قصة الصلب، في 28:19 و30، يظهر من جديد موضوع الانجاز الذي يُعبّر عنه بفعل "تمّم" (τελεω وτελειοω، ذات الأصل الذي لكلمة τελος)، الأمر الذي يشكّل تضمينًا واسعًا مقصودًا. هكذا يعطي يوحنا مسبقًا التفسير اللاهوتي الأعمق لهذا التتميم لعمل الابن. إذا كانت ساعة موته هي ساعة مجده الأعظم، فذلك لأنها التجلّي الأخير للحب الأعظم (15: 13).
2/ 2- ساعة يسوع هي ساعة الحبِّ لا الأعداء (يو 13: 1)
أكثر من كونها ساعة الأعداء، إنها ساعة الآلام، أي ساعة المسيح، ساعة تتميم رسالته. يجعلنا الانجيل الرابع نتبيّن أوضاع يسوع الداخليّة في بداية العشاء الأخير، فيقول:
"إذ كان يسوع يعلم أن ساعته قد أتت لأن يعبّر من هذا العالم إلى الآب، وهو قد أحبَّ خاصته الذين كانوا في العالم، أحبهم إلى الغاية" (يو 13: 1).
إنها إذًا ساعة الحب، لأنَّ يسوع يريد أن يذهب "حتّى النهاية"، أي حتى العطاء الأسمى عبر بذل ذاته. في ذبيحته، يكشفُ لنا يسوعُ الحبَّ الكاملَ: قد لا يكون استطاع أن يحبّنا بطريقة أكثر عمقًا!
2/ 3- ساعة التمجيد المتبادل بين الآب والابن (يو 13: 31)
قال يسوعُ، بعد أن خرجَ يهوذا: "الآن مُجِّدَ ابنُ الانسان، ومُجِّدَ الله فيه" (13: 31).
كان ينبغي أن يذهب يهوذا، لكي يتمكّن يسوع من أن يحادث خاصته بحرية. بالنسبة إلى يسوع، يدقُّ ذهابُ الخائن السريعُ حقيقةَ "ساعةَ" آلامه، لهذا تلتقي أفكاره الأولى الفكرة المعبَّر عنها في 23:12 ("حانت الساعة لكي يُمجَّد ابنُ الانسان")، والتي يؤكدها الآب في 28:12 ("أيها الآب، مجِّد اسمك! فهتف من السماء هاتفٌ : قد مجّدتُ، وسأمجّد"). لأنّ المسار الذي سيقود يسوعَ إلى الصليب قد فُعِّل بطريقة لا رجوعَ عنها، فبإمكان يسوع أن يسبّق ويقول: "الآن مُجِّدَ ابنُ الانسان".
يُستعمل فعل δοξασθηναι ليسوع، ويعني فعل التمجيد، ويرتبط دائمًا إمّا بلقب "ابن الانسان"، وإمّا في غالب الأحيان باللقب البسيط "ابن الله".
الاستعمال الأول، الذي يتكلّم على تمجيد ابن الانسان، يربط هذا التمجيد بالساعة؛ يجري الكلام عن هذا الأمر في نصّين:
- 12: 23: "حانت الساعة لكي يُمجَّد ابن الانسان"؛
- 13: 31: "الآن مُجِّدَ ابن الانسان، ومُجِّد الله فيه" (رج آ 32).
لذكر الساعة، كما للقب "ابن الانسان"، أهميتهما هنا. يعبّر هذا اللقب في الانجيل الرابع عن حدث التجسّد بالذات (رج 13:3؛ 6: 62)، وعن مجمل الرسالة، وعمل يسوع، منذ وجوده الأزلي، حتى تمجيده النهائي. يرتبط لقب "ابن الانسان" بالدينونة التي يمارسها يسوع (27:5)، وبعطاء خبز الحياة (27:6؛ رج 6: 53)، ولكن بنوع أخص بأحداث الساعة الكبرى؛ صعود المسيح (مقابل نزوله: 3: 13؛ 6: 62؛ رج 1: 51)، رفعُه (3: 14؛ 8: 28؛ 12: 34)، وتمجيدُه (12: 23؛ 13: 31).
2/ 4- ساعة اضطهاد التلاميذ (يو 2:16)
"قلتُ لكم هذا لئلا تزلّوا. من المجامع سوف تُطرَدون، بل تأتي ساعةٌ يَحسبُ فيها كلُّ من يقتلونكم أنهم إلى الله عبادة يؤدّون. سيفعلون ما يفعلون، لأنهم ما عرفوا الآبَ، ولا عرفوني" (16: 1-3).
من الواضح أنّه ينبغي ربط بداية الفصل 16 بما سبق، كخاتمة للخطبة على بغض العالم. تصلح الملاحظة ذاتها أيضًا للآية التي تلي.
من المؤكد، عند قراءة الآية 2، أن بغض "العالم"، هو أولاً بغض "اليهود"؛ فبعد أن أزالوا يسوعَ جسديًا، سيطردون المسيحيين من مجامعهم (رج 9: 22 و12: 42). أكثر جسامة أيضًا هو أنهم سيذهبون إلى حدّ قتل معترفينَ بيسوع بكل راحة ضمير (رج متّى 10: 21). سيصبح التلامذةُ الشهودُ عندها "شهداء" (من فعل μαρτuρεω)، أولئك الذين يشهدون لإيمانهم حتى بذل الذات.
"لقد قلتُ لكم هذا لكي تذكروا قولي، إذا ما حانت الساعة. ولم أقلْه لكم منذ البدء، لأنّي معكم كنت" (16: 4).
إذ تختصر الآية ما ورد في 15: 21-24، يعطي يسوعُ ملاحظةً أخيرةً حول معنى الخطبة التي يلقيها على التلاميذ. ولكونه قد نبّههم مسبقًا، ينبغي أن يتمكّنوا من أن ينتصروا على المحنة، ولا "يزلّهم" الاضطهاد (رج آ 1)، أي عدم العثار بهذا العائق، إذا ما تذكروا كلماته النبوية. باستعمال يوحنا عبارة "إذا ما حانت الساعة"، فإنه يدعّم فكرة جماعة المصير الواحد بين المعلم والتلاميذ (رج 15: 20). في الواقع، أفاد موضوع "الساعة" حتى الآن في ذكر وقت موت يسوع بالذات وتمجيده. سنجده في استعمال مجاور في 16: 21.
2/ 5- ساعة وضع المرأة الحامل (يو 16: 20- 21)
"فالحقُّ والحقَّ أقول، أنكم ستبكون وتنوحون، والعالم يفرح. ستحزنون، ولكنّ حزنكم يؤول إلى فرح. تحزن الحاملةُ، إذا ما حانت ساعةُ وضعها، ثم تلد الطفل، فتنسى ضيقتها، تفرح لإنسان وُلد في العالم. وأنتم الآن حزانى. إنما سأعود فأراكم، وتفرح قلوبكم، ولا يسلبكم فرحكم هذا أحد" (16: 20-22).
صورة المرأة التي حانت ساعة وضعها هي صورة قوية التعبير، وقد استُعملت للكلام على صهيون، وهي تلد شعبًا جديدًا لله، وهذا موضوع فرح للذين كانوا في الحداد لأجلها، حسب ما جاء في أش 66: 5-14. يشكّل موضوع "الساعة" هنا رابطًا مع الإعلانات عن الآلام، في مستهل خطبة الوداع (1:13).
2/ 6- ساعة الكلام بجلاء (يو 16: 25)
"قلت لكم هذه الأمور بلغة المجاز، وتأتي ساعةُ لا أحدّثكم فيها بلغة المجاز، بل أخبركم عن الآب بجلاء" (يو 16: 25).
أكان يسوع يسعى، من خلال الكلام غير الجليّ، إلى خلق روح التفتيش والتعمّق لدى تلاميذه؟ أم أنه "كان يعلم" أن هؤلاء لم يكونوا بعد قادرين على فهم عمل يسوع الخلاصي على حقيقته؟ لقد "غذاهم الرب أولاً باللبن"، بانتظار أن ينموا بالمعرفة والحكمة ويصبحوا أهلاَ لإدراك كنه رسالته، من جهة، وأن تأتي ساعته، من جهة ثانية.
2/ 7- ساعة تبدد التلاميذ وتخليهم عن يسوع (يو 29:16)
"ها هي الساعة تأتي، بل قد أتت، وتتبددون كلُّ في سبيله، وتتركوني وحدي، ولست وحدي، فالآب معي" (16: 29).
يعلم يسوع بصفاء أنّ إيمان تلاميذه ما زال سريع العطب، وأنه ينبغي عليه أن يواجه الموت وحيدًا. يفكّر بهذه الساعة القريبة جدًا بتعابير قد تكون مستوحاة من نبوءة زكريا: "إضرب الراعي، فتتبدد الخراف" (زك 13: 7).
"قلت لكم هذا ليكون لكم فيَّ سلام. ستُعانون ضيقًا في العالم، ولكن ثقوا، فأنا غلبتُ العالم" (16: 33).
تلتقي هذه الكلمات الأخيرة للتلاميذ، قبل ساعة التبدد، مع خاتمة الحديث الأول (14: 27 و29+).
2/ 8- قد أتت ساعة التمجيد (يو 17: 1-2)
مرات عدة سمعنا كلامًا عن هذه الساعة التي أتت (23:12؛ 13: 1 و31-32). هي تضمّ كل وقت الآلام وحتى الموت والتمجيد. في الواقع، هي توصَف بأنها ساعة تمجيد الابن (12: 23).
"قال يسوع هذا، ثم رفع عينيه إلى السماء وقال: "حانت الساعة، أيها الآب! مجد ابنك ليمجدك الابن، ويهبَ حياة أبدية لكل من وهبتهم له، يهبها بالسلطان الذي أوليته إيّاه على كل جسد" (17: 1-2)
مع مواضيع "الساعة التي أتت"، و"العمل الذي أنجز"، و"العطية التامة التي وهبها الآب له"، يستعيد يسوع ما قاله عند افتتاح "وصية الوداع" في 13: 1-3. خمس مرات في 17: 1-5 يظهر الفعل "أعطى"، وهو واحد من المواضيع الرئيسيّة في هذه الصلاة (17 مرة). الموضوع الرئيسي الثاني في هذه المقدمة، الذي يحيط بها (آ 1 وآ 4- 5)، هو التمجيد المتبادل بين الآب والابن، مما يربط بالتالي مع افتتاحية خطبة الوداع في 13: 31+ (رج 8: 54؛ 12: 23 و27-28). هنا أيضًا يجري التوسع بالموضوع في خط زمني مميز: إنها ساعة الآلام والقيامة، المسبقة كما أيضًا الحاضرة، التي ستكشف بالتمام، في زمن الناس، المجد الذي كان للابن منذ الأزل- "قبل أن يكون العالم"- والذي بان جزئيًا في عمل الابن- "قد مجدتك على الأرض"، من خلال الآيات التي عمل خلال بشارته (رج 2: 11؛ 11: 4 و40).
2/ 9- ساعة توصية يسوع بأمّه (يو 27:19)
ثم قال للتلميذ: "ها هي أمّك". ومن تلك الساعة قبلَها التلميذ في خاصته" (19: 27).
هناك ترجمتان ممكنتان: ومنذ هذا "الوقت"، أو من تلك "الساعة"، أي ساعة يسوع، التي لها أهمية خاصة في لاهوت يوحنا. الترجمة الأفضل هي: "ومن تلك "الساعة"، "ساعة يسوع"، أي ساعة الآلام المجيدة، التي خلالها تتمّ الأحداث المصيرية لعمله الخلاصي.

خاتمة: ساعة يسوع هي ساعة تجلي محبته
إنها ساعة يسوع. في قانا لم تكن ساعة آلام يسوع وتمجيده قد أتت، بل ساعة اعتلانه؛ في الآلام، بالمقابل، أتت الساعة. إنها ساعة فريدة، كما هي فريدة بالنسبة إلى المرأة ساعة أوجاعها، إذ "تحزن إذا ما حانت ساعة وضعها، ثم تلدُ الطفل، فتنسى ضيقها، تفرح بإنسان وُلد بالعالم" (16: 21). بالنسبة إلى يسوع، إنها ساعة حياته، في ذروتها.
هذه الساعة هي قبل كل شيء ساعة الانسان يسوع، أول طريق صليبه الأرضية. "يُسلم" يسوع إلى الشر، ويصارع في الظلمات الأكثر عنفًا.
ولكن في حركة باتجاه النقطة المركزية، تتوسع هذه الساعة على مدى أبعاد الكون. إنها الساعة المركزية لتاريخ الكون. إنها ساعة الصفر، نقطة الفصل بين النهار والليل، وتتالي المراحل الوسيطة بين قطبيهما. إنها ساعة المواجهة بين النور والظلمات، والصدام العنيف والحاسم بين الكذب والحقيقة. من خلال الفاعلين المباشَرين في المأساة، أي "اليهود" (44 مرة) أو "العالم" (23)؛ إنها كل قوى الشر وكل قوى المحبة التي تتواجه.
النهار هو حضور "الكلمة"، منذ "البدء" وحتى النهاية، فإذا غاب هذا النهار أو اضمحلّ كان ليلٌ. النهار هو حياة يسوع العلنية، المرحلة التي خلالها هو نور العالم، حيث ينجز عمله: "ما دام النهار، علينا أن نعمل" (9: 4؛ رج 11: 9).
الساعة إذًا هي نهاية النهار، كما أنها تلتقي مع الليل حيث الشيطان، رئيس هذا العالم، "يدخل في يهوذا" (13: 27)، فيوافق عندها على تآمر قوّاد الشعب على قتل يسوع. إنها الساعة التي فيها يبلغ الصراع مع "العالم" ذروته، والتي فيها يُبيدُ التصلّبُ في السرّ ابنَ الله الذي يتوجه إلى الآب قائلاً:
"الآن نفسي قلقة، فماذا أقول: أنجِّني من هذه الساعة، أيها الآب؛ ولكن لهذا بلغت هذه الساعة" (27:12). عند ذلك يحل الظلام (13: 20) وتفاجئ الظلمةُ اليهودَ (12: 35). إنّ عماهم مطلق لأنهم خسروا آخر فرصة لهم "بأن يفتحوا عيونهم".
مقابل ظلام يهوذا، يلمع وجهُ جديد، ألا وهو وجه "التلميذ الذي كان يسوع يحبُّه" (23:13)، الذي هو في "حضن" يسوع، كما هو بالذات "في حضن الآب" (18:1). سيكون أول من يكتشف في القبر الفارغ أن موت يسوع ما هو سوى عبور: "رأى وآمن" (20: 8). الفعل "رأى" هنا هو في معناه الأقوى. على مثاله، يرى المؤمنون في "الساعة" زمنَ الفصح، أي عبور يسوع إلى أبيه (13: 1)، عبور يؤسس لانقلاب الموت حياةً. في ساعة يوم الجمعة المقدس الرهيبة يُدانُ "العالمُ" ويُرمى "رئيسُه خارجًا" (رج 12: 31).
بالنسبة إلى يوحنا، ساعة الآلام هي ساعة "رفع" ابن الانسان، ولكنها ارتفاع لأنها قبلاً "نزول" حتّى الامحاء، كما عند "العبد المتألم" (أش 53) الذي يجمع في شخصه صورةَ الحمل الفصحيّ؛ هذا هو اللقب الذي خلعه عليه يوحنا السابق، في بداية الانجيل، "حمل الله" (1: 29).
التعبير الرمزي لذلك هو مشهد غسل الأرجل. ما فعله يسوعُ فاجأ يوحنا، كما بطرس أيضًا الذي هتف قائلاً: "أنتَ، يا سيّد، تغسل لي قدميّ!... لا!" (13: 6 و8). لن يفهم أنّ "الله محبة" إلاّ "لاحقًا" (13: 7).
ساعة يسوع هي مبادرة الحب التي تعطي هذه الساعة كل معناها. إنه الراعي الصالح الذي يهب حياته لنعاجه، "بملء إرادته يعطيها". لم نكن نحن أحببنا الله، بل هو أحبنا"... "أولاً" (1: 4 و19). يستقبل يسوعُ ساعتَه ويقبلها، وكأنها ساعة "العطاء الكامل" على الصليب، لأنه "كان يعلم" (13: 1 و3). لقد مشى نحوه بوضوح، طوال حياته الأرضية. هو يرفض أن تُبعَدَ عن شفتيه "الكأسُ التي أعطاها الله له" (18: 10)، وعندما أسلم الروح الأخيرة، كان "يعلم" أن "كل شيء قد تمّ". موته "من أجل البشر" هو موت بريء يفتدي العالم، ويجمع في شخصه موت كل الأبرياء، ويرمز إلى سرّ المهمة التي من خلالها يحل محل الآخرين.
هكذا تكون ساعة يسوع ساعة تجلي الحقيقة العظمى والمحبة الأسمى.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM