الفصل التاسع والعشرون: الأسرار في انجيل يوحنا

الفصل التاسع والعشرون
الأسرار في انجيل يوحنا
الآباتي بولس تنوري الأنطوني

الكلام عن الأسرار في انجيل يوحنا ليس بالأمر السهل بالرغم من كل المعطيات الظاهرة التي توحي السهولة أحيانًا وتدفع البعض إلى التمادي في شروح لاهوتية عن الأسرار في الانجيل الرابع. لذلك نود أن نلفت النظر بادئ ذي بدء إلى ضرورة احترام قدسية النص الموحى. هذا النص، بقدر ما نقرأ ونتأمل به، ندرك أنه يتفلّت من مقاييسنا ومعطيات منطقنا. ولا يجوز بالتالي أن نحبسه ضمن هذه المقاييس، أدبيّة كانت أم تاريخيّة أم دينيّة. لأن ذلك سيؤدّي حتمًا إلى تشويهه وانتقاص قيمته وغناه. وكأن أسلوب الانجيل الرابع قد تعمَّد الغموض واكتفى بالايحاء لكي يتناسب الاسلوب مع المضمون الذي لا يدخل في أطر الفكر البشري العادي. من هنا يترتّب علينا أن لا نفتّش في انجيل يوحنا عن مفهوم لاهوتي للأسرار انطلاقًا من معطياتنا اللاهوتية المعاصرة بل أن نتلمّس في هذا الانجيل ما يشير أو يوحي إلى حقيقة هذه الأسرار. وسنتوقّف بنوع خاص عند سرّي المعمودية والافخارستيا. ولكن لا بد لنا أولاً من وقفة ولو سريعة عند سر الكنيسة. فهي أم الأسرار كلها ولا يمكن أن تُفهم هذه الأسرار فهمًا صحيحًا إلا بتركيزها في سرّ الكنيسة. أما بالنسبة لموضوعنا فعلينا أن نوى كيف تبدو هذه الكنيسة في الانجيل الرابع، وبالتالي كيف نقدر أن ننطلق منها لمعالجة موضوع الأسرار.

1- الكنيسة أم الأسرار
الأسرار كلها تنبع من المسيح الذي يجسّد حضور الله في العالم. فهو ابن الله الذي أتى إلى العالم لتكون لنا الحياة وتكون وافرة (يو 10:10). والكنيسة هي سرّ المسيح أي إنها "الأداة والعلامة للوحدة الوثيقة في الله"، كما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني (دستور عقائدي في الكنيسة، 1). حقائق كثيرة تعبّر عنها الكنيسة وتشرحها من دون أن تستنفدها، كحقيقة شعب الله أو ملكوت الله أو جماعة العهد الجديد أو عروس المسيح...
جميع هذه الحقائق يمكن تلخيصها بواحدة تحتويها كلها وهي الشراكة ما بين الله والبشر، أو سرّ شراكة الناس بحياة الله وما ينتج عن هذه الشراكة الالهية من علاقة تربط البشر بعضهم ببعض. فالكنيسة هي أمّ الأسرار لأنها سرّ هذه العلاقة بالله، سر الشراكة بحياته الالهية التي تجعل من البشر أبناء له. وما الأسرار إلا رموز وأدوات للتعبير عن هذه الشراكة وعيشها بطرق مختلفة ومتكاملة لتطال جميع أبعاد الحياة الانسانية. من هنا لا يمكن فصل أي سرّ من الأسرار المسيحيّة عن ينبوعه الأم، أي الكنيسة. فيتحول السر إلى نوع من السحر أو أي شيء آخر، لا تربطه أي علاقة بالله، ولا يكون بالتالي أداة لاشراك الناس بحياة الأبد.
أما بالنسبة للانجيل الرابع فالكنيسة هي حقًا سر هذه الشراكة الالهية. إنها جماعة الذين آمنوا بالكلمة وقبلوه "فأولاهم سلطانًا ليصيروا أبناء الله. هم الذين لا من دم ولا من رغبة لحم ولا من رغبة رجل بل من الله وُلدوا" (يو 1: 12-13). عن هذه الولادة سيتكلّم يسوع مع نيقوديموس موضحًا بأنها ولادة من الماء والروح (يو 3: 5).
والكنيسة أيضًا، بالنسبة لانجيل يوحنا هي عروس المسيح، كما يقول المعمدان، مجاوبًا تلاميذه عندما أعلموه عن يسوع بأنه يعمّد ويستقطب الناس: "أنتم بأنفسكم تشهدون لي بأني قلت إني لست المسيح، بل مرسل قدامه. من كان له العروس فهو العريس" (يو 28:3-29). هذه ليست إلاّ إشارة ولكنها إشارة مهمة إلى الكنيسة كعروس للمسيح. في سفر الرؤيا سيتوقّف يوحنا عند هذا المفهوم للكنيسة (رؤيا 21: 2 و7:22)، كما أن بولس ركّز عليه مفهومه لسرّ الكنيسة (راجع 2 قور 11: 1 وأف 5: 25- 31).
والكنيسة هي أيضًا جماعة الذين يؤدّون العبادة التي يريدها الآب، كما يقول يسوع للسامرية: "ولكن تأتي ساعة، وقد حضرت الآن، فيها العباد الصادقون يعبدون الآب بالروح والحق" (يو 4: 23). إنهم أولئك الذين يسمعون للآب ويُقبلون إلى يسوع: "فكل من سمع للآب وتعلَّم منه أقبل إليَّ" (يو 6: 45). يُقبلون إليه ليأكلوا جسده ويشربوا دمه ويثبتوا فيه (يو 6: 56). بواسطة أكلهم يسوع يحيون للأبد (يو 57:6، 58). فالكنيسة هي التي تشرك المؤمنين بحياة يسوع لتكون لهم الحياة الأبدية.
وبما أن يسوع هو الراعي الصالح، فالكنيسة هي الخراف التي تسمع صوته وتتبعه وتجد مرعى (يو 10: 1-18). هي خراف أعطاها الآب ليسوع ولا أحد يقدر أن يختطفها من يد الآب (يو 10: 26-29). ويسوع يقود إلى الآب. لأن من يؤمن به يؤمن بالآب الذي أرسله (يو 12: 44) فلا يبقى بالظلام بل يرى الآب في يسوع: "من رآني رأى الذي أرسلني" (يو 12: 45).
والكنيسة أخيرًا هي جماعة التلاميذ الذين يقبلون أن يقتدوا بالمعلم فيغسل بعضهم أقدام بعض (راجع يو 13:13-15). إنهم أولئك الذين يحفظون وصيّة المعلم "أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم" (13: 34). إنهم أيضًا أغصان الكرمة ويؤلّفون مع يسوع وحدة حيويّة لأنه هو الكرمة وأبوه الكرّام. عليهم أن يثبتوا في الكرمة ويقبلوا بأن يقضبهم الآب ليأتوا بالثمار (راجع يو 15: 1-9). إنها ثمار المحبة وبذل الذات على مثال يسوع.
الكنيسة هي هؤلاء التلاميذ الذين ينتظرون أيضًا مجيء المعزي، روح الحق الذي سيرسله لهم يسوع من عند الآب. يعرفون أن يتخلوا عن الانسان يسوع المسيح ليقبلوا الروح الذي سيقودهم ويوضح لهم شخصية يسوع الحقيقية بعد قيامته من الموت (راجع الفصلين 14 و16). وهم بالتالي مستعدون بقوّة هذا الروح أن يمرّوا على مثال يسوع بخبرة الموت ليصلوا إلى القيامة.
كنيسة الانجيل الرابع هي اذن جماعة أو جماعات تلاميذ. ولا مكان فيها لغير التلاميذ. جماعة الرسل أو "الاثني عشر" لا وجود لها، واسم رسول لا يرد أبدًا في الانجيل. ومن يدعوهم الازائيون رسلاً أمثال سمعان واندراوس وفيلبوس... هم بالنسبة لانجيل يوحنا تلاميذ لا أقل ولا أكثر. فالدور الخاص الذي يعطيه مرقس "للاثني عشر" وكذلك متى ولوقا ولو بنسبة أقل، يتجاهله كليًا انجيل يوحنا.
ليس موضوعنا الآن الكلام عن الجماعات اليوحناويّة، هناك من تحدث عنها وشرح ملابسات الموضوع. ولكننا نشير فقط إلى تفرّد هذه الجماعات وتمايزها عن غيرها من الجماعات المسيحيّة الأولى التي كانت ترتكز في هيكليتها وتعليمها على الرسل الاثني عشر أو على الرسول بولس. ومن دون أي شك تميّزت أيضًا هذه الجماعات بممارستها وفهمها للأسرار وبنوع خاص سري العماد والافخارستيا. ويمكن الاستنتاج من مجمل الرموز والمفاهيم التي يستعملها الانجيل الرابع، كما رأينا، للتعبير عن الكنيسة، أن هذا الانجيل لا يريد الابتعاد عن جماعة العهد القديم. فالرموز والمفاهيم التي كانت مألوفة عند هذه الجماعة كالكرمة والراعي والعروس والمياه الحية والتتلمذ لروح الرب، هي ذاتها يستعملها الانجيلي ليوضح العلاقة التي تربط الله بالكنيسة، جماعة المؤمنين. الجديد هو فقط شخص يسوع الذي بواسطته تتم هذه العلاقة الحيوية بالله. يسوع يحل محل موسى لا ليكون وسيطًا للعهد بل ليكون هو أساس هذا العهد. هذا ما يلفت إليه الانجيلي منذ المقدمة، فيقول: "فمن ملئه نلنا بأجمعنا وقد نلنا نعمة على نعمة. لأن الشريعة أعطيت عن يد موسى وأما النعمة والحق فقد أتيا عن يد يسوع المسيح" (يو 1: 16-17). لذلك لا يأتي الانجيل الرابع على ذكر العهد القديم أو الجديد بل يستعمل الرموز التي تشير إليه مبرهنًا أنها لا تجد ملئها إلاّ في يسوع. فما من قطيعة بين العهدين، بل إن الأول يقود تلقائيًا إلى المسيح ويجد فيه كماله.
هذا ما ينبغي أيضًا التنبّه إليه في مجال الحديث عن الأسرار المسيحية بالنسبة للانجيل الرابع. إذ لا يجوز تقديمها وكأنها أمور مستحدثة بل إنها اكتمال ما أشارت إليه رموز العهد القديم. فيسوع هو ابن الله الذي جاء ليشركنا بحياة الله ويحرِّرنا من عبودية الخطيئة: "فإذا حرّركم الابن كنتم أحرارًا حقًا" (يو 8: 36). والأسرار ليست سوى الشركة في حياة الابن لتكون لنا البنوّة والحريّة.

2- العماد
الايحاءات إلى سر العماد كثيرة في الانجيل الرابع. ولكن تفسيرها يختلف إلى حد التناقض أحيانًا ما بين شارح وآخر. فمن موقف ناف أي صلة ما بين الانجيل الرابع والأسرار كموقف بولتمان إلى موقف يرى تأكيدًا واضحًا لوجود الأسرار في الانجيل مثل موقف كولمان، فرق شاسع. لا بل هذا الأخير يفسر انجيل يوحنا كمحاولة للجمع ما بين يسوع التاريخ وعبادة الجماعة المسيحيّة في أيامه، وبين هذين الموقفين المتناقضين هناك كثير من الشراح الذين يتأرجحون ما بين النفي والتأكيد. وفي هذا دلالة واضحة على أن الانجيل الرابع يكتفي بفتح أفق ايمانية ويترك للكنيسة وللمؤمنين مجال العبور من هذه الأفق إلى قناعات وممارسات تعّبر عن إيمانهم من دون أن تستنفده أو تحصره الزامًا بها.
الانجيل الرابع، الذي يشدد على دور التلاميذ كشهود ليسوع، لا يذكر أمر يسوع لهم بأن "يعمدوا" كما فعل انجيل متى مثلاً في الخاتمة، واضعًا على لسان يسوع هذا الأمر الصريح:
"فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متّى 28: 19). أو كما يشير كتاب أعمال الرسل إلى نشاط الكنيسة الاولى بعد حلول الروح القدس مؤكّدًا على ضرورة التوبة والعماد (أع 2: 28) بحسب وعد المسيح لهم قبل صعوده بأنهم سيعمّدون بالروح القدس (أع 1: 8). وإذا ما تعمدوا هم، بحلول الروح القدس عليهم، سيصبح بامكانهم أن يعمدوا الآخرين. ولكن الانجيل الرابع الذي يرتكز إلى تقليد آخر، غير التقليد الازائي، يؤكّد بأن يسوع نفسه قد مارس، مثله مثل يوحنا المعمدان، رسالة العماد:
- "وبعد ذلك ذهب يسوع وتلاميذه إلى أرض اليهودية فأقام فيها معهم وأخذ يعمِّد" (3: 22).
- وقام جدال بين تلاميذ يوحنا وأحد اليهود في شأن الطهارة فجاؤوا إلى يوحنا وقالوا له: "رابي ذاك الذي كان معك في عبر الاردن، ذاك الذي شهدت له، ها إنه يعمّد فيذهب إليه جميع الناس" (3: 25-26).
هذا النشاط العمادي ليسوع يعود الانجيلي لينفيه، ناسبًا العمل إلى تلاميذ يسوع وليس إلى يسوع بالذات:
"ولما علم يسوع أن الفريسيين سمعوا أنه اتخذ من التلاميذ وعمَّد أكثر مما اتخذ يوحنا وعمَّد، مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمّد بل تلاميذه، ترك اليهودية ورجع إلى الجليل" (4: 1-3).
ما قيمة هذا العماد وشموع لم يمجّد بعد ولم يفض روحَه على التلاميذ. هل كان عمادًا على مثال عماد يوحنا أم يمكن اعتباره عمادًا مسيحيًا. الشراح هنا أيضًا ينقسمون منذ أيام أغسطينوس وترتليانوس إلى أيامنا. بالنسبة إلى كزافييه ليون دوفور مثلاً فهو يرى أن البرايت وبوامار قد تسرّعا في موقفهما اذ اعتبرا مع ترتليانس أنّه ليس عمادًا مسيحيًا. أما هو فيعتبر أن شخص يسوع هو الذي يعمل المفارقة. فعماد يسوع يدخل المعمدين في خط الشراكة مع مصيره ويفتحهم لتقبل الروح القدس الحالّ بلمئه على يسوع، بينما عطية الروح لن تصبح فاعلة إلاّ يوم الفصح (يو 20: 22).
أما شناكنبورغ فيعتبر أن هذا العماد الذي قام به يسوع قبل تمجيده وحلول الروح القدس على التلاميذ هو عماد خاص بالمرحلة التحضيرية لنشاط يسوع العلني. فهو ليس مثل عماد يوحنا ولا هو العماد المسيحي حيث "لم يكن هناك بعد من روح لأن يسوع لم يكن قد مجِّد" (يو 39:7).
العماد المسيحي يظهر بمعناه الحقيقي من خلال شرح يسوع لنيقوديموس أنه "الولادة من علُ" أو "الولادة من الماء والروح":
- "ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلاّ إذا ولد من علُ" (يو 3: 2)
- "الحق الحق أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلاّ إذا ولد من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسدًا ومولود الروح يكون روحًا" (يو 5:3-6).
في شرحه لكلمة "أنوتان" من علُ، وليس "الولادة ثانية" المتحدرة من التراث الهليني، يوضح شناكنبورغ بأنها الولادة من الله الساكن في الأعالي. وبنفس الاتجاه يوضح ليون دوفور بأن هذه "الولادة من علُ" تعني اشراك الانسان من قبل الله بحياته الالهية.
هذه "الولادة من علُ" يوضحها يسوع لمحاوره على أنها ولادة من الماء والروح. الأهمية ترجع إلى الروح لا إلى الماء. ولقد شرح ليون دوفور هذه العبارة حاذفًا الواو فيصبح التعبير مياه الروح، مستندًا إلى ما ورد في سفر حزقيال:
"وأرشُّ عليكم ماء طاهرًا...
وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا...
وأجعل روحي في أحشائكم" (حز 36: 25-27).
في الحقيقة، إن يسوع يركز في شرحه على دور الروح. فالروح هو الذي يفيض المياه بوفرة. إنه روح الحياة، والمياه الحية هي أفضل رمز عن الحياة. وهكذا يلتقي هذا النص مع ما أعلنه يسوع في اليوم الأخير من عيد الأكواخ:
"إن عطش أحد فليقبل إلي ومن آمن بي فليشرب.
كما ورد في الكتاب: ستجري من جوفه أنهار من الماء الحي.
وأراد بقوله الروح الذي سيناله المؤمنون به" (يو 7: 37-39).
لا شيء يمنع من أن نرى في هذا الماء ماء العماد. ولكن من دون فصله أبدًا عن الروح، لأن الحدث الأهم الذي وُلدت منه الكنيسة هو حلول الروح يوم العنصرة بعدما مجِّد يسوع. وإذا رأينا في هذه النصوص بُعدًا سريًا، فهذا البُعد لا يأتي من طقس العماد بل من الايمان بفيض الروح على المعمّد واشراكه مباشرة بحياة الله. والقديس بولس يفسر هذه المشاركة بواسطة يسوع. فالمعمّد يعتمد بموت يسوع وقيامته ليولد لحياة جديدة. هذا ما لا نراه عند يوحنا. ولكن يوحنا يوحي إليه بقوله "إن يسوع لم يكن بعد قد مجِّد" (7: 39). ومن المعروف أن ساعة يسوع كانت على الصليب بموته وقيامته.
هذه المياه الحيّة هي أيضًا المياه التي يتحدّث يسوع عنها مع السامرية: "لو كنت تعرفين عطاء الله ومن هو الذي يقول لك: اسقيني، لسألته أنت فأعطاك ماء حيًا" (يو 4: 10). كما أن أي اشارة أخرى إلى الماء أو الغسل بالماء، على مثال الأعمى الذي اغتسل في بركة سلوام أو على مثال غسل أرجل التلاميذ في العشاء الأخير. هذه الاشارات يمكن أيضًا تفسيرها كاشارات إلى سر العماد شرط أن ترتبط بالروح لأنه هو أساس "الولادة من علُ".
أعتقد أن تفسيرًا لسر العماد، لا يرتكز أساسًا على عطيّة الروح وعلى المياه كرمز للحياة الآتية من الله، يُبعد السرَّ عن مفهومه الصحيح ويحوِّله إلى طقس خارجي مادي.

3- الافخارستيا
انجيل يوحنا لم ينقل لنا تأسيس الافخارستيا في عشاء الرب الأخير مع تلاميذه كما فعل الازإئيون وكما فعل بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (11: 23-25). لماذا هذا التغاضي من قبل يوحنا عن حدث بمثل هذه الأهميّة: هل أن يوحنا حقًا لم يكن يود سرد واقعة يعرفها الجميع وتمارسها الكنيسة الأولى كتقليد أكيد يرجع إلى الرب نفسه ولذلك أعطانا حدثًا آخر لم يورد غيره وهو غسل أرجل التلاميذ (يو 13: 1-15). ويسوع يفسِّر عمله هذا بدعوة التلاميذ للاقتداء به بالخدمة والمحبة. "فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضًا ما صنعت إليكم".
هناك من يرى لغسل الأرجل معنى افخارستيًا بالاستناد إلى العلاقة ما بين العماد (غسل الأرجل) وعشاء الرب. لن نناقش هذا الرأي لأن أكثر الشراح لا يعتبرونه ممكنًا، حتى ولو كانت العادة القديمة والتي ما زالت متبعة في الكنائس الارثوذكسية تعطي سري العماد والافخارستيا معًا، خاصة وأن تفسير غسل الأرجل بمعنى سر العماد ليس موضوعيًا، إذ لا ذكر فيه لدور الروح، وهو الأساس كما رأينا بالنسبة للعماد.
المرجع الأساس لسر الافخارستيا في انجيل يوحنا هو بدون شك الفصل السادس وبنوع خاص آ 52-58. ولكن قبل أن نعالج المعنى الافخارستي لهذا النص، نتوقّف قليلاً عند آية تحويل الماء إلى خمر في قانا الجليل (يو 2: 1- 11) لنرى إذا كان لهذه الآية تفسير افخارستي ممكن.
فإذا كان لتكثير الخبز في الفصل السادس معنى افخارستيّ كرمز لجسد الرب فلماذا لا يكون لآية مماثلة، تحويل الماء إلى خمر، معنى مماثل كرمز إلى دم الرب. وإلاّ فلماذا يقول يسوع: "إذا لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه فلن تكون فيكم الحياة" (يو 53:6). فأي آية أخرى تشير إلى الدم غير هذه الآية؟
إن آباء الكنيسة رأوا بأكثريتهم، في الخمر الذي أعطاه يسوع في قانا الجليل، رمزًا واضحًا إلى الافخارستيا أي إلى دمه المقدس، عطية العهد الجديد من قبل يسوع المسيح إلى الكنيسة عروسه. أما الشارحون المعاصرون فهم أكثر تحفظا على وجه العموم، إلاّ البعض منهم أمثال كولمان.
بالنسبة لـ بريتو وماتيوس اللذين يفسران الحدث على ضوء العهد الجديد، فهما يريان بأن الخمرة الجديدة في قانا هي على ارتباط وثيق بساعة موت يسوع على الصليب حيث يتحقق العهد الجديد، بينما في عرس قانا يعلن رمزيًا عن نهاية العهد القديم بفراغ الخمر.
أما ليون دوفور فإنه يعتبر بأن العهد القديم قد اكتمل أو تمّ في يسوع الممجّد وأنه ما من انقطاع بين العهدين بل هناك تواصل واكتمال. وهو إذ يقارن ما بين الفصل السادس (تكثير الخبز) وعرس قانا، يرى أن هناك عناصر مشتركة وأن لا شيء يمنع في أن نرى، كما رأى ايريناوس، في خمر قانا تكملة لعطاء الخبز في الفصل السادس، وبالتالي صورة عن سر الافخارستيا. ولكن الكاتب يؤكد هنا على غرار الكثيرين غيره أن البعد الأساسي لهذه الآية هو بعد كريستولوجيّ يتعلق بشخص المسيح ورؤية مجده. هذا سيتضح على الدراسة العميقة التي قام بها منكان ومارتين. المشكلة القائمة تختصر بما يلي: هل لهذه الآيات معنى كرستولوجيّ أو معنى افخارستيّ؟ فإذا حكمنا بالافتراض الأول (الكرستولوجي) تكون متابعة طبيعية للخطاب السابق (يو 6: 22-53 ب) ولن تشكّل صعوبة تذكر وهذا ما يدعيه بعض الشراح نافين أن يكون لهذه الآيات ولتلك التي سبقتها أي بعد افخارستي. أما إذا حكمنا بالافتراض الثاني (الافخارستي) فهناك مشكلة تفسيرية. لذلك بعض الشراح يعتبر أن هذه الآيات مزيدة على النص الأصلي. ولكن هذا الحل السهل غير مقنع، ولذلك ينبغي استبعاده. وبعد دراسة مطولة ومقارنة بين التعابير الواردة هنا والتعابير الافخارستية الأخرى عند الازائيين وفي رسائل بولس، يتوصل صاحبا الدراسة إلى عرض حلٍّ مقنع. هذا الحل يفترض أن يوحنا في هذه الآيات يستعمل تعابير إفخارستية واضحة ومعروفة في الكنيسة الاولى ولكن في إطار كرستولوجيّ.
لذلك كان الانتقال بين الآيتين 53 و54 من صيغة الغائب "إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه" إلى صيغة المتكلم من "أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبدية". هناك إذًا معادلة واضحة بين ابن الانسان وبين يسوع. كما أن هناك معادلة واضحة أيضًا بين جسد يسوع والخبز النازل من السماء ليحيى به العالم هو جسد يسوع الذي سيتمجّد على الصليب. فمن يؤمن به ينل الحياة الأبدية. إن اهتمام يوحنا إذًا في هذه الآيات هو ذو طابع كرستولوجيّ، يصوّر العلاقة الايمانية به كمسيح مصلوب، عطية حياة للعالم من قبل الآب.
وعلى ضوء هذه الشرح نفهم أن الجماعات اليوحناوية، مثلها مثل الكنائس الأخرى، كانت تحتفل بسر الافخارستيا وهي تعرف تمام المعرفة وقع هذه الكلمات "من أكل جسدي وشرب دمي".

خاتمة
المسيحية منذ نشأتها محكومة بالتعدّدية. هناك إيمان واحد وممارسات متشابهة. وهناك أيضًا تفكير لاهوتيّ مختلف بين جماعة وأخرى. فالايمان المسيحي يتلوّن في التعبير عنه بالمعطيات الفكرية والانتروبولوجية المختلفة بين شعب وآخر. وإذا كانت الأناجيل الازائيّة تتميّز واحدها عن الآخر بفكر لاهوتي معيّن، فكم بالحري انجيل يوحنا الذي يظهر أحيانًا قريبًا جدًا من التراث المشترك وأحيانًا أخرى يبتعد ابتعادًا جذريًا عن هذا التراث.
ولقد كان هم يوحنا واضحًا، كما ظهر منذ مقدمة الانجيل، وهو اظهار لاهوت الكلمة التي تجسدت في الزمان بشخص يسوع المسيح الذي هو ابن الله. وقد جاء ليعطي حياة الله للعالم.
لم يكن همه إذا وصف الممارسات المسيحية أو الأسرار بل من خلال لاهوته الكرستولوجيّ نقدر أن نفهم هذه الأسرار فهمًا أعمق. إذ من غير الممكن أن يُبنى لاهوت الأسرار على مفهوم كرستولوجيّ سطحي أو غير واضح. فبقدر ما نتعمّق باللاهوت الكرستولوجيّ ومن ثم باللاهوت الكنسي، الذي يشرح علاقة المسيح بالكنيسة والمؤمنين، بقدر ذلك يمكننا أن نفهم الأسرار المسيحية فهمًا ايمانيًا عميقًا بعيدًا عن أي مظاهر قريبة من السحر والشعوذة. اعتقد أن طريق الفهم والتفسير بالنسبة للانجيل الرابع على الخصوص ما زالت طويلة وما زال أمامنا مجالات واسعة للدراسة والتأمل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM