الفصل السابع والعشرون: يسوع في السامرة

الفصل السابع والعشرون
يسوع في السامرة
4: 1- 45
الأب أنطوان عوكر

مقدّمة
مرور يسوع بالسامرة ولقاؤه بالسامريَّة رواية يتفرّد بها الانجيل الرابع. من الأشياء اللافتة للنظر فيها هو أنّها تحتوي على اعتراف واضح وصريح، وربّما الوحيد، من يسوع نفسه بأنّه المسيح. هذا الكشف كان لسامريّة أي لواحد من الخراف الضاّلة من آل إسرائيل. هناك كشف آخر أيضًا، لطريقة عبادة الآب التي تتخطّى تحديد مكان للقيام بها.
لقد كُتب عن لقاء يسوع بالسامريّة وذلك على أصعدة متعدّدة: روحيّة ولاهوتيّة وكرستولوجيهة وتربويّة ورساليّة وأنثروبولوحيّة... نتوقّف في هذه المحاضرة على ثلاث قراءات مختلفة للفصل الرابع من إنجيل يوحنّا: مقاربة بلاغيّة، ومقاربة بواسطة التحليل النفسيّ، ومقاربة سيميائيّة. لكلّ من هذه المقاربات أسسها وطريقتها الخاصة؛ لن ندخل في تفاصيلها المتشعّبة ولكننّا سنعرض بعضًا من النتائج التي يُمكن استخلاصها من كلّ قراءة.

1- قراءة بلاغيّة
أ- إطار النصّ
يدخل الفصل الرابع من إنجيل يوحنّا ضمن قسم كبير يشمل الفصول 2 و3 و4. يحدّ هذا القسم ذكرُ مرور يسوع في قانا الجليل ورواية الآيتين اللتين صنعهما فيها (راجع 2: 11 و4: 54). يبدأ هذا القسم بإبراز آيتين يكشف بهما يسوع عن هويّته المسيحيانيّة: آية الخمر الجيّدة الجديدة الفائضة (2: 1- 10) وآية الهيكل، بيت أبيه، التي يتساوى فيها الكتاب- أي كلام الله- وكلام يسوع (2: 22).
إذا كان شرّاح الكتاب المقدّس لا يتّفقون على ربط الفصول 2-4 في قسم واحد، فمعظمهم يرى في الفصلَين 3-4 وفي اللقاءات الثلاثة التي تتمّ فيها (مع نيقوديموس في 3: 1- 21 ومع المرأة السامريّة في 4: 1-45 ومع رجل من حاشية الملك في 4: 46-54) تكاملاً شموليًا. فنيقوديموس رجل يهوديّ من أورشليم ومعلّم في إسرائيل يمثّل الخطّ اليهوديّ التلقيديّ، والمرأة من سيخار تمثّل الخطّ اليهوديّ المنشقّ، وعامل الملك من قانا الجليل يمثّل العالم الوثنيّ إذ هو وثنيّ على الأرجح.
هناك خطّ يربط اللقاءات الثلاثة وهو خطّ الإيمان وكيفيّة اكتسابه. لقد صنع يسوع آية أولى في قانا الجليل، وآيات أخرى في أورشليم (2: 23) كاشفًا بذلك عن هويّته. أمام هذا الكشف وتلك الآيات كانت هناك طرق متعدّدة لاتّخاذ مواقف إيمانيّة. نيقوديموس يرى في يسوع معلّمًا من عند الله لأنّه رأى الآيات التي صنعها (3: 2). المرأة السامريّة والسامريّون عامة رأوا في يسوع مخلّص العالم لأنهم سمعوا كلمته (4: 42). أما عامل الملك الذي واجهه يسوع بهذا التجاذب بين الايمان ورؤية الأعمال (4: 48)، فسيؤمن بالكلمة التي قالها يسوع (4: 50). وستقوده رؤية الآية إلى الايمان هو وأهل بيته (4: 53).
في هذا الجوّ الشموليّ لرسالة يسوع ولاَياته وللكشف عن هويّته وللإيمان به تأتي رواية يوحنّا للقاء يسوع بالسامريّة.




ج- ترجمة حرفيّة
(1) ولمّا علم الربّ أنّ الفريسييّن قد سمعوا بأنّ يسوع صنع تلاميذ وعمّد أكثر من يوحنّا (2)- مع أنّ يسوع نفسه لم يكن يُعمّد بل تلاميذه- (3) ترك اليهوديّة ورجع من جديد إلى الجليل. (4) وكان عليه أن يمرّ بالسامرة. (5) فوصل إلى مدينة في السامرة يُقال لها سيخار، بالقرب من البقعة التي أعطاها يعقوب لابنه يوسف؛ (6) وكان هناك ينبوع يعقوب. وكان يسوع قد تعب من المسير، فجلس هكذا على الينبوع. وكانت الساعة نحو السادسة.
(7) جاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء. قال لها يسوع: "أعطيني لأشرب". وكان تلاميذه قد مضوا إلى المدينة ليشتروا طعامًا. (9) فقالت له المرأة السامريّة: "كيف، أنت يهوديّ تطلب منّي أن تشرب، أنا امرأة سامريّة؟" إذ لا أشياء مشتركة بين يهود وسامريّين. (10) أجاب يسوع وقال لها: "لو كنت تعرفين عطيّة الله ومن هو القائل لك أعطيني لأشرب لكنت تطلبين منه أنت فيُعطيك ماءً حيًا. (11) فقالت له: "يا سيّد، لا دلوَ لك، والبئر عميقة؛ فمن أين لك الماء الحيّ؟ (12) أو تكون أنت أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه وماشيته؟" (13) فأجاب يسوع وقال لها: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش من جديد؛ (14) أما من يشرب من الماء الذي أنا سأعطيه إيّاه فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي سأعطيه إيّاه يصير فيه ينبوع ماء يتفجّر لحياة أبديّة". (15) فقالت له المرأة: "يا سيد، أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا أعود إلى هنا لأستقي".
(16) فقال لها:، اذهبي فادعي رجلك وتعالي إلى هنا". (17) أجابت المرآة وقالت له: "لا رجل لي". قال لها يسوع: "حسنًا قُلت: لا رجل لي، (18) لأنّه كان لك خمسة رجال، والذي معك الآن ليس برجلك؛ هذا الذي قلته حقّ".
(19) قالت له المرأة: "يا سيّد، أرى أنّك نبيّ. (20) آباؤنا عبدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إنّ المكان الذي يجب فيه العبادة هو في أورشليم". (21) قال لها يسوع: "صدّقيني، أيّتها المرأة، إنّها تأتي ساعة فيها ستعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم. (22) أنتم تعبدون ما لا تعلمون، ونحن نعبد ما نعلم، لأنّ الخلاص هو من عند اليهود. (23) ولكن تأتي ساعة، وها هي الآن، فيها العابدون الحقيقيّون سيعبدون الآب بالروح والحقّ؛ فإن الآب يبحث عن عابدين له على مثال هؤلاء. (24) الله روح، ويحب على عابديه أن يعبدوه بالروح الحقّ". (25) قالت له المرأة: "أعلم أنّ ماسيّا يأتي، وهو الذي يُقال له المسيح متى جاء هذا فهو يُعلن لنا كلّ شيء". (26) قال لها يسوع: "أنا هو، أنا المتكلّم معك".
(27) عندئذ جاء تلاميذه فدهشوا من أنّه كان يتكلّم مع امرأة؛ ولكن لم يقل له أحد: عمّاذًا تبحث؟ أو عن أيّ شيء تتكلّم معها؟ (28) فتركت المرأة جرّتها وذهبت إلى المدينة وقالت للناس: (29) "هلمّوا انظروا إنسانًا قال لي كلّ ما فعلت؛ أفلا يكون المسيح؟" (30) فخرجوا من المدينة وأقبلوا نحوه.
(31) خلال ذلك سأله التلاميذ قائلين: "رابّي، كل". (32) فقال لهم: "أنا لي طعام آكله، أنتم لا تعرفونه". (33) فراح التلاميذ يقولون في ما بينهم: "ألعلّ أحدًا حمل إليه ما يأكله؟" (34) قال لهم يسوع: "طعامي هو أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأن أتمّم عمله. (35) أفلا تقولون أنتم: هي أربعة أشهر ويأتي الحصاد؟ ها أنا أقول لكم: ارفعوا عيونكم وانظروا إلى الحقول فإنّها قد ابيضّت للحصاد. (36) من الآن يأخذ الحاصد مكافأة ويجمع غلّة لحياة أبديّة بحيث يفرح الزراع والحاصد معًا. (37) ففي هذا يصبح القول حقّ: آخر هو الزراع وآخر هو الحاصد. (38) أنا قد أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه. آخرون تعبوا وأنتم دخلتم في ما تعبوا فيه".
(39) وكثير من سامريّي تلك المدينة آمنوا به بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد: "قال لي كل ما فعلت". (40) ولمّا وصل إليه السامريّون سألوه أن يُقيم عندهم؛ فأقام هناك يومين. (41) وأكثر بكثير آمنوا بسبب كلمته؛ (42) وكانوا يقولون للمرأة: "لسنا بعد بسبب روايتك نؤمن؛ فإننّا سمعناه نحن، ونعلم أنّه حقًا مخلّص العالم. (43) وبعد اليومين، خرج من هناك إلى الجليل، (44) إذ إنّ يسوع نفسه قد شهد أنّ نبيًا في وطنه الخاص لا كرامة له. (45) فلمّا وصل إلى الجليل استقبله الجليليّون. لقد رأوا كلّ ما عمله في أورشليم أثناء العيد، لأنّهم قد ذهبوا إلى العيد.
د- هيكليّة النصّ
لقد اقتُرحت عدّة طرق لتقسيم النصّ بحسب الأشخاص. من أهمّها بنية في ثلاثة أقسام:
- يسوع والسامريّة (آ 1-26)
- يسوع والتلاميذ (آ 27-38)
- يسوع والسامريّون (آ 39- 42).
هناك بنية أخرى تتوقّف على طريقة تداخل هذه الأقسام بشكل مفصّل:
1- مقدّمة: يسوع يرجع إلى الجليل ويمرّ بالسامرة ويتوقّف عند بئر يعقوب (آ 1-6).
2- حوار يسوع مع السامريّة (آ 7-26):
- يسوع يعد بالماء الحيّ (آ 7- 15).
- يسوع نبيّ (آ 16-19).
- يسوع يكشف مسيحانيّته (آ 20-26).
3- مقطع انتقاليّ: عودة التلاميذ، ذهاب المرأة، مجيء السامرييّن (آ 27-30).
4- حوار مع التلاميذ (آ 31-38):
- طعام يسوع (آ 31-34).
- الحصاد المسيحانيّ (آ 35-38).
5- خاتمة: السامريّون يؤمنون بيسوع (آ 39- 42).
سنتوقّف عند هيكليّة أدبيّة للنصّ ترتكز، بالإضافة إلى تبدّل الأشخاص، على تكرار المفردات وعلى المواضيع التي تعالج:
أ (آ 1-6): من اليهوديّة إلى الجليل مرورًا بالسامرة
ب (آ 7-15): يسوع يطلب من السامريّة أن يشرب؛
حديث عن نوعين من الماء
ج (آ 16-18): يسوع يكشف ماهيّة السامريّة
د (آ 19-26): العبادة بالروح والحقّ
ج ج (آ 27- 30): السامريّة تكشف ماهيّة يسوع
ب ب (آ 31-38): التلاميذ يطلبون من يسوع أن يأكل؛
حديث عن نوعين من الأكل
أ أ (آ 39-45): استئناف المسيرة نحو الجليل بعد يومين في السامرة.
أ و أ أ:
- من اليهوديّة إلى الجليل مرورًا بالسامرة (آ 3-4) يقابلها من السامرة إلى الجليل مرورًا بما صنعه يسوع في أورشليم (اليهوديّة) (آ 43- 45).
- فعل "سمع" يتكرّر مّرتين فقط: من سماع الفرّيسييّن الرافضين (آ 1) إلى سماع السامرييّن المؤمنين بمخلّص العالم (آ 42).
- الجلوس العابر على البئر (آ 6) تقابله الإقامة يومين (آ 40).
- "... أكثر من يوحنّا" (آ 1) يقابلها "أكثر بكثير..." (آ 41).
- "لما علم..." (آ 1) أدّت إلى ترك يسوع اليهوديّة بينما "لما وصل..." (آ 40) أدّت إلى المكوث يومين.
- نلاحظ أنّ هناك "هوس" ثالثة (بمعنى "نحو") في الآية 6 تلتقي مع "هوس" في الآية 1 لتحديد القسم الأوّل أ (آ 1-6).
- أمّا بالنسبة إلى القسم الأخير أ أ (آ 39-45)، فما يحدّده هو استقبال السامرييّن (آ 40) واستقبال الجليلييّن (آ 45).
ب و ب ب:
- هناك تضمين بواسطة فعلين يحدّد القسم الثاني ب (آ 7-15): استقى (مصدر) وأعطى (أمر مع ضمير المتكلّم المفرد) (آ 7 وآ 15).
- يتألّف القسم الثاني ب (آ 7-15) من مقطعين متوازيين:
1. استغراب بشكل سؤال من المرأة (آ 9 وآ 11)
2. كشف عن شخص يسوع (آ 10 أو آ 12)
3. عطاء الماء الحيّ (آ 10 ب وآ 13-14)
- يتألّف القسم السادس ب ب (آ 31-38) أيضًا من مقطعين:
1. الأوّل يدور حول موضوع الطعام (آ 31-34) وفيه نجد استغرابًا من التلاميذ بشكل سؤال وكشفًا ليسوع من ماهيّة طعامه.
2. الثاني يدور حول موضوع الحصاد (آ 35-38) وفيه نجد استغرابًا من يسوع بشكل سؤال وكشفًا ليسوع عن هويتّه كمرسل التلاميذ لحصاد ما لم يتعبوا فيه إذ إنّه هو الذي تعب (راجع آ 6).
- في هذين القسمين هناك طلب من يسوع (الماء) وعرض على يسوع (الطعام). ولكن في الحالتين لن يأكل ولن يشرب. في حالة الطلب يسوع يعطي ماء على مستوى آخر؛ في حالة العرض يسوع يتغذّى من طعام على مستوى آخر.
- في هذين القسمين أيضًا هناك عدم فهم من قبل الذي يتحاور مع يسوع ("لو كنت تعرفين..." آ 10؛ "لي طعام أنتم لا تعرفونه..." آ 32). عدم الفهم هذا سيؤدّي إلى كشف من قبل يسوع.
- أما الرابط الأهم لهذين القسمين فهو "الحياة الأبديّة": فالماء الذي يعطيه يسوع يتفجّر في المؤمن لحياة أبديّة (آ 14) والحصاد الذي يُرسل يسوعُ المؤمنَ من أجل تتميمه يصبح غلّة لحياة أبديّة (آ 36).
ج و ج ج:
- طلب أوّل من يسوع (فعل أمر: أعطيني آ 7) افتتح القسم الثاني. طلب ثانٍ من يسوع (اذهبي فادعي آ 16) يفتتح القسم الثالث ج (آ 16-18).
- في هذا القسم سيكشف يسوع عن حياة المرأة الحميمة من خلال كلامه على رجالها. والمرأة ستعتبر مضمون هذا الكلام بمثابة كلّ ما عملته (القسم الخامس ج ج: آ 27- 30).
- كشف يسوع عن ماهيّة المرأة السامريّة في القسم الثالث سيؤدّي إلى كشف المرأة يسوع في القسم الخامس (أفلا يكون المسيح؟): من كشف في السرّ إلى كشف في العلن

د:
- هويّة مزدوجة ليسوع تحدّد القسم الرابع- المحور د (آ 19-26): يسوع نبيّ (آ 19) ويسوع المسيح (آ 25-26). أمّا القسم كلّه فمبنيّ بشكل محوريّ.
أ يسوع نبيّ (آ 19)
ب مكان العبادة (هذا الجبل أو أورشليم آ 20)
ج تأتي ساعة ستعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم (آ 21)
د بين معرفة ما يُعبد وعدم معرفته: الخلاص هو من عند اليهود (آ22)
ج ج تأتي ساعة وهي الآن سيعبد فيها العابدون الحقيقيّون الآب بالروح والحقّ (آ 23)
ب ب الله روح، والعبادة يجب أن تكون بالروح والحقّ (آ 24)
أ أ يسوع المسيح (آ 25-26).
هـ- أفكار أساسيّة في النصّ
هناك أفكار متعدّدة يمكننا أن نتوقّف عندها مطوّلاً وبخاصّة مفاهيم بعض الكلمات أو العبارات الواردة في النصّ وجذورها التاريخيّة والكتابيّة والدينيّة، منها مثلاً: السامرة، بئر يعقوب، الساعة السادسة، أعطيني لأشرب، العلاقة بين اليهود والسامريتن، عطيّة الله، الماء الحيّ، مفهوم الزوج، جبل جريزيم، المسيح كاشف كلّ شيء، العبادة بالروح والحقّ، الحاصد، الزارع، الذين تعبوا... لكننّا سنتوقّف على الأفكار التي يمكن أن نستخلصها من هيكليّة النصّ التي عرضت.
* ينحصر نصنّا بين سماع الفريّسييّن الذي أدّى إلى ترك يسوع اليهوديّة وسماع السامرييّن الذي جعلهم يستقبلونه يومين ويعلنون أنّه مخلصّ العالم. فمعنى النصّ يتجذّر ليس فقط بالسماع بل بالموقف الذي يلي السماع. موقف السامريّة التي سمعت يسوع وموقف السامريّين الذين سمعوا يسوع، يعطياننا الطريقة المثلى لفهم النصّ. ومن هنا نفهم أيضًا لماذا لم يصر أكل ولا شرب مع أنّ الحديث كان يدور حول الماء وحول الطعام. ماذا سيسمعون من يسوع؟
* يبدأ يسوع برفع المستمع إلى مستوى أعلى من المستوى المادّيّ. "لو كنت تعرفين عطيّة الله ومن هو القائل لك..."؛ "أنا لي طعام آكله، أنتم لا تعرفونه". استغراب المستمع لهذا المستوى غير الطبيعيّ يجعل يسوع يتحدّث عن "حياة أبديّة". فما سيسمعونه هو كلام الحياة الأبديّة.
* ولأن الحياة الأبديّة- وخاصّة في إنجيل يوحنّا- هي حقيقة واقعيّة تبدأ من هذه الحياة، كان لا بدّ ليسوع من أن يبدأ من حياة السامريّة الحميمة. من عمق هذه الحميميّة تتفجّر الحياة الأبديّة. فما ستسمعه السامريّة عن رجالها ستعتبره "كل ما فعلت". إنسان يُحدِّثها عن كلّ شيء، ألا يكون المسيح؟ لقد حدّثها عن كلّ شيء أرضيّ؛ فهل سيحدّثها عن السماويّات، عن العبادة الحقيقيّة، عن مكانها...؟
* ولأنّ الحياة الأبديّة- وخاصّة في إنجيل يوحنّا- هي معرفة الآب ومعرفة الذي أرسله يسوع المسيح (17: 3)، كان لا بدّ من أن يكون محور حديث يسوع معرفة الآب ومعرفته هو بالذات. وهذا ما سنراه عمليًا في الآية 22 التي هي محور النصّ. الخلاص هو من عند اليهود؛ ومن هو المخلّص إلاّ الذي سيُعلن في نهاية النصّ بأنّه مخلّص العالم؟ بمعنى آخر، ما سيسمعه السامريّون ما هو إلاّ كشف معرفة الآب ومعرفة الابن مخلّص العالم.

2- قراءة بحسب التحليل النفسيّ
ليس هناك من طريقة موحدّة لمقاربة النصوص البيبليّة بواسطة التحليل النفسيّ. من فرويد (Freud) ويونغ (Jung) وصولاً إلى بالماري (Balmary) وشتاين (Stein) ودولتو (Dolto) تختلف أسس هذه المقاربة باختلاف النظرة الإيمانيّة إلى الكتاب المقدّس من جهة والنظرة العلميّة إلى التحليل النفسيّ وتطوّره من جهة أخرى.
تختلف أيضًا طريقة المقاربة بحسب أنواع الروايات: الأمثال، الخطب، المزامير، القصص، المحادثات، الرسائل... والتحليل النفسيّ يأخذ بُعدًا خاصًا ومهمًا عندما يكون النصّ مناقشةً إذ يعتبره حديثًا يجري في "العيادة النفسيّة"؛ فيسعى بالتالي إلى درس "الحالة" في سبيل الوصول إلى "تشخيص العقدة" وكشف طريقة التعاطي مع صاحبها.
يشمل نصّ لقاء يسوع بالسامريّة الذي نتوقّف عندّ نوعين من الروايات: السرد والمحادثة. فقل أن يعرض الإنجيلي الرابع مضمون المحادثة التي تجري بين يسوع والسامريّة وبين يسوع والتلاميذ يُظهر لنا الإطار الخارجيّ الذي تجري فيه الأحداث. سنحصر عرضنا للمقاربة التحليل النفسيّ ببعض الاستنتاجات فقط.
أ- إطار المحادثة
المكان والزمان اللذان يتّم فيهما هذا اللقاء غير المرتبط بموعد سابق، يعطيان الأحداث معنى أساسيًّا. فالمكان هو أرض يعقوب حفيد إبراهيم أبي شعب الله المختار، حيث البئر التي شرب منها هو عائلته وغنمه، والتي أعطاها لأولاده. السامريّة تسميّها بئرًا، أمّا يوحنّا فيسمّيها ينبوعًا (ويسوع سيتحدّث عن ينبوع ماء يتفجّر لحياة أبديّة)، لأنّها مكان حصل فيه الشعب اليهوديّ على حياة بواسطة يعقوب. إنّه مكان "تاريخيّ" يربط الأشخاص الحالييّن الشعب اليهوديّ.
أمّا الزمان فهو "الساعة السادسة" أي ظهرًا حيث تكون الشمس في حالة عموديّة بالنسبة للأرض وللأشخاص وللبئر. الشمس تطاول الماء ويسوع يطأ الأرض التاريخيّة ورأسه متّجه نحو الشمس العموديّة. إنّها صورة اللقاء بين البُعد الجسديّ (charnel) والبعد الروحيّ. إنّه لقاء السماء بالأرض دون ظلّ. فالمكان هو إذًا وريد الحياة للشعب اليهوديّ، واليوم معطي ماء الحياة ليس يعقوب بل يسوع. مع الآباء ومع يعقوب كانت الولادة، مع يسوع ستكون الولادة الثانية.
وإذا كان يسوع قد جاء إلى السامرة، إلى هذا المكان التاريخيّ والجغرافيّ، فذلك ليُبرهن أن الخلاص الذي يأتي من عند الشعب الذي هو منه لا ينحصر ببقعة حغرافيّة. فبعيدًا عن طقوس السامرة وطقوس أورشليم، وبعيدًا عن أرض الأجداد، الآب يبحث عنّا. شوقه هو أن نلتقي به بالروح والحقّ ليس فقط بالجسد في إطار بلد أو أرض الأجداد مع يسوع ننطلق من مستوى لنبلغ إلى مستوى آخر، من زمان ومكان محدّدين إلى زمان ومكان من نوع آخر.
يُبرز يوحنّا مثلاً نوعين من الشرب ونوعين من الأكل. شرب المياه وأكل الطعام اللذين نعرفهما بحواسنا، وفيضان ماء حيّ حقيقيّ روحيّ وتتميم إرادة الآب. فهناك حياة للشوق (désir) لا تعرفها حياة الحاجات (besoin). فعندما كان يسوع تعبًا وجائعًا وعطشان، نسي عطشه المادّي لأنّ المرأة عندما فهمت رسالته روت غليل شوقه؛ لقد كشف لها وجه الآب الذي يعرفه وأظهر لها مفهوم عبادته بالروح والحقّ. نسي أيضًا جوعه، لأنّ شوقه إلى تتميم إرادة الآب محا حياة الحاجة. هكذا يُظهر يسوع أنّ في شخصه تتّحد السماء والأرض، الينبوع والشمس العموديّة؛ إنه يعقوب الجديد والمسيح الذي سيأتي. فيه يتّحد الزمان الماضي بالزمان الآخَر؛ الساعة التي ستأتي حاضرة الآن، والشهور الأربعة تذوب في اللحظة الحاضرة.
ب- مضمون المحادثة
يبدأ الحوار بتعبير عن حاجة: يسوع يطلب من السامريّة أن تعطيه ليشرب. جوابها لا يخلو من الإثارة: "كيف تطلب منّي...". فخبرتها مع الرجال الذين التقت بهم دفعتها إلى مثل هذا الجواب- السؤال المغوي. من هذا الفهم لطلب يسوع نستنتج أنّها فهمت أنّ يسوع يطلب منها شيئًا آخر غير الماء.
علمت السامريّة أن لا دلو ليسوع والبئر عميقة. وبعدما شرح لها عن الماء الذي يعطيه، طلبتْ منه الماء. لكنّ يسوع يرسلها إلى زوجها. أجابته أن لا زوج لها؛ أي أنّها حرّة، غير مرتبطة. وبما أنّ يسوع عفيف جعلها تكتشف رمزيّة الماء الحيّ من خلال حياتها الجنسيّة الخاصّة.
حاولت السامريّة أن تتحوّل نحو يسوع. حوّلها يسوع إلى رجلها بقوله: "اذهبي ادعي رجلك وتعالي إلى هنا"؛ فيسوع لا يُريد أن يدخل المرأة في الحياة الروحيّة إذا كانت تمزج بين الحياة الروحيّة والحياة الجنسيّة. رجلها للحياة الجنسيّة ويسوع للحياة الروحيّة. عفّة يسوع تكمن في عدم إجابته على حاجة المرأة الجنسيّة ليستطيع جذبها إلى نوع آخر من الشوق.
اكتشفت المرأة أنّ حياتها لن تستطيع أن تروي غليلها. ففي عمق هذه الحياة هناك نقص يدفعها لتبحث، من رجل إلى آخر، عن اللذّة والأمان. يقول المبدأ النفسيّ إنه عندما يبحث الإنسان عمّا ينقصه، يبحث في الوقت عينه عن الاستقرار والأمان، أي عن تكرار ما يعرفه، عن تكرار اللذّة التي يعرفها؛ كما هي حال المرأة السامريّة بانتقالها من رجل إلى آخر. كشف لها يسوع أنّ وراء اللذة التي تمتزج بالحاجة، هناك شوق يبقى غير مرتو لأنها لا تراهن على الحبّ.
يُظهر لها يسوع بأنّها إن أرادت أن تتوقّف عند جسدها ولذّته، لن تستطيع الوصول إلى الأبعاد التي يتوق إليها كيانُها. فيسوع لم يحقّق طلب المرأة، بل دعاها إلى الارتفاع إلى مستوى آخر. سيجعلها تكتشف أنّها، من خلال جميع الرجال الذين سعت معهم إلى إطفاء غليلها ومن خلال حاجتها إلى الاستقرار ومن خلال رغباتها الجسديّة، كانت تبحث عن شيء آخر. لقد رأت في يسوع الشخص الذي يملأها. لم يقتصر عمل يسوع على البُعد النفسيّ فقط بل تخطّاه إلى البُعد الروحيّ: "لو كنت تعرفين عطيّة الله... الآب يبحث عن عابدين بالروح والحق...".

خاتمة
انطلق يسوع من حياة السامريّة اليوميّة والشخصيّة. كشف لها بعضًا من أسراره: قال لها ماذا يمكنه أن يعطيها، كشف لها من هو. تكلّم معها أيضًا عن مغامراتها الخاصّة. لم يخش ما سيقوله التلاميذ عندما سيرونه يتكلّم معها. بهذه الطريقة كشف لها أنّه مختلف عن كلّ الذين التقت بهم في السابق. لم تعرف من هو، ولكنّها رأت أنّه لا بدّ من أن يكون المسيح لكي يتكلّم بهذه الطريقة.
وجدت هذه المرأة في يسوع ما كانت تبحث عنه ربّما في علاقتها السابقة. كلام يسوع جعلها تكتشف الفرح الذي يتخطّى النشوة، كشف لها قيمتها التي تتخطّى جمالها، كرامتها التي تفوق سحرها. جعلها تنفتح على علاقة تُروي غليلها، على تبادل لا يرتكز فقط على حاجات الجسد كالعطش بل على الشوق الذي يسعى متخطّيًا الجسد. فالحبّ يكشف أنّه إذا لم يكن بالإمكان امتلاك الآخر فكلّ لقاء يمكن أن يكون انفتاحًا على اتّحاد قلبيّ بواسطة الحقّ الذي يعطي نفسه وعلى اتّحاد بالكلام الذي يُحييه الروح. إنّه السؤال الذي أوصل يسوع إلى كشف حقيقة الآب وحقيقة عبادته بالروح والحقّ.
3- قراءة سيميائيّة مبسّطة
تنطلق القراءة السيميائيّة للقاء يسوع بالسامريّة من عدّة ملاحظات أوليّة: أولاً، حديث يسوع مع السامريّة كان مستحيلاً ولكنّه تمّ؛ ثانيًا، إنّه حديث بشكل أساسيّ من طلبات لم تلبث ولكن لن يخرج أحد منه مكسوفًا؛ ثالثًا، إنّه حديث تتداخل فيه المواضيع بشكل غير مفهوم قاطعة سياق الحديث في معظم الأحيان ولكنّه ينتهي بمعرفة. والسؤال الطبيعيّ الذي تسعى هذه القراءة للإجابة عنه: ما هو المنطق الذي تتداخل فيه مختلف المواضيع لتؤلّف قصّة متكاملة ذات معنى؟
أ- أقسام النصّ الكبرى
الإطار الذي تدور فيه المناقشة هو السامرة التي تظهر بالنسبة إلى الأشخاص الأساسييّن، يسوع وتلاميذه، كمكان عبور "ضروريّ" من اليهوديّة حيث وضع يسوع حذا لطقوس العماد، إلى الجليل حيث سيتابع أعماله النبويّة. ليس هناك من برنامج مُحدّد مسبقًا للتنفيذ في السامرة.
أمّا الإطار المباشر فيبدأ باللقاء بين سامريّة غير مسمّاة ويهوديّ هو يسوع. ستجري محادثة يفتتحها طلب من يسوع: "أعطيني لأشرب". إنها محادثة غير طبيعيّة لسببين يذكرهما النصّ نفسه: "لا أشياء مشتركة بين يهود وسامرييّن"، "لا يتكلّم (المعلّم، رابّي) مع امرأة (في العلن)".
تُقسم المحادثةُ إلى قسمين، مع السامريّة أولاً ثمّ مع التلاميذ. والفصل بينهما سهل، لأنّه عندما تظهر الأولى يكون الآخرون قد ذهبوا، وعندما يعود الآخرون تذهب الأولى. من خلالهم يبرز موضوعان للمناقشة: موضوع الماء وموضوع الطعام. إنّها مسألة أكل وشرب؛ وبالرغم من ذلك لا أحد يأكل أو يشرب: مبادلة الكلام لها قيمة في حدّ ذاتها. مع السامريّة هناك موضوعان آخران يدخلان في المناقشة: موضوع "الرجل- الزوج" وموضوع "أمكنة العبادة". يجب بالتالي الأخذ بعين الاعتبار تسلسل المواضيع: الماء، الزوج، أمكنة العبادة، الطعام.
ينتهي النصّ بذكر إقامة يسوع يومين في السامرة نزولاً عند طلب السامرييّن الذين سيتعرّفون عليه كمخلّص العالم.
ب- طريقة عرض موضوع الماء وموضوع الطعام
هناك تطوّر في مجمل النصّ يمكننا أن نعتبره انتقالاً من عدم المعرفة. فالنصّ الذي بدأ بحذر وعداوة (بين اليهود والسامرييّن) سينتهي بالثقة والضيافة حيث سيكتسب السامريّون الإيمان بيسوع كمخلّص العالم. بالمقابل، هناك صعوبة في شرح هذا التطوّر بالتفصيل. فبين طلب الشرب وعرض الطعام، سيتطوّر النصّ بحيث تنجح "المعرفة" حيث فشل الطلب المادّيّ.
الطلب المادّيّ سيفشل، لأنّ هناك نوعين من الماء ونوعين من الطعام. هناك الماء الذي يُشرب والذي يُستقى من قعر البئر، وهناك الماء الذي يتفجّر للحياة الأبديّة. الأوّل هو على مستوى ملموس، أما الثاني فهو معنويّ: يمكن التكلّم عنه ولكن لا يمكن لمسه. هذا الانتقال من المستوى المادّيّ إلى المستوى الرمزيّ والذي نلاحظه أيضًا بشأن عنصر الطعام (الطعام الأرضيّ من جهة، والطعام الآخر من جهة أخرى) يمكنه أن يشرح كيف ينتقل النصّ من طلب حاجة إلى عمليّة "المعرفة".
توضيح هذين المستويين لا يشرح عدم التواصل الذي نجده في طريقة سرد المواضيع المطروحة. هناك تغيير على المستوى الخارجيّ بين مسألة الماء ومسألة الزوج. فطلب يسوع: "اذهبي ادعي رجلك" يخلق نوعًا من عدم الاستمراريّة في الحديث. فحيث نتوقّع شرحًا مفصّلاً عن اختلاف الماء المُستقى من البئر والماء الذي يُعطيه يسوع، نجد هذا الطلب الغريب دون أيّ رابط مع ما سبقه. بالمقابل، نلاحظ أنّ طلب يسوع لا يُنهي الحديث بل على العكس يتابع النقاش ويشكّل متابعة للسرد حتّى يصل إلى كشف "المعرفة". هناك إذًا استمراريّة ضمنيّة بين المسألتين. من هنا أنّه نستخلص أنّه علينا البحث خارج موضوعي الماء والطعام عن المنطق الذي يربط النصّ بمجمله. بمعنى آخر، عدم استمراريّة المواضيع معبّرة في حدّ ذاتها.
ج- انفتاح الاثنين على ثالث
إذا انطلقنا من بدء الحوار، نرى لو انحصر بالتركيبة المزدوجة "يهوديّ" و"سامريّة" لما تمّ أيّ حوار. تخطّي يسوع لهذه الثنائيّة جعل الحوار ممكناً. هذا التخطّي للثنائيّة نجده في النصّ بمجمله.
إذا توقّفنا على موضوع الماء، نلاحظ أنّ السامريّة لا تخرج من التركيبة الثنائيّة التي انحصرت فيها منذ مطلع الحوار. لقد رأت نوعين من الماء، الماء الذي يُعطيه السامريّون (هي) والماء الذي يعطيه اليهود (يسوع)؛ لكنّها كانت تراهما على المستوى نفسه، المستوى المادّيّ، لأنّها طلبت من الماء الذي يعطيه يسوع لكي لا تعود إلى البئر لتستقي. هذا يُظهر أنّها لا تزال بعيدة عن فهم الطبيعة الخاصّة لنوع ثالث من الماء، ماء رمزيّ. عدم الفهم هذا يشرح معنى إدخال يسوع لصورة "الزوج".
سعى يسوع من خلال أمره للمرأة بالذهاب وإحضار رجلها إلى إخراجها من حالتها الوهميّة (ماء يمنع العطش المادّيّ) وإدخالها في وضع حقيقيّ. أمرُ يسوع أجبر المرأة على الإجابة بحسب الحقّ. طلبت منه المرأة أن يعطيها هذا الماء (آ 15)؛ بالمقابل طلب منها أن تدعو رجلها (آ 16). القاسم المشترك بين هذين الطلبين هو أنّ كلّ سائل يطلب من الآخر ما ليس عنده. من هذا النقص بالذات ستخرج الحقيقة.
من جهة أخرى، طلبُ يسوع ليس سؤالاً بل أمر، فكان بالتالي أمام المرأة حلاّن: إمّا أن تدعو زوجها أو أن تجيب بأن ليس لها زوج. جواب المرأة كان مبهمًا؛ لكنّ يسوع سيرفع الإبهام مصحّحًا أو مكمّلاً معنى الجواب: لا رجل لي يجب أن تفهم انطلاقًا من الحصول على خمسة والذي معها الآن ليس بزوجها. لكنّ النقطة الحاسمة من تفسير يسوع هو ربط هذه المعلومات بحسن قول المرأة وبقولها الحقّ (آ 17 ب و18 ب). لأوّل مرّة في النصّ تظهر كلمة "الحقّ". تُطلق بشأن الزوج وليس بشأن الماء. إدخال هذا "الثالث" في المحادثة أجبر المرأة على أخذ موقف الحقّ. أضف إلى ذلك أنّ صورة هذا "الثالث" تأخذ أهمّيّتها ليس من حقيقتها (إذ لا زوج لها) ولكن من وجودها الرمزيّ. فالزوج هو شخص رمزيّ كما هو الماء الذي يعطيه يسوع.
من هنا يمكننا أن نشرح التبدّل المفاجىء لمواضيع المناقشة: لا استمراريّة على المستوى الكلاميّ، لكن التبدّل ضروريّ من أجل حمل المرأة على الوقوف وقفة "حقّ". هذا "الثالث" أخرجها من الحلقة المفرغة التي كانت تدور فيها (هذا الماء أو ذاك). إدخال هذا الموضوع الثاني (موضوع الرجل) أنهى الحديث حول الماء دون إيجاد مخرج إن على مستوى المعرفة أو على مستوى التنفيذ (لم تعط المرأة ماء للشرب، ولا يسوع أعطى الماء الوهميّ الذي تطلبه المرأة)؛ لكنّه سمح لتطوّر اللقاء بعلاقة على مستوى "الحقيقة" إذ إنّ يسوع يعترف بأن قول المرأة حقّ.
التركيبة الثنائيّة تظهر بوضوح أكثر في موضوع أماكن العبادة: العبادة على هذا الجبل (حيث عبد الآباء تتوازى مع بئر أبينا يعقوب) والعبادة في أورشليم. فالازدواجية في أمكنة العبادة تؤدي إلى نوع من "المضاربة" ولا يمكن معرفة الحقيقة. ففي هذا الجوّ يمكننا أن نتوقّع مناقشة لا تنتهي، وبالتالي استحالة الوصول إلى حلّ. ولكنّنا نلاحظ تطوّرًا في حديث المرأة بعد الامتحان الذي مرّت فيه: فهي لا تؤكّد ولا تتكلّم بسخرية، إنها تسأل. جواب يسوع لا ينفي الاختلاف بل ينفي "المضاربة": "أنتم تعبدون ما لا تعرفون، نحن نعبد ما نعرف". يسوع لا يُلغي التقليد السامريّ، فجبلهم هو مكان عبادة. لكنّ أورشليم هي مكان عبادة متميّز بالمعرفة. هذا التمييز بين المكانين هو خطوة أولى نحو الحلّ، لأنّ المعرفة لا تكفي بل يجب الدخول في حقل "الحقيقة". ويظهر "مكان آخر"، مكان ثالث محدّد على أساس الحقيقة: "بالروح والحقّ".
من جهة أخرى، إدخال اسم "الشخص" الذي "يُعبد" سيُساعد على تخطيّ التناقض بين يهود وسامرييّن: إنّه الآب. فالتركيز على الأماكن الجغرافيّة يحمل خطر نسيان الذي هو موضوع العبادة. والعبادة ليست مرتبطة بأشخاص (يهود أو سامرييّن) إنّها مرتبطة بالحقّ (العابدون الحقيقيّون). أمّا مكان العبادة الذي يتحدّث عنه يسوع فهو رمزيّ، بمعنى أنّه لا يرتبط بمكان محدّد. يأتي هذا المكان الرمزيّ كمكان "ثالث" غير مرتبط بأرض لئلاّ يُصبح مكانًا "مضاربًا" فلا يمكنه أن يفرض نفسه.
ثنائية أماكن العبادة (هنا أو هنا) أدّت إلى ثنائيّة في الزمن (الماضي والمستقبل). فالماضي يُميّز عبادة السامرييّن، عبادة آبائهم، والمستقبل يُميز عبادة اليهود إذ يعتبرون أورشليم المكان الذي تجب فيه العبادة؛ فأيّهما هو الصحيح؟ بين ماضي التقليد السامريّ ومستقبل التجديد اليهوديّ يأتي "حاضر" يسوع كزمن "ثالث". إنّه الزمن الذي لا يدوم وفي الوقت نفسه يدوم أبدًا. "تأتي ساعة، وها هي الآن"، "لا في هذا الجبل ولا في أورشليم": زمن "ثالث" ومكان "ثالث" يتّحدان لتحديد العبادة الحقيقيّة لله الآب الذي هو روح. والذي يتكلّم الآن، في الساعة الحاضرة، ويكشف حقيقة الآب ويتخطى كل خلاف ثنائيّ ألا يكون المسيح؟
"أنا هو، المتكلّم معك"، كلمة قاطعة كسيف سليمان. قطعت بين ماء وماء، بين طعام وطعام، بين مكان عبادة ومكان ثان، بين ماض ومستقبل. إنّها كلمة "الحقّ" التي تتناغم مع الله الذي هو روح فتُقال بواسطة الروح. أمام هذه الكلمة التي ترسم حدًّا فاصلاً يجب الاختيار: اختار الفريّسيون في مطلع النصّ والسامريُون في نهايّة النصّ.
د- الحقّ عطيّة
القسم الأخير من النصّ الذي يروي حدث يسوع مع تلاميذه، يخضع للهيكليّة نفسها التي رأيناها في موضوع الماء وموضوع أمكنة العبادة. يُعالج الموضوع انطلاقًا من "الطعام" ومن تحضيره من خلال "الحصاد". هناك تمييز بين الذين تعبوا في عمل مضن والذين حصدوا ونالوا ثمرة أتعاب الزارعين. هكذا نجد الثنائيّة: آخر هو الزارع وآخر هو الحاصد؛ لكن الاثنين سيفرحان معًا بالغلّة. تبرز هذه الغلّة التي سيلتقي حولها الاثنان المختلفان بفرح كمكافأة أو بالأحرى كعطيّة. وعندما يولي يسوع التلاميذ مهمّة الحصاد يمنحهم في الوقت نفسه فهم "الحقّ" (يصبح القول حقّ) على أنّه عطيّة، دون تعب، مع أنّ العمل ضروريّ من أجل الاستعداد والتحضير والحصاد.
موضوع العطيّة نجده منذ مطلع النصّ: "أعطيني لأشرب". والحديث سيقود يسوع إلى الكلام على الماء الحيّ الذي يهبه دون مقابل. والذي يستطيع الاستفادة من هذه العطيّة هو ذاك الذي يخرج من ثنائيّة المستوى المادّيّ وينفتح على مستوى الكلام الذي يقوله يسوع.
في خاتمة النصّ أيضًا نحد صورة "العطيّة في لقاء يسوع بالسامريّين. العمل الذي قامت به المرأة مهّم لأنّها حضّرت لاستقبال يسوع؛ والسامريّون أنفسهم قد آمنوا بسبب رواية المرأة بالرغم من أنّ هذا الإيمان غير كاف. استضافة يسوع منحت هذا الإيمان شيئًا آخر: معرفة "حقّة" بأنّ يسوع هو مخلّص العالم. لا أحد سيعلم ما قاله يسوع خلال اليومين اللذين أمضاهما عند السامرييّن؛ لكننا نعرف أنّه كلّمهم وأن كلمته وصلت إليهم. فكلمة يسوع هي التي تهب مجّانًا عطيّة "الحقّ". فالحقّ لا يُنسب إلى ما قاله هذا أو إلى ما أجاب به ذاك؛ فالحقّ يهبط كعطيّة على مثال ذاك الضيف الذي استقبله السامريّون.

خاتمة
من بين القراءات المختلفة لنصّ بيبليّ، توقّفنا عند ثلاث قراءات لرواية مرور يسوع بالسامرة. كلّ قراءة، بحسب طريقتها الخاصّة، أبرزت ناحية معيّنة من النصّ أو بالأحرى زواية تحلّل على ضوئها مضمون النصّ. لن نلخّص ما ورد في القراءات الثلاث التي عرضناها بشكل سريع. قراءات مختلفة، والخلاصات التي وصلت إليها مختلفة أيضًا. فهذه القراءات، إن دلّت على شيء فهي تدلّ على غنى النصّ البيبليّ وبخاصّة إنجيل يوحنّا. لن ندخل في جدل حول أهمّيّة هذه القراءة أو تلك لكي لا نقع في الفخّ الذي وقعت فيه السامريّة قبل أن تعرف أن كلام يسوع- وبالتالي كلام الكتاب المقدّس- يأخذ أبعادًا ومقاييس تختلف عن مقاييسنا الماديّة. فالروح والحقّ يُبقيان فهمَ الكتاب مفتوحًا ما دام الروح يهبّ وما دام الابن يوحي الآب بالروح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM