الفصل الثامن والعشرون: لغة الرموز في إنجيل القديس يوحنا

 

الفصل الثامن والعشرون
لغة الرموز في إنجيل القديس يوحنا
الخوري جان عزام

مقدمة
دراسات عديدة أكَبَّتْ على البحث في موضوع لغة الرموز في إنجيل يوحنا. وكثير منها سلّط الضوء على الخلفية التاريخيّة أو اللاهوتية والفلسفية الممكنة التي تقف وراء استعمال هذه الرموز والمعاني التي تحملها.
وإذا كان كثيرون يعتقدون بأن يوحنا متأثر بنوع من الفكر الغنوصي وكذلك لغته الرمزية، فإن بعض هؤلاء يجزمون بأن الانجيلي إنّما يحارب هذا الفكر الغنوصي مستعملاً بعض البنى الفكرية والفلسفية التي تساهم في نقض نظرتهم إلى المسيح والخلاص والمعرفة وانقسام العالم إلى عالمين. وهذا ما يشرح استعماله لغة تشبه لغتهم.
غير أن آخرين يؤكدون بأن الغنوصية لم تكن منتشرة في عصر يوحنا كما في العصور اللاحقة، ويشكّون في أن يكون لها تأثير مباشر على الإنجيل في مضمونه أو في أسلوبه، ويفضّل بعض هؤلاء أن يبحثوا في تأثير الفيلسوف اليهودي فيلون، المتأثر بدوره بالفلسفة الافلاطونية. وما يسمح بهذه المقاربة مع إنجيل يوحنا هو خاصة موضوع اللوغوس الوارد في مقدمة الإنجيل. وهناك آخرون أيضًا يفضِّلون البحث في عالم جماعات قمران والمعمدانيين عن تأثيرات خاصة وربما مباشرة على الجماعات التي تكوَّن الانجيل في داخلها. والمعروف أن مواضيع كالتطهر بالماء والتمييز بين الحق والباطل وروح الله وروح العالم وعالم النور والظلمة أو أبناء النور والظلمة كلها مواضيع مهمة جدًا في نتاج هذه الجماعات الادبي والديني. والذين يجدون هذه المواضيع نفسها في إنجيل يوحنا يبحثون عن مقاربة ما بينها.
في كلّ حال، وأيّاً تكن التأثيرات المباشرة أو غير المباشرة لهذه المصادر التي ذكرناها، فإنها تبقى من خارج المحيط الطبيعي للعالم الذي تكوَّن فيه الإنجيل. فالرسول يوحنا وتلاميذه الذين أوصلوا لنا الانجيل في صيغته النهائية، ينطلقون أولاً من الحدث التاريخي المؤسّس لموضوع الاناجيل كلها أعني شخص يسوع المسيح، فإنجيل يوحنا كباقي الاناجيل يبقى اعلانًا مميزًا لحدث يسوع المسيح الذي حقق التاريخ الخلاصي بكماله. وشخص المسيح الحيّ في الكنيسة القائمة على حدث موته وقيامته وروحه القدوس هو الذي يتحكّم بمواضيع الاناجيل كلّها وخاصة في إنجيل يوحنا. والكنيسة تعبّر عن إيمانها واختبارها في احتفالات وطقوس لا شك أنها بقيت لفترة طويلة مرتبطة باحتفالات وطقوس الاعياد اليهودية ولكنها شذَّبتها شيئًا فشيئًا وأحلَّت محلّ البعض منها احتفالات خاصة بها وأهمّها احتفال المعمودية والافخارستيا.
أخيرًا لا نستطيع أن نفهم أي إنجيل وبالأخصّ الانجيل الرابع المرتبط بحياة جماعات حيّة جدًا ونشيطة في التعليم والتبشير الاّ من خلال خبرة التعليم والتبشير عينها التي حوّلت الانجيل- الخبر السار إلى مجموعة كرازات أهمّهـا كرازات المعمودية كما سنظهر ذلك لاحقًا وكرازات الافخارستيا وذلك في خدمة إيمان المنتمين الجدد إلى هذه الجماعات. من هنا فإننا نترك للقارئ مهمّة مراجعة الدراسات العديدة الموجودة في هذا الكتاب والتي تتحدّث عن التأثيرات الخارجية على الانجيل، ونكب نحن على ابراز ما نعتبره تأثيرات داخلية مباشرة نلخصها بما يلي:
1- عرض بعض أهم الرموز الواردة في الانجيل وتحليل البيئة اللّغوية والأدبية التي تحتويها.
2- التأكيد على الخلفية الكرستولوجية المتفوّقة التي تتحكّم باختيار الأحداث والخطب التي تتعلق بنشاط المسيح التبشيري وبالتالي تؤثر على الرموز ومعانيها.
3- التأكيد على البعد التبشيري التعليمي في شرح الرموز وعلاقتها بأسرار التنشئة المسيحيّة وبخاصة المعمودية والافخارستيا.

1- الرموز وبنيتها
من الناحية اللّغوية والأدبيّة لا بدّ من التمييز بين الكلمة وما تعنيه (Signifié-Signifiant)، أمّا في اللغة الرمزية فيجب أن نميّز أيضًا بين هذه وما نسميه "المعنى الواجب". فكلمة ماء قد تعني اشياء عديدة مثل الانتعاش والارتواء أو الصفاء والراحة، ولكنها في إطار مسيحي معيَّن يتضح أنها تعني العماد حصرًا.
ما نبحث عنه هنا إذًا هو المعنى المقصود في يوحنا للرموز التي استعملها والتي تتنوع بحسب الفصول والمواضيع التي يتطرّق إليها. مع إننا نلاحظ تشديدًا على بعضها دون البعض الآخر. فما هي هذه الرموز وما هي البنية الأدبيّة والفكرية التي تتضمنها.
أ- بعض أهم الرموز اليوحنوية
هنالك أولاً رموز مأخوذة من الحياة اليومية مثل: الماء، الخمر، الخبز، السمك، الدم، أو من الواقع العملي كصورة الراعي والصياد، ومشهد الكرمة.
من الناحية الانتروبولوجية البحتة فالنظر والسمع يحتلاّن موقعًا مهمًا بين الرموز الانجيلية التي ترتبط بالإيمان.
كذلك حياة الإنسان منذ الولادة وحتى الموت تبدو معينًا خصبًا للرموز: فالولادة الجسديّة وإرادة اللحم وإرادة الرجل تقابلها الولادة من الله (1: 13)، والقلق البشري في أن يجد الإنسان طريقًا لحياته ومعنىً لها لا يجد له جوابًا سوى في المسيح الذي هو الطريق الذي يقود إلى الآب (14: 2) بل هو الطريق والحق والحياة (14: 6).
كذلك فالحياة الادبية تظهر الفرق بين الخير والشر ويُرمز إليها بالنور والظلمة، وبين الذي أرسله الآب أي يسوع المسيح والذين هم ابناء ابليس وبخاصة من يسميهم الإنجيل "اليهود" أو "العالم".
أيضًا البعد المكاني له حيّز كبير في الرمزية الانجيلية، فما هو من فوق وما هو من أسفل، والبئر في سيخار، والهيكل في أورشليم، والمدينة المقدسة نفسها، كلّها ابعاد مكانية تحتوي على قدرة رمزية كبيرة مرتبطة باعلانات يسوع عن ذاته ورسالته.
ولا ننسى طبعًا البعد الزماني المهم جدًا في الإنجيل: فإلى جانب ذكر الارقام المرتبط بالايام خاصة في الفصول 1-2، والارقام الرمزية المستعملة في عدد كبير من الأحداث مثل عرس قانا الجليل (2) وحديثه مع السامرية ومع تلاميذه في الفصل 4، وكلّ المعجزات التي صنعها والتي تلعب الارقام فيها دورًا مّهمًا في تحديد اتجاهاتها الرمزية، نجد أيضًا وخاصة ارتباط اللغة الرمزية بالازمنة القوية مثل الاعياد اليهودية وبخاصة الفصح والمظال والتجديد ويوم السبت وكذلك بالاعراس والجنازات، واستعمال الرموز في هذه المناسبات يتعمق بقدر ما يدخل الانجيلي في تفاصيل طقوسها، مثل الكلام عن النور والماء الحيّ اثناء عيد المظال وهي تُرجع الى معنى العيد والطقس المرافق له برشّ الماء على المؤمنين، أو الكلام عن التكريس في 10: 36 المرتبط بطقوس تجديد الهيكل وغيرها: "الذي كرسه الآب وأرسله" والأشخاص أنفسهم يشكّلون شخصيات رمزية مثالية مثل التلاميذ والتلميذ الذي يحبّه، والسامرية، ونيقوديمس، والأعمى منذ مولده، ولعازر وبطرس وتوما ويهوذا الاسخريوطي والمرأة والمؤمن والجمع والفريسيّين والعالم وابليس ومن يسمّيهم باليهود وإخوة يسوع...
كل هذه الشخصيات ترتبط بأشخاص تاريخيين ولكنّها تصبح في الانجيل مثالية بمعنى أنها تدلّ على نوع من الأشخاص الذين يتوجّه إليهم الانجيل في عصره أو يرغب في إظهار سلبياتهم أو إيجابياتهم تجاه الايمان بالمسيح. ومنها الملاحظ أن الانجيل يحشر هؤلاء في صور مبهمة فيسمّيهم "اليهود" أو "الجمع" أو "العالم" وكأنه يريد أن يؤكّد أن انقطاعهم عن الايمان بالمسيح يجعلهم بدون هويّة محددة، بينما نراه يؤكّد على هوية الذين قبلوا الايمان وأصبحوا في نور المسيح.
ومع أن أنواع الرموز المستعملة متعددة ومنها ما لم نذكره هنا، فإن ما يربط بينها في حبكة روائية وعقائديّة متماسكة فهو شخص المسيح نفسه. ولا نغالي بالقول أن إنجيل يوحنا هو الانجيل الاكثر تركيزًا على شخص المسيح: فهو المحور لكلّ الأحداث والأحاديث، وغاية كلّ الرموز. من هنا فلاّ بدّ من فهم البنية الرمزية التي استطاع الانجيلي منها خلالها أن يربط الرموز بعضها ببعض، وأن يعطيها معناها الكرستولوجي المميّز.
ب- البنية الرمزية
يتميّز الاسلوب الرمزي عند يوحنا بكونه ذات طابع وعظيّ، أي أنّ النص ينطلق من حدث واقعي: عيد، لقاء، شفاء أو حتى خطاب يلقيه يسوع؛ ثم يتحول الامر إلى حوار أو تعليم كجواب على جدال أو سؤال أو تساؤل. وهذه الاجوبة تعمّق بدورها الرسالة التي يريد المسيح أن يوصلها الى السامعين. هكذا فإن الصور والرموز تترابط فيما يمكن اعتباره تصويرًا رمزيًا متكاملاً ومتتابعًا على وتيرة واحدة، وإن بمستويات متعددة كما سنرى ذلك لاحقًا. ومن مميزات هذه البنية أنها تخلق انشدادًا بين الرمز والمرموز إليه بسبب عدم الارتباط الاصلي بينهما، خاصة أن الامر لا يُعطى بمثابة تشبيه بين الرمز والمرموز إليه، بل بمثابة مطابقة تامه تنقل خصائص الرمز إلى المرموز إليه، وتجبر السامع على تفسير الرمز انطلاقًا من ارتباطه الوثيق الجديد بالمرموز إليه. فقول يسوع "أنا نور العالم، أو أنا الكرمة الحقة أو أنا خبز الحياة وغيرها"، يُجبر السامع على البحث عن المعنى المراد به في هذه المطابقة الجديدة بين النور والكرمة والخبز وشخص يسوع. ولا يمكن إيجاد المعنى المقصود إلاّ بالإصغاء الشديد إلى المعاني اللاحقة التي تظهر في سياق الحديث أو الأجوبة على الأسئلة المطروحة.
ومرة أخرى نشدّد على الدور الكبير الذي تلعبه هذه البنية الرمزية البسيطة في شدِّ السامع إلى الاصغاء ورغبة التعمق. مثال على ذلك، تعبير "أنا نور العالم": فهو قد يشير إلى نور الخلق الإلهي الذي يبدّد الظلام، أو إلى عمود النار الذي كان يرافق الشعب في مسيرته في الصحراء أثناء الليل، أو إلى نور المعرفة والحكمة بحسب التيار الحكمي والرؤيوي...
وتعبير "أنا الكرمة الحق" يشير إلى خصب أرض الميعاد، وقد يشير أيضًا إلى إسرائيل نفسه بكونه كرمة الرب، ويشير أيضًا إلى صورة النموّ الذي ينتج عن التغذية، وقد يشير إلى الازمنة الاسكاتولوجيّة المسيحانية... وهذه كلّها رموز ممكنة. ثم هناك صورة ارتباط الكرمة بالأغصان التي تتطور بدورها في امكانية رموز عديدة. وعلى السامع أن يتنبّه إلى معطيات عديدة أخرى في النص عينه كالكلام عن الآب والتشذيب والثبات والثمار والانفصال... وكلمة "حقّة" بالنسبة إلى الكرمة تشير إلى كرمة مزيفة قبلها أو في مواجهتها.
ولكي نفهم البنية الرمزية لا بدّ أن نوضح المستويات المتعددة لقراءة الرموز في أكثر النصوص. فلنأخذ أعجوبة قيامة لعازر: هذا الحدث يوجه انظارنا إلى ابعاد رمزية عديدة تهيِّئ له وتدعمه وهي بدورها تحققها أو تشير إليها.
فصور "الليل" "والنهار" "ونور العالم" الواردة في الآية 9 تدخل مفهومًا جديدًا على صراع الموت والحياة الظاهر في حدث موت لعازر وقيامته التي هي انتصار الحياة على الموت، وهذا ما يشكّل المستوى الأول للرمز. أما المستوى الثاني فهو تأكيد حقيقة القيامة من الموت التي كان يؤمن بها الفريسيون ارتكازًا على سفر دانيال 12 وسفر المكابيين، والتي تعبّر عنها مرتا بقولها للمسيح: "أنا أعرف أنه سيقوم في اليوم الأخير". والمستوى الثالث هو قول المسيح أنه هو الذي يحقق بشخصه "هذا اليوم الآخر" إذ يعلن: "أنا القيامة والحياة من آمن بي وإن مات فسيحيا". ولكن هناك مستوى رابعًا أيضًا إذ إن قيامة لعازر تصبح بدورها رمزًا لقيامة المسيح اللاحقة وهذا واضح من سياق النص وارتباطه بمؤامرة الفريسيين عليه لقتله.
ولكن المدهش في هذا النص أننا نكتشف مستوى خامسًا للقيامة كرمز أساسه الكرستولوجيا المتفوّقة أو اعلان الجديد المطلق الذي يحدث بالمسيح وبالمسيح وحده.
فالمستويات الاربعة الاولى تدور كلها في خانة المفهوم الحسي للحدث الرمز: قيامة من الاموات أي أعجوبة تشير إلى انتصار الحياة على الموت والنور على الظلمة، أو المفهوم الايماني: أي تأكيد الايمان بالقيامة الذي كان موجودًا أصلاً في العهد القديم. أو المفهوم المسيحاني: أي تحقيق ما كان وعدًا في شخص المسيح نفسه. أو المفهوم الرمزي البحت: أي أن هذه القيامة تصبح رمزًا للقيامة الحقيقية التي ستحدث بالمسيح.
أما المستوى الخامس فهو أن الرمز نفسه يصبح عاجزًا عن احتواء المعنى الطبيعي أو الممكن، ويصير من الضرورة أن نجد ما "يجب أن يعنيه هذا الحدث الرمز". فماذا يجب أن يعنيه؟
بعد أن يؤكّد المسيح أن "من آمن بي وإن مات فسيحيا" والذي هو في اطار البنية الطبيعية لرمز قيامة لعازر أي: "مات" والايمان بالمسيح الذي تعلنه مرتا أخته يدفع باتجاه "احيائه" من جديد، يكمل المسيح قوله مؤكّدًا أن: "وكلّ من يحيا مؤمنًا بي لن يموت للأبد".
طبعًا لو كان المسيح قد اكتفى بالجملة الاول: "من آمن بي وإن مات فسيحيا" لكان قوله تأكيدًا لإيمان مرتا المرتكز على إيمان العهد القديم. والشيء الجديد الوحيد الذين يحمله يسوع أن القيامة تتم من خلاله هو. ولكن هذا لا يفسر قوله: "أنا القيامة!". إذًا الجواب على معنى القيامة كرمز في هذا النص يجب أن نجده في الجزء الثاني، الذي يؤكّد بأن الايمان بالمسيح يدخله في دائرة قيامة المسيح نفسه. وهنا لا نعني القيامة كحدث بل كمفعول خلاصي في حياة المؤمن: من يحيا مؤمنًا بي يختبر القيامة ومفاعيل القيامة. أي أن المؤمن بالمسيح لا يعود تحت سلطان الموت الذي غلب بقيامة المسيح، بل تصبح الحياة فيه دواء لعدم الموت. والمقصود طبعًا بكلمة "موت" هو الموت المعنوي، موت الخطيئة والذي تعبّر عنه افضل تعبير صورة الظلمة الوارد ذكرها في الآية 9.
بهذا المعنى نفهم قول المسيح لمرتا على باب القبر: "ألم أقل لك أنك إن آمنت ترين مجد الله؟ فليست قيامة لعازر هي مجد الله، بل التعرف إلى المسيح كونه "القيامة والحياة" هي مجد الله الذي ترمز إليه قيامة لعازر. وهذا واضح أيضًا من خلال قول المسيح للآب: "قلت هذا من أجل الجمع... لكي يؤمنوا أنك أنت أرسلتني". هكذا إذًا فالقيامة الحقيقية والدواء لعدم الموت، ليست في انتظار "اليوم الآخر" لتذوّق القيامة، ولا في حدث قيامة المسيح بحدّ ذاتها، بل في معرفة يسوع والايمان به بكونه المرسل من الآب. ونذكر هنا نص يو 17 الذي يؤكد على لسان يسوع: "الحياة الابدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا الذين أرسلته يسوع المسيح (17: 3). هكذا فصورة احياء لعازر هي مرتبطة بكلّ المعاني الرمزية الحسيّة والايمانية والمسيحانية المذكورة آنفًا ولكنها تسمو بفضل إعلان المسيح: أنا القيامة والحياة، إلى مستوى صورة الحياة الاقوى من الموت، أعني الحياة في الايمان بيسوع واختبار قدرة قيامته أمام كلّ موت معنوي وظلمة خطيئة.
هذا مثال عن البنية الرمزية التصاعدية التي يمكن أن نجدها أيضًا في اعجوبة تكثير الخبز، حيث إن المسيح يحقق الوعود المسيحانية بعطية "المنّ" كما في مسيرة الله مع شعبه في الصحراء. فهناك أيضًا فهم الايمان اليهودي أن هذا الخبز الذي كان يشبع جوع بني إسرائيل في الصحراء هو صورة للخيرات السماوية وللشريعة التي هي الكلمة التي تغذّي اسرائيل في إيمانه ومسيرته الايمانية على هذه الارض. ولكن المسيح يتخطّى هذين المعنيين اولاً باعلانه أنه هو نفسه هذا الخبز النازل من السماء، أي أنه يحقق بشخصه عطية الخيرات السماوية، ولكنه أيضًا يتخطى هذا المعنى، ويصل إلى إعلان تفوقه على العطية القديمة، لأن الخبز الذي أعطاه الله في الصحراء "أكله أباؤكم وماتوا"، "أما الخيرات التي أنا أعطيها فمن يأكل منها يحيا للأبد". مرة أخرى يعلن المسيح أن من يأكل من هذا الخبز لا يموت! والواضح هنا أيضًا أننا مدعوون إلى فهم رمز الحياة بالايمان بيسوع وفهم رمز الموت بعدم الايمان به.
ولا ننسى طبعًا المستوى الاسراري الذي يحقق الرمز، فيصبح جسد المسيح ودمه: "إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه فلن تكون فيكم الحياة".
هذان الحدثان، قيامة لعازر وتكثير الخبز هما مثالان لعدد كبير من النصوص التي تبدو لي بنيتها الرمزية الاساسية متقاربة ومتميزية بهذه الرمزية التصاعدية التي ترتقي من مستوى إلى مستوى حتى تصل بالسامع إلى مستو ى ما يجب أن يرمز إليه الرمز بحسب إرادة المسيح من الناحية التاريخية أو الإنجيلي- الكاتب من الناحية الادبية واللّغوية.
واعتقد أننا لا بدّ أن نتوقف قليلاً عند هذا الكمّ اللامحدود من تعبير "أنا هو" الموجود في الانجيل والذي يلاحظة جميع المفسرين. وبحسب رأينا فإن قول المسيح "أنا هو خبز الحياة" أو أنا هو الماء الحيّ، أو أنا هو القيامة والحياة، وغيرها، تبين الدور الموّحد لتعبير "أنا هو" بمعناه اللاهوتي في الكرستولوجيا اليوحنوية بالرغم من تعدّد الالقاب وتضارب بعضها في أكثر الاحيان. فأل "أنا هو" تلخص ما نسميه بالكرستولوجيا المتفوقة التي يسعى يوحنا إلى إظهارها والتي يبدو لي أن كلّ اللغة الرمزية والبنية الرمزية في الإنجيل هي مشدورة نحوها: والخلاصة هي أن المسيح هو ألـ يهوه الذي عرفه اسرائيل القديم بمثابة الإله الحاضر معه في التاريخ والذي جعله يختبر الحياة في قلب الموت. هكذا فالمسيح الحاضر في التاريخ الجديد هو الذي يعطي الحياة باشكالها المتعددة في قلب الموت المحيط بالانسان بمشاكله المتعددة.
أيضًا بالنسبة إلى البنية الرمزية فإننا نشير بسرعة الى دور الكاتب الانجيلي خاصة عندما يتدخل في النص لشرح الرموز أو لتعميق معناها اللاهوتي بالاتجاه الذي ذكرناه سابقًا (راجع 1: 6-8، 15- 18؛ 3: 31-36؛ 12: 37- 50 إلخ). في كل حال، هناك عناصر عديدة أخرى تساعد في فهم اللغة الرمزية اليوحنوية، كأسلوب التهكم الذي يشتهر به خاصة في الجدالات والحوارات الايمانية، واسلوب اللعب على التناقضات الذي يدفع باتجاه تعميق البحث عن المعاني الحقيقية وغيرها.
وما يمكننا أن نؤكده هو أن مثل هذه اللغة الرمزية الغنية جدًا والمعقدة في الوقت عينه، تجبرنا على أن لا نتجَّرأ أبدًا على شرح نص من خلال رمز واحد مهما يكن مهمًا داخل النص. بل وجب شرح الرموز الواحد تلو الآخر، ثم العودة إلى قراءتها معًا لفهم الواحد منها على ضوء الرموز الاخرى. وفي الغالب يكفي اتبّاع الانجيلي في عرضه التدرّجي للنص في مكوّناته الرمزية والعقائدية حتى لكشف لنا شخص المسيح ويترك لنا عناية تعميق سرّه في اللقاء معه من خلال إحدى الشخصيات التي يتكلم عنها النص. فبعد كلّ بحث وتدقيق في النصوص والرموز واللغة والاسلوب والمعاني لا بدّ أن يحدث هذا اللقاء الشخصي مع المسيح كما يتجلى في النص. وهذا هو المستوى الاخير لفهم الرموز كلها، لا في كونها تنتمي إلى هذه الفلسفة أو إلى تلك العقيدة، بل في أنها تشير إلى شخص المسيح وتساعد في إظهاره أنه المرسل من الآب وكلمته، ويهوه الحاضر مع كنيسته، والذي وحده يعطي حياة ابدية في كلّ ما يقوله ويفعله.

2- دور الكرستولوجيا المتفوقة في فهم الرموز اليوحنوية
عندما نتكلم عن كرستولوجيا متفوقة فإننا نعني أن يوحنا يريد أن يظهر تفوق المسيح على كلّ شخصيات العهد القديم وأيضًا على أعياد العهد القديم واحتفالات اليهود الطقسية. هذا لا يعني رفضًا لهذه كلها أو انقطاعًا عنها، بل بالعكس فهي تبقى نقطة الانطلاق التي "تبدأ". ولكن المسيح لا يكمّلها فقط كما في الاناجيل الأولى، بل يعطيها معنى جديدًا كليًا. واعتقد أن كثيرًا من شراح يوحنا يتفقون معي على هذا الامر. ما نريد أن نظهره هنا هو أهمية الرموز المأخوذة من العهد القديم أن لجهة الاشخاص أو لجهة الاحداث ورموزها، أو لجهة الأعياد والطقوس. واعتقد أن مجرد التذكير بها يكفي لتبيان أحد أهم مصادر اللغة الرمزية في يوحنا. وبحسب رأي فإن المشكلة الاساسية المطروحة في الانجيل هي تلك المتعلّقهّ بالواقع الجديد الناتج عن الانفصال التام بين اليهودية والمسيحية بعد مجمع يمنية والذي حرم المسيحية ولعنها وأعلن أنها هرطقة. فالمسيحية تجد نفسها هنا في واقع جديد لا تُحسد عليه: فهي في الوقت عينه مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ الخلاصي الذي تحقق في شعب اسرائيل وإيمانه وطقوسه؛ ولكنها تجد نفسها بدون رباط مع واقعه الحالي الذي يرفض "رؤية" نور المسيح والايمان به. وأعتقد أن هذا ما يؤكّد أن البنية الاساسية للإنجيل والهدف من كتابته حتى في صياغته الاخيرة، تتعلق خاصة بالجواب على هذه المشكلة. من هنا، فإن الانجيل يبرز العلاقة الوثيقة بين المسيحية والعهد القديم مع كل مقوماته، ولكنه يظهر في الوقت عينه "تفوق" المسيحية بشخص المسيح، ممّا يبرّر كلّ "الجديد" التي تحمله الى العالم بما في ذلك العقيدة والطقوس.
أ- التلميحات المباشرة وغير المباشرة إلى العهد القديم
منذ الفصل الاول نجد تلميحًا واضحًا إلى "الخلق" في سفر التكوين ولا حاجة بنا إلى توضيح ذلك بعد أن كتب عنه الجميع. ثم يعلن يوحنا المعمدان أن "هذا هو حمل الله" في اشارة واضحة إلى الحمل الفصحي وإلى عبد يهوه المتألم. ونجد أيضًا كلام يسوع عن "سلم يعقوب" في صلب اعتلانه المسيحاني لتلاميذه. وعرس قانا الجليل يشير إلى ماء التطهير عند اليهود مركّزًا على تحول خمر العلاقة الجديدة بين الله وشعبه من خلال شخص المسيح وامه. ونيقوديمس لا يتردد في تسمية يسوع بالمعلم كما يليق بمعلمي الشريعة والانبياء. وحوارهما الليلي مليء بالاشارات إلى مكونات من التاريخ الخلاصي. فالكلام عن ملكوت الله، وابن الانسان والولادة الجديدة والحية النحاسية والدينونة والخلاص كلّها تحمل رموزًا ومعانيَ لا يمكن فهمها بدون العودة إلى العهد القديم. غير أن الملاحظ هنا، وتأكيدًا للكرستولوجيا المتفوقة التي تكلمنا عنها سابقًا، وفي إطار ال Apologie المسيحيّة أمام اليهودية، فمن الظاهر أن الذي يفسّر كلّ هذه الرموز هو المسيح أمام نيقوديمس "المعلّم في اسرائيل" والعاجز عن فهم أبسط معاني الرموز المتعلقة بإيمان شعبه. وفي لقائه مع السامرية يبرز رمز الماء الذي هو محور الحديث بين المسيح وبينها. إنه مأخوذ من تاريخ اسرائيل القديم منذ يعقوب ومرورًا بعطية الماء في الصحراء للشعب الذي كان عطشانًا... بينما المسيح يعطي الماء الذي لا يعود شاربُه بحاجة إلى الشرب ثانية لأنه لا يعود يعطش من جديد. وفي الفصل الخامس لا يتوانى المسيح عن التأكيد بأن ما كتبه موسى إنما كتبه في شأنه هو (5: 45-47). وفي الفصل السادس كلام واضح عن المن الذي أعطي في الصحراء، وفي الفصل السابع والثامن تلميحات أكيدة إلى الماء والنور وكلاهما من مقوّمات عطايا الله في الصحراء لشعبه، وأيضًا لنصوص أخرى من العهد القديم. وفي الفصل التاسع اشارة ممكنة إلى الفصل الثاني من سفر التكوين حيث جبل الله الانسان من تراب ونفخ فيه نفس الحياة والمشار إليه بتفل المسيح في التراب وطلائه على عيني الأعمى؛ ولا حاجة بنا إلى ايراد كل الشروحات المتعددة حول هذه الرمزية الكتابية. وبركة شيلوح نفسها شهيرة قي رمزيتها التطهيرية والتجديدية للأزمنة المسيحانية (حز 12 و36). وهكذا هو الأمر أيضًا بالنسبة إلى موضوع الراعي الصالح في الفصل 10 والإشارات الواضحة إلى نصوص من حزقيال وارميا وزكريا عن الرعاة الأشرار والمسيح الراعي... والفصل 11 سبق الكلام عنه بالارتباط مع دا 12؛ والفصل 12 يعلن دخول المسيح إلى أورشليم تحقيقًا لنبوءات العهد القديم، والفصول 13 إلى 17 لها خلفية أساسية في احتفال العشاء الفصحي ورتبة الغسل الثانية التي كانت تسبق تناول الخبز الفطير، وصلاة يسوع الكهنوتية التي هي أيضًا صلاة بركة ختامية. وبين الاثنين اشارات مهمة إلى الكرمة التي ترمز إلى اسرائيل القديم والعهد الذي كان يُرمز إليه بكؤوس النبيذ المرفوعة في الرتبة الفصحية، وكذلك الاشارة إلى الاضطهاد والآلام التي تذكر ببدايات العبودية في مصر، ولعل أهم اشارة هي إلى عبور المسيح إلى الآب الذي هو تحقيق للعبور القديم من العبودية إلى الحرية، بمعنى الموت والقيامة التي تُعبّر المسيح إلى مجد الآب وتجعله يعبّر الذين. يؤمنون به إلى هذا المجد عينه (13: 1؛ 14: 1-6). ولا حاجة إلى أن نذكر الفصول الأخيرة عن الآلام والقيامة والمشبعة بالاشارات إلى العهد القديم والنبوءات والفصح اليهودي المحققة كلها بالمسيح.
ب- الأعياد اليهودية
من جهة ثانية، لا بدّ أن نذكر بشكل خاص الاطار الليتورجي اليهودي الذي تحدث فيه أكثر الأحداث وحتى العجائب الخاصة بانجيل يوحنا.
فطرد الباعة من الهيكل مرتبط باقتراب عيد الفصح ويرمز إلى الفصح الجديد الذي يتحقّق بالمسيح أي بموته وقيامته (اهدموا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام، 2: 19) وحيث لا حاجة بعد إلى الذبائح والتقادم.
وشفاء المقعد الذي يتم أبّان أحد أعياد اليهود الذي لا نعرف تحديده (5: 1). وأعجوبة تكثير الخبز هي نفسها مرتبطة باقتراب الفصح. أما الفصول من السابع حتى العاشر فمرتبطة ارتباطًا واضحًا باحتفالات عيد المظال وطقوسه التي تُستعمل فيها الشموع ورشّ الماء، وكذلك بعيد التجديد الذي يكثر فيه استعمال المنائر. وفي هذا القسم خطب عديدة ليسوع عن نفسه أنه الماء الحيّ، والنور الحقيقي الآتي إلى العالم. وهناك أعجوبة شفاء الأعمى التي تتضمّن الرمزين (ماء شيلوح، والكلام عن النور والظلام) وأخيرًا تأكيد يسوع عن نفسه أنه الراعي الصالح. ولعلّ الفصل 11 أيضًا مرتبط بهذا العيد حيث يؤكّد المسيح مرة أخرى أنه النور ولو بطريقة غير مباشرة (11: 9- 10).
لاحظ ذكر شفاء الأعمى الذي يؤكّد ارتباط هذا الفصل بما قبله.
ثم مرة أخرى نجد ارتباطًا مباشرًا بين الفصل 11: 55 والفصح اليهودي الذي "اقترب"، ثم حَدَثُ دهن يسوع بالطيب الذي يسبق العيد بستة أيام (12: 1)، ثم العشاء الأخير "قبل عيد الفصح" (13: 1) ثم حدث صلب المسيح الذي يتم في يوم التهيئة أي في الوقت الذي تُذبح فيه خراف الفصح لتستعمل في العشاء الفصحيّ (19: 31).
كلّ ذلك، يستحق دراسة خاصة عن الخلفيّة اللاهوتيّة والليتورجيّة لذكر هذه الأعياد بكونها جزءًا مكونًا للمواضيع التي يذكرها الانجيلي. ولكنّ الذي نريد أن نشدّد عليه هنا هو أنّ هذه الأعياد بما فيها من علامات وطقوس وعقائد تصبح أساسًا صالحًا لانطلاق الانجيلي في شرح رموزه على الطريقة نفسها التي ذكرناها سابقًا، أي ارتباطًا بالحدث نفسه كمرحلة أولى، ثم تحقيقًا لمضمون العيد في شخص المسيح كمرحلة ثانية، ثم تأكيدًا على أن المسيح هو أعظم من هذه الأعياد في مضمونها العقائدي والطقسي. فطرد الباعة من الهيكل يصل بالرمز إلى مستوى إزالة طقوس الذبائح القديمة من خلال حدث الموت والقيامة الذي بدوره يزيل الحاجة إلى الهيكل عينه (الفصل 5). ومعجزة تكثير الخبز تعلن انتهاء الحاجة إلى ذكرى المن في البرية (وربما أيضًا إلى الشريعة اليهودية، طالما أن اعتراف بطرس يؤكّد أن عند المسيح وحده كلام الحياة (الأبدية). فما كان ذات فعالية محدودة في الزمن (المن النازل من السماء) (والشريعة الموسوية) يحل محله ما هو ذات فعالية أبدية أي كلمة المسيح وجسده ودمه. (أنظر نص المقدمة 1: 17: "لأن الشريعة أعطيت عن يد موسى وأما النعمة والحق فقد أتيا عن يد يسوع المسيح").
وهكذا أيضًا بالنسبة إلى الماء الحيّ والنور كما سبق وشرحنا ذلك سابقًا. وفي إطار رمزية الماء والنور فإن معجزة شفاء الأعمى ترتبط بدورها بعيد الأكواخ وتؤكدّ الرمزية الكرستولوجيّة التي سبق ذكرها في الفصلين 7 و8 بالارتباط مع هذا العيد نفسه. والحقيقة أن طقسًا معينًا كان يميز عيد الأكواخ وهو أن الكهنة والشعب كانوا ينزلون في أثناء الليل إلى بركة شيلوح، وكان الكهنة يحملون الجرار المعبّأة من مياه تلك البركة ويصعدون بها إلى الهيكل يرافقهم الشعب وهم حاملون الشموع. وهذان الطقسان يركّزان كما قلنا على رمزية الماء والنور. بدوره حدث شفاء الأعمى يرتبط بهذه الرمزيّة عينها. فالنص يذكر بركة شيلوح والماء الذي يشفي من العمى والنور الذي جاء المسيح يعطيه للعميان. والملاحظ أن الماء الذي كان يرش على الشعب في نهاية المسيرة علامة لتطهيره قد أصبح ماء الولادة الجديدة إلى الايمان، أي ماء طقس مسيحي خاص هو في أساس الطقوس المسيحية أعني مياه المعموديّة.
في هذا البعد عينه يمكن قراءة نص الراعي الصالح المرتبط بدوره بعيد التجديد.
هنا أيضًا، وأمام هذا الرباط المزدوج مع الأعياد اليهودية، أعني استعمال رموزها وتخطّيها في الوقت عينه، لا بدّ أن نؤكّد الاتجاه الذي حددناه سابقًا: فعلى الأرجح أن الجماعات اليوحنوية كانت ما تزال تحتفل بهذه الأعياد كلها بالرغم من الانفصال التام عن اليهودية بعد مجمع يمنية. والذي يحصل أن المسيحية تقرأ هذه الأعياد على ضوء حدث المسيح وتشعر بالحاجة إلى إظهار مفهومها الجديد لها. وفي هذا الاطار فإن عيدي الفصح والعنصرة يشكّلان مثالاً لهذا النوع من القراءة الجديدة: فالمسيحية احتفلت بهذين العيدين وما زالت بالارتكاز على حدث المسيح الخلاصي متخطيّة بذلك الأحداث الخلاصية الأولى التي هي في أساس العيدين عند اليهودية (الخروج، وعطية التوراة) دون أن تنفيها، طالما أن هذه الأحداث نفسها مُتَضَمَّنة في حدث المسيح الذي يُحققها بكمالها ويتفوّق عليها في الوقت عينه.

3- الخلفيّة التبشيريّة والاسراريّة للرموز اليوحنوية
عندما نتكلّم عن كتابة الانجيل في صيغته الحالية فإننا نعيده إلى أواخر القرن الأول. وهذا يفصلنا حوالي 65 سنة عن حدث المسيح المؤسس. وكما يلاحظ الكثيرون، فإن المسيحية كانت في البداية مؤلفة خاصة من يهود آمنوا بالمسيح وقرأوا كل تاريخهم الخلاصي وفهموا كلَّ إيمانهم على نوره. وهؤلاء لم يكونوا يحتاجون إلى تفسيرات عديدة سوى قراءة جديدة لما كانوا يعرفونه ويؤمنون به. ولكن مع مرور الوقت، فقد انتسب إلى هذا الايمان الجديد كثيرون من أصل وثني لا يعرفون شيئًا عن تاريخ اسرائيل وإيمانه ورموزه. وهؤلاء كانوا بحاجة إلى تحضير مسبق نحو الايمان قبل ادخالهم في الجماعة من خلال سرّي المعموديّة والافخارستيا.
ما اقترحه هنا ليس دراسة، بل أفكار قد تفيد في فهم عناصر اللغة الرمزيّة اليوحنويّة بالارتكاز إلى هذا البعد التعليمي أو ما نسميه الكرازة الهادفة إلى ادخال طالبي المعموديّة إلى الايمان. ولعل بعض العناصر التي استخلصناها سابقًا من دراستنا اللغة الرمزية والبنية الرمزية تساعد في تأكيد جديّة هذا الاقتراح.
فمن جهة وجدنا أن نصوصًا عديدة ترتكز على رمزية الماء وأكثرها مرتبط بالمعموديّة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهذه النصوص تشكّل حقًا جزءًا لا يستهان به من الانجيل: الفصل 3- الفصل 4- الفصل 5- الفصل 8- الفصل 9- الفصل 13- رتبة الغسل في الاطار الفصحي- الفصل 19 عن الماء والدم اللذين يخرجان من جنب المسيح. وإذا أضفنا إلى هذه النصوص التي تتكلّم عن الروح القدس وعطية الروح، فإن مقومات أسس العماد المسيحي الذي يذكره يسوع في حواره مع نيقوديموس: الولادة من عل، من الماء والروح، تكون متوافرة وبكثرة في الانجيل.
ومن جهة ثانية أظهرنا أن إحدى مكونات البنية الرمزية في يوحنا ترتكز على تدرج، في كشف المعنى الذي يرمي إليه النص إن من خلال الرمز الذي ينكشف مضمونه بالانتقال من مستوى إلى مستوى أكبر، أو من ناحية الشكل أي من خلال بناء التدرّج هذا بالارتكاز على الأسئلة والأجوبة أو الاعتراض والأجوبة على الاعتراض أو حتى من خلال تدخّل الكاتب نفسه ليساهم في الشرح والتوضيح والتعميق ونقل النص من مستوى إلى مستوى آخر.
وقلنا إن ثلاثة نصوص على الأقل، أي نص نيقوديمس والسامرية والأعمى تتميز كلها بهذه التدرجيّة على مستوى الرموز والمعاني إلى أن تصل إلى كشف هوية المسيح لسامعه والايمان به. وهذه النصوص بالذات هي الأقرب إلى رمزية المعمودية. وإذا زدنا عليها نص أعجوبة تكثير الخبز الذي يتمتّع بنفس التدرجيّة المرتكزة على الحوار والأجوبة، فإنه من الواضح أن الانجيل يعطينا فكرة عمّا يمكن أن نسميه "كرازات التحضير للمعمودية" التي كانت تعطى لطالبي العماد من الوثنيين أو حتى من هم من أصل يهودي. فمن الناحية الأدبية والرمزية، لاشكّ أن هذه النصوص وغيرها تبدو لنا وكأنها مخصصة لهذا النوع من التعليم التدريجي الذي يحتاجه طالبو العماد. وكما قلنا سابقًا فالحوار بين المسيح وهذه الشخصيات يميّز هذه النصوص ويعطيها طابع العلاقة الشخصية الحميمة معهم.
وكأني بالذي يسمع هذه الكرازات يجد نفسه مدعوًا إلى اكتشاف اختبار هذه الشخصيات في اختباره الشخصي، وإلى ترك المسيح يقوده إلى الايمان الكامل به.
هذا الأمر ينطبق على نصوص كثيرة أخرى مثل نص نتنائيل الذي يعترف بالمسيح ابن الله وملك اسرائيل، ومرتا التي تعترف به المسيح ابن الله الآتي إلى العالم وتوما الذي يعلن: "ربي وإلهي" وغيرهم، وكلّ ذلك على أثر اللقاء به والتعرف إلى هويته الحقيقية بكونه المرسل من الآب ليخلص العالم. في كلّ حال عندنا شواهد عديدة من حياة الكنائس الأولى، وإن في وقت متأخر عن زمن الجماعات اليوحنوية، تؤكّد استعمال هذه النصوص في رتب المعمودية لطالبي العماد من البالغين خاصة.

خاتمة
لغة الرموز في يوحنا استدعت منّا جهدًا غير يسير لفهم مكوناتها الأساسيّة وبنيتها اللغوية والأدبية. ومع أن دراستنا لم تكن كاملة وبقي الكثير من الرموز التي يجب ذكرها، وربما أيضًا اقتراحات أخرى للبنية، فإننا استطعنا أن نحدّد بعض النواحي الأساسيّة التي تساعد في فهم النص:
فمن جهة أكدّنا بأن البنية الرمزية لها طابع وعظي وتدرجيّ تنقل القارئ من مستوى إلى مستوى آخر لن توصله إلى المعنى المقصود به من الرموز مجتمعة في نص واحد؛ ومن جهة ثانية أوضحنا أهمية شخص المسيح في قراءة هذه الرموز من خلال ما سمّيناه بالكرستولوجيا المتفوّقة أي ارتباطًا بالعهد القديم وفي الوقت عينه من خلال التفوق عليه، وهذا بحدِّ ذاته يؤكّد أهميّة العهد القديم لفهم اللغة الرمزية عند يوحنا. أما البعد الثالث، أي الجماعة المسيحية في اختبارها التبشيري (الكرازة) والاحتفالي بأسرار التنشئة (العماد والافخارستيا) فهو مطروح للبحث والدراسة لتأكيد أكثر دقة من ناحية دراسة النصوص ومن ناحية الدراسات التاريخيّة.
ما ندعو القارئ العزيز إليه هو أن يلتقي بهذا النص هو أيضًا من خلال قراءته، وأن يصغي جيدًا إلى ما يقوله المسيح عبر كلّ فصوله لكي يتم اللقاء الأهم، أعني مع أصل الانجيل وغايته، أي المسيح الذي عنده وحده دواء عدم الموت منذ هذه الحياة وإلى الأبد.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM