الفصل الرابع والعشرون: "التلميذ"

الفصل الرابع والعشرون
"التلميذ" في انجيل يوحنا
الأخت ياره متى

مقدمة
"من أراد أن يخدمني، فليتبعني، وحيث أكون أنا يكون خادمي. ومن خدمني أكرمه الآب" (يو 12: 26).
إذ يُقام المؤتمر الكتابي السادس هذا تحت عنوان "دراسات في إنجيل يوحنا"، يحظى بنعمة مزدوجة: خلفيّته سرّ التجسد، وزمنه بداية السنة المكرسة للآب في مسيرتنا اليوبيلية نحو عام الألفين. ولعل صورة التلميذ ومفهوم التتلمذ كما يراها إنجيل يوحنا، تلقي بعض الأضواء على مسيرتنا هذه الفرديّة والكنسيّة.
وفي الواقع، إن الإنجيل الرابع يقدّم لنا شخصيات مختلفة، كلّ منها يلعب دورًا معيّنًا يريد الكاتب من خلاله أن يوصل رسالة للقارئ المؤمن. عندما نقرأ الأنجيل، نرى هؤلاء الأشخاص يتحركون، يلتقون بيسوع، فنتابع علاقتهم به، جوابهم على ندائه، ردات فعلهم... وربما ننتظر، كمؤمنين، أن تحمل إلينا هذه الرسالة زخمًا جديدًا في تعميق إيماننا وفهمنا وحبنا ليسوع المتجسّد في حياتنا. يرسم الإنجيل هذه الشخصيات المختلفة فيُرينا أحيانًا مثالاً إيجابيًا يدعونا للتشبه به، وأحيانًا صورة سلبية تحدونا إلى الابتعاد عنها، كما يبدو ذلك واضحًا مثلاً في رواية الأعمى منذ مولده حيث ينمو إيمانه بيسوع خطوة فخطوة، بينما يتأرجح نيقوديمس بين الايمان والشك دافعًا القارئ إلى أخذ موقف حاسم من يسوع. فمن هو التلميذ بنظر يوحنا إذًا؟ ما هي ملامحة في الواقع وفي المرتجى؟ وهل يمكن أن ينقل إلينا اليوم رسالة جديدة؟
لدى القراءة الأولى لإنجيل يوحنا نجد أن لفظة "تلميذ" (باليونانية mathétés) ترد 78 مرة، وهذه بداية الطريق لتبيان أهمية الموضوع. بالإضافة لذلك، يذكر الإنجيل الرابع ثلاث مجموعات منتظمة من التلاميذ: تلاميذ يوحنا المعمدان (1: 35-37)، تلاميذ موسى (9: 28) وتلاميذ يسوع (2: 2- 11). فهل هناك فيما يخص يسوع مجموعة واحدة من التلاميذ الذين يرافقونه دومًا ويسيرون معه؟ يبدو أن الحلقة كانت أوسع بكثير من الإثني عشر كما يوحي بذلك يو 4: 1-2؛ 6: 60-66: بعد كلام يسوع على خبز الحياة تذمّر الكثيرون قائلين: هذا كلام عسير فمن يطيق سماعه؟ فتخلّى عنه عدد كبير من تلاميذه وانقطعوا عن مصاحبته. إذّاك ظهر الاثنا عشر على المسرح كمجموعة مميّزة، مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يتبعون يسوع عمليًا، يرافقونه، يمكثون معه. وبالرغم من أن يوحنا لا يعطي لائحة بأسماء الاثني عشر كما يفعل الازائيون، فهو يذكر هذه الجماعة الصغيرة ويسمّي بعض أعضائها في مواقف وأحداث مختلفة.
بالإضافة لهذا المفهوم البديهي الأول حيث المقصود عادةً بالتلاميذ جماعة الاثني عشر (7:11-12، 54 و18: 1-2)، يذكر يوحنا عدة أشخاص يلتقون بالمسيح في أوضاع خاصة وحالات محدّدة، لا يرافقونه كمجموعة منظَّمة إنما يتتلمذون له. إنهم أفراد لا رابط ظاهر بينهم ولكن النص الانجيلي يعطيهم مواصفات التلميذ عينها دون أن يذكر بالضرورة أسماءهم، ومنهم على سبيل المثال: المرأة السامرية، الضابط الملكي، الرجل الكسيح، الرجل الأعمى منذ مولده، وربما مرتا أخت لعازر. هؤلاء الذين لم ينخرطوا في صفوف الإثني عشر، ولم يذكر الإنجيل بشكل عام أيّ إسم علم يخصهم، نجدهم خاصة خلال رسالة يسوع العلنية أي في القسم الأول من الإنجيل بين الفصول 1 و12، بينما تركّز الفصول الباقية من 13 إلى 21 على خطاب يسوع ورواية الآلام والقيامة وعندما يقتصر وجود التلاميذ على مجموعة الإثني عشر.
إذًا هناك فئتان من التلاميذ: الفئة الأولى تتمثّل بالاثني عشر، المجموعة التاريخية التي سارت وراء يسوع ورافقته عمليًا، ويوحنا يذكر بعضًا من أفرادها باسمه. والفئة الثانية تضم تلاميذ حقيقيّين ولكن غير معلنين، يلتقون بيسوع منفردين. لم يُذكروا عادًة بأسمائهم ولم تعط لهم علنًا "وظيفة" التلميذ.
كلُ من هاتين الفئتين تظهر ناحية من الموضوع، موضوع التتلمذ، وهذا غير مستغرب عند يوحنا الذي يجمع دائمًا في بشارته مستويات مختلفة، من المعاني البديهية السطحية إلى المعاني الرمزية العميقة.
وذلك يجعلني أعرض الموضوع في ثلاث نقاط:
أولاً: مواصفات التلميذ من خلال ما يرويه الإنجيل عن الفئة الأولى، أي كل ما يخصّ تلاميذ يسوع الذين يشكّلون الجماعة المصغّرة حوله، ويعطي الإنجيل بعضًا من أسمائهم.
ثانيًا: مواصفات التتلمذ من خلال أشخاص التقوا بيسوع منفردين، وتتلمذوا له بالعمق والحق دون أن يسمّيهم الإنجيل بأسمائهم ودون أن يدعوهم بوضوح "تلاميذ".
وثالثًا: سنرى معًا كيف تلتقي مواصفات التلاميذ كجماعة رافقت يسوع أو كأفراد التقوا بيسوع، كيف تلتقي مواصفات الفئتين إيجابيًا بشخص التلميذ المثالي أي التلميذ الذي كان يسوع يحبه، بينما تُرينا شخصية يهوذا الاسخريوطي المثال السلبي للتتلمذ، مثال التلميذ الفاشل.
وقبل أن ننتقل إلى معالجة هذه النقاط الثلاث، ألفت النظر إلى ملاحظة منهجية صغيرة: هذه الدراسة البسيطة تعتمد على الإنجيل الرابع بشكله القانوني الحالي. فلن أدخل في اعتبارات النقد التاريخي ولا حتى التطور التاريخي لمفهوم التلميذ والتتلمذ في الجماعات الكنسية الأولى، بل أكتفي بالنص الإنجيلي كما نقرأه اليوم.
1- مجموعة التلاميذ الذين يرافقون يسوع
يسمّي الإنجيل منهم بطرس، اندراوس، فيلبس، توما، يهوذا، ابني زبدى، كما يذكر نتنائيل. يمكننا أن نتبعهم في الإنجيل خطوة خطوة، بطريقة منهجية بسيطة: نكتشف ماذا يقولون، ماذا يعملون؟ ماذا يُقال عنهم أو لهم؟ هذه الأسئلة البدائية تساعدنا على فهم دورهم في الدراما الإنجيلية التي يقودها الكاتب.
ماذا يقولون؟
إن جمعنا أقوالهم في إنجيل يوحنا يمكن أن نصنّفها بين الأسئلة المباشرة ليسوع، التعبير عن عدم فهمهم، اعتراضهم أحيانًا واعترافهم بالمسيح أحيانًا أخرى، الإيمان به والشهادة له أخيرًا.
الأسئلة المنطلقة من المجموعة الصغيرة الممثّلة أحيانًا ببطرس (6:13؛ 21: 21)، تتوجه بمعظمها مباشرة إلى يسوع (عدا واحدة في 17:16-18) بعضها للاستعلام (38:1 أين تقيم- 13: 25 من هو يا سيد- 36:13 إلى إين أنت ذاهب- 14: 22 كيف تظهر لنا ذاتك..) أو للاستيضاح (13: 6 أأنت تغسل رجلي؟- 37:13 لماذا لا أقدر أن أتبعك- 16: 17- 18 ما هو هذا القليل- 21: 21 وهذا ما مصيره). بشكل عام، أسئلة هذه المجموعة تتعلق خاصة بذهاب يسوع وانتقاله عنهم. يريدون الاستفهام إلى أين يذهب (13: 36؛ 14: 5 (لا نعرف إلى أين أنت ذاهب فكيف نعرف الطريق) وكيف يمكن أن يبقوا تلاميذ بعد أن يذهب (37:13، لماذا لا أقدر أن أتبعك؟ أنا مستعد أن أموت في سبيلك). 14: 5-22 (ما معنى هذا القليل وأنه ذاهب إلى الآب، 16: 16-18) كل هذه الأسئلة تطرح علامة استفهام حول وضع العلاقة بين المعلم والتلاميذ، وكيف يمكن الاحتفاظ بها والحفاظ عليها بعد ذهاب يسوع وغيابه عنهم. من هنا سوء الفهم أحيانًا (18:16: نحن لا نفهم ما يقول).
على كل حال، عجزُ التلاميذ عن الفهم ليس جديدًا في معرض الآلام والقيامة، بل منذ بداية الإنجيل تسقط اعتباراتهم الخاطئة شيئًا فشيئًا. ففي 4: 33 كانوا يعتقدون أن يسوع قد تناول طعامًا ماديًا (هل جاءه أحد بما يؤكل) يسوع يجيب "طعامي" أن أعمل مشيئة الذي ارسلني وأتم عمله" في 6: 7-9 يعتقدون أن لا مجال لإطعام الجموع الغفيرة، فأجاب يسوع: "أقعدوا الناس". في 9: 2 يأخذون بالاعتقاد السائد أن الأعمى خطىء هو أو أبواه.. ألخ. يقرأون الأمور والأحداث بسطحيتها وبديهيتها الخارجية لأنهم لم يفهموا بعد بالعمق كلمة يسوع.
عجزهم عن فهم المستوى الأعمق يؤدّي أحيانًا إلى الاعتراض على كلمة يسوع وتصرفه كما فعل الكثيرون في 6: 60- 61، وكما أعترض اليهود في 8: 33 (نحن ذرية إبراهيم وما كنّا عبيدًا لأحد فكيف تقول ستصيرون أحرارًا). أما التلاميذ الذين عارضوا مواقف يسوع، فهم: أولاً يهوذا في 12: 4- 5 (أما كان خيرًا أن يباع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويوزِّع على الفقراء). إعتراض يهوذا هنا هو اعتراض التلميذ المزيّف (فالنص يتابع: لا لعطفه على الفقراء بل لكونه لصًا وأمين الصندوق). بينما تبدو الاعتراضات الباقية من قبل التلاميذ الآخرين ناتجة عن عدم الفهم. كما بطرس مثلاً في 13: 6 يحاول أن يرفض غسل الأرجل، يرفض أن يتصرّف الرب والمعلم كالخادم والعبد، وذلك لأنه لم يفهم بالعمق طبيعة ومعنى كون يسوع الرب والمعلم. كما توما أيضًا في 20: 25 الذي يرفض الايمان بيسوع القائم تبعًا لشهادة التلاميذ الآخرين لأنه لم يفهم بالعمق طبيعة ومعنى الإيمان الحق، المرتكز على شهادة الكنيسة. نلاحظ هنا أن يوحنا لايريد أن يعطي فقط صورة مثالية عن التلميذ وكيف يجب أن يكون، بل يرسم أيضًا ملامحه الواقعية في أسئلته وعدم فهمه واعتراضه. ولكن كيف يقودهم يسوع تدريجيًا إلى ايمان أعمق لحد الشهادة له وحتى الاستشهاد؟
لنتابع مسيرتهم في الإنجيل، ماذا يعملون؟
الأفعال التي يقومون بها ترد كالآتي: إنهم يتبعون (1: 37؛ 10: 4-27؛ 18: 15)، ينظرون (1: 39؛ 6: 19؛ 20: 25؛ 21: 9)، يؤمنون (2: 11، 22؛ 17: 8؛ 20: 3)، يعرفون (10: 4؛ 17: 7- 25) يتذكرون (2: 17- 22؛ 12: 16؛ 16: 4، 21)، يسمعون (1: 37؛ 21: 7) ويحفظون الكلمة (17: 6). هذه الأفعال التي يذكرها الإنجيل الرابع عن التلاميذ ليست (بمعظمها عدا اتّباع يسوع بمعنى السير وراءه) نشاطًا خارجيًا متوقفًا على الحواس، أنما حركة تنبع من استعداد داخلي هدفه كلام يسوع وعمله وشخصه، أي إن التلاميذ يتبعون يسوع، ينظرون إليه، يؤمنون به، يعرفونه، يتذكرون ما قالت عنه الكتب، يسمعون ويقبلون ويحفظون كلمته التي هي كلمة الله (6:17- 8؛ 22:2). فأساس التتلمذ إذًا هو وجود علاقة شخصية بين التلميذ ويسوع، علاقة تبني حياته كلها، وربما هذا أحد الفروقات بين يسوع المعلم وبين المعلمين اليهود. فتلميذ يسوع متعلّق بشخص يسوع بينما تلميذ معلّمي الشريعة متعلّق بالشريعة وليس بشخص معلّمه. ارتباط التلميذ بيسوع مباشرة يجعل منه شاهدًا له ومؤمنًا أنه أكثر من معلّم، أنه الربّ.
لذلك نرى في الإنجيل الرابع التلاميذ يشهدون ويدلون على يسوع بل يقودون الآخرين نحوه (1: 41-46؛ 12: 21 نريد أن نرى يسوع). إنهم يشهدون أن كلمته هي حياة (68:6 إلى من نذهب..)، وسيشهدون لقيامته (20: 25 رأينا الرب)، بعد أن دخلوا لعبة الإيمان وعبّروا عن اعترافهم به أنه "أبن الله، ملك اسرائيل" (1: 49)، أنه "قدوس الله" (6: 69)، أنه الآتي من لدن الله" (16: 30)، هو "الرب والاله" (20: 28) الذي "يعرف كل شيء" (17:21؛ 16: 30). كل هذه الاعترافات بهوية يسوع تبقى مختصرة وتبقى مجرد ألقاب إن لم يُعطها يسوع المحتوى والمعنى. وذلك يتم عندما يعلن: "أنا هو": "أنا هو خبز الحياة" (6: 35)، "أنا هو نور العالم" (8: 12)، "ستموتون في خطاياكم أن لم تؤمنوا أني أنا هو" (8: 24)، "قبل أن يكون إبراهيم أنا هو" (8: 58) "أنا هو باب الخراف"، "الراعي الصالح" (10: 7- 14)، الخ...
يسوع هو أساس ومرتكز إيمان التلميذ، يسوع هو طريق التتلمذ، هو قصة الخلاص وتاريخه، وهو الذي يجمع في كلمته وفي كيانه كل الأجيال من التلاميذ. ولكن كيف يتوجه للإثني عشر (6: 77-69) وماذا يقول لهم؟
إنه يدعوهم "إخوتي" في 20: 17، يدعوهم وأصدقاء" في 15: 15، "أبنائي الصغار" في 13: 33، و"أيّها الأولاد" في 21: 5، أو أحيانًا يدعو أحدهم باسمه مثل بطرس في 1: 42 و21: 15، أو فيلبس في 14: 9.
هذه الكلمات توحي بنوع من العلاقة العائلية القريبة بينه وبينهم. يسوع يسألهم، يأمرهم، يوبّخهم، يشرح لهم، يشجّعهم، يمنحهم وعودًا وينبئهم بما سيتعرضون له في العالم. هل يسأل يسوع مثلهم للاستعلام أو للاستيضاح؟
يُرينا الأنجيل أسئلة يسوع عادةً كأنّها جواب على أسئلة التلاميذ، أو واقع يخلق عندهم تحديًا وتشجيعًا لأخذ موقف أو لتعميق فهمهم. مثلاً في 67:6 بعد أن تخلّى عنه كثير من تلاميذه، واجه الباقين بهذا السؤال: "ألا تريدون أن تذهبوا أنتم أيضًا؟" فاستدرج هكذا جواب بطرس ممثّلاً الاثني عشر ومعبّرًا عن إيمانه واعترافه أن يسوع يملك كلام الحياة الأبدية. غالبًا ما نجد هذا التحدي: "ألآن تؤمنون؟" (16: 31)؛ "هل آمنت لأنك رأيتني؟" (20: 29). يسوع ينادي إيمانهم بأسئلته. والملفت للنظر في إنجيل يوحنا أنه في كل مرة يقول التلاميذ إنهم فهموا وآمنوا، تكون هذه علامة شبه أكيدة في النص أنهم لم يفهموا بعد في العمق، لم يصلوا إلى ملء الايمان وملء المعرفة الذي سيتم "بعد حين" (7:13، 19، 36؛ 14: 29)، متى "بعد حين"؟ أي بعد ذهاب يسوع، بعد انتقاله عنهم وقيامته من بين الأموات. إلى ذلك الحين، لم يتوصلوا بعد إلى ملء قامة التلميذ الحق. أسئلة يسوع تحثّهم وتتحدّاهم ليحافظوا على إيمانهم ولايخافوا مهما حدث، رغم أن أحدهم سوف يسلمه، رغم أنهم سوف يتشتتون كالخراف الضائعة، يهربون وينكرون ويعجزون عن فهم ما يحدث (11:18).
بالأضافة للأسئلة، يسوع يوبّخ تلاميذه أحيانًا (12: 7؛ 14: 9: أنا معكم كل هذا الوقت ولم تعرفني بعد يا فيلبس؛ 20: 27). توبيخاته تتابع وظيفة الأسئلة في النص أي أنها تستفّز الايمان، تدعو إلى أخذ موقف إيماني. كذلك تشجيعه لهم (13: 12- 17؛ 14: 14) يدعوهم للايمان (14: 1). آمنو بالله وبي.
تجاه عدم فهمهم، يجيب يسوع ببعض التوضيحات والشروحات كما في 9: 3- 5 (ولد أعمى حتى تظهر أعمال الله فيه)؛ 11: 14- 15 (يسرني لأجلكم كي تؤمنو أني ما كنت هناك- لعازر مات)؛ 14: 29- 31 (أخبرتكم بهذا قبل أن يحدث حتى متى حدث تؤمنون)؛ 16: 1-4 (قلت لكم هذا لئلاّ يضعف إيمانكم). هذه التفسيرات كما تلاحظون تدعو إلى الحفاظ على الإيمان والثبات فيه.
لا يكتفي يسوع بهذه الكلمات بل يوجّه أيضًا بعض الأوامر لتلاميذه: يطلب إليهم أن يتبعوه (43:1)، يطلب إليهم خاصة أن يحبّوا بعضهم كما أحبهم (13: 34) وأن يثبتوا في محبته (9:15). حبّهم يتأصل في حبّه. حتى بعد ذهابه من بينهم يبقى حبهم علامة لكونهم تلاميذ (35:13 إذا أحببتم بعضكم بعضًا يعرف الناس أنكم تلاميذي). الثبات في الإيمان يقودهم إلى الثبات في المحبة، والاثنان نعمة مجانيّة من الآب. يعرف يسوع حدودهم وإمكانياتهم، فيمنحهم الوعد بالروح القدس (14: 15-26؛ 15: 26؛ 7:16) الذي يعلّمهم ويذكّرهم كل شيء. يعدهم يسوع أيضًا انهم سيرون ويعملون أعظم من الأعمال التي صنعها أمامهم (1: 50؛ 14: 2). ثباتهم في الإيمان وثباتهم في المحبة سيجعلهم يفهمون بعد حين (13: 7) وإذّاك لا يعودون يسألون شيئًا (16: 23).
إنما هذا النموّ نحو ملء الإيمان والحب والمعرفة لا يتم دون دفع الثمن. يسوع يُنبئ تلاميذه بأن البعض سوف يتخلّى عنه (13: 21، 38؛ 16: 32) وبأن العالم سوف يبغضهم ويضطهدهم كما أبغضه واضطهده (18:15؛ 16: 2، 33). لأن العالم لا يعرفه ولا يعرف الآب (16: 3)، فالتلميذ الذي يتبع معلمه يشاركه مصيره، في الصليب كما في المجد.
هؤلاء الأشخاص الذين أصبحوا تلاميذ من خلال اختيار ودعوة يسوع لهم (1: 42-43؛ 6: 70) جاؤوا إليه بنعمة من الآب (6: 65؛ 17: 6). اختارهم يسوع وأخرجهم من العالم (15: 16، 19؛ 17: 14) ثم أرسلهم إلى العالم (18:17) كما أرسله الآب (20: 21). وللآب صلّى أن يحفظهم باسمه (17: 11-12) ويحفظهم من الشرير (15:17)، أن يقدّسهم في الحق (17: 17) ويعطيهم فيض الحياة الأبدية (10: 28)..
كل مداخلات يسوع وكلماته لهم تهدف إلى تثبيتهم في الإيمان والمحبة، لإن الآب يحبهم والابن أيضًا يحبهم (13: 1؛ 23:17-26؛ 26:19)، والتعبير عن ملء الحب يكون بالسكن المتبادل، يكونون فيه كما أنه في الآب والآب فيه (17: 21). ذهب التلاميذ ليقيموا مع يسوع حيث يقيم (1: 39) فإذا بهم يقيمون فيه ويقيم فيهم، أصبحوا بيتًا له لأنه جعل من كلمته ومن حبه بيتًا لهم (14: 23).
أساس اتباعهم ليسوع، أساس تتلمذهم هو إذًا الإيمان بيسوع، إيمان يُعبّر عنه بوصية المحبة، إيمان مدعو دائمًا إلى عمق أكثر، فلا يمكن للتلميذ أن يعرف الآب والابن الاّ من خلال ثباته في الإيمان وثباته في الحب. التلمذة ليست مجرد مهنة أو وظيفة في قلب الكنيسة والعالم، بل هي أيضًا مسيرة شخصية في الإيمان والحب والمعرفة، في العلاقة مع يسوع. وتبقى هذه الحفنة مثالاً للمؤمنين في مختلف الأجيال، في قبولهم أو عدم فهمهم، في إيمانهم وفي تراجعهم واعتراضاتهم، في دعوتهم لأخذ موقف من كلمة يسوع ودعوته. إنما يركّز يوحنا قبل كل شيء على أنها نعمة من الآب، مبادرة منه. فالإيمان هو إنسانيًا مستحيل. هو المستحيل الذي جعله الله ممكنًا، ووهب الروح كي يثبّت تلاميذه في كلمته.

2- مواصفات التلاميذ
ننتقل إلى النقطة الثانية حيث نجد على طريق يسوع عدة أشخاص لديهم مواصفات التلميذ الحق السائر على درب الإيمان. سنتوقف على بعض المشاهد والمقاطع التي تبدو منفصلة عن بعضها البعض، رغم أن قواسم مشتركة تجمعها من ناحية المضمون- وهو موضوع التتلمذ ليسوع- ومن ناحية البنية والأبعاد اللاهوتية المختصّة بالمعلّم والتلميذ- أي إن الإنجيل يظهر لنا، في العمق، كيف نصبح تلامذة يسوع، فنرافق عندئذ التلاميذ خلال مسيرتهم في طور التنشئة، ونكتشف الاتجاهات التي يُقاد اليها من يريد أن يصبح تلميذًا.
من بين هؤلاء الأشخاص الذين التقوا بيسوع، نجد المرأة السامرية (4: 4- 42)، الضابط الملكي (4: 46-53)، الرجل الكسيح (5: 1-15)، المرأة الزانية (8: 1- 11) والأعمى منذ مولده (9). عدا نيقوديمس (3) ومرتا (11)، وكل هؤلاء الأشخاص لا يحملون اسم علم في النص. لماذا؟ (على كل حال حتى نيقوديمس يبدأ السؤال في الفصل 3 ثم يختفي من النص ويتابع يسوعُ الحديث وحده). لماذا تتكرر عند يوحنا هذه الظاهرة الأدبية؟ أهي فقط جهل لاسم المحاورين أم لها وظيفة أخرى؟
من المحتمل أن تسمية الشخص تحافظ على مسافة معيّنة بينه وبين القارئ بينما ترك الاسم مجهولاً يدعو القارئ إلى التمثّل، يحرّر القارئ من الأطر التاريخية ليدخله مباشرة في الرواية. الاسم ليس فقط لزيادة المعلومات بل لتمييز شخصية معيّنة في النصّ، لتحديد علامة فارقة. من هنا تصبح وظيفة عدم التسمية خلق فراغ معيّن جُعل هنا ليملأه القارئ. النص يدعو هكذا القارئ المؤمن للمشاركة بأن يتماهى مع مواقف وأجوبة الأشخاص الذين لا يذكر الكاتب أسماءهم، ولكن يصف كيف دفعهم اللقاء مع يسوع إلى جواب إيماني.
والجدير بالذكر أنه بعد اللقاء مع الأعمى (منذ الفصل 9 وحتى النهاية) الشخصية الوحيدة التي لا يعطيها الانجيل اسم علم هي شخصية التلميذ الحبيب؛ عدم تسميته تدل بشكل أوضح على أنه مثال التلميذ الحق. قبل التعرّف إليه، القارئ مدعو للتشبّه بأصحاب الإيمان، في القسم الأول من الانجيل، ممّا يعدّه- في القسم الثاني من الانجيل- للتشبّه بالتلميذ الحبيب، فيصبح القارئ- إن أراد- التلميذ الذي يحبه يسوع.
نتوقّف عند بعض هذه الأمثلة باختصار.
المرأة السامرية تشارك في حوار طويل مع يسوع، حوار يتطوّر شيئًا فشيئًا حتى يصبح فعل إيمان وشهادة لشعبها. القارئ مدعو أيضًا للمشاركة، وكون المرأة بلا اسم يسهّل العملية. إنها امرأة عادية مثلنا، مثل أي قارئ يمكن أن يتابع المسيرة عينها ويقوم بالاختيار نفسه. كيف؟ يسوع هو الذي بدأ الحوار وكل مرة كان يطلقه من جديد من خلال أسئلة أو مداخلات المرأة، وفي كل مرة كان يعود ليركّز موضوع الحوار حول شخصه، ممّا يدعو محاورته إلى أخذ موقف: الإيمان أو عدم الإيمان. في نهاية النص، شهادتها له توحي بأنهـا آمنت، بل نقلت إيمانها للآخرين، وكأنها تحقق ما قاله يسوع لتلاميذ يومها إن الحصاد قد حان وإنه يرسلهم للحصاد. أن أهل المدينة آمنوا أولاً تبعًا لكلام المرأة، عكس توما الذي لم يقبل شهادة الرسل زملائه. المرأة السامرية سلكت درب التلمذة متبعة المراحل عينها: اعترضت على كلام يسوع (4:9)، لم تفهم بالعمق معنى كلامه (4: 11-15)، سألته (4: 9، 11-12) وأخيرًا أصبحت له شاهدة (28:4، 29-30). تطورت علاقتها بيسوع متحرّكة من الاعتراض إلى عدم الفهم إلى التساؤل... ثمّ إلى الشهادة التي هي نتيجة الإيمان.
كذلك في يو 46:4-54 حيث يلتقي يسوع رجلاً من حاشية الملك يلتمس منه شقاء ولده المشرف على الموت. وجّه إليه يسوع كالعادة تحدّي الإيمان (أنتم لا تؤمنون الا إذا رأيتم الآيات والعجائب). ولكن الرجل أَمن هو وجميع أهل بيته. كل لقاء مع يسوع يدعو إلى الإيمان وينتظر الجواب.
ومن أجمل الأمثلة لهذا اللقاء رواية شفاء الأعمى في الفصل 9. يُروى الخبر باقتضاب في آيتين فقط (6 و7)، والباقي يأخذ شكل الحوار، حوار بين يسوع وتلاميذه، حوار بين الأعمى وجيرانه، بين الأعمى والفريسيين، بين الفريسيين ووالديه.. وأخيرًا بين الأعمى ويسوع. بين هذه الحوارات يتحرك النص بصورة تدريجية لكشف هوية يسوع والايمان به (9:9: رجل يدعى يسوع- 9: 17: نبي-33:9: رجل من الله- 38:9 قد آمنت يا سيدي). في البداية يقول يسوع لتلاميذه: "ولد أعمى كي تظهر أعمال الله فيه" (9: 3) بعدما قال لهم سابقًا في 6: 29 "عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله". ظهر عمل الله في الأعمى لأنه سارّ نحو الإيمان، نحو الفهم العميق لهوية يسوع. يبدو إيمان الأعمى في حركة نموّ تتفاعل ظاهريًا من خلال حواره مع الفريسيين، ولكن باطنيًا يعلم القارئ من خلال الحوار الأخير أن يسوع هو الذي حّرك كل مشروع الإيمان. الرجل الأعمى الذي استجاب ببساطة لأمر يسوع بغسل عينيه شُفي، ولكنه بدأ أيضًا مسيرة باطنية واجتماعية لأعلان إيمانه بيسوع. وجوابه الإيماني هذا استمر وتكامل حتى بعد اختفاء يسوع عن ناظريه وبقائه وحيدًا في مواجهة الفريسيين واحتمال طرده من المجمع. ويبلغ النص ذروته عند عودة يسوع وكلامه معه وتعبيره عن إيمانه به. فالأعمى الذي كان في البداية مجرد موضوع للنقاش اللاهوتي (من أخطأ هو أم أبواه) أصبح بمسيرة الإيمانية إنسانًا، شخصًا حيًا، يحيا من علاقته بيسوع ويشهد له. إنها شخصية تلميذ مجهول. قبل تحدّي الإيمان، وبقيت شخصيته مفتوحة مدى الأجيال، تاركة فراغًا يملأه القارئ، كل قارئ يؤمن ويريد أن يتتلمذ ليسوع.
وأخيرًا حوار يسوع مع مرتا أخت لعازر يحثها أيضًا على النموّ في الفهم والإيمان، يتحدى إيمانها كي يكبر وفهمها كي يعمق أكثر، حتى يظهر أخيرًا هويته وقدرته على إعادة الحياة للعازر الميت منذ أربعة أيام.
في كل هذه المشاهد ليس المحور الأساسي الأعجوبة أو الشفاء؛ بل هو إيمان الإنسان تجاه يسوع. التتلمذ ليسوع يعني الشهادة النابعة من هذا الإيمان ومن هذه المعرفة العميقة لهوية يسوع. وكما قال يسوع لليهود في 8: 31-32: "إن أردتم أن تكونوا تلاميذي حقًا.. اثبتوا في كلمتي". الاندفاع الأول يجب أن يتحول إيمانًا عميقًا والتزامًا بالكلمة. لا يكفي قبول يسوع واتباعه، بل المطلوب الثبات في كلمته التي هي كلمة الله بالذات. بهذا الثبات، الاستقرار في يسوع الكلمة، يفهم التلميذ هوية يسوع، يدخل في معرفة أعمق هي معرفة العلاقة الحميمة، معرفة الإيمان والحقّ الذي يحرِّر الوصية الجديدة أي معرفة المحبة.
هؤلاء الذين ذكرهم الإنجيل في الفصول 1-12 دون أن يدعوهم تلاميذ بشكل ظاهر ومباشر، هؤلاء لم يرافقوا يسوع خارجيًا، ولكن هم آمنوا وتابعوا حياتهم بشكل مختلف. بعد مرور يسوع وذهابه من بينهم آمنوا بكلمته وحفظوها ونشروها، كما سيؤمن التلاميذ الاثنا عشر بعد انتقال يسوع عنهم حيث لا يبقى معهم سوى روحه القدوس وكلمته التي حفظوها.
وهكذا في كلتا الفئتين تبدو ملامح التلميذ. بين الاثني عشر والتلاميذ المجهولين عوامل مشتركة متعددة. فهؤلاء أيضًا يعارضون أحيانًا كلام يسوع، يسيئون فهمه، يسألونه مستوضحين، يعرفون عنه بعض الأمور رويدًا، يعترفون به، يؤمنون ويصبحون شهودًا، رسلاً في العالم.
بالمقابل، يسوع أيضًا يدعوهم لأخذ موقف، يتحدّى إيمانهم، يوضح لهم عمق المعاني، يكشف لهم هويته، ويرسلهم مبشرين.
إنهم أناس حقيقيون، في تلمذتهم نواح إيجابية وأخرى سلبية. ولكن هم بضعفهم ونقصهم يدلون القارئ على طريق التتلمذ ليسوع. كل من يريد أن يكون تلميذًا ليسوع عليه اولاً أن يؤمن بأن الله هو الذي أرسله، يؤمن بأن يسوع ابن الله، فيعبّر عن حبه له بأن يتبع الوصايا وعندها يشترك في حياة الله وينال الحياة الأبدية.
تلميذ يسوع التقى به في عمق حياته وسار وراءه سيرًا عمليًا وأدبيًا، لأنه اقتبل نعمة الآب، وفهم أن العلاقة مع يسوع هي على مثال العلاقة بين الآب والابن. فالتلميذ لا يستطيع أن بفعل شيئًا دون يسوع (15: 5) كما أن يسوع لا يفعل شيئًا دون الآب، وما يجمعهما هو الحب.
لأن التلميذ قبل حب الآب والابن، يعطي حياته كما يسوع (15: 12-14؛ 17:10-18)، يتبعه حتى الموت فيستطيع أن يقيم حيث هو في مجد الآب لحياة الأبد (26:12؛ 3:14؛ 24:17) ولن يستطيع تحقيق ذلك إلاّ إذا سار في نور تعاليم يسوع وحفظ وصاياه (8: 12- 1 3) أي إذا عاش وصيّة المحبة التي بها يُعرف التلميذ الحق.
وفي هذه المسيرة الصعبة التي جعلها حبّ الله ممكنة، يعطينا إنجيل يوحنا صورتين ليدفعنا للاختيار، صورة التلميذ المثالي، الممثّلة بشخص التلميذ الحبيب، وصورة التلميذ المزيّف الممثلة بشخص يهوذا الاسخريوطي، ممّا يؤدي بنا إلى عرض النقطة الثالثة.

3- التلميذ الحبيب، ويهوذا الاسخريوطي
في إطار هذه المحاضرة لن أدخل في النقاش التاريخي والأدبي حول شخصية التلميذ الحبيب، إن كان يمكن تحديد هويته تاريخيًا أو الاكتفاء بأبعادها الرمزية أو دراسة تأثيره في خلق الجماعة اليوحناوية أو في تقليد عائلة روحية لاهوتية معيّنة في الكنيسة. بل سأكتفي ببعض الملاحظات التي تتعلق مباشرة بموضوعنا حول صورة التلميذ في إنجيل يوحنا، كما نقرأه بشكله القانوني.
النصوص الرئيسة التي تذكر التلميذ الحبيب تتخذ كإطار لها بعض الأحداث المهمة في البشارة الانجيلية وهي العشاء الأخير، المحاكمة، الصليب، القبر الفارغ والظهورات في الجليل.
في يو 23:13-25 كان التلميذ حالسًا باتجاه يسوع.. فمال على صدره وسأله من الذي يسلمه. اللفظة اليونانية Kolpo تعني مائلاً إلى حضن يسوع وهو التعبير عينه المستعمل في يو 1: 18 عن الابن الوحيد الجالس في حضن الآب. كما أن يسوع في حضن الآب كذلك التلميذ الحبيب هو في حضن يسوع. العلاقة الحميمة بين الآب والابن تجعل من الابن الوحيد الشخص الذي يخبر عن الآب، يكشف عنه ويظهره للعالم. كذلك التلميذ الحبيب يشهد ليسوع، يعرّف عنه، ويشرح كلمته في الجماعة المؤمنة. إذًا المحبة هنا مرتبطة بالمعرفة وبالشهادة ليسوع، وهي عمليًا نتيجة الإيمان.
في موقف آخر عند الصليب كان التلميذ واقفًا مع أم يسوع (يو 19: 26-27). بطرس قد أنكر والآخرون اختفوا، وبقي الحبيب وحده من بين التلاميذ. لم يعد شاهدًا فحسب بل تلقّى من الرب أمرًا بأخذ مكانه قرب أمه. في لحظة ذهابه وارتفاعه عن هذه الأرض يسلمه يسوع مهمة جديدة، يصبح هو الابن باسم يسوع كي يتابع عمله ويدعو إلي عائلته الجديدة كل مؤمن. وهذا واضح في يو 19: 35 إذ يكمّل النص: "الذي رأى هذا يشهد به وشهادته صحيحية ويعرف أنه يقول الحق، حتى تؤمنوا مثله". وهكذا فشهادة التلميذ الحبيب هي دعوة للإيمان.
أما الموقف الثالث فيظهر عند القبر الفارغ في يو 2:20-10 حينما سبق التلميذ الحبيب بطرس إلى القبر ولكنه انتظر حتى يدخل بطرس أولاً، وهذا اعتراف بأولوية بطرس وبدوره المعروف في تقليد الكنيسة على أنه الشاهد الأول للقيامة. ولكن رغم ذلك يقول النص إن التلميذ الآخر، عند دخوله، رأى وآمن، مع أنهما كافا لا يفهمان بعد ما جاء في الكتب. التلميذ الحبيب سبق بطرس في مسيرة الإيمان، بل نعمة الإيمان سبقته هو أيضًا لأنه فهم رمز القبر الفارغ قبل أن يفهم ما ورد في الكتب المقدسة. نرى أن هذا النص أيضًا يشدّد على موقف الإيمان. والنصوص الآخيرة عن التلميذ الحبيب ترد في إطار القيامة. الصيد العجائبي في يو 21: 1-8 يعيد رسم الأدوار عينها بين بطرس والتلميذ الذي كان يسوع يحبه. نقرأ في الآية 7: "فقال التلميذ الذي كان يحبه يسوع لبطرس: هذا هو الرب. فلما سمع سمعان بطرس قوله هذا هو الرب لبس ثوبه لأنه كان عريانًا وألقى نفسه في الماء". عرف التلميذ يسوع قبل الجميع، لأن إيمانه مميّز حتّى بالنسبة إلى إيمان بطرس. طبعًا تصرف بطرس لاحقًا متأثرًا بهذه الشهادة الإيمانية ولكن بقى كما يعرفه التقليد المسيحي مندفعًا يرمي بنفسه في الماء دليل حماسه وتعلقه الشديد بيسوع، كما تبدو مسؤوليته كالراعي الجيّد الذي يجّر الشّباك دون أن يمزقّها.
وأخيرًا في 21: 20-24 حيث نعلم بموت التلميذ الحبيب قبل الانتهاء من كتابة الانجيل، يعطينا النص معنى حياته ومصيره، وكون شهادته مرجعًا أساسيًا حاسمًا للكنائس اليوحناوية. رغم اعتراف الانجيل ببطرس راعيًا للكنيسة الجامعة وشاهدًا للإيمان لحد الشهادة، فهذا النص يفتح المجال للقبول بشرعية كنائس أخرى مختلفة تلتزم بشهادة التلميذ الحبيب وبخط المدرسة اليوحناوية، دون أن تنفي علاقتها وارتباطها بالكنيسة الرسولية.
ما يميّز التلميذ الحبيب إذًا في هذه النصوص هو إيمان بيسوع. هذا الإيمان العميق يدفعه للمعرفة والحب وصدق الشهادة.
بالتناقض مع باقي التلاميذ، لا يظهره الانجيل معارضًا أو مسيئًا فهم يسوع. حتى سؤاله خلال العشاء الأخير (23:13) كان بالواقع يطرح سؤال بطرس. التلميذ الحبيب يؤمن بالعمق قبل أن يرى القيامة وقبل أن يفهم الكتب (8:20). إنه يقود الآخرين إلي يسوع، بمن فيهم بطرس (18: 15-16؛ 7:21). إنه التلميذ المؤمن في كل خطوة وفي كل مرحلة، حتى عند الصليب بقي أمينًا، ثابتًا في الإيمان وفي كلمة يسوع. إنه مثال المؤمن الحق. وبما أن الانجيل لا يذكر اسمه فهذه أيضًا دعوة ليكون كلُ قارئ التلميذَ الحبيب، ليلتقي كل قارئ بيسوع بالإيمان والحب والمعرفة. مع التلميذ الحبيب كل مؤمن مدعوّ لقبول الشهادة بالإيمان فتثمر حياته بالمحبة والمعرفة، ويستطيع عندها كل مؤمن أن يكتب شهادته الخاصة، أن يكتب الانجيل الخامس الذي هو إنجيل كل منا بعلاقته مع يسوع. إذًا، بالاضافة إلى أبعادها التاريخية والرمزية المختلفة، إن شخصيّة التلميذ الحبيب هي نقطة التقاء كل تلامذة يسوع في كل الأجيال، حيث الإيمان يتخطّى حدود الزمان والمكان، ويفتح الطريق للجميع في السير نحو الآب بالمعرفة والحب والشهادة. هذا الطريق مفتوح أمام خيار الانسان.
وبالواقع، إن الوجه الإيجابي للتلميذ الممثّل بالذي كان يسوع يحبه، يقابله الوجه السلبي للتتلمذ، التلميذ الفاشل أو التلميذ المزيّف، يهوذا الاسخريوطي، وكلّ منا مدعو إلى أخذ موقف.
عمليًا، تحتل شخصية يهوذا في إنجيل يوحنا مكانًا أوسع ممّا يعطيه الازائيون متى: 4 مرات، مر: 3، لو: 4، أع: 2، يو: 8 مرات). يسمّيه يهوذا في 4 مراجع (13: 29 و18: 2، 3، 5) ويهوذا بن سمعان 3 مرات (6: 17؛ 13: 2-26) ويدعوه مرة واحدة باسم الاسخريوطي (12: 4) عدا ذكره في تعابير غير مباشرة: "ابن الهلاك" (17: 12) و"الذي أسلمني إليك" (19: 11).
يو 6: 70- 71 يذكره للمرة الأولى في الانجيل، عندما سأل يسوع الاثني عشر أن كانوا يريدون هم أيضًا أن يذهبوا ويتركوه، أعطى بطرس جوابًا إيمانيًا: "إلى من نذهب يارب..". فاستطرد يسوع: "أما اخترتكم أنتم الاثني عشر لكن واحدًا منكم شيطان- وعنى بذلك يهوذا بن سمعان الاسخريوطي". رغم فعل الإيمان الذي قام به بطرس، تدخّل يسوع ليكشف عن موقف الخائن وكأنه يوحي بذلك أن تعبير بطرس عن الإيمان لا يمثّل موقف يهوذا. منذ البداية لا ينتمي يهوذا إلى التلاميذة الحقيقيّين لأنه بعيد عن موقف الإيمان.
بالاضافة إلى نقص الإيمان، يعيطه الإنجيل صفة أخرى في 12: 1-8. تجاه المرأة التي سكبت الطيب على يسوع، اعترض يهوذا "لا لعطفه على الفقراء بل لأنه كان لصًا وكان أمين الصندوق فيختلس ما يودع فيه" (6:12). يبيّن الكاتب عدم نزاهته. وليس ذلك لرسم وضعه الأخلاقي بقدر ما هو لتبيان ابتعاده عن وصية المحبة التي أعطاها يسوع. بتصرفه هذا يخطأ يهوذا ضد المحبة ويختلس ما خُصّص للفقراء. وهذه الفكرة غير مذكورة في الأناجيل الازائية. بالنسبة للانجيل الرابع النقص في الإيمان لدى يهوذا يرافقه أيضًا نقص في المحبة.
يستمرّ موقف يهوذا في العشاء الأخير، حيث يردّد يسوع في 18:13 "إن الذي أكل خبزي رفع عليه عقبه"، مستشهدًا بآية من المزمور 9:41. فخيانة يهوذا تكمّل ما هو مكتوب. سمح يهوذا لابليس بالدخول فيه واستعماله، "فخرج وكان الوقت ليلاً" (13: 30). تجاه يسوع نور العالم اختار يهوذا أن يسير في الظلام. وانجيل يوحنا لا يظهره أبدًا نادمًا أو متأسفًا كما في الأناجيل الازائية؛ بالنسبة له "الدينونة هي أن الناس فضّلوا الظلمة على النور" (3: 19)
بقي يهوذا متصلبًا في اختياره وفي موقفه، فذهب مع الجنود والحرس إلى البستان ليسلم يسوع (يو 18). وكانوا يحملون المصابيح والمشاعل مع أن القمر يكون بدرًا ليلة الفصح. يهوذا الذي غرق في الظلام يستعين بأنوار اصطناعية لا يمكن أن تنيره في الداخل. ومن الملاحظ أيضًا عند يوحنا أن يهوذا لا يقترب من يسوع ولا يعطيه قبلة، لأن الظلام لا يقترب من النور ولا يلمسه حتى جسديًا. يسوع هو قدرة الله، ولا لقاء بينه وبين إبليس.
وهكذا، فإن شخصية يهوذا تكوّن إنذارًا للجماعة المسيحية. رغم انتقاء يسوع له، يبدو أنه فقد الإيمان (6: 71) وسار في الظلام (13: 30) وخان معلمه الالهي. وقوعه التدريجيّ في الظلمة تنبيه للكنيسة ولكل مؤمن يتبع المسيح ويتتلمذ له. إنها قصّة التتلمذ الفاشل، والخطر الذي يتعرّض له التلميذ في أن يخسر إيمانه، يخسر الحب، يخسر النور ويخسر إذًا نعمته كتلميذ.

خاتمة
هذه القراءة لانجيل يوحنا تضعنا أمام اختيار وتدعونا لأخذ موقف. فالمؤمن ليس فقط من يتبع يسوع ماديًا وخارجيًا، بل من يتتلمذ له إلى حدّ يصبح فيه مسيحًا آخر. فهو- التلميذ الحق- كالابن يتطلع صوب الآب، يحفظ كلمته ويعبّر عن حبه. كالابن يعمل أعمال الآب وطلباته مستجابة لأن كل ما يسأله باسم يسوع يناله. وكالابن يتلقى الروح القدس. وكالابن هو محبوب من الآب الذي يراه ويعرفه. وهو كالابن يحيا: حبه لإخوته هو حب الابن المتجلي في قلبه، الساكن في حياته.
لماذا نتبع يسوع اليوم؟ ربما ليس هناك سبب آخر سوى أننا آمنّا به وعرفناه واختبرنا الحب إذ إن هناك من يحبنا ومن هو أكبر من قلبنا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM