الفصل الثالث والعشرون: يوحنا المعلّم الروحيّ

الفصل الثالث والعشرون
يوحنا المعلّم الروحيّ
الخوري مكرم قزاح
والأخت ماري انطوانيت سعاده

"الآب نفسه يحبّكم لأنكم أحببتوني، وآمنتم أني خرجت من لدن الله" (يو 27:16).
إن كلمات يسوع هذه تعبّر عن كل روحانية القديس يوحنا. لقد أحبَّ القديس يوحنا يسوع الذي من الناصرة حبًا شديدًا. منذ اللقاء الأول، صار يسوع بالنسبة إليه محور تفكيره وحياته. وبما أنه تبع يسوع، وأقام حيث يقيم، وبقي معه، واستمع إليه وأحبّه، فهو يعرف أن الآب يحبّه.
لقد أنار يسوع حياة يوحنا: هو أوحى إليه بالآب الذي ما رآه أحد البتّة (18:1). وهكذا فان يوحنا لم يكتب إلاّ ليحدّثنا عن يسوع، ويقودنا بواسطته إلى الآب، ومن ثمّ ليوصلنا إلى الحياة، "لأن الحياة لّد ظهرت، فرأينا ونشهد، ونبشركم بالحياة الأبدية، التي كانت عند الآب، وظهرت لنا" (1 يو 1: 2). أجل إن الحياة التي كانت عند الآبّ قد ظهرت لنا في يسوع الذي من الناصرة.
إذًا لا ينبغي أن نتوقّع من إنجيل القديس يوحنا شيئًا آخر سوى هذه الشهادة على يسوع بالنسبة إلى التلميذ الذي كان يسوع يحبّه. إن كل ما يصبو إليه الإنسان، وأعمق رغبة فيه، موجود في يسوع كما في ينبوع النور، الحقيقة، الحياة... لا أحد يذهب إلى الآب إلاّ به، لأن "كل شيء به كوّن، وبغيره ما كوّن أيّ شيء" (1: 3).
يسوع هو الكرمة التي ينبغي لكل إنسان أن يطعّم فيها، كما الغصن، لكي يغمره ملء الحياة وكل الفرح الذي لا أحد يمكنه أن ينزعه منه (16: 22).
لذلك فان إنجيل يوحنا يفترض علاقة طويلة للكاتب مع يسوع الإنسان، فهو كلّه نتيجة لإقامته معه: "رابّي، أين تقيم؟ (...) تعاليا وانظرا (...) وأقاما عنده ذلك اليوم، لكي لا يعودا ينفصلان عشه إلى الأبد (1: 38-39).
من هنا كان التشديد على الشهادة: "ذاك الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي أبصرناه ولمسته أيدينا، ذاك الذي هو كلمة الحياة (...) به نبشركم أنتم أيضًا، لتكون لكم أنتم أيضًا شركة معنا. وشركتنا إنما هي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونحن نكتب إليكم بهذا ليكون فرحنا كاملاً" (1 يو 1: 1- 4).
أجل "الكلمة صار جسدًا (...) ورأينا مجده، مجد إبن وحيد، آتٍ من الآب، ملآن نعمةً وحقًا" (1: 14).
هناك تشديد وإلحاح على التجسّد: "بهذا تعرفون روح الله، أن كل روح يعترف بأن يسوع المسيح قد أتى بالجسد، يكون من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله. وهذا هو روح المسيح الدجّال" (1 يو 4: 2-3).
لقد سمّر القديس يوحنا نظره مطوّلاً على شخص يسوع، وهو يدعونا بإلحاح إلى هذا التأمل عينه في شخص يسوع. فإنه يشدّد على طابع الوحي في عمل الله أكثر منه على ديناميته. فيوحنا يعرض بحبّ شديد أمام عيوننا، عطيّة الله، ويدعونا إلى سبر غورها: "هكذا أحبّ الله العالم، حتى إنه جاد بابنه الوحيد، لكي لا يملك أيّ مؤمن به، بل تكون له حياهّ أبديّة" (3: 16). "لو كنت تعرفين عطيّة الله..." (4: 10)، كما قال يسوع للسامرية.
في الواقع، لن يمكننا أن نكتشف دينامية عمل الله متجلّيًا في حياة الإبن، إلاّ من خلال هذا التأمّل الطويل، ومن خلال إقامتنا معه: "سينظرون إلى الذي طعنوه" (19: 37).
في تلك الساعة فقط اكتمل فعلاً عمل المسيح، واكتمل الوحي. إنها ساعة حياته في قمّتها. إنها الساعة المحور في تاريخ الكون وبها يتعلّق كل شيء. والمقصود إنما هو مجد الساعة، ذلك المجد الذي يحتوي سرّ يسوع بكامله. وما يكتشفه يوحنا، ليس هو القدرة على الظفر، بل هو بالحري عودة إبن الله إلى حيث كان قبلاً، وظهور مجده كاملاً، وإعلان غنى عطيّة الله التي أعطاناها فيه: "لما ذاق يسوع الخلّ قال: لقد تمّ! ثمّ حنى الرأس، وأسلم الروح" (19: 30).
وحين يوحي يسوع إلينا بالآب، يمنحنا أيضًا الروح القدس، ويضحي حتى بجسده ينبوعًا يتفجّر حياة للعالم، غذاءً حقيقيًا للناس، خبزًا يعطى ويكسر من أجل عالم جديد.
وينتج عن ذلك لاهوت وروحانية ذات طابع تأمّليّ، تمتدّ جذوره إلى الأبدية، إلى الوقت الذي هو قبل كل بدء، حيث كان الكلمة مع الله، إلى الحبّ الذي أحبّ به الآب الإبن قبل إنشاء العالم (17: 24).
وهكذا فالابن الوحيد، كما تأمّله يوحنا، صار لنا بتجسّده "شارح الآب"، كما يحبّ القديس ايريناوس أن يعبّر. فقد "أظهر لنا اسمه" (17: 6 و26)؛ ونقل إلينا بأمانة كلمته وتعليمه (17:7؛ 8:17)، وأظهر لنا مشيئته (29:6 و38-40)، وعبّر لنا عن حبّه (16:3)، وعكس لنا ملامح وجهه: "من رآني رأى الآب" (14: 9)، لأني "أنا والآب واحد" (10: 30).
وكيف يكون تقبّلنا نحن؟ فان الكلمة لا يرغم البتّة الحرّيات التي هو خلقها. إنه ينتظر أن يفتح الباب (رؤ 3: 20)، حتى يفيض على الذين أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، الملء الذي فيه: "أجل، من ملئه نحن كلنا أخذنا نعمًة تلو نعمة" (1: 12 و16)، لأننا للحياة خلقنا، وانجيله هو حقًا إنجيل الحياة.
وقد تكون عظمة يوحنا في أنّه يضع رسالة يسوع في علاقة مباشرة بأعمق ما يصبو إليه الكيان الإنساني في صميمه الأكثر تطلّبًا والأوسع شمولاً، وهي رغبته في الحياة، في حياة دومًا أكثر وأفضل؛ ثمّ في أنه يعرض لنا شخص يسوع السيّد والمعلّم الأوحد لتلك الرغبة وغايتها القصوى، لأن جذور الانسان في ذاتها وأشواقه كلّها هي في عطش دائم إلى النور، على حدّ قول صاحب المزامير: "ياربّ، رغبتي كلها أمامك" (مز 38: 10).
مع يوحنا، يمكننا أن نحدّد المتأمل بأنه هو الذي يبحث عن الداخل، عمّا هو أبعد من الأشياء، ليصل إلى الإنسان في أعمق كيانه، في جذوره، هناك حيث الرب يكون في انتظار كل منّا.
لذلك يسم يوحنا هذا الموقف التأملي بطابع الجذريّة والشخصانيّة والشموليّة والديناميّة.

1- الجذريّة
بالنسبة إلى المسيحي، الكلمة المتجسد هو محور كل شيء. فعليه وعليه وحده يركز نظر المتأمل ليكتشف فيه "الطريق والحق والحياة" (14: 6).
أ- يسوع مرسل الآب
في الواقع، إن الكلمات التي يقولها يسوع هي في الحقيقة دعوة إلى ملاقاته هناك حيث هو، حيث هو يقيم، حيث هو يحيا في الملء؛ مشدودًا كلّه إلى الآب، أبيه. إنها جذرية حياة بكاملها مشدورة إلى الآب الذي هو مرسل من لدنه. فهو بكل كيانه موجود في هذا الانشداد وهذه الحركة صوب الآب.
في اللاهوت العبري ما بين العهدين، أي في مرحلة حياة يسوع التاريخية، كانت الكلمة "ش ل ي ح" المرسل، تعني من له ملء السلطان، فردًا كان أو جماعة، أي من تكون هويتّه كهويّة مرسله، بحسب الجماعة الشهيرة "مرسل الإنسان هو الإنسان في نفسه" "ش ل و ح و. ش ل. ا د م. ك م و ت و" كما في العبرية. فالمرسل شبيه جوهريًا بمرسله، وبهذا المقدار فقط يمكنه أن يكون مرسلاً. أما الرسالة بحدّ ذاتها فليست أوّليّة، بل هي ثانويّة تابعة.
في العهد القديم، دعي أبناء كثيرون "مرسلين" من قبل الله، ولكن في الأدب الرابّيني القديم فإن استعمال كلمة "شليح" كإسم لا كنعت فحسب، يبدو محصورًا في النبيّين موسى وإيليا فقط، لأنهما قبلا وحي مجد يهوه، ونقلا توراته ومشيئته إلى شعبه.
هكذا فان موسى يدعى "شليح" في إطار وحي العلّيقة الملتهبة أو وحي سيناء، أمّا إيليا فقد رأى الله في حوريب. بالواقع فإن هذا الطابع الخاص بالوحي في سيناء، هو ما يجعل موسى نبيًا كليًا على حدة، كما جاء في عد 12: 5-8: "فمًا إلى فم أخاطبه، وعيانًا لا بألغاز، وصورة الربّ يعاين". أمّا إيليا فيدعى أيضًا "شليح" ولكن في إطار آخر.
نقرأ في إطار ليورجي قديم، في كتاب "تعنيت"، أن "رابّي يوحنان يقول: إن في يد القدوس- ليكن مباركًا- مفاتيح ثلاثة لم توضع في يد أي "شليح". وهي مقتاح الأمطار المرتبط بالدينونة، ومفتاح الحياة، ومفتاح قّيامة الأموات.
وفي شأن إيليا، عندما كان يريد أن يقيم من الموت إبن الأرملة، بعد أن كان قد نال من الله مفتاح الأمطار، يضع المدارش في فم الله هذه الكلمات: "إذا نفّذت لك ما أنت تطلبه مني، سيقولون: "في يد التلميذ مفتاحان، وفي يد المعلم مفتاح واحد. ردّ لي المفتاح الأول لأعطيك الثاني".
لقد نال إيليا المفاتيح التي لم ينلها أي "شليح"، ولكنه نالها واحدًا بعد واحد، لا في آنٍ معًا.
في ختام هذا القسم الأول، يمكننا القول إن كلمة "شليح" مرسل- هي وصف مميّز للوسيط بين الله وشعبه، وقد كان موسى وإيليا أوّل من وصف به. وهو يشدّد على النعم الإلهية الخاصة المعطاة للوسيط: عطيّة التوراة، عطيّة المفاتيح، والوحي الخاص الذي أوحي إليه به.
وبحسب الأناجيل، وخصوصًا إنجيل يوحنا، ليس يسوع معلّمًا مثل الآخرين، ولا هو "شليح" على طريقة موسى وإيليا.
هناك ثلاثة مفاتيح، كما سبق القول أعلاه، لم يعطها الله في الوقت عينه لأي من المرسلين، هي مفتاح الحياة، ومفتاح الأمطار المرتبطة بالدينونة، ومفتاح القيامة من بين الأموات. ففي يوحنا 5: 19 يُظهر يسوع نفسه أنه الابن الذي لا يستطيع أن يفعل شيئًا من تلقاء نفسه، بل هو يفعل ما يرى الآب يفعله. وهذا هو التحديد الكامل للمرسل بصفته كامل السلطان؛ ويسوع يحدّد رسالته كما يلي:
"الحق الحق أقول لكم: من يسمع كلمتي، ويؤمن بمن أرسلني، ينال حياة أبديّة (المفتاح الأول)؛ ولا يأتي إلى دينونة (المفتاح الثاني)، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة (المفتاح الثالث). الحق الحق أقول لكم: تأتي ساعة، وهي الآن، فيها يسمح الأموات صوت أبن ألله، ويحيا الذين يسمعون. فكما أن الآب له الحياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته (المفتاح الأول)؛ وأعطاه سلطانًا به يدين، لأنه ابن الإنسان (المفتاح الثاني). لا تتعجبوا من هذا! إنها تأتي ساعة، فيها يسمع صوته كل من في القبور، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة (المفتاح الثالث)؛ والذين عملوا السّيئات إلى قيامة الدينونة" (5: 24، 29).
هكذا يتضح أن يسوع هو "شليح" الله بنوع أسمى بكثير من إيليا الذي لم ينل إلاّ مفتاحًا واحدًا في كل دفعة.
ويتبع في الفصل عينه تصريحات ليسوع تصفه، هذه المرّة، لا بالنسبة إلى إيليا، بل بالمنسبة إلى موسى. نحن نعرف أن الله أيّد موسى بعجائب تُسمّى "آيات". وكذلك نسمع من فم يسوع: "الأعمال التي أعطاني الآب أن أتمّمها، تلك الأعمال نفسها التي أعملها، تشهد أن الآب أرسلني" (5: 36)،
إنّ ليسوع المميّزات نفسها التي لموسى، ولكنه يتخطّاه بكثير: "الآب الذي أرسلني هو يشهد لي. وأنتم ما سمعتم يومًا صوته، ولا رأيتم محيّاه، ولا جعلتم كلمته راسخة فيكم، لأنكم لا تؤمنون بمن أرسله الآب" (5: 38).
يعتبر اليهود موسى "مُرسلاً" كلَّمهُ الله "كلامًا مباشرًا"، لقد "سمعوا" ورأوا الأصوات (خروج 18:20). فإن قيل لهم إنهم لم يسمعوا صوت الله البتّة، لأنهم لا يؤمنون بيسوع الذي أرسله الله، فذلك يعني بوضوح أن المرسل الحقيقي الأوحد المسؤول كلّيا عن كلام الله ليس هو موسى بل هو يسوع: "إنكم تبحثون في الكتب، لأنكم تحسبون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم الحياة" (5: 39- 40).
فليس يسوع من بعد "مرسلاً" على طريقة إيليا، بل على طريقة موسى، وبطريقة أسمى جدًا. وهنا ننتقي بحدث التجلي حيث يظهر يسوع بصفته الأقرب من الله، متفوّقًا على كلا المرسلين من قبل الله في العهد القديم، أي موسى وإيليا.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن موسى لا يكون "مرسل الله" إلاّ رمزًا ومثالاً للمسيح يسوع. والذي نسمّيهم نحن "رسلاً" ليسوا إلاّ بقدر ما يتمثّلون بالمسيح يسوع. فيسوع، بصفته متفوقًا على موسى والرسل، هو "مرسل الله" بأسمى معناه، وله وحده حقًا ملء سلطان الله. وهكذا نفهم قوله يسوع لرسله: "من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل من أرسلني" (متى 10: 40). هنا يظهر الرسل حاملين ملء السلطان من يسوع، ويسوع حاملاً ملء السلطان من أبيه. فإن علاقة موسى بيسوع، وعلاقة الرسل بمعلّمهم هي أشبه بمنعطفَي جبل قمّته يسوع.
لا أحد آخر أوحى إلينا وأشركنا في سرّ المُرسَل وديناميته، مثل يوحنا. ولا أحد آخر أوحى إلينا بهذا المقدار تلك الوحدة العميقة التي تربط يسوع بأبيه: "أنا والآب واحد". فمن هذه الوحدة العميقة يجري، كما من الينبوع، إرسال الابن إلى العالم، بقوة الروح القدس: "من رآني رأى الآب". إنه الأوحد. لكنه ليس وحده، كما رأينا سابقًا: هو مشدود إلى أبيه، وبقوّة هذه الحركة نفسها هو مشدود إلى إخوته. وكل رغبته إنمّا هي في أن يعود فيصعد بإخوته جميعهم إلى الآب، إلى حيث هو مقامه الحقيقي، ومقامنا الحقيقي نحن أيضًا.
في بدء الإنجيل سأل التلميذان الأولان يسوع: "أين تقيم؟". فأجابهما: "تعاليا وانظرا" (آ: 38-39). وفي ختام الإنجيل، يظهر لهما مقامه الحقيقي: إنّه في علاقته بالآب، علاقة محبة وشركة، نحن أيضًا فيها مشاركون، ودعوة ملحّة إلى الدخول في الفرح الفصحي الكبير، فرح الشركة مع الآب، أبيه: "إن تحبّوني تفرحوا بأني ذاهب إلى الآب" (14: 28).
في الواقع، كما قال يسوع لتلاميذه في خطابه الأخير لهم قبل موته: "غير أني أقول لكم الحق: خير لكم أن أمضي. فإن لم أمض لا يأت إليكم البرقليط المعزّي. أما إذا ذهبت فإني سأرسله إليكم (...) ومتى جاء روح الحق فهو يقود خطاكم في الحق كله" (16: 7-13)، و"سترون أني أنا حيّ وأنتم ستحيون. في ذلك اليوم تعرفون أني أنا في أبي، وأنتم فيّ، وأنا فيكم" (19:14-20).
أجل، إن يسوع لا يطلب إلاّ أمرًا، هو الإيمان بشخصه، الإيمان بصفته إبنًا مرسلاً من قبل الآب، لأننا بدونه لا يمكننا أن نعمل شيئًا (15: 5). فالمقصود دائمًا هو التحام جذريّ بشخصه: الإيمان به هو قبول عطيّة الله، أي دفق حبّ الثالوث على البشر؛ هو قبول حياة الله، لأنه هو نفسه يختصر رسالته في هذه العبارة: "أنا أتيت لتكون للخراف حياة، وتكون لهم وافرة" (10: 10).
ب- غسل أرجل التلاميذ
والايمان هو أن نكون شهودًا لهذا الحبّ الجذري الذي يملك هو سرّه. إن حقيقة العالم الجديد هذه يشير إليها يسوع ويجسّدها في هذا العمل غير المألوف، وهو غسل أرجل تلاميذه.
أولاً، لقد حدث في أثناء عشاء، لا قبله، كما قد يفترضه قانون الضيافة. إذًا ليس المقصود هنا عمل ضيافة.
ولا هو طقس تطهير. فقد أعلن يسوع نفسه ذلك: "أنتم أطهار" (13: 10). فليس هناك شيء للتطهير.
ولا هو فعل تواضع. فلم يقم يسوع بهذا العمل لكي يواضع نفسه. فإنه المعلم والربّ، كما هو قال، ولو غسل أقدامهم (13: 13).
إن غسل أرجل التلاميذ هو فعل محبة، محبة قصوى: "قبل عيد الفصح، إذ كان يسوع يعلم أنّ ساعته حانت ليعبر من هذا العالم إلى الآب، وقد أحبّ خاصته الذين في العالم، أحبّهم إلى الغاية" (13: 1).
إنه شهادة على الحريّة التي بها سيلقى يسوع آلامه، فصحه، حيث سيبدو أنه يحتمل ما أراده الآخرون له. أمّا في غسل الأرجل فهو يوضح أنه يعطي نفسه بحريّة، وأن لا أحد يأخذ منه حياته، بل هو الذي يعطيها. ولهذه الغاية نفسها ينزع عنه الرداء لكي يكون حرًا أكثر في حركاته، ثمّ يعود فيأخذه عندما ينتهي من عمله. وهكذا أوضح هو نفسه: "الآب يحبني لأني أبذل نفسي، لكي أعود فأسترجعها. لا أحد ينتزعها مني، بل أنا أبذلها من تلقاء نفسي. لي سلطان أن أبذلها، ولي سلطان أن أعود فاسترجعها. هذه الوصية قبلتها من أبي" (17:10-18).
إنّ يسوع، وهو المعلّم والربّ، يجثو أمام كل واحد من رسله، أمام كل واحد منهم، وأمامهم جميعًا، أمام من هم أطهار، وأمام ذلك الذي لم يكن طاهرًا. إنه يؤكّد علاقته الخاصة بكل واحد. وعلى مدى الجماعة البشريّة، يمرّ يسوع من واحد إلى آخر، مردّدًا العمل نفسه، ولكنه في كل مرّة عمل فريد، لكي يقول لكل واحد: إسمح بأن تُحَبّ، دعني أحبّك... يردّد لبطرس، وليوحنا، وليهوذا الذي عزم في قلبه أن يسلمه قائلاً: دعني أحبّك! فلا فرق بين الاثنى عشر، ولا فريق بين البشر. من أجل هذا خرج من الآب، لكي يعيدنا جميعًا إلى الآب (3:13). في هذا يكمن كل معنى فصحه.
"إن لم أغسلك فليس لك نصيب معي" (8:13): دعنى أحبّك! على الغاية، وأعطيك كل شيء، وإلاّ فانك لن تستطيع أن تشترك في ما أنا هو، ولن يكون لك نصيب في حياتي وموتي، ولن تكون لك شركة في جسدي ودمي، ولا نصيب في آلامي وقيامتي. فغسل الأرجل هو فعل مشاركة، هو سرّ مشاركة. ففي ذلك المساء، بصورة مسبقة، كما في رسم الافخرستيّا، بحسب رواية الإزائيين، يسمع يشرك خاصته في رسالته وفي آلامه. في ذلك المساء كان لهم نصيب معه.
ولكن هذا الفعل لا يكتمل في هذه المشاركة، بل ينبغي أن يتواصل ويتكاثر حتى اللانهاية في التلاميذ وفي تلاميذ التلاميذ. وهذا هو الدليل على جذريّته. وكما في رسم الافخرستيا: "إصنعوا هذا لذكري"، كذلك في مشهد غسل الأرجل: "فإن كنت أنا الربّ والمعلّم قد غسلت أقدامكم، فعليكم أنتم أيضًا أن يغسل بعضكم أقدام بعض. لقد أعطيتكم مثالاً، لتفعلوا أنتم أيضًا كما فعلت أنا لكم" (13: 14-15). إنه العمل نفسه، والخدمة نفسها، والحبّ نفسه. فليس هو تردادًا، ولا تقليدًا، إنما هو "أخذ نصيب"، لأنه مثل وطريقة تصرّف يسلّمنا إياهما الرب وإذ يسلّم نفسه، يسلّمنا طريقة وجود: وهنا الجديد، وهنا كل الجذريّة.
لا يطلب يسوع لنفسه شيئًا. فهو لا يقول لتلاميذه كما أنا أحببتكم، أحبّوني أنتم بالمقابل، بل بالأحرى يقول: بما إني أحببتكم، أحبّوا بعضكم بعضًا. والجواب على الحبّ الذي أظهره لكم لا ينبغي أن ويعود إليّ، بل أن يحملكم نحو إخوتكم: بهذا ستجرفون- وسيعرف الآخرون -أن لكم نصيبًا معي.
إبن ألله بغسل أرجل البشر، وقد وسّخها الغبار، ورضّضتها الحصى، أرجل الجميع، جميع أولئك الذين سيأتون من بعد، وجميع أولئك الذين أتوا من قبل، الأبرار والفجّار، الصالحين والإشرار. وهذا ما يعطي معنى للتبشير بالانجيل. فقبل أيّ رسالة، وقبل أيّ إعلان، هناك غسل الأرجل، هو شرط بدونه لا نجاح لكل رسالة.
في مشهد غسل الأرجل، من هو أعظم من الآخر؟ الذي يُخدَم أم الذي يخدم؟ إن يسوع، وهو المعلم والربّ، جاث على الركبتين. والتلميذ، وهوّ ليس إلا تلميذًا، يبدو وكأنه فوق المعلم. مع ذلك فالخادم ليس فوق المعلم. ولكنه لم يقل إنه تحته. في الحقيقة إن المواضع قابل للتغيير. فاغسلوا أرجل بعضكم، بعضًا، وليس ذلك إذلالاً متبادلاً، بل هو اعتراف من قبل الجميع بكرامة كل واحد لو كان كل واحد يغسل أرجل الآخر... لما كان ملكوت الله بعيدًا... ولكن يجب أن يكون أحد هو البادئ... حتى تنطلق الحركة، وتشتعل النار؛ ولا يمكن أن يكون إلاّ إنسان آتيًا من مكان آخر، هو الكلمة المتجسّد. فلا أحد منّا، ولا من عندنا، كان في إمكانه أن يجترح ذلك بهذه البساطة، لأنه عمل العبيد، وعمل من هو الأحقر بينهم. فلم يكن في الإمكان أن يكون إلاّ عمل ذلك المرسل، الأوحد، الذي نسمّيه إبن الله، الذي يمكنه وحده أن يجعل كل شيء جديدًا (رؤ 21: 5):
"ما فعلته أنا، افعلوا أنتم أيضًا". جدّدوا فعلبهم هذا، واصلوه، كثّروه، لذكرى، وباسمي، وفي شركة معي، وبواسطتي، مع الآب الذي أرسلني، وكأنه "نصيب" من ذاتي، ومن رسالتي، بقوة الروح القدس. "إن علمتم هذا، وعملتم به، فطوبى لكم!" (13: 17).

2- الشخصانيّة
الكلمة المتجسّد، كما أوحى ذاته وأسلم ذاته لنا، هو سرّ لقاء: لقاء حياة الله التي ظهرت وتجلّت، والحياة التوّاقة في الإنسان. إن إنجيل يوحنا هو بكامله قصّة هذا اللقاء الذي فيه ينجلي مجد البدايات: "رابي، أين تقيم؟"
الإنسان هو في جوهره كائن يصبو ويتوق. فبخلاف بعض الفلسفات التي ترى في هذا الشوق أصل شرورنا كلها، فتروح تبحث عن الخلاص في إطفاء ذلك الشوق، وبخلاف بعض المناهج التي تغالي في وصف الشوق كأنه قيمة مطلقة، فإن الكلمة المتجسّد يصل إلى الإنسان في أعمق أشواقه. ويوحنا يرى في ذلك أوّل قوّة دافعة قد طبعها الخالق نفسه في خلقه، إذ يدعوه إلى مشاركته في حياته لأنّ الإنسان، من ذات خلقه، هو في عمق كيانه "قادر على الله". وبدل أن يحاول أن يوقف تلك القوّة الدافعة، فإن يوحنا يظهر لنا يسوع آتيًا لكي يتبنّاها من الداخل ويحرّرها من رباطاتها البدائية، ويشرّعها على النور الإلهي، باعطائهم معنى ومستقبلاً: "إن عطش أحد فليأت إليّ، والمؤمن بي فليشرب" (7: 37).
إن هذا النداء من يسوع موجّه إلى ما هو الأصل الأصل والأشمل في الإنسان، ليعطيه بُعد الخلود. فهو يفتح الإنسان على ملئه، إذ يفتحه على ملء الله. وهكذا فالإنسان، على ضوء الكلمة المتجسّد، يصبح ذاك الكائن العظيم القادر على أن يكمّل نفسه كلّيًا في المشاركة مع من هو ملء الحياة.
وهذا ما يكمّله يسوع على أعلى صليبه ومن خلال قيامته. فهو يسلّم الروح الذي هو نسمة الحياة. وعندئذ كل شيء يكتمل. ولكن أيضًا كل شيء يبدأ، لأنها بالروح تتفجّر الحياة وتعطى. ومذّاك يصير في إمكان كل إنسان أن يقوم في حياته الحاضرة باختبار الحياة الأبدية، وهو اختبار شراكة. في الواقع، إن إنجيل يوحنا، بعد أن يظهر لنا أن الحياة الالهية هي بكاملها عطاء ذات، يظهر لنا أنها أيضًا في الأساس شراكة ثالوثية، مشاركة في الحب، وعمل الروح فينا:
"إن تحبوني تحفظوا وصاياي. وأنا أسأل الآب فيعطيكم برقليطًا آخر مؤيدًا يكون معكم إلى الأبد (...) أما أنتم فتعرفونه، لأنه مقيم عندكم، وهو فيكم (...) في ذلك اليوم تعرفون أني أنا في أبي، وأنتم فيّ، وأنا فيكم" (15:14-20).
من هنا كان إلحاح يسوع، في عشائه الوداعي، على مثَل الكرمة، وعلى هذا الرباط الحيويّ الذي يجب أن يكون بينه وبين التلاميذ، لكي تعطي فيهم الحياةُ الإلهية ثمرها، ثمرًا يدوم (15: 16). وما هذا الثمر سوى المشاركة مع الآب، مشاركة إلى حدّ أنها تجرّ حتمًا إلى وحدة كاملة بين التلاميذ أنفسهم: "ليكونوا كلهم واحدًا، كما أنك أنت فيّ، يا أبت، وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، لكي يؤمن العالم أنّك أنت أرسلتني" (17: 21).
في الواقع، إن بين هذه الثمار التي ينبغي أن تكتسي بها الكرمة الفريدة التي هي الابن، والتي غرسها الآب، وفيها مائيّة الروح، ثمرةً تفوق كل الأثمار الأخرى وتختصرها، هي العيش بوصية المحبة الأخوية.
ويتوسع يسوع في الحديث عنها، لأنها محور كل خطابه الوداعي. بها نعرف من نحن نكون، وهكذا تكتمل هوية المسيح والتلميذ. وبالمشاركة في هذه المحبة إلى أقصى الحدود، كما يعيشها يسوع فينا، يُعرف أحبّاؤه أولئك الذين لم يعودوا عبدًا، بل هم يحبّون بمجانيّة مثل معلمهم وربهم. أولئك يصبحون أحبّاء لأنهم تدرّبوا على أسرار حبّ الآب والابن، أسرار أظهرها يسوع للتلميذ الذي يحبّه، في أثناء العشاء الأخير، التلميذ الذي اتّكأ على صدره (13: 25).
هذه الثمرة تجعلهم يتوجّهون إلى الآب بالثقة عينها التي للابن: "الحق الحق أقول لكم: كل ما تطلبونه من الآب باسمي، يعطيكم إيّاه (...) فيكتمل فرحكم" (23:16-24). وهذه الثمرة تظهر أيضًا في الحب الذي يحمله التلاميذ بعضهم لبعض: "هذه هي وصيّتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم. ليس لأحد حبّ أعظم من هذا، وهو أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه. أنتم أحبائي إن تعملوا بما أوصيتكم به" (15: 12-14).
كل شيء يتعلّق ويتماسك بهذه النواحي المختلفة من حياة التلميذ. إنها الحياة نفسها تجري من الآب في الابن، ومن الابن في التلاميذ، بقوّة الروح الذي يقيم فيهم. إن دفق هذه الحياة هو الذي يجعل منهم كنيسة، كما يقول يسوع متوجّهًا إلى الآب: "ليكونوا كلّهم واحدًا، كما أنك أنت فيّ، يا أبت، وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، لكي يؤمن العالم أنك أنت أرسلتنَي (...) وقد عرّفتهم اسمك وسأعرّفهم، لتكون فيهم المحبة التي بها أحببتني، وأكون أنا فيهم" (17: 21 و26).
وأخيرًا، لا توجد صلاة أخرى غير هذه الصلاة. إنها صلاة العهد النهائي والأبدي، تلك التي بها يتلاقى الله والإنسان في شخص يسوع. في الواقع، كل سرّ المسيح نراه مختصرًا في الخطاب الوداعيّ هذا، حتى امتداده في الكنيسة. وفي إمكان كل مسيحي قد تتلمذ، أن يتّخذه في أيّ مرحلة من مسيرته الروحية.
هكذا تتحقّق وحدة الإنسان مع ألله بشخص المسيح، لا بتصاعد سرّي، ولا بتنوير من الروح، بل بالإيمان بمن أعطاه الآب لنا. وأعطانا له. فيه نقوم باختبار علاقة شخصية لقوة الاتحاد المتبادل بين الكائنات، وللاعتراف بالمسيح أنه وحي الآب بقوّة الروح.
وهكذا تظهر المشاركة الثالوثية كالقطب في مشروع الحياة الكبير هذا، الذي جاء يسوع ليوحي به ويحقّقه في هذا العالم (17: 21). وهي ما إليه تصبو نسمة الحياة التي جاء يسوع برسالته ليشركنا فيها، ويقدّمها لنا في كل يوم حاضر من تاريخنا، وهي ملء الحياة التي إليها يصبو شوق الإنسان منذ البدايات.

3- شموليّة
إن القديس يوحنا، بتأملّه في الكلمة المتجسّد، يجعلنا نكتشف ما لا يُرى من خلال ما يرى. فالأشياء والأحداث تصبح في ذات حقيقتها آيات لأن الكلمة المتجسّد قد اتّخذها: الخبز، الكرمة، والماء؛ كل هذه الأشياء التي هي بغاية من البساطة في إختبارنا الملموس تصبح آيات. وهكذا فجميع الأشياء لا تُرفض أو لا تؤخذ بواقعيتها، بل تمشقها حركة الروح الذي، بقوّة حضور جسد المسيح الممجّد، يجذبها إلى قلب الله. فالمادة تصير ذا قيمة روحية وأسراريّة وتأمليّة في إطار هذه الحركة التي بها يجذب المسيح معه الكون كلّه: "هاءنذا أجعل كلّ شيء جديدًا". (رؤ 21: 5).
كذلك الأمور المتعلّقة بحياة الإنسان فهي أيضًا تتجلّى: الأحداث، والعلاقات، والأشياء، والحب. ومن ثمّ تقودنا إلى شركة حبّ، مكانها وسرّها هي الكنيسة نفسها. فكلّها تشترك في عمل الله، عمل والخلاص الذي جاء الابن ليجسّده في قلب العالم بحياته وموته وبقيامته، إذ يعطينا الروح القدس.
وهكذا، يمكننا أن نتأمّل، من خلال ما يحقّقه الكلمة المتجسّد في جسدنا، النصر الشامل الذي يحقّقه المسيح في جسده وعلى عدوّ كل بشر، الشيطان، سلطان هذا العالم، الذي يحاول أن يأسرنا في الموت: "كلّمتكم بهذا ليكون لكم فيّ سلام. سيكون لكم في العالم ضيق. ولكن ثقوا: أنا غليت العالم" (16: 33).
فأننا نشترك هكذا في الحركة التي قادت الكلمة من حضن الآب إلى هذا العالم، ومن هذا العالم إلى الآب، لكي يوحّد في ذاته عالم البشر في شركة حبّ لانهاية لها: إنها إنطلاقة مستمرة من الذات صوب الآب والآخرين بأكثر ما يمكن من الحضور الباطني، في سبيل شراكة هي "إقامة" في الروح. وهكذا نصبح مشاركين في حياة الثالوث وفي العمل الذي به يخلق الكون ويخلّصه في يسوع (49:11-53).
هكذا يجذبنا جسد الرب إلى أبعد من تلك المتناقضات المألوفة بين العمل والتأمّل. فنصبح تأمّليّين بمقدار ما نشترك في حياة المسيح المتفجّرة فينا، وقد جاء في الجسد ليخلّص العالم، لأن هذا البُعد الباطني المعطي لنا لا يقدر إلاّ أن يكون بُعد الشاهد عينه.
لذلك، يصبح هذا التأمّل، لمن يعطي ذاته له إتهامًا للعالم لا ينقطع، والعالم هنا بمعناه اليوحنّوي، بكل ما تحوي هذه الكلمة من قوّة موت، عندما يستسلم لسلطان الشيطان، أبي الكذب وقاتل الناس (8: 44). فالتلميذ لا يجد نفسه أبدًا متروكًا لذاته في هذا الصراع ضدّ العالم، لأن المسيح يسوع قد وعده بذلك: "غير أني أقول لكم الحق: خير لكم أن أمضي. فإن لم أمض لا يأت إليكم البرقليط المعزي. أمّا إذا ذهبت فإني سأرسله إليكم. وهو متى جاء يوبّخ العالم على الخطيئة وفي أمر البرّ والدينونة (...) أمّا في أمر الدينونة فلأنّ سلطان هذا العالم قد أدين" (7:16- 11). وفي رسالته الأولى، يؤكّد لنا القديس يوحنا أن "الغلبة التي تغلب العالم إنما هي إيماننا. ومن الذي يغلب العالم إلاّ الذي يؤمن أن يسوع هو إبن الله؟" (1يو 5: 4- 5)
أمّا مثال هذا التأمّل الذي يجعلنا بشركة في عمل الكلمة الذي يُغلغَل في الكل وفي كل شيء، بروحه، لكي يرفعه إلى أبيه، فنجده في التلميذ الذي أحبّه يسوع، وفي موقف مريم التي أخذها إلى خاصته، والتي كانت واقفة معه عند الصليب الذي هو الآية بأسمى معانيها، كما كانت حاضرة في الآية الأولى في قانا، حيث أظهر يسوع مجده لتلاميذ. فيوحنا ومريم يعرفان أسرار "الإقامة"، وهما يدلاّننا على الطريق لنصل إليها، كما أن المسيح يظهر لنا، بقوّة الروح، الطريق التي تقود إلى الآب، حيث الإقامة الأصليّة والأصلية.

4- رغبة وديناميّة
"في البدء كان الكلمة...
فيه كانت الحياة...
وحياته كنت نور الناس..."
"من فيض نعمه نلنا جميهًا نعمةً على نعمة" (1: 1، 4-16).
إن إنجيل يوحنا هو إنجيل الحياة، إنجيل ملء الحياة، انتشار الحياة. هذه الحياة الأبدية، المخفية في الله منذ البدء، منذ الأزل، ها هي تظهر وتنكشف لعيوننا، لآذاننا، لقلوبنا، لحياتنا... لقد حلّ ملء الزمن، حتى يظهر ملء تدفّق حياة الله لعيوننا البشرية، لإدراكنا البشريّ، لقلوبنا اللحميّة: لأن "الحياة تجلّت فرأيناها..." خبرناها، نحيا منها، هي فينا نبعٌ حيّ متدفّق، لذلك "نشهد لها ونبشّركم بالحياة الأبدية" (1 يو 1: 2).
أ- الرغبة
لقد حضر زمن الله، زمن ظهوره بيننا في الجسد، لأن شوق الإنسان أيضًا مشدودٌ إلى الالتقاء بهذه الحياة التي تعجّ، التي تهدر وتضجّ، فقد أصبح جاهزًا، مرهفًا بالكفاية، شديد التوق، في استعداد للالتقاء بالله الآتي إليه، ولو كانت لقاءات يسوع في إنجيل يوحنا تكشف عن رغبة الإنسان الحقيقية، وتخرجها من أعماق كيانه إلى النور. بهذا يظهر يسوع في إنجيل يوحنا مربّيًا حقيقيًا كما يذكر إلوا لاكلار في كتابه "معلم الرغبة". إن يسوع في سياق لقاءاته بيدو مربّيًا حقيقيًا للرغبة. إنه يعمل على إيقاظها، ثم يخلّصها من مفهومها القديم، ينتزعها من الظلام الذي يلفّها ومن مفهومها الضيّق والمبهم، ثم يفتحها على النور ويوسّع مداها حتى اللانهاية. إنه نموٌّ حقيقيّ للرغبة يبدّلها ويجعلها مستودعًا لعطية الله".
ما يهمّ يوحنا هو التأكد من طبيعة هذه الرغبة، هو تطهيرها، إعادة توجيهها، استعلاؤها ورفعها وجعلها أكثر عمقًا. هذا هو عمل يسوع التربوي في إنجيل يوحنا.
أولاً: التلاميذ الأول: يو 1: 35- 51
بعد المقّدمة التي يفتتح بها يوحنا إنجيله كنشيدٍ للحياة، كفاتحة مهداة إلى إله الحياة، إلى كلمة الحياة، يأتي اللقاء الأول ليسوع ويبدأه بهذا السؤال الأساسي: "ماذا تريدان؟" هذا السؤال يهيمن على كلّ الإنجيل: "ماذا تريد؟" هذا يعني: ما هي الرغبة التي تكمن في داخلك، إلى م تتوق؟ إنه سؤال يطرحه يسوع وسوف يوقظ سؤالاً جديدًا عند التلاميذ: "رابّي، أين تقيم؟" في هذا السؤال أول تعبير ظاهر للرغبة، إذ هناك رغبةٌ خفيّة أولى عبّر عنها التلاميذ باتّباعهم يسوع. إنّ لسؤال المعلّم وقع باب مفتوح، لقاء يعقد، طريق يمتدّ، وها هو هذا الطريق: "تعاليا وانظرا"... يسوع يلتقي برغبة الإنسان.
"تعاليا وانظرا".. لا يزيد الانجيليّ شيئًا على هاتين الكلمتين. الباقي يُعاش كي يُفهم الجوهر... وإذا كانت هاتان الكلمتان "تعاليا وانظرا" توقظان عند القارئ رغبةً ما، فما عليه إلاّ أن يأتي ويرى، أي أن يختبر. عندئذ فقط يستطيع أن يشهد. "تعال وانظر"، إنه طريق مفتوحٌ. إنه تعبيرٌ يدعو كلّ إنسان ليقومَ بهذا الاختبار، ويمضي فيه إلى النهاية.
إن تلاميذ يوحنا حاولوا، ونجح اختبارُهم، لأنهم مضوا ودعوا أصدقاءهم وإخوتهم ليحذوا حذوهم. إلى نتنائيل قالوا: "تعال وانظر". وبما أن نتنائيل لم يكن سهلَ المنال، كان لقاؤه مع يسوع مبدّدًا لكلّ شكوكه، وانتزع يسوع من أعماقه أعمق الرغبات.
"لقد وجدناه" (1: 45): تمّت رغبتُهم... موضوع رغبتهم حاضرٌ أمام أعينهم: يعرفون اسمَه، رأوا وجهَه، والتقوا نظرَه: "الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأملناه ولمسته أيدينا من كلمة الحياة... نبشّركم به لتكونوا أنتم أيضًا شركاءنا..." (1 يو 1: 1-4).
إن رغبةَ التلاميذ الأول حرّكتها رغبةُ يوحنا المعمدان اللاهبة. إنّ شوقَه استحثّ أشواقَ التلاميذ الذين يبحثون ويتساءلون (يو 1: 26-27): هذا هو حملُ الله! هذا هو الذي كلّمتكم عنه. من خلال حركات المعمدان وكلماته والقوّة التي كانت تخرجُ من كلّ كيانه المشدود نحو الآتي، فهمَ التلاميذ أن هناك سرًا عليهم أن يكتشفوه، قوّةً حياتيّة عليهم أن يتبعوها، نبعًا من الحبّ، لا يُفوّت...
ثانيًا: فانا: يو 2: 1- 12
"ما بقي عندهم خمرٌ" (آ 3)
في هذه الملاحظة التي أتت بها مريم إلى يسوع، يكمُن نداءُ، طلبٌ ملحّ. الطلب ليس مباشرًا. إن أمّ يسوع تثقل إليه رغبةً خفيّة تخشىِ إظهارها، رغبةً تحتاجُ إلى من يُخرجها إلى النور، إلى من يُظهرها جليًا، إلى من يجدُ الوسائلَ الضروريّة لإنقاذ الموقف. إن المدعوّين إلى العرس يخشَون إظهارَ رغباتهم: وماذا يمكنهم أن يشتهوا، وممّن؟ كل الحسابات البشريّة أنجزت، وكل الوسائل اتّخدت. وفي الوضع الذي هام فيه، فالمشكلة وشيكة ومحتومة. عندئذ تدخّل الله وأتى إليهم وهم لا يريدون... فقامت أمُّ يسوع، وحملت عندهم إلى ابنها رغبتَهم اليائسة: "ما بقي عندهم خمر"...
وكان لأمّ يسوع أن تكمّل رسالتها في إيقاظ الرغبة عندهم والسهر على تحقيقها فتواصل عملها مع الخدم: "إعملوا ما يأمركم به". لأن الشرط الموضوع لتلقي الجواب متوقّف على مساهمة الانسان: الرغبة، الجهوزية، والانتباه لعلامات الأزمنة...
ثالثًا: نيقوديموس يو 3: 1- 21
نيقوديموس، هو أيضًا مترقّب وساهر، رجلٌ معتادٌ على السهر والانتظار. إنه ابنُ شعبه، شعب الانتظار وترقّب علامات تدخّل الله في حياته. لأنه يعرف أنّ الله أمينٌ وأنه ليتمّم دائمًا وعودَه. وعندما بدأ الناس، في بلده، يتكلّمون عن شخص اسمه يسوع، شيءٌ ما في أعماقه تحّرّك، والتساؤلات وردت، والرغبة استيقظت: ألعلّه الماسيّا؟ ألعّه مسيح الله؟ فيستعجل آتيًا إليه ليلاً، فهو من رؤساء اليهود ولا يريد أن يراه أحدٌ، في حال أخطأ التصرّف. وها هو مُبحرٌ في مغامرة جديدة، لولادة جديدة وحياة جديدة تفوقُ إدراكه. لكنّ، الجدير بالذكر هو أنه حاول حتى النهاية فهمَ ما يشرحه له يسوع، وما لم تستوعبه أفكاره. حتى النهاية، وبكلّ ما أعطي من رغبة قويّة، لا ينفكّ عن طرح الأسئلة على المعلّم، لأنه يريد أن يخرقَ السرّ الكامن في أقواله: "كيف يكون هذا؟" (3: 9). ويسوع، كمُربّ، وهو كلمة الحياة، يبدأ بصبر طويل، رويدًا رويدًا، وبروح طريفة، يُفسّر له ما لا تفسيرَ له، ويفتح أمامه العهدَ الجديد، عهدَ البنوّة والولادة الجديدة بالروح والحق.
رابعًا: السامريّة يو 4: 1- 42
امرأةٌ، على مثال الكثيرات من نساء السامرة، أتت لتستقي ماءً من بئر يعقوب. لطالما أتت واستقت بجرّتها، وقامت بهذا العمل العادي الذي لا أبعادَ خفية وغريبة له. وفجأة يظهرُ رجلٌ، يهوديّ، جالسًا على حافة البئر، يوجّه لها الكلام ويطلب منها ماءً ليشرب. نعلمُ ما تتضمّن هذه اللوحة من أمور غريبة، غير منتظرة، مثيرة: امرأةٌ أمامَ رجل، سامريّة أمام يهوديّ. وللقارئ العارف بالأمور: ابنُ الله أمام خاطئة... ومع ذلك، إن المبادرة بالطلب لا تنمّ عن سير الأمور بشكل طبيعيّ: إنّ القويّ يطلبُ من الضعيف... إنّ القدرة تستعطي العجز... وهذه الحيلة التربوية تتحوّل إلى تدبير لإيقاظ الرغبة الكامنة في قلب هذه المرأة: "أعطني من هذا الماء يا سيّدي، فلا أعطشَ ولا أعودَ إلى هنا لأستقي". وانطلاقًا من هذا الطلب الذي هو محضُ ماديّ ولمنفعة شخصيّة، يلجُ يسوع إلى أعماق قلب هذه المرأة البشريّ، لينتزع منه الرغبة الحقيقية، "الرغبة الخفيّة المقفلة وراء حجر ضخم" (إلوا لاكلار)، حجر خطيئتها، وانحراف رغبتها الحقيقية نحو حياة آليّة مبتذلة...
إن يسوع بمبادرته هذه، وبعدما انتزع الغشاء الذي يغطّي رغبتها، رغبةَ الماء الحيّ، قد ذهب أبعدَ ممّا طلبته المرأة، وصل إلى الأعماق، إلى قعر قلبها حيث تركدُ وتُنتنُ مياهُ خطيئتها. إن المعلّم يطلب منها أن تُريحَ كلَّ كيانها، بأن تسلّط أضواءَ ضميرها على المأساة التي تؤلمُها والتي تشلُّ كلّ حياتها: "تعالوا وانظروا رجلاً ذكر لي كلَّ ما عملت. فهل يكونُ هو المسيح؟"... (آ 29). لقد تحرّرت من الأثقال التي تضغطُ حياتَها كلَّها، فأسرعت نحو ذويها والبشرى السعيدة تنتقلُ معها حتى تطالَ كلّ السامرة.
خامسًا: كسيح بركة بيتَ زاتا: يو 5: 1-18
إن كسيح بيتَ زاتا هو أفضلُ صورة تُعطى عن الرغبة الميتة المنطفئة. إنه هنا قربَ البركة، ولا ندري لماذا. إنه هنا، ولا ينتظرُ شيئًا. منذ زمن طويل لم يعدْ ينتظر شيئًا. ومع ذلك، إن يسوع، كلمة الحياة، الآتي من حضن الآب لتكونَ الحياةُ لكلِّ مخلوق وتكون له وافرة... لكلّ انسان، بما فيه وخاصة كلّ انسان لم يعُد يرجو شيئًا، لم يعُد ينتظر من أحد شيئًا... مَن تُعيدُ له الحياة رغبةُ الله، وتُزكي النار المنطفئة تحت رماد رغبته الميتة... لهذا الانسان قال يسوع: أتريد أن تشفى؟". لكنّ السؤال لم يؤثّر في هذا الكسيح، لأنه منذ زمن طويل ماتت رغبتُه: "ما لي أحدٌ يا سيّدي، يُنزلني في البركة عندما يتحرّك الماء. وكلّما حاولتُ الوصولَ اليها سبقني غيري". إنّ وضعَه مميتٌ لأنه أوسع المجال للاستسلام الخالي من كلّ رغبة. بينما المعلّمُ الآتي للقاء البشريّة الكسيحة والمجروحة، يأتي بكلّ ما لرغبته الالهية من قوّة، كي يوقظَ اللهب الذاوي في قلب بشريتنا. عندئذ، وبكلّ ما لرغبته، رغبة ابن الله، من سلطان وقوّة، يعطيه أمرَ الحياة: "قُمْ، واحمل فراشك وامش" (يو 5: 8). عند ذلك يبدأ الكلامُ على عمل الآب والابن في العالم، عمل الخلاص، عمل الحياة، عمل بعث الحياة، عمل خلق جديد.
سادسًا: تكثير الخبز: يو 6: 22- 26
إن يسوع في انجيل يوحنا، يطوفُ المدن والقرى بحثًا عن رجال ونساء يوقظ عندهم رغبتهم في الحياة، ملء الحياة، الحياة الجديدة الآتية إليهم، الحياة الالهية. إنه يُقيم لقاءاته بطريقة فرديّة، شخصيّة. لكن عند اللزوم، يلتقي يسوع الجموع، وإنْ كانت هذه الجموع لا تفتّش عنه إلاّ لأسباب ماديّة لا تتخطى بطونهم: "الحقّ الحق أقولُ لكم: أنتم تطلبوني لا لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم". لكن يسوع، المربّي الماهر، يتّخذ هذه الحاجة الأوليّة، ومنها ينطلق ليقدّم لهم طعامًا لا يزول، طعامًا إلهيًا، خبزَ السماء: "لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديّة" (آ 26-27). ورويدًا رويدًا سينتزعُ منهم طلبًا، وإنْ غير صاف، إنما يتضمّن رغبةً ممكنة: "ماذا نصنع لكي نعمل أعمال الله؟" (آ 28).
ومن سؤال إلى آخر، توصّل أخيرًا لانتراع رغبةَ الجموع الحقيقية، رغبةَ البشريّة بكاملها وإنْ خفيّة: "يا سيّد، أعطنا كلَّ حين من هذا الخبز". فقال لهم يسوع: "أنا خبزُ الحياة، من جاء إليّ لا يجوع، ومن آمنَ بي لا يعطش أبدًا" (آ 34-35).
سابعًا: أنهارُ ماء حيّ: يو 37:7-39
رغبةٌ ظاهرة، رغبةٌ دفينة، رغبةٌ ميتة، رغبةٌ غامضة، رغبةٌ منحرفة، رغبةٌ مطهّرة، هذا ما رآه يسوع عند البشرية التي قبلته. مع ذلك، فإنّ الله الذي صار انسانًا كي تحيا البشريّة جمعاء، لم يكتف بهذه الرغبات كي يفجّر الحياة، ويفجّر عند الانسان التوقَ إلى الله الذي لا يريد إلاّ أن يهبَ ذاته كاملاً. ها هو في أورشليم الهائجة، في قلب الهيكل، بين الجماهير المنقسمة بشأنه، في اليوم الأخير من العيد، يُطلق بأعلى صوته نداءه لمن يريد أن يسمع: "إنْ عطش أحد فليجئ إليَّ ليشرب، ومن آمن بي... تفيض من صدره أنهار ماء حيّ" (7: 37-38). لا أحد ولا شيء يستطيع أن يتحدّى عطشَ الله للانسان، ولا رغبَته في بذل حياته كي تكونَ الحياة لكل إنسان، وتكون له فائضة، إذا ما أروى عطشَه الحقيقي والعميق، وإذا ما سدّ جوعَه الحقيقيّ والعميق. لأنه هو الماءُ الحيّ الذي يجري كالنهر في قلب البشريّة، إنه خبزُ الحياة المعطى بغزارة من أجل حياة البشرية جمعاء.
ب- الديناميّة
أولاً: المقدّمة: يو 1-18
في البدء كان الكلمة، كان تدفّقُ الحياة، تدفّقٌ الهيّ بكلّ ما للكلمة من قوّة. الله حياة، الله قدرة حياة ونور لامتناهية. منذ البدء هو الحياة. وهذه الحياة بالذات أعطاها للبشرية. فكلُّ خليقة تحملُ في ذاتها قبسًا من الحياة الالهية التي بها ومن أجلها تحيا. لكنّ الله لا يكتفي بهذه العطيّة الجوهريّة للحياة إلى كلّ مخلوق، إلى كلّ انسان، إنما يرغبُ بأكثر من ذلك، ينوي إعطاء حياته بالذات إلى الانسان، ومن أجل ذلك أرسل ابنه الوحيد، كلمة الحياة، الذي فيه كانت الحياة لكلّ الكائنات: "والحياة تجلّت فرأيناها" (1 يو 1: 2).
هذه الحياة التي تجلّت بيسوع المسيح، ابن الله، تحملُ في ذاتها وللعالم كلَّ القوّة الدافعة الأصلية الكامنة منذ البدء في حضن الآب. هذه الحياة التي تدفّقت في قلب البشريّة بيسوع تحملُ في ذاتها كلّ قوّة الحبّ. هذه القوّة الديناميكيّة تشبه قوّة الخمير المخفي في قلب العجين، أو قوّة حبّة القمح التي تموت في الأرض ثم تفرخُ لتعطي الحياة بدل الواحدة مئة.
ديناميّة، سلطان، وقوّة، قدرة للحياة تنبثقُ باستمرار من يسوع. هذه الحياة بالذات أتى ليعطيها للعالم، يعطيها للإنسان، مع كلّ ما تحويه من تدفّق الخلق الأوّليّ، مع كلّ قوّة ونضارة الحبّ الذي وحده يسوع يستطيع ويعرف أن يعطيه. لأن "فيه كانت الحياة، وحياته كانت نور الناس، والنور يُشرق في الظلمة، والظلمة لا تقوى عليه" (يو 4:1). لا سلطان لأيّ ظلمة استطاع، ولا يستطيع، ولن يستطيع أن يقف في وجه هذه الدينامية الأولى للحياة التي تجلّت في قلب الانسان، كي أصلاً، تنشله من حياته المظلمة.
إن الحياة التي أتى يسوع ليعطيها لإنسان أعطيت من الباطن، من أعماق الجسد. إنه أتى ليوقظَ حياة القلب في حياة الانسان. لذلك، "الكلمة صار جسدًا". أتى يسوع ليُحيي الجسد. أتى في الجسد: واختبر وضعنا البشريّ الجسديّ. صار جسدًا ليمجّد الجسد. دخل التاريخ كي يدخل في تصوّرات فكر الانسان. تجلّى لعقلنا البشريّ حتى نحن بدورنا، في اتباعنا له ومعه، ندخل في ديناميّة الخلاص، ونقبل منه نعمة: أن نكون أبناء الله. وكلّ صيرورة مستقبليّة تحمل في باطنها قوّةً ديناميكيّة. هذه الديناميّة المعطاة من قبل ابن الله هي حياةُ الله بالذات التي نلجُ إليها بالايمان. إنه طريقٌ مفتوح...
ثانيًا: قانا: يو 2: 1- 12
إن القوّة الديناميكيّة للحياة المتدفّقة حاضرة في كلّ انجيل يوحنا. في قانا، وحالما أتمّت مريم مهمّتها، أمر يسوع الخدم ليملأوا الأجران الحجرية المعدّة لتطهير اليهود. يوضّحُ النصّ أنهم ملأوها حتى فاضت. وبعد هذه العمليّة قال المعلّم: "إستقوا الآن وناولوا رئيس الوليمة". بهذا أتمّ يسوع، بطريقة رمزية، الاشارة التي تدلّ على الرسالة التي من أجلها أتى من عند الآب. أتى ليبدّل الحياة الرتيبة، الحياة الكئيبة، الحياة المأساوية، إلى خمرة لذيذة: الحياة الأبدية أصبحت بمتناول الانسان. هذه الحياة الأبدية مفاضة بوفرة وغزارة، وتفوق رغبة الانسان. إنه فيض الخمرة الجديدة، الحياة الجديدة، ملء الحياة الذي ترمز إليه الأجران الست الفائضة. إن كمية المياه كانت غزيرة جدًا (600 لترًا)، وهكذا سيكونُ ملءُ الحياة التي ستتدفّق وتُعطى بلا قياس. فيضٌ، مجّانيّة، فرحٌ، كمالٌ، سخاء. هذا العرس في حياة الانسان والذي أتى ابنُ الله إلى أفراحه بكلّ بساطة، هو صورةٌ مسبقة للعرس الحقيقي الذي أعدّه الله منذ الأزل للبشريّة.
ثالثًا: تكثير الخبز: يو 6
إنّ تهافت الجماهير وراء يسوع بعد معجزة تكثير الخبز هو علامة بأن هذه الجماهير تبحث عن الحياة، عن القوت الذي يوفّر لها الحياة. لكنّ الحياة التي تبحث عنها الجماهير لا تزال في بدايتها، تبحث عن القوت الفاني ولم تصل بعد إلى طلب القوت الذي يعطي الحياة الأبدية. من أجل ذلك، لم يكتف يسوع بإعطائها خبزَ الجسد، بل أيضًا وخاصةً أعطاها خبزَ الحياة، الخبز الذي يعطي ملء الحياة. لأن ابنَ الله لا يسامح بأن يحيا الانسان فقط من الخبز الذي يزول. لذلك حثّ يسوع الناس كي يسموا برغباتهم وطلبهم للحياة. فالخبز الذي أعطاهم إياه يغذّي أكثر بكثير من الخبز الذي يطلبونه، إنه خبزٌ للأبديّة.
"ماذا نصنع لكي نعمل أعمال الله؟" سألت الجماهير، ما هي الأعمال التي تدوم؟ "عمل الله أن تؤمنوا بمن أرسل" (يو 6: 29). "عمل الله" هو الانسان الحيّ، الانسان الجديد بقوّة الحياة الجديدة، بقوّة الحياة المتدفقة من ابن الله الآتي لينهض بالانسان، ليخلقه من جديد، لينفخ فيه القوة وملءَ الحياة.
رابعًا: الأعمى منذ مولده: يو 9: 1- 40
إنّ عمل يسوع الخلاّق يأخذ كلّ أبعاده بما فعله كي يشفي الأعمى منذ مولده: أخذ يسوع ترابًا وبصق فيه، وجبل من ريقه طينًا ووضعه على عينيّ الأعمى، وأرسله ليغتسل... بهذا أعاد يسوع عملَ أبيه الخالق. إنه يخلق من جديد عالمًا من النور. إنّ فقدان البصر عند الأعمى رمزٌ للظلام الذي فيه يغوص العالم. يسوع، نور العالم، يأتي ليكرّر عمل الخلق الأول. يخلق من جديد، عند الأعمى الذي لم يعرف يومًا ما هو البصر، عيونًا تبصر. إن النور الذي أتى ابنُ الله ليعطيه للإنسان هو نورٌ جديد. وكم هو ضروريّ كي به يلجَ الانسان إلى الحياة الحقّة، إلى ملء الحياة، إلى الحياة الأبديّة. أتى "لتكون لهم الحياة، بل ملءُ الحياة" (يو 10: 10).
خامسًا: القيامة والحياة: يو 11: 1-14
إن ملء الحياة كما يعطيها يسوع في انجيل يوحنا، ليست فقط قبولَ عطية الحياة، بل هي أيضًا حربٌ كي تشقَ الحياة طريقها مقتحمة كلّ قوى الموت. هذه الحرب بدأها ابن الله بالذات. قبل أن يدخل في مثوى الأموات كي يغلب نهائيًا الموت بقيامته، تحدّى يسوع الموت في شخص صديقه لعازر. وقبل أن يُقيمَه من الموت قال لمرتا: "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي يحيا وإنْ مات. أتؤمنين بهذا؟" (آ 25-26).
وتأكيدًا لذلك، يدعو لعازر كي يخرج من القبر، بعدما شكر أباه الذي استجاب له: "وصاح بأعلى صوته: لعازر أخرج!". فخرج الميت، مشدود اليدين والرجلين بالأكفان، معصوب الوجه بمنديل. فقال يسوع: "حلّوه ودعوه يذهب". أتى يسوع ليحلّ الانسان من كلّ عبودياته، من كلّ ما يمنعه من التمتع بالحياة الحقة. ومن أجل ذلك، هو مستعدّ ليتحدّى الموت بالذات، كي يؤمن الانسان بابن الانسان، الحياة الأبديّة لكلّ انسان.
سادسًا: قيامة يسوع: يو 20: 1-18
تبقى حلقة واحدة لكي تظهر حياة يسوع نهائيًا وبملئها، هي قيامته من بين الأموات. كان يجب على ابن الانسان أن يمرّ بهذه الطريق حتى تبقى الطريق إلى الحياة الأبديّة مفتوحة أبدًا أمام الذين يؤمنون، وبإيمانهم يحصلون على سلطان أن يكونوا أبناء النور، أبناء الله.
قال يسوع لمريم المجدليّة: "لا تمسكيني. لأني ما صعدتُ بعد إلى الآب. بل إذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: أنا صاعد إلى أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم".
إنها الكلمة الأخيرة، كلمة العودة إلى البدء، إلى النبع. فقد تمّ كل شيء. فالطريق أصبحت مرسومة ومفتوحة، والعودة إلى أصلنا أصبح ممكنًا. فالمسيح الطريق والحق والحياة هو الذي يوصلنا إليه.

خاتمة
الحياة في المسيح، كما يصفها يوحنا، تريد أن تعبّر عن الجذريّة في العطاء المطلوب من الجميع، لأنه موهوب للجميع.
وتريد أن تكون حياة بشريّة في كل عمقها، فتأخذ بجديّة كلّ الثروات والإمكانات الراسخة في أعماق الشخص البشري: مثل غنى القلب والارادة والتوق إلى المطلق والعطش الشديد إلى الامتلاك والحبّ...
إنّ في الانسان طاقات حيويّة كثيرة، تنحرف غالبًا عن ينبوعها. إن الذين يرضون أن يتبعوا المسيح في حياة تتلمذ يتمنّون لو كان في مقدورهم أن يدلّوا الجميع على ذلك القادر وحده أن يُعطي معنى لحياتهم، والذي بحياته وموته وقيامته قد امتلكهم كليًا وأعادهم في اتّجاه ينبوعهم.
في الواقع، إن من يوجّه كل طاقاته صوب يسوع، ينمّيها لحياة أبديّة. فمن يعطيه حياته حُرًا كما أعطاها هو (18:10)، يربحها منذ الآن، لأنها تُعاد إليه بملئها، غير منتَقصَة، بل مضاعفة، ومُنمّاة في خدمة الملكوت، وكل إنسان، وأخيرًا، في خدمة تجلّي البشريّة بأسرها: "وأنا إذا رُفعت عن الأرض، جذبت إليّ الجميع" (12: 32).
"الروح والعروس يقولان: تعال! ومن يسمعُ فليقلْ: تعال! ومن يعطَشُ فليأت! ومن يُريدُ فليأخذْ ماء الحياة مجّانًا!" (رؤ 22: 17).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM