الفصل السابع عشر :البرقليط

 

الفصل السابع عشر
البرقليط
ف 14-16
الأب أسعد جوهر

المقدمة
في إنجيل يوحنا نصوص مميّزة عن الروح القدس وكثيرة. ولكن أغلب هذه النصوص يمكن إدارجها في مجموعتين: الأولى تتكلم عن إعلان عن عطية الروح، وهي مرتبطة بالعماد أو برمز الماء (1: 29-34؛ 3: 3-8؛ 7: 37-39)، وتندرج في القسم الأول من حياة يسوع العلنية؛ أما الثانية فتتألف من خمسة مقاطع (14: 15-17؛ 26:14؛ 15: 26-27؛ 7:16- 11؛ 16: 12- 15)، موزّعة في ما يسمى خطبة الوداع (14-16). هذه الخطبة هي بمثابة وصيّة يسوع الأخيرة قبل عودته إلى الآب وفيها يلقّب الروح القدس بالبرقليط. وهذه الخطبة هي فنّ أدبي معروف بفنّ الوصيّة الأخيرة، حيث يدعو الأب أو القائد الروحي أخصّاءه، وهو على فراش الموت، ليعطيهم وصاياه وتوجيهاته الأخيرة ويكشف لهم أحيانًا المستقبل ويعيّن غالبًا خلفه حتى يواصل رسالته. هذا ما فعله موسى مع يشوع بن نون الذي امتلأ من روح الحكمة لماّ وضع عليه موسى يديه (تث 9:34)، وايليا مع أليشع فحصل هذا الأخير على سهمين من روحه (2 مل 9:3-15).
وحده يوحنا أعطى الروح القدس لقب برقليط وفي هذا الإطار، فماذا قصد به؟ هل هو خليفة يسوع يواصل رسالته على الأرض؟ وما دوره في حياة التلاميذ والكنيسة؟

1- معنى كلمة برقليط
كلمة برقليط لفظة يونانية، خاصة بيوحنا في العهد الجديد، تعني "المدعوّ إلى جانب"، يقابلها في اللاتينية Ad-vocatus، تستعمل عادة في لغة القضاء والدعاوى وتدلّ على الإنسان الذي يُدعى إلى جانب أحدهم ليساعده أي المحامي والمدافع.
النصوص الرابّينيّة استعارت هذا التعبير من الثقافة اليونانية وأعطته معنى محدّدًا: "الشفيع والوسيط" للدلالة على الذين يشفعون لصالح الناس أمام محكمة العدل الإلهي: كالتوراة مشخصنة، والملائكة واستحقاقات الناس الأبرار... وهذا المعنى هو جليّ في 1 يو 2: 1 حيث يعطي الكاتب لقب برقليط للمسيح الممجّد. إطار الآية يشرح أن المسيح في مجده أمام الآب "كفّارة لخطايانا" (آية 2) أي أن ذبيحة المسيح على الأرض تصبح في السماء صلاة شفاعة أمام الآب، بهذا المعنى المسيح في مجده هو لنا الشفيع والوسيط لدى الآب. وهو النصّ الوحيد الذي يستعمل كلمة برقليط خارج خطاب يسوع الوادعيّ. ولكن في إنجيل يوحنا البرقليط لا يشفع لا ليسوع ولا للتلاميذ، ولا يدافع ويرافع عن التلاميذ ولكنه يتكلّم بواسطتهم (15: 16-27) للدفاع عن يسوع الغائب.
الكتاب المقدس استعمل الفعل ومشتقّاته بكثرة في الترجمة السبعينية، بمعنى "عزّى وعزاء ومعزي". والمقصود تشجيع الأنبياء وتحريضهم على الإيمان ببشرى الخلاص، وليس العزاء العاطفي الوجداني: فمثلاً رسالة اشعيا الثاني إلى المسبييّن تبدأ بفعل "عزّوا عزّوا شعبي" (اش 40، النص اليوناني) وهو تشجيع وتحريض على السير قدمًا للوصول إلى أورشليم. واستعمله العهد الجديد بذات المعنى في تبشير الشهود الرسوليين (1 تس 3: 2؛ روم 12: 8؛ عب 13: 22؛ أع 13: 15)، ووصف به الروح القدس في نمو الكنيسة (أع 9: 31). ولكن يوحنا لا يستعمل الفعل παρακαλεω إطلاقًا في كلامه عن دور الروح البرقليط.
بما أن ترجمة برقليط اليونانية بمحام أو معزٍ أو شاهد أو نصير أو مؤيّد، لا تدل على مهمّاته كلّها ولا على الأدوار التي خصّه بها يوحنا، لذلك يميل الشراح، في نقلهم، إلى الحفاظ على كلمة برقليط، كما فعل التقليد السرياني والقبطي واللاتيني في ترجمة ايرونيموس الشائعة وكما ورد في ترجمة إونجيلون (الكسليك)، فيحافظون بذلك على وحدة اللقب، ولا يركّزون على دور واحد على حساب أدواره الأخرى.

2- دور الروح البرقليط
أ- البرقليط الحاضر
في العشاء الأخير، اضطربت قلوب التلاميذ لإعلان يسوع المفاجئ عن ذهابه (يو 14: 1). حتى الآن كان يسوع بين تلاميذه، ولكن الآن يعلن لهم أنه لن يبقى معهم إلا لوقت قصير (13: 33). قريبًا لن يروه (16: 16) لأنه ماض إلى الآب (16: 17)، ليس فقط بالظهورات بعد القيامة لأنه سيبقى معهم مدى الدهر، ولكن بحضور روحي داخلي: وحدهم التلاميذ لا العالم سيستطيعون رؤيته (14: 19). سيكون هذا الحضور الجديد ليسوع عمل الروح القدس وقد دُعي "برقليطًا آخر" (14: 16)، وذلك بالنسبة لأحدهم يحمل ذات اللقب وهو البرقليط الأول، وهو يسوع. وهذا يعني أن البرقليط الآخر أي الروح القدس يحلّ مكان البرقليط الأول أي يسوع، ولكن ليس كشفيع سماويّ يتدخّل في الأرض (1 يو 2: 1). فما هو دوره إذًا؟
يعلن يسوع أن في مصلحة تلاميذه أن يذهب هو، حتى يأتي البرقليط وإلا فلن يأتي (16: 7)، لأن الآب يعطي التلاميذ البرقليط على طلب يسوع وباسمه (14: 16و 26)؛ ولأن يسوع نفسه يرسله لهم من عند الآب (26:15؛ 16: 7)، فهذا الروح المرسل والآتي من عند الآب دوره أن يكون بدل يسوع مع التلاميذ وفي التلاميذ إلى الأبد (13: 16). وبما أن البرقليط يستطيع المجيء فقط عندما يذهب يسوع، فالبرقليط الآخر هو إذًا يسوع آخر، هو حضور يسوع عندما يكون يسوع غائبًا، هو خليفة يسوع يواصل رسالته مع التلاميذ وفيهم بعد عودة يسوع إلى الآب. إذًا فوعد يسوع أن يبقى مع التلاميذ إلى الأبد يتحقّق في البرقليط. وليس من الصدف أن أول نص يحتوي على وعد يسوع بإرسال البرقليط (14: 16-17)، تتبعه الآية 18 التي تقول: "لن أدعكم يتامى أنا إليكم آت". يسوع يأتي إلينا بحضور البرقليط معنا وفينا. يشدد يوحنا أن يسوع سيكون في السماء مع الآب بينما البرقليط سيكون على الأرض يواصل رسالة يسوع مع التلاميذ وفيهم إلى منتهى الدهر.
وإذا ما راجعنا النصوص في يوحنا وقابلناها، لوجدنا مطابقة تامّة ين يسوع والبرقليط في علاقتهما بالآب، وبالتلاميذ وبالمؤمنين، وبالعالم:
البرقليط يسوع
*- يأتي من الآب 26:15 43:5؛ 28:16
*- مرسل من الآب 14: 26 14: 24
*- معطى من الآب 14: 16 3: 16
*- لا يقبله العالم 17:14 1: 11؛ 5: 43؛ 48:12
*- يقبله فقط المؤمنون 17:14 1: 12؛ 20:16- 21
*- لا يراه إلا المؤمنون 14: 17 14: 19
*- هو مع وفي التلميذ 14: 16- 17 14: 20و23؛ 15: 5؛ 23:17و26
*- لا يتكلّم من تلقاء ذاته 13:16 17:7؛ 26:8 و28 و38؛ 24: 10
*- يشهد 26:15 3: 11 و32؛ 44:4؛ 8: 14 و18
*- يعلّم 26:14 59:6؛ 14:7؛ 20:8؛ 19:18

*- هو روح الحق 15: 26؛ 7:16 و13 1: 17؛ 14: 6؛ 37:18
*- يُنبئ، يكشف 14:16 4: 25
ولكن رغم هذه المطابقة التامّة، يتميّز الروح عن يسوع التاريخي في أمرين: في زمن حضوره الذي هو نهائيّ، وفي طريقة عمله. وحي الآب بيسوع يُكمّل بالروح القدس: إنّه وحيٌ فريد ولكنه أعطي بطريقتين مختلفتين وفق الزمنين اللذين يميّزانه، زمن يسوع وزمن الروح القدس. عند الوداع يسوع يعلن للتلاميذ الذين يغادرهم عن مجيء البرقليط مشدّدًا على العطية الأساسية، على الروح القدس، الذي يطبع كل مؤمن في ضميره.
فإذا كان التلاميذ، على خلاف العالم، يسعهم قبول البرقليط فلأن يسوع قد هيّأهم لذلك، حين قال: "وتعرفونه أنتم، لأنه مقيم لديكم" (17:14). وهذا يعني أن البرقليط كان حاضرًا في شخص يسوع وعمله، في يسوع المقيم لدى التلاميذ (14: 25). فالروح إذًا، كان يعمل أيضًا لديهم. فلقد تعلّموا أن يتعرّفوا إلى الروح في يسوع (1: 32؛ 3: 34؛ 63:6). فاختبار الروح هذا والمعرفة الأولى التي عاشوها مع يسوع كانت شرطًا أساسيًا كافيًا، ليستطيعوا قبول عطية الروح.
وهنا تجدر الملاحطة حول ثلاثة أحرف جارّة مختلفة: مع (μετα) ولدى (παρα) وفي (εν)، يستعملها الإنجيلي في التعبير عن دور الروح البرقليط الحاضر الموعود، في الآيتين 16 و17 من الفصل 14 حيث يقول: "وأنا اسأل الآب فيعطيكم برقليطًا آخر نصيرًا يقيم معكم إلى الأبد، هو روح الحق، الذي لا يسع العالم قبوله، لأنه لا يراه، ولا يعرفه. وتعرفونه أنتم، لأنه مقيم لديكم وكائن فيكم." إذًا فالبرقليط سيكون حاضرًا مع التلاميذ ولديهم وفيهم كما كان يسوع نفسه حاضرًا معهم ولديهم وفيهم.
ب- البرقليط المعلم
دور البرقليط في حضوره لدى التلاميذ هو قبل كل شيء التعليم. "قلت لكم هذا وأنا لديكم مُقيم. وسيُرسل الآب باسمي البرقليط، الروح القدس، فيعلّمكم كلّ شيء، ويذكّركم كلّ ما قلتُ لكم" (25:142-26). يسوع يُقيم مقابلة بين تعليمه هو وتعليم البرقليط في المستقبل. ويميّز بين مرحلتين في التدبير الخلاصي: الأولى تتألف من تعليم يسوع نفسه، والثانية من تعليم الروح البرقليط.
في القسم الأول من الآية، الآب سيُرسل الروح باسم يسوع (14: 26)، ويسوع أتى الارض "باسم الآب" (5: 43) أي مع الآب. وكان بين الناس ليعرّفهم اسم الآب، ليُظهر الآب (17: 6). هذا يوضح ما معنى أن البرقليط سيُرسل "باسمه"؛ فهو لا يعني أن الآب يرسل الروح على طلبه أو مكانه أو كممثل له، فالاسم يدلّ على أعمق وأهمّ ما في شخص المسيح، أي كونه الابن: فعبارة "باسم" تدل بوضوح على الشركة التامة بين الآب والابن في إرسال الروح، ويقول يوحنا أيضًا إن "الابن سيرسل الروح من عند الآب" (15: 26)، فالآب والابن هما معًا مبدأ رسالة البرقليط. فإذا كان الروح مُرسل باسم يسوع فرسالته ستكون أن يعرّف التلاميذ إلى اسمه الحقيقي أي كونه ابن الله، وأن يبعث فيهم الإيمان به.
الوحي الذي يعطيه البرقليط لا يأخذه من ذاته وليس هو مصدره، "لا يتكلّم من تلقاء نفسه بل بكلّ ما يسمع"، سيأخذ مما ليسوع. كما أن يسوع لم يتكلّم من تلقاء ذاته (17:7...؛ 49:12: 14: 10)، لم يقل إلا ما أعطاه له الآب (28:8؛ 12: 50)، ما سمعه لدى الآب (8: 26 و38)، كذلك الروح لا يتكلّم من تلقاء ذاته ولا يقول إلا ما يسمع. وهو يسمع من الابن ولكن من الآب أيضًا لأن ما الآب هو للابن (راجع 16: 15). لا منافسة بين البرقليط ويسوع بل تعاون شبيه بالتعاون الذي يجمع بين الابن والآب في عمل الوحي. الوحي يدخلنا إلى عمق سرّ الثالوث، لأن الوحي هو واحد، يأخذ مصدره من الآب ويتمّ في الابن ويكمل في الروح القدس.
والقسم الثاني من 26:14 يصف البرقليط في عمل المعلّم، ويدلّ عليه بفعلين مختلفين:-"يعلّمكم كل شيء ويذكركم كلّ ما قلت لكم". البرقليط لا يحمل إلينا إنجيلاً جديدًا. ففي حياة يسوع وتعليمه يوجد كلّ ما تجب معرفته لإقامة ملكوت الله.
"علّم" عند يوحنا هو فعل عن الوحي. في البيبليا هذا الفعل له معنى فسّر بشكل صحيح، وفي قمران له معنى: فسّره وأونّه للحاضر وللمستقبل، وإنجيل يوحنا يحفظ هذا المعنى الأساسي: نقل حقيقة سماوية. الآب علّم الابن ما عليه أن يعطيه للعالم (28:8). ولكن غالبًا يسوع نفسه هو الذي يعلّم (يو 59:6؛ 8: 14 و28 و35؛ 8: 20). وهو لا يعلّم شيئًا لم يأخذه من الآب (7: 16)، كذلك الروح لن يعلّم شيئًا لم يأخذه من الابن، وهذا الأخير سبق وأخذ من الآب. فالوحي مصدره الآب نقله إلينا الابن ويبلغ غايته عندما يتملّك عمق أعماقنا بفعل الروح القدس.
"ويذكّركم كلّ ما قلت لكم". بعد رحيل يسوع يتذكّر التلاميذ أكثر من مرّة كلمة من كلماته أو عملاً من أعماله. فمثلاً بعد كلام يسوع "اهدموا هذا الهيكل أقمه في ثلاثة أيام"، يفسّر الإنجيليّ "على أن يسوع كان يتكلّم على هيكل جسده، فلما قام من بين الأموات ذكر تلاميذه كلامه فآمنوا بالكتاب وبالكلمة التي قالها يسوع" (يو 2: 19 و21-22)، وبعد دخول يسوع أورشليم على حمار واستقبال الشعب له، ينوّه يوحنا: "ولم يفهم التلاميذ هذا أول الأمر، ولكنهم ذكروا حين مجّد يسوع، أنه فيه كتب وله فُعل" (يو 16:12). في الحدثين إدراك التلاميذ يفترض حدث القيامة أي عطيّة الروح. إذا فالبرقليط لا يكتفي بأن يعيد إلى الذاكرة أمرًا نسيته، ولكنه يعطي القدرة على فهم الحدث الذي بقي غامضًا حتى الآن وعلى إدراك معناه الحقيقي على ضوء القيامة.
وفي 16: 13 يقول الإنجيلي في دور البرقليط ما يلي: دا إذا جاء روح الحق فهو يقود خطاكم في الحق كلّه، لأنه لا يتكلّم من تلقاء نفسه، بل بكلّ ما يسمع، فينبئكم بالآتي".
في هذه الآية فعلان أساسيان هما: يقود خطاكم، وينبئكم. فالكلام لا يزال يدور حول التعليم ولكن في صورتين جديدتين:
الأولى يقود خطاكم في الحق كلّه οδηγεω. في الآية السابقة مباشرًة لهذه الآية أي في 16: 12 قال يسوع لتلاميذه: "لديّ أمورٌ كثيرة أقولها لكم، ولا تطيقونها الآن". وفي آية سابقة 15: 15 قال: "عرّفتكم كلّ ما سمعته من أبي". فليبس في القولين من تناقض، بل تمييز بين زمانين أي الزمن الحاضر (الآن) والمستقبل، أي زمن ما بعد القيامة ومجيء البرقليط. فالروح لن يكون دوره إعطاء تعليم جديد مختلف عن تعليم يسوع، أو حقيقة جديدة غير حقيقة يسوع، بل سيقود خطى التلاميذ نحو الفهم الكامل للحقيقة نفسها أي لشخص يسوع وتعليمه وعمله. فالروح سيقود التلاميذ إلى عمق هذه الحقيقة نفسها تدريجيا على مدى زمن البشارة الأولى وحياة الكنيسة.
والثانية "ينبئكم" "αναγγελλω"، والفعل يتردّد ثلاث مرّات في ثلاث آيات متتابعة (16: 13 و14 و15)، فيه يشرح يسوع كيف يدخلنا الروح في قلب الحقيقة. وهو يعني حسب الأدب الرؤيوي: كشف، أوحى سرًا، فسّر حلمًا أو رؤيا أو نبوءة (دا 2: 2 و4 و7 و9 و11؛ 5: 12 و15...) والسامرية تسرّ إلى يسوع ماذا تنتظر من المسيح: "عندما يأتي ينبئنا بكلّ شيء" (يو 25:4) أي يكشف لنا كلّ شيء، وهذا المعنى يتوافق مع 13:16 حيث الروح يكشف لنا أيضًا كلّ شيء. وفي 25:16 يسوع يقيم مقابلة بين تعليمه في لغة المجاز وتعليمه الواضح الذي سيعطيه فيما بعد بواسطة الروح "تأتي ساعة... أخبركم عن الآب بجلاء". عملُ البرقليط في المستقبل يقوم على الكشف. هذا لا يعني، حسب استعماله في الأدب الرؤيوي، إعطاء وحي جديد بل إعطاء تفسير لوحي سابق بقي خفيًا. هذا ما سيكون دور البرقليط. مهمّته أن يشرح للكنيسة وحي يسوع المسيح الذي بقي إلى حين غير مفهوم، أي فهم التدبير الجديد على ضوء موت وقيامة الرب وهذا معنى الآية "يقودكم في الحق كلّه... فينبئكم بالآتي" (16: 13).
ج- البرقليط الشاهد
"البرقليط، الذي سأرسله أنا إليكم من لدن الآب، روح الحق، الآتي من لدن الآب، هو، إذا ما جاء، شهد لي وأنتم أيضًا تشهدون، لأنكم منذ البدء معي" (15: 26-27)
يدخلنا البرقليط في مهمّته كشاهد في إطار القضاء والمحاكم، ويذكّرنا أن لفظة برقليط تعني "المدعوّ إلى جانب" وتتعلّق بالقضاء، فالروح البرقليط هو المدافع عن يسوع. والشاهد شخص يلتزم في خدمة الحق ويعطي التفسير الصحيح لما رأى وسمع. فالمعمدان مثلاً لم يكتف بذكر حدث عماد يسوع ولكنه شهد فقدّم تفسيرًا: يسوع هو الذي سيعمّد بالروح القدس (29:1-33). كذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لم يكتف بتدوين أحداث الصلب ولكنه كشف قيمتها الكنسيّة والأسرارية.
ولفهم هذا النص، يساعدنا الإطار كثيرًا. فالنصّان السابق (15: 18- 25) واللاحق (16: 1-4) يتكلّمان عن بغض العالم والاضطهادات. هذا الإطار المعادي يشرح الدور الذي سيلعبه الشاهد، روح الحق. ويذكّرنا بالنصوص الإزائية حيث يعد يسوع تلاميذ بمؤازرة الروح في الضيق والاضطهاد: فيشدد عل أنه سيتكلّم فيهم ويعلّمهم ماذا يقولون عندما يساقون أمام الملوك والقضاة (راجع متى 17:10-25؛ 9:24-14؛ لو 12: 11-12). ولكن لا يوجد أي نصّ إزائي يتكلم صراحة عن الروح القدس كونه شاهدًا. أما في يوحنا فيقول يسوع صراحة "سيشهد لي". ماذا تعني هذه الشهادة؟ وأمام من تقدّم؟
شهادة البرقليط ليست موجّهة إلى العالم ولكن إلى التلاميذ، "البرقليط الذي سأرسله أنا إليكم لما (آية 26). شهادة الروح تتمّيز عن شهادة التلاميذ (راجع آية 27). شهادة الروح تسبق شهادة التلاميذ. هدفها مزدوج: الأول تثبيت التلاميذ في حقيقة يسوع القائم من القبر في المرحلة الأولى من حياتهم، والثاني تثبيتهم في فهم متواصل ومطّرد لحقيقة يسوع، والشهادة له أمام العالم بدون خوف ولا تراجع في جميع الاضطهادات التي سيتعرّضون لها طوال حياتهم.
د- البرقليط المبرّر
عند يوحنا لا ذكر للمحاكم والقضاة. فالمحكمة الكبرى عنده هي الصراع اللاهوتي الكبير بين يسوع المسيح والعالم، وتنتهي بالحكم على العالم وتمجيد يسوع بالصليب والقيامة. فيوحنا لا يهتمّ بالمحاكم التي تقاضي التلاميذ، فكلّها تختزل بقوّة واحدة خفيّة اسمها العالم. لذلك يقول يسوع بوضوح إنه لن يظهر ذاته للعالم (14: 22)؛ والبرقليط الذي سيكون مع التلاميذ وفيهم، "لا يسع العالم قبوله، لأنه لا يعرفه ولا يراه" (17:14). على طلب يسوع سيعطي الآب البرقليط (14: 16) ولكن العالم غير قادر أن يقبل هذه العطيّة من الآب. وسبب هذا العجز في آخر الآية "لأنه لا يراه ولا يعرفه". فالفعل "رأى" "θεωρειν" يعني عند يوحنا التدرّج من الرؤية الجسدية إلى الرؤية الباطنيّة فإلى التأمّل الإيمانيّ في الحقائق الروحيّة. فإذا كان يسوع في حياته على الأرض يعيب على العالم أنه لم "ير" روح الحق، فهو يريد أن يقول إن العالم لم ينجح في أن يدركه، أي أن يميّزه من خلال مظاهره الخارجية. وجب التفكير هنا في حضور وعمل الروح في شخص يسوع نفسه، وفي رسالته وكلامه (23:1؛ 3: 34؛ 6: 63). بما أن العالم غير قادر أن يدرك الروح العامل في حياة المسيح يسوع فلا يستطيع أن يعرفه. لهذا السبب قال يسوع إن العالم غير قادر أن يقبل روح الحق الذي سيعطيه الآب إلى التلاميذ، فهو ليس أهلاً ليقبل عطيّة الآب.
يصرّح يوحنا في 8:16 "متى جاء [البرقليط] يوبّخ على الخطيئة، وفي أمر البرّ والدينونة". يحدّد يسوع هنا عمل البرقليط المستقبلي بالنسبة للعالم بفعل "ελεγχειν" وتعني: قام بتحقيق، استنطق، وبّخ وقاصص، أقنع أحدَهم بخطأه، وقدّم البرهان على ذلك. تبنّى غالبيّة الشرّاح على أن البرقليط يقدّم البرهان على خطيئة العالم وذنبه. بالفعل إن دعوى كبرى قد افتتحت بين يسوع والعالم، الذي رفض الإيمان به. اتّهم العالم يسوع بالجنون "إن بك إبليسًا" (يو 8: 48)، وبالتجديف (10: 33). الكلّ يعلم أن العالم على أعلى مستوياته حكم على يسوع: السلطة المدتيّة باسم القيصر والسلطة الدينيّة بصوت كهنة الهيكل. لم يكن ليسوع أي مدافع. العالم ببراهينه واتّهاماته المزوّرة برهن أن يسوع مُذنب. الموت على الصليب هو برهان قاطع، حسب منطق العالم، أن الله كان ضدّه. فمن سيكون معه ومن سيدافع عنه؟
البرقليط، روح الحق روح يسوع سيكون المبرّر ضد العالم الخاطئ. هو من سيدافع عن يسوع، ويتّهم العالم ويدينه. البرقليط يقدّم البرهان على ذنب العالم، وذلك في مواضيع ثلاثة هامّة، وهي الخطيئة والبرّ والدينونة.
أولاً يوبّخ العالم على الخطيئة. في حياة يسوع على الأرض تنكّر اليهود له فحاكموه وصلبوه. البرقليط سينظر في المحاكمة ويبيّن للتلاميذ أن الخطيئة هي في العالم، والبرّ هو في يسوع، والمدان الحقيقيّ في هذه المواجهة هو أركون هذا العام.
البرقليط "يعيب على العالم خطيئة لأنه لا يؤمن بي (يسوع)" (9). هنا يكمن بالنسبة إلى يوحنا جوهر الخطيئة: رفض العالم الإيمان بيسوع كونه مسيحًا وابن الله. في عمل البرقليط الخفيّ يجد التلاميذ القوّة الكافية لئلا يعثروا في كذب العالم ويثبتوا أمينين للمسيح. على الصعيد التاريخي تلاميذ يسوع حوكموا بمحاكم البشر، أما على ضوء روح الحق فالتلاميذ هم الذين أدانوا العالم في قلوبهم.
ثانيًا يوبّخ العالم في أمر البرّ. البرّ هنا ليس برّ المسيحيين ولكن برّ يسوع نفسه. يشرح هذا البرّ كونه قداسة يسوع، صداقته مع الله، حقّه في نزاعه مع العالم. ولكن التفسير الذي يعطيه يسوع في الجملة اللاحقة "لأني ماض إلى الآب، ولن تروني" (10)، يفترض تفسيرًا آخر. البرّ هو بمعنى الظفر والمجد. برّ يسوع هو برّه الظافر الذي يسطع عند تمجيده وقت يعود إلى الآب. إذًا عودته إلى الآب تظهر أنه البارّ على الإطلاق. عندما يُعطي البرقليط التأكيد للتلاميذ أن يسوع هو في المجد يساهم مساهمة كبرى في إظهار خطأ العالم المأساويّ، وبراءة يسوع التامّة من أي خطيئة.
وثالثًا يوبّخ العالم في أمر الدينونة. في المحاكمة بين المسيح والعالم، كان الحكم ساعة الألم، ساعة موت يسوع: مجده على الصليب ورفض العالم الخاطئ الإيمان به، تؤلّف الحكم على العالم وعلى رئيسه. عمل الروح المنير يسمح للرسل أن يكتشفوا وراء أحداث الآلام والموت رئيس هذا العالم، فيحكم البرقليط على عمل الشرير في ضمير التلاميذ. وهو يقوم بعمله كونه البرقليط أي المدافع ولمحامي. الروح القدس أعاد محاكمة يسوع، إنه روح الحق، وضع النصاب والحقيقة المطلقة في هذه المأساة الرهبية. ربح يسوع دعواه ضدّ العالم.

الخاتمة
تَظهر الوحدة واضحةً في نصوص البرقليط، فكلُّها تتكلَّم عن إيمان التلاميذ في حياتهم. فيها تشديد على المواجهة الجذريَّة بين العالم والتلاميذ، وفيها تحديد لدور البرقليط التعليميّ، وفيها وصف لعمل البرقليط الشرعيّ في المحاكمة الكبرى بين يسوع والعالم. وفيها أولاً وآخرًا دور البرقليط الخاصّ في تعميق إيمان التلاميذ ليفهمهم في العُمق حياة يسوع ورسالتَه ويُثبِّتَهم في الإيمان ضدَّ هجمات العالم.
البرقليط الآخَر، الروح القدس، هو يسوع آخَر يواصل، بعد عودة يسوع إلى الآب، رسالة يسوع مع التلاميذ وفي التلاميذ حتى منتهى الدهر. وكونَهُ روح الحق (17:14؛ 15: 26؛ 13:16)، أصبحت مَهمَّتُه أن يَنقل إلينا الحقيقة، ويغرسها في قلوبنا. هكذا بفضل عمله الخفي تستمرُّ كلمة يسوع في الكنيسة إلى الأبد.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM