بين روح الله وروح الشرّ

الأحد العاشر من زمن العنصرة (1 كو 12: 1-11؛ مت 12: 22-32)

 

22حينئذٍ قرَّبوا إليه مجنونًا أخرسَ وأعمى فشفاهُ بحيثُ إنَّ الأخرسَ والأعمى تكلَّمَ وأبصَر. 23فكانوا مُتعجِّبينَ كلُّهم وقائلين: “ألعلَّ هذا هو ابنُ داود؟” 24أمّا الفرّيسيّون فلمّا سمعوا قالوا: “هذا لا يُخرجُ الشياطينَ إلاّ ببعلَ زبوبَ رئيسِ الشياطين.” 25فعلمَ يسوعُ أفكارَهم وقالَ لهم: “كلُّ مملكةٍ تنقسِمُ على نفسِها تخرَبُ، وكلُّ بيتٍ ومدينةٍ ينقسِمُ على نفسِه لا يقومُ. 26وإذا الشيطانُ مُخرجٌ الشيطانَ، انقسمَ على نفسِه. إذًا كيف (تكونُ) مملكتُه قائمة؟ 27وإن أنا مُخرجٌ الشياطينَ ببعلَ زبوبَ، فأبناؤكم بماذا يُخرجونهم؟ لأجلِ هذا يكونون لكم ديّانين. 28وإن أنا مُخرجٌ الشياطينَ بروحِ الله، قرُبَ منكم ملكوتُ الله. 29أو كيفَ يقدرُ إنسانٌ أن يدخلَ بيتَ القويِّ وأمتعتَه ينهبَ إلاّ إذا بدأ فأسرَ القويَّ، وحينئذٍ ينهبُ بيتَه؟ 30مَنْ لا يكونُ معي فهو ضدِّي، ومَنْ لا يجمعُ معي تبذيرًا يُبذِّرُ. 31لأجلِ هذا أنا قائلٌ لكم: كلُّ الخطايا والتجاديفِ تُغفَر للناس. أمّا الذي على الروحِ فلا يُغفَر للناس. 32وكلُّ مَنْ يقولُ كلمةً على ابنِ الإنسان يُغفَر له. أمّا مَن يقول على الروح القدس فلا يُغفَر له، لا في هذا العالَم، ولا في العالم العتيد.

*  *  *

سمعنا رسالة القدّيس بولس ولاحظنا كم مرَّة ورد لفظ الروح. بدون الروح نصبح مثل اليهود الذين اعتبروا يسوع "ملعونًا" لأنَّه عُلِّق على الخشبة. وبرفقة الروح نقول: "يسوع هو الربّ." ومن هذا الروح تأتي إلينا المواهب. أمّا الإنجيل فيحدِّثنا عن الذين رفضوا الروح "فجدَّفوا" عليه، واعتبروا عمل الخير آتيًا من الشيطان، من إبليس. وبدلاً من أن يقولوا: "روح الله" يعمل في يسوع، قالوا إنَّ يسوع "يُخرج الشياطين" برئيس الشياطين. وأخيرًا ما هذا الروح الشرِّير الذي يجعل الإنسان "أخرس وأعمى"؟

 

1.    المواهب عطيَّة من الروح القدس

حين ودَّع يسوع الرسل، حزنوا. فمنعهم من الحزن ودعاهم إلى الفرح: "إن كنتُ لا أمضي لا يأتيكم الروح القدس." هو يذكِّركم. يعلِّمكم. وحدَّثنا الرسول عن المواهب المتعدِّدة ونبَّهنا إلى أنَّ النبع واحد والغاية واحدة: بناء الكنيسة وكلِّ جماعة من جماعاتنا. الحكمة، العلم، الإيمان... مواهب عديدة نراها حاضرة في قدّيسينا اليوم. فمار شربل أُعطي موهبة الصلاة التي لا تزال حاضرة بعد وفاته بـ 115 سنة. والقدّيسة رفقة نالت موهبة الحبّ الكبير الذي جعلها تفرح بالآلام لأنَّها بذلك تشارك يسوع "وتكمِّل آلامه في جسدها من أجل جسده الذي هو الكنيسة." ومار نعمة الله أُعطي نعمة التعليم، والطوباويّ يعقوب الكبُّوشي، أُعطي موهبة الاهتمام بالمرضى من كلِّ نوع.

وما نقوله عن القدّيسين نقوله عن كلِّ جماعة. ففي الرعيَّة، هناك من نال موهبة الموسيقى والغناء، وآخر موهبة التدبير فيهتمُّ بشؤون الوقف على كلِّ المستويات، والكاهن يعلِّم، وفريق العمل الرسولي يرافق الأطفال والشبيبة. وفي الحياة اليوميَّة، هذا أُعطي موهبة الشفاء، الطبيب. ذاك موهبة الهندسة. وآخر موهبة الدفاع عن المساكين في المحاكم... كلُّ هذه المواهب لخدمة الجماعة، لخدمة كلِّ محتاج. هنا يكون موقعُ المسيحيّ الذي يلهمه الروح فيكتشف كلَّ خير، كلَّ حقٍّ، كلَّ صلاح.

 

2.    الرافضون يجدِّفون على الروح القدس

وآخرون تركوا الروح القدس. اعتبروه غير موجود أو هم عارضوه. وبدلاً من أن يأخذوا طريق الخير، أخذوا طريق الشرّ. تركوا طريق الحياة وراحوا في طريق الموت لهم وللآخرين. كلُّ ما يُعمل هو نتيجة نيَّة سيِّئة. هذا الرجل يعمل لكي يحطِّمنا. رفضُ الخير من أيِّ جهة أتى، خطيئة كبيرة جدًّا تجعلنا ننزوي على ذواتنا ونستسلم لإبليس عدوّ كلِّ خير وسيِّد كلِّ كذب.

ذاك ما مارسه الفرّيسيُّون الذين يُحسَبون "أتقياء". وبما أنَّ عندهم هذه "الصفة" اجتذبوا الناس وراءهم. وهم موجودون في كلِّ زمان ومكان. في جماعاتنا، في رعايانا، في كلِّ المصالح الخاصَّة.

ماذا فعل يسوع: شفى رجلاً أخرس وأعمى. يا للعمل "الشرّير"! هم لم يفعلوا. واعتبروا أنَّ هذا المريض هو خاطئ وهو في يد إبليس، على ما سألوا يسوع مرَّة عن الأعمى منذ مولده: "من خطئ هو أم أبواه حتَّى يُولَد أعمى؟" والجواب: "لا هو خطئ ولا أبواه"، فالإعاقة والأمراض أمور نراها كلَّ يوم. ما سببها؟ لا ندري. ولكنَّنا نحن ننسبها إلى الله. يا للتجديف! لماذا خَلق هذا أعمى وآخر أعطاه عينين؟ واليهود جعلوها عقاب الخطيئة. وآخرون اعتبروا أنَّ هذه الإعاقة هي من عند الشيطان. لهذا حاول بعض اليهود أن "يخرجوا" هذا الشيطان، لعلَّ الولد يُشفى. روح الشرِّ لا يشفي بل يقتل. أمّا روح الله فقد يمنح القدّيسين، إذا شاء الله، أن يشفوا هذا أو ذاك.

ما نتيجة رفض أعمال يسوع؟ جعلوا نفوسهم خارجًا، فيقول فيهم الرسول: "ما رفض الله شعبه"، بل هم جعلوا نفوسهم خارج الملكوت وطلبوا "دم المسيح عليهم وعلى أولادهم" (مت 27: 25). أرادوا هذا الدم لموتهم، أمّا الله فلا يريد موت الخاطئ، فاعتبره يسوع: "لحياتهم وحياة أولادهم." وقال يوحنّا: "يسوع مزمع أن يموت عن الأمَّة اليهوديَّة... بل ليجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد" (11: 51-52).

 

3.    وما معنى: مسَّه الشيطان؟

نحن نعيش اليوم في جوٍّ من الخوف ونسعى بكلِّ الطرق لننجو من الشرّ. نسأل من يكتب ومن يفكّ الكتيبة؟ من يسحر ومن يفكّ السحر؟ نمضي إلى الشيوخ. نسأل عن المستقبل ونقرأ الأبراج باهتمام... وفي هذا الخطِّ عينه، نتكلَّم عن شخص مسَّه الشيطان. هكذا نعود إلى العالم اليهوديّ الذي ينسب كلَّ ما يجهله إلى الشيطان، لأنَّ الله الذي خلق كلَّ شيء حسنًا (تك 1: 25) لا يمكن أن يخلق "شرًّا". إذًا الشيطان هو السبب. هذا أعمى؟ الشيطان أغلق عينيه. ذاك أخرس، إبليس ربط لسانه. امرأة منحنية الظهر. الشيطان ربطها. قال لو 13: 11: "بها روح ضعف" ولمَّا لمسها يسوع قال لها: "أنت محلولة من ضعفك" (آ12). قال لهم يسوع بلغتهم: "هذه ربطها الشيطان... أما كان ينبغي أن تُحلّ؟" (آ16). وبنت المرأة الكنعانيَّة؟ هي "مجنونة" كما قال مت 15: 22 (الوثنيُّون في نظر اليهود مجانين مثل لجيون أو يعيشون مع الشياطين، مع الجنّ، كما في نقول في عالمنا العربيّ). أمّا مر 7: 26 فيقول إنَّ المرأة طلبت من يسوع "أن يُخرج الشيطان من ابنتها." وهكذا قيل لها: "اذهبي، خرج الشيطان من ابنتك." (آ29). أمَّا متى فقال بكلِّ بساطة: "شُفيَتِ ابنتُها من تلك الساعة" (15: 28). شُفيَت. أي شفاها الله. وهكذا في الإنجيل: نقول "خرج الشيطان" أو "شُفيت" فالمعنى هو هو.

وفي ما قرأنا اليوم: "شفاه يسوع حتَّى تكلَّم وأبصر" بعد أن كان "أعمى وأخرس". كم ينبغي أن ننتبه إلى عدد من "الكهنة" الذين يريدون أن يُخرجوا الشياطين. فحين يقول الإنجيل مثلاً عن مريم المجدليَّة "خرج منها سبعة شياطين" (لو 8: 2) فهذا يعني أنَّها كانت خاطئة جدًّا. فالشيطان هو من "يجرِّب"، فيضع العراقيل.

في مسيرتنا إلى الله، "يضع الشيطان العصا في الدواليب." هو لا يقدر شيئًا على الجسد، بل يحاول أن يهلك الجسد والنفس في جهنَّم". وإذا كان بطرس "دُعي شيطانًا" في فم الربّ، فنحن نفهم أنَّه أراد أن يوقف مسيرة يسوع نحو الصليب. ولهذا، يمكن أن أكون أنا "شيطانًا" للذين حولي، كما أنَّ الآخرين يمكن أن يكونوا "شيطانًا" لي. لهذا قال الرسول: "إذا كان الشيطان يأخذ زيّ ملاك النور (ليخدعنا)، فما يكون خدَّامه؟!" (2 كو 11: 14-15).

يبقى علينا أن نختار: أن نأخذ روح الله أو نرفض روح الله، أن نعمل عمل الربّ أم نعمل عمل إبليس فننشر حولنا الحسد والبغض والحقد والخلاف والنزاعات. هكذا نتأكَّد أنَّ إبليس هو "سلطان العالم" الذي حاول أيضًا أن يجرِّب يسوع.

 


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM