الفصل الرابع : الإستماع إلى الكلمة

الفصل الرابع

الإستماع إلى الكلمة
5: 1- 9: 50

1- موقع هذه الفصول
إن ف 1- 2 قد جعلانا نكتشف جذور يسوع الناصري: هو ابن إسرائيل وابن عصره. وهو أيضاً ابن الله والمسيح الرب. وقدّم لنا ف 3- 4 بدايات عمله على الأرض: مسحة الروح، الرسالة التي أخذها على عاتقه في حرية تحمل التحرير إلى البشرية. هذه الرسالة التي أعلنت إعلاناً نبوياً في الناصرة ستمتد في الجليل: في إطار المجمع، في بيت سمعان، وأخيراً في "سائر المدن". ولكن الموضع الطبيعي لكرازة يسوع يبقى المجامع.
مع ف 5 تبدأ مرحلة جديدة. لم يعد يسوع وحده: فقد أحاط نفسه بتلاميذ ونساء يسيرون معه. واختار إثني عشر رسولاً. وها هي الجموع ترافقه في تحرّكاته. لا نجد عند لوقا كما عند متى ومرقس، توزيع رسالة المعلّم على منطقتين: الجليل ثم اليهودية مع أورشليم. ما يلاحظه لوقا هو الأسلوب الذي به "يسير"، ياخذ طريقه إلى أورشليم: تجوّل في بلاد اليهود وهو "يعمل الخير ويجري الشفاء" كما يقول سفر الأعمال (أع 10: 38). ولكنه كان يعلّم أيضاً كما تقول نهاية الإنجيل (23: 5). في القسم الثالث (9: 51- 19: 27) سنرى يسوع يتخذ وجهة محدّدة: هو يسير نحو أورشليم. إنه أمين لدعوته كنبي (13: 33).
في انطلاقة يسوع الأولى (5: 1- 9: 50) نجد عند الذين يسمعونه طرقاً مختلفة للإستماع إلى كلمة الله. أما الإنطلاقة الثانية (9: 18- 19: 27) فيستحدّد موقعها بالأحرى في خطّ وحي يقود المؤمنين إلى الآب بقيادة الروح القدس، وشرط العبور مع ابن الإنسان في آلامه وموته.
وهكذا تقدّم لنا المرحلة الثانية التي نتوقّف عندها هنا، طريقتين تلمّسنا بهما الكلمة، حالتين روحيّتين تجتذبان مسيرتين تغني الواحدة الأخرى. هناك حالة "المعتادين على الجماعة" أي شعب إسرائيل الذي تمّ في المسيح ودُعي للإنفتاح. وهناك حالة "كل إنسان" الذي هو للوهلة الأولى غريب عن جماعة الشعب، ولكن قلبه تنقّى بالإيمان ووُعد بعطيّة الروح القدس.
نستطيع أن نكتشف رسمة أولى لهذه النظرة اللوقاوية إنطلاقاً من شخصَي بطرلس (5: 1- 11) وقائد المئة (7: 1- 10). إنهما يحتلاّن موقعاً هاماً في بنية الفصول التي ندرس الآن (ف 5- 9). ومفتاح هذا التقارب نجده في أعمال الرسل (ف 10): هناك التقى بطرس الضابط الروماني كورنيليوس، وأعلن له إنجيل القائم من بين الأموات. وإذ كان بعد يتكلّم، حلّ الروح القدس على كورنيليوس وأهل بيته، فصاروا باكورة "خائفي الله". وهذا ما بيّن لبطرس أنّ "الله أعطى أيضاً الأمم الوثنية التوبة التي تقود إلى الحياة" (أع 11: 18).
وفي بداية ف 5 من إنجيل لوقا، إلتقى سمعان بطرس يسوع الذي دعاه بعد الصيد العجيب ليكون صيّاداً يصطاد البشر للخلاص. فسقط بطرس على الأرض أمام يسوع وقال له: "إبتعد عني يا رب، لأنى رجل خاطىء" (5: 8). والضابط الروماني في ف 7، لم يتّصل بيسوع اتصالاً مباشراً: إنه سمع الناس يتكلّمون عن يسوع. ثم أرسل إليه وفداً أولاً ووفداً ثانياً. ومن بعيد وعبر الوسطاء، طلب الحياة لأحد أفراد بيته الذي هو على فراش الموت.
سمعان بطرس يقف وجهاً لوجه أمام يسوع. والضابط يبقى بعيداً. إتضع الأولى أمام يسوع وأقرّ أنه خاطىء. وشدّد الثاني على وضعه كخاضع، وطلب الحياة لشخص عزيز على قلبه. واحد تسلّم مهمة ورسالة، والثاني لا. لماذا وضع لوقا هذين الشخصين الواحد تجاه الآخر؟ حين ألّف فصول إنجيله، لاحظ مختلف الكنائس التي عاش فيها وخصوصاً كنيسة انطاكية حيث يتجاور اليونانيون واليهود المتهلينون (تحضّروا بالحضارة الهلينية) في الإيمان الواحد ويتسمّون بالإسم الواحد (أع 11: 19- 26. إنهم مسيحيون). واكتشف الطابع الشامل لتكامل مسيرتَيْ بطرس وقائد المئة اللذين اجتمعا حوله يسوع في قلب شعب الله.
وهكذا تتوسّع هذه المجموعة في خط برنامج يسوع في الناصرة (4: 16- 44): مواجهة أولى مع أبناء موطنه، الناصرة (إسرائيل)، مواجهة مع جميع المرضى في كفرناحوم (العالم).

2- التأليف والبنية
إذا أردنا أن ندرك بنية هذه الفصول وأصالة لوقا، يجب علينا أولاً أن نقابل توالي المقطوعات عند مرقس ومتى ولوقا. بعد هذا نبرز المحطات التدوينية في تأليف الإنجيل الثالث.

أ- مقابلة إزائية
سجّلت المرحلة الأولى في مرقس (1: 15- 3: 6) نشاط يسوع في إطار يوم من الرسالة في كفرناحوم (1: 21- 45). وظهرت ردّة الفعل عند البشر في خمسة مجادلات جليلية (2: 1-3: 6). فصل متّى هذا العرض إلى قسمين. في الأول (ف 8- 9) استعاد معجزات يسوع العشر (8: 1- 4، 14- 17؛ 9: 1- 17). واستعمل القسم الثاني خلال مجادلات يسوع مع خصومه (12: 1- 14). إتبع لو 5: 12- 6: 11 ترتيب المقطوعات حسب مرقس، ولكنه أتبع هذه المجموعة بخطبة (6: 12- 49) توازي في أمور عديدة خطبة الجبل (مت 5- 7).
وعالجت المرحلة الثانية في مرقس (3: 7- 6: 6 أ) إستقبال أقارب يسوع له. إحتفظ متّى فقط بعجائب يسوع (مر 4: 35- 5: 43)، وبدّل ترتيبها، وأدخلها في ف 8- 9 (صت 8: 18- 34؛ 9: 18- 26). وأخذ الأمثال (مر 4: 1- 34) فجعل منها خطبة الأمثال في ف 13. أخذ لوقا مثل الزارع (8: 4- 15) والسراج (8: 16- 18) والمقطع حول عائلة يسوع الحقيقية (مر 3: 31- 35) الذي صار خاتمة خطبته (8: 19- 21). أما متى فاستعاد هذا المقطع في 12: 46- 50. وانطلق لوقا من معجزات يسوع ليطرح السؤال عن يسوع (8: 22- 56).
إن هذا السؤال عن يسوع يشرف على المرحلة الثالثة في مرقس (6: 6 ب-8: 30). أدخله متّى كما هو في توسّع ف 14- 17 وتحدّث عن تأسيس الكنيسة. وأخذ لوقا قسماً منه من أجل ف 9. فقد استعمل في ف 7 مراجعه الخاصة (7: 11- 17، 36- 50)، ثم ما يوازي مت 11: 12- 19، في تدخّل مرسلي يوحنا السجين (7: 18- 35). ولكنه احتفظ من أجل ف 9 مهمة الإثني عشر (مر 6: 6 ب- 13؛ مت 10: 1- 14)، واعتبارات هيرودس (مر 9: 14- 16؛ مت 14: 1- 2) وتوزيع الأرغفة على الجموع (مر 6: 30- 44؛ مت 14: 13- 21).
ويظهر هذا العمل التدويني بشكل أوضح بفضل لوحة تدلّ على التقابلات الرئيسية في النصّ اللوقاوي.
5: 1- 11: دعوة سمعان بطرس 7: 1- 10 حدث الضابط. الروماني
= يو 21 = مت 8: 5- 13
5: 12- 6: 11: المغفرة 7: 11- 50: إحياء إبن أرملة نائين
مر 1: 40- 2: 12 حدث خاص بلوقا
: طعام الغداء شهادة يسوع على المعمدان
= مر 2: 13- 22 = مت 11: 12- 19
: السبت سمعان والخاطئة
حدث خاص بلوقا
= مر 2: 23- 3: 6
6: 12- 16: الرسل الإثنا عشر 8: 1- 21: الإثنا عشر والنسوة
= مر 3: 13- 19 = مر 1: 39؛ 15: 40- 41
6: 17- 19: يسوع والجمع
= مر 3: 17- 11
6: 20- 29: التطويبات وخطبة السهل الكلمة المزروعة
= مت 5-7 = مر 4: 1- 25
عائلة يسوع الحقيقية
= مر 3: 31- 35

ب- التدوين اللوقاوي
حين ننظر إلى التدوين اللوقاوي، نلاحظ بعض المحطّات في النصّ. يبدأ ف 5 بلفظة ترد مراراً عند لوقا: "وحصل". نعرف أن الجمع يزحم يسوع ويسمع كلمة الله. هكذا يبدأ خبر دعوة سمعان بطرس بعد الصيد العجيب. وتتلاحق ثلاثة أحداث: تطهير الأبرص، شفاء المخلّع وغفران خطاياه، دعوة لاوي. وقد بدأ لوقا الحدثين الأولين بشكل واحد: وحدث أن يسوع كان في إحدى المدن (5: 12). وحدث أن يسوع كان يعلم ذات يوم (5: 17). وتظهر بداية الحدث الثالث بشكل خاتمة: وبعد هذا خرج (5: 27).
ذكّرنا لوقا هنا بدعوة بطرس (5: 1- 11) حين كرّر عبارة: ترك كل شيء وتبع يسوع (5: 11- 28)، وحين لمّح إلى الخطأة (5: 8، 30- 32).
ويمتد الوضع الذي أقامته هذه الأحداث الثلاثة في ف 6 حيث تعود عبارة واحدة فتبرز محطّتين تدوينيّتين واضحتين: خبر السنابل المقلوعة، وشفاء الرجل الذي يده يابسة: وحصل في سبت: كان مجتازا بين حقول القمح (6: 1). وحصل في سبت آخر: دخل المجمع (6: 6). وتنتهي المسيرة بصلاة يسوع واختيار الإثني عشر وخطبة السهل. وتبدأ هذه المجموعة مع 6: 12 (كما في 5: 7): "وحدث في تلك الأيام" (فيما بعد).
تتضمّن خطبة السهل عرضاً متوازياً بين التطويبات (طوبى لكم) وبين التويلات (الويل لكم)، ثم كرازة تبدأ بهذه العبارة: "وأما أنتم أيها السامعون" (6: 27). بعدها يأتي توسّع يبدأ: "وضرب له أيضاً مثلاً" (6: 39). وينتهي كل هذا بقول يشير إلى سماع ما يقوله يسوع والعمل به، وهكذا نعود إلى موضوع البداية (5: 1: كان الجمع مزدحماً لسماع كلمة الله).
وينقلنا ف 7 إلى واقع جديد: بعد خطبة يسوع نعود إلى أخبار تشير إلى مسيرة أخرى. "ولما فرغ من هذا الكلام كله على مسامع الشعب، دخل كفرناحوم" (7: 1). وفي نهاية حدث قائد المئة نستعيد العبارة عينها: "وحدث فيما بعد" (7: 1). نجد هنا خبير إقامة إبن أرملة نائين وفيه "مجّد الناس الله" (7: 16) كما فعل المخلع الذي غفرت خطاياه وشهود المعجزة الذين استولى عليهم الخوف (5: 25- 26). بعد هذا يرد حدث مرسلي يوحنا المعمدان مع الشهادة التي أدّاها له يسوع. أخيراً وُجد سمعان الفريسي وجهاً لوجه مع الخاطئة، أمام يسوع. في هذا المقطع الذي يتحدّث مراراً عن "النبي" (7: 16، 26 مرتين، 28، 29)، نتكلم أيضاً عن غفران الخطايا (7: 47- 48؛ رج 5: 20) وعني الإيمان (7: 50؛ رج 5: 20 و7: 9).
حينئذ نرى يسوع ينطلق عبر المدن والقرى، وهو يعلن إنجيل الملكوت. يرافقه الإثنا عشر والنسوة. وتأتي في المقدّمة عبارة هي صدى لما في 7: 11: "وحدث في تلك الأيام" (فيما بعد) (8: 1).
تزاحمت الجموع حول يسوع، فقدّم لها خطبة جديدة: قدّم مثل الزارع الذي فسّره للتلاميذ الذين جاؤوا يسألونه. وتنتهي هذه الخطبة بوصول أقاربه: أرادوا أن يروه. وكانت تلك مناسبة للمعلّم حتى يتحدّث عن القرابة الحقيقية: "الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها". كان الإنجيلي قد لامس موضوع كلمة الله في 5: 1. وختم الإرتباط بين "السماع" و"العمل" في الخطبة الأولى، خطبة السهل.
هذه اللحمات الأدبية المختلفة تتيح لنا أن نكتشف توازياً لوقاوياً مميّزاً وراء تأليف هذه المجموعة (5: 1- 8: 21). إن الحالتين الروحيتين اللتين أشرنا إليهما يقدّمان نموذجين (سمعان بطرس، قائد المئة)، ثم مسيرة تبرز القيم الخاصة بكل من هاتين الحالتين، وأخيراً خطبة ليسوع. والمقابلة التالية تبرز الموازاة.
أ- الكلمة لإسرائيل (5: 1- 6: 49) ب- الكلمة الرسالية (7: 1- 8: 21)
النموذج: سمعان بطرس (5: 1- 11) النمرذج: قائد المئة (7: 1- 10)
المسيرة: غفران (5: 12- 26) المسيرة: إبن أرملة نائين
(7: 11-17)
الوليمة (5: 27- 39) شهادة ليوحنا (7: 18- 35)
السبت (6: 1- 11) سمعان والخاطئة
(7: 36- 50)
خطبة السهل (6: 12-49) كلمة يسوع وسط أخصّائه
(8: 1- 21)
وتبدأ المجموعة التالية (8: 22- 9: 51) فتستعيد المتتالية الإزائية التي تتضمّن تسكين العاصفة (8: 22- 25= مر 4: 35- 41؛ مت 8: 18، 23- 27)، شفاء المجنون في أرض وثنية (8: 26- 39= مر 5: 1-20؛ مت 8: 58- 34)، شفاء النازفة وإقامة إبنة يائيرس (8: 40- 56= مر 5: 21-43؟ مت 9: 18- 26). وتبدأ هذه المتتالية بعبارة ظهرت في 5: 17 بشكل قريب جداً. "وحدث في ذات يوم" (8: 22). إنها تتسجّل في انطلاقة يسوع: في 8: 22، ركب السفينة مع تلاميذه. وصلوا إلى أرض الجرجاسيين في 8: 26، واستقبلهم الجميع في طريق العودة (8: 40). طُرح السؤال حول هويّة يسوع (8: 25) ومعنى عمله (ما جرى، 8: 34، 35، 56). نحن هنا أمام سؤال مطروح داخل حلقة من الأشخاص يرافقون يسوع، أو يلتقون به في الطريق، أو يسمعون كلمته ويعملون بها.
بعد متتالية 8: 22- 56 نجد توسّعاً أخيراً يصل بنا إلى 9: 50 ونهاية الرسالة في الجليل، وبداية الصعود إلى أورشليم: بعثة الإثني عشر (9: 1- 6)، حيرة هيرودس حول يسوع (9: 7- 9)، تكثير الأرغفة (9: 10- 17). في 9: 18 لا يتبع لوقا متى ولا مرقس. فنحن نستعدّ لحقبة جديدة في تعليمه، تبدأ في 9: 51 وتنتهي في 19: 27.
نلاحظ هنا عمل الرسل. لقد أرسلوا على خطى يسوع ليكرزوا بملكوت الله ويجروا الأشفية (9: 2). فحرّك عملهم الرسولي سؤال هيرودس (9: 9)، ذاك السؤال الذي ولد خارج حلقة المؤمنين. بعد هذا، دفع يسوع الرسل لكي يطعموا الجموع.
وتمتدّ هذه المتتالية حتى 9: 51 حيث نقرأ: "وإذ كان زمن ارتفاعه من هذا العالم قد اقترب، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم". نحن هنا أمام السفر إلى أورشليم. ترك لوقا هنا رسمة مرقس وسار في خطه. وغابت أسماء الأماكن، فلم يبقَ منها إلاّ ما نحتاجه في إطار الصعود إلى أورشليم. أجل، إن 9: 51 هو آية أساسية في إنجيل لوقا، وقد تهيّأ منذ 9: 18 المنعطف اللاهوتي الذي يشير إليه.

3- تقديم النصّ
أ- كلمة مرسلة إلى إسرائيل (5: 1- 6: 49)
نستطيع أن نسمّي ف 5- 6: كلمة إلى إسرائيل. فكل المقاطع تحيلنا بالدرجة الأولى إلى ما يعني بوجه خاص شعب إسرائيل. فالخبر الأول هو خبر اعتراف خاطئ أمام تدخّل الله، وهو خبر دعوة. وتعالج الأحداث التالية شفاء الأبرص، غفران الخطايا (محفوظ لله وحده)، نداء خاطئ. وتبرز الجدالات بين يسوع من جهة والكتبة والفريسيين من جهة ثانية، بمناسبة هذه اللقاءات، فتدلّ على الإطار اليهودي الذي يحدّد موقع العمل. إنها تعني ممارسة الصوم والمحافظة على السبت. وخبر اختيار الإثني عشر الذي يذكّرنا بتكوين شعب الله في اثني عشر سبطاً، يعطي هذه المجموعة وجهها.

ب- الكلمة الرسالية (7: 1- 8: 2)
إن عبارة 7: 1 (بعد أن أتمّ كل هذه الأقوال في مسامع الشعب) لا تعود فقط إلى الخطبة التي تسبقها (6: 21- 49). بل تشمل ما يتضمّنه ف 5- 6 اللذين تشكّل خطبة السهل ذروتهما. وتبدأ مرحلة جديدة للذين لم يصمّوا آذانهم. في بداية هذه المرحلة الجديدة تبرز صورة قائد المئة الذي يدلّ على طابع انفتاح الكلمة حيال كل إنسان. لهذا نتحدّث عن الكلمة الرسالية، عن كلمة الرسالة التي تذهب إلى أبعد من العالم اليهودي.
في الواقع، إن المتتالية التي تربط "خطبة التطويبات" بحدث الضابط الروماني، تكوّنت قبل لوقا ومتى. إستعادها لوقا فاستفاد من الرمزية المرتبطة بهذا الشخص (هو وثني، وينتمي إلى قوى الإحتلال، القوى الرومانية) ليوجّه ولْي خبره. هنا نقابل بينه وبين قائد مئة آخر هو كورنيليوس المقيم في قيصرية البحرية.
مع دخول قائد المئة على المسرح، تبدأ الرسالة أبعد من إسرائيل (7: 9). ففي ف 5- 6، جمعت أقوال يسوع وأعماله حلقات من السامعين: الإثنا عشر، جماعة التلاميذ، جمهور كبير من الشعب (6: 13، 17)، وحدّدت النداء الذي وجّه إليهم. أما في ف 7- 8 فتجاوز نشاط يسوع إطار العالم اليهودي بحصر المعنى.

ج- وحي مثلّث (8: 22- 9: 50)
بعد الفاصل في 8: 22 (وحدث في ذات يوم)، تبدأ مجموعة أولى من الأخبار تتوزع حول سفر يسوع على البحيرة: ركب السفينة (آ 22)، نزلوا من السفينة (آ 26). فركب يسوع في السفينة ورجع (آ 37)، ولما كان يسوع راجعاً (آ 40). نجد هنا تسكين العاصفة وخلاص المجنون (آ 22- 39)، ثم خلاص النازفة وقيامة إبنة يائيرس (آ 40- 56). ما يربط هذين الجزئين هو شخص يسوع الذي في قلب عمله يرفع زاوية من الحجاب فيدلّ على سرّه. وهكذا نصل إلى السؤال الأول الذي طرحه التلاميذ: من تُرى هذا (آ 25)؟
في 9: 1 نقرأ "ودعا الإثني عشر". في 9: 18 نجد العبارة المعروفة: "وحدث أنه كان ذات يوم يصلّي". نحن هنا أيضاً أمام سؤال عن يسوع يطرحه أناس من خارج حلقة التلاميذ، ويتكلّم باسمهم هيرودس: "من ذا الذي أسمع عنه مثل هذه الأخبار" (9: 9)؟
ويطل الوحي المثلّث كجواب على السؤالين اللذين طُرحا عن يسوع (التلاميذ، هيرودس). بدأ يسوع فسأل تلاميذه في هذا الموضوع (9: 18- 20)، ثم كشف لهم المصير الذي ينتظره (9: 22). وبدا حدث التجلّي (9: 28- 36) عند لوقا كنقطة إنطلاق لي "خروج" يسوع إلى أورشليم على ضوء قصد الآب. وجاء تكرار الإنباء بالآلام فجعل التلاميذ منذهلين أمام الكلمة التي لم يفهموها.

4- معنى النصّ
ما هي الطريق التي سرنا فيها منذ ف 5؟ هناك عنصر أول يلفت انتباهنا: إن لوقا يبقى حاضراً في نصّ يحدّثنا فيه عن يسوع. فإن اقترب منا يسوع شيئاً فشيئاً، فهذا لا يعني أن الإنجيلي يخسر مكانته. أما مرقس فيختفي بشكل واضح ويترك القارئ أمام شخص يسوع المسيح وابن الله. ومتّى يجعل القارئ يعيش الخبرة الكنسيّة في الجماعة الأولى الملتئمة حول ربّها. أما الإنجيلي الثالث فنحسّ أنه مليء بخبرة يريد أن يوصلها إلينا. إنه يأخذنا بيدنا ليجعلنا ندرك خبر يسوع، كما فعل مع تيوفيلوس، محبّ الله.
لهذا قدّم مسيرتين لسماع الكلمة. لا شك في أنّ وحي يسوع هو واحد هنا وهناك، ولكن طريقة سماعه تختلف. لسنا أمام نمطين من الجماعات، ولا أمام جدلية اليهودي والوثني. بل أمام توجهين من السماع يكمّل الواحد الآخر.
في المسيرة الأولى (في إسرائيل) نتقبّل الكلمة في "وجه لوجه" (تث 34: 10؛ إر 31: 34). هذه الكلمة الموحاة ستصبح مقياس كل عمل، وهي تحدّد ممارسة نموذجية. لهذا نرى في خطبة السهل تشديداً على محبّة الأعداء (6: 27- 35)، على الرحمة (6: 36)، على الإمتناع عن الدينونة، وعن الغفران (6: 37). ونطرح السؤال: هل تتجسّد الكلمة في تصرّفاتنا، هل تصبح حياة؟
في الحالة الثانية نتحقّق من السماع. فكل إنسان لم يدركه وحي الله يتوقّف عند واقع الحياة اليومي. حينئذ يكتشف أن هذه الحياة هي موضع سكنى كلمة الله في يسوع. حينئذ يعود إلى أساس كل حياة، إلى يسوع المسيح القائم من الموت. هنا تنطلق المسيرة من الحياة إلى الكلمة. وهنا يطرح السؤال: هل أنا متنبّه إلى سرّ الحياة؟ هل تصبح حياة الله كلمة في حياتي؟ قال يسوع: "تبصّروا كيف تسمعون" (8: 18).

أ- نقطتا الإنطلاق
وضع لوقا في إنطلاقة كل من هاتين المسيرتين نموذجاً يدلّ على معنى المسيرة: سمعان بطرس وقائد المئة. ففي بداية المتتالية التي تبدأ مع سمعان بطرس، نرى الجموع تتزاحم حول يسوع لتسمع كلمة الله (5: 1). ثم يقال لنا أن المعقم كان يعلّم الجموع (5: 5) من السفينة. وبعد هذا، جاءت كلمة يسوع (5: 5) فدفعت بطرس إلى أن يرمي الشبكة. ودُعي بطرس ألاّ يخاف (5: 10)، ثم تبع يسوع (5: 11).
وفي متتالية قائد المئة كتب لوقا أن يسوع "فرغ من هذا الكلام على مسامع الشعب" ثم دخل كفرناحوم (7: 1) هذه المدينة الجامعة. ما سمعه الضابط عن يسوع جعله يكتشف كلمة تتوجّه إلى لقاء رغب فيه بأن يرى خادمه حيّاً ويخرج من وضعه السيّء. فالوفدان اللذان بعث بهما إلى يسوع يدلاّن على أنه يؤمن بالعلاقات البشرية. ولكن هذه العلاقات تبقى خاضعة لكلمة الشفاء التي يسمعها من الرب.
كيف تتوضّح هاتان المسيرتان؟

أولاً: المسيرة الأولى
تبدأ المسيرة الأولى بلقاء مع الأبرص. آمن بالكلمة، ولكن عليه أن يتقبّل تطهيره كعطية مجانية لا تستطيع الشريعة إلاّ أن تتحقّق منه. وكان هذا الشفاء سبباً لتزاحم الجموع التي جاءت تسمع الكلمة وتطلب الشفاء.
وحدثُ المخلّع الذي شُفي ونال الغفران، يجعل المسيرة تتقدّم. الله هو الذي يشفي وهو الذي ينقّي القلب. وسيبيّن الحدث أن "الكسحان" الحقيقيين هم الفريسيون ومعلمو الشريعة: تقوّوا بممارستهم للشريعة فظنّوا أنهم يكتفون بالخارج دون الداخل. نحن هنا أمام شفاء نموذجي لمخلّع الباب الجميل (أع 3: 1- 10) واينياس الذي قال له بطرس: "شفاك يسوع المسيح! إنهض وافترش لنفسك"! فنهض للحال (أ ع 9: 34).
وتوجّهت خطبة الجبل إلى الجماعة المؤمنة. فعلى خلفية تكشف الملكوت، كانت هذه الخطبة نداء لالتزام نبوي يقدّم لكل إنسان في عمل شامل، لا في ممارسة شريعة محفوظة لشعب واحد. وهذا الإلتزام يقوم بأن نشهد للملكوت الذي أعطي لنا في يسوع. ويطرح السؤال: هل أنا نبي حقيقي أم نبي كاذب؟ هل أنا شاهد حقيقي أم لا؟ فالذي يقول باستمرار إنه شاهد للرب ولا يدخل في مصير ابن الإنسان (حيث الفقر والجوع والدموع والاضطهادات، رج 6: 20- 22). يكون شاهداً كاذباً: وما يدل عليه هو الغنى والشبع والضحك والكرامات (رج 6: 24- 26).
هناك قراءة أولى للتطويبات والتويّلات تجعلها سلسلة من مواقف أدبية "نرضي" بها الله: حسب هذا التفسير، إن الله يحبّ الذين يقرّون بفقرهم، يحبّ الذين تتركهم خيرات الأرض في جوعهم، والذين يقبلون مصيرهم وإن ترافق بالدموع. وهناك قراءة ثانية تجعلنا نقرأ التطويبات والتويّلات بطريقة مادية: المساكين يملكون قيماً جعلنا الغنى ننساها. إنهم يعيشون في البساطة الحقيقية. هذا هو البعد الديني، بينما شدّدت القراءة الأولى على البعد الروحي.
عندما يتحدّث لوقا عن الجوع والفقر والبكاء، فهو ليس أمام استعارة ورمز. إنه أمام الواقع اليومي بما فيه من قساوة. يسمّى الفقراء "سعداء" لأن الله يهتمّ بهم. لا بسبب استحقاقاتهم، بل بسبب الحالة نفسها التي فيها يعيشون. إن الله كأب محبّ، يعتني بصورة خاصة. بالمساكين والجياع والباكين والمضطهدين. ذاك كان دور الملك في أرض إسرائيل، بل في الشرق كله. ثم إن الحقيقة الإلهية للتطويبات لا تنفصل عن مصير إبن الإنسان. بل لا أساس لها إلا الثقة بأمانة الله كما تجلّت في يسوع. فالمساكين والجياع والباكون هم سعداء لأن الله عمل في يسوع بشكل نهائي من أجلهم، فأقام من بين الأموات (وجعله مسيحاً ورباً، أع 2: 36) ذاك الذي يتمّ رجاءهم (أع 26: 6).

ثانيا: المسيرة الثانية
تبدأ كما قلنا بشفاء خادم قائد المئة الذي هو نموذج المؤمن الذي لم يرَ يسوع ولم يسمعه إلا عبر أصدقائه وعائلته وإخوته.
في حدث نائين، وجد الرب نفسه فجأة أمام الموت. نحن أمام امرأة ضربها الشقاء. قال لها يسوع: "لا تبكي" (7: 13). وهكذا أدخلها في تطويبة الذين يبكون. والإبن الذي أعيد إليها صار حامل كلمة. أحسّ الناس أن الله افتقد شعبه، زاره، صار قريباً منه (7: 16). وذكرُ اليهودية كلها وجميع البلدان المجاورة يدلّ على إتّساع الكلمة وتجاوزها إطار العالم اليهودي.
ويعود بنا الإنجيلي إلى الشهادة في خبر تساؤل يوحنا المعمدان عن يسوع. على المستوى التاريخي، إرتبط مجيء يسوع بكرازة يوحنا التي جذّرته في تقليد إسرائيل النبوي. ثم يتواجه سمعان الفريسي الذي يمثل تقليد شعبه بأدقّ ممارساته، مع امرأة وامرأة خاطئة وبالتالي منبوذة من الجماعة المقدّسة. هل يسوع هو نبي حقيقي أم لا؟ ذاك هو سؤال سمعان. هل يتقبّل حبّاً نجساً؟ ذاك هو تساؤل الخاطئة وقلقها. وكان الجواب رحمة شاملة ضمّت هذا وتلك في غفران واحد. وهكذا اجتمع المدينان في نعمة واحدة: فالنعمة التي عرفتها الخاطئة صارت درساً لسمعان (الإيمان الذي يخلّص)، صارت دعوة إلى السلام والمصالحة.
وتتوجّه خطبة جديدة إلى الذين يتحلّقون حول يسوع: الإثنا عشر الذين يمثّلون شعب إسرائيل. نساء تخلّصن من خطيئتهنّ، جمهور كبير جاء من كل مكان. كل هؤلاء جمعهم يسوع في مسيرته: الإثنا عشر الذين "معه"، والنسوة اللواتي "يخدمنه" (رج أع 6: 2؛ 19: 22)، والجموع "التي تسير معه". هذا ما نجده أيضاً في أعمال الرسل. وجاء مثل الزارع: يسوع هو الزارع وهو الحبّة المزروعة التي نحفظها فنثمر بالصبر.
إذا كان هذا هو السرّ الذي نجده في مجموعة الذين حول يسوع، وإذا كان تقبّل الكلمة والعمل بها هما جوهريان، فإن محاولة أهل يسوع بأن تضع يدها على هذا النبي وتمتلكه (كما أراد أن يفعل أهل الناصرة، 4: 16- 30) ستكون فاشلة. فجماعة يسوع تعيش من كلمته، وتكتشفها دينامية نموّ تتغلغل في العمل. كما تختبر في الطاعة للكلمة قدرة الروح القدس التي تدفعنا إلى الشهادة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM