الفصل الثالث: الجذور والبدايات

الفصل الثالث

الجذور والبدايات
1: 5-4: 44

توقفنا في ف 1- 2 عند أصل يسوع المسيح، وفي ف 3- 4 عند بداية رسالته كمخلّص للبشر وابن الله. وها نحن نستعيد الطريق اللاهوتية التي سرناها برفقة القديس لوقا.
إن مسيرة الإنجيلي هي مسيرة متنازلة. فهو لا يعود أولاً إلى نصّ كتابي وإلى تقليد غريب عن أغلبية سامعيه الذين هم وثنيون ارتدّوا إلى المسيحية. بل ينطلق من خبرة الروح الحاضرة ويعود إلى ينبوعها في يسوع الناصرة. وحين يلتقي به القرّاء، فهم يكتشفون في الوقت عينه تجذّره التاريخي ويلتقون مع إسرائيل في قراءة الكتب المقدّسة التي يتمّها يسوع محوّلاً نظرة شعب الله إلى العالم.
وهذا التحوّل يظهر منذ أولى الصفحات في الإنجيل. ففي الرسم المتوازي بين البشارتين، جعلَنا لوقا نعبر من معبد أورشليم حيث يحتفل الكاهن زكريا، إلى مدينة في الجليل حيث تتقبّل صبية مخطوبة بشارة لم يسمع بها أحد.
إهتمّ لوقا بعالم المدن حيث يجتمع الناس. واهتم بكل ما يشكّل حياتهم كما نظّموها مع تفاصيلها (وعوالمهم) المتعدّدة. أبرز الناصرة، تلك القرية المنسيّة في الجليل، ولا بيت لحم، مدينة الملك داود. وخسر "معبد" أورشليم الذي هو مركز حضور الله في شعبه، الذي فيه يتمّ مصير العالم بالنسبة إلى اليهودية، خسر دوره الريادي من أجل قرية لا يعرفها أحد.
وهناك جديد آخر في إنجيل لوقا هو عالم النساء. نرى مريم واليصابات وحنة. وعالم الإنجيل أقرب إلى ابراهيم والعهد، أكثر منه إلى موسى وعطية الشريعة في سيناء. في ذلك الوقت كان شيوخ أورشليم مع كل خبرتهم وحكمتهم وسلطانهم الذي لا يناقش، كانوا على هامش الحدث العظيم تجاه صبيّة من الريف لم تتزوّج بعد. وهكذا نرى أن الإنجيل لا يخضع لمنطقنا، بل لمنطق الروح الذي يحيرّنا دائماً ويذهلنا.

1- جذور يسوع المخلّص
وقام تدخّل الله في الوقت عينه بتحويل العقول والقلوب، فبيّن ما تعني ولادة الكلمة بقدرة الروح. حين بشّر الملاك زكريا، تكلّم عن الصلاة. وحين كلّم مريم قال لها: وجدت نعمة عند الله. إضطرب الكاهن الشيخ حين رأى الرؤية. أما مريم فلفت نظرها كلمة تحية وسلام. صار زكريا أبكم بسبب قلّة إيمانه، أمّا إيمان مريم فجعلها خصبة بقدرة الروح القدس.
ونتوقّف عند هذه النقاط الثلاث.
بعد الصلاة العبادية التي تطلب تحرير أورشليم، جاء الحنان (معنى اسم يوحنا) كاستجابة لهذه الصلاة. وهذا الحنان (أو هذه النعمة) الذي رافق الحبل بيسوع، هو وجه الله الذي يرحم البشر.
وكان عبور من المعبد إلى كلمة السلام المسيحاني (إبتهجي). وصلت إلى مريم فانطلقت تنقلها إلى اليصابات ويوحنا (1: 40). كل هذا يدلّ على خلاص لا ينغلق على شخص أو شعب، بل ينطلق إلى الآخرين. فالكلمة صار رسولاً قبل ولادته. أسرعت به أمّه إلى أرض يهوذا. وهذا ما سيفعله الرسل فيحملون كلمة الله حتى أقاصي الأرض. وكل هذا بقوة الروح الذي جعل يوحنا يتحرّك في حشا أمه، كما جعل قلوب السامعين لكلام الرسل تتفطّر قلوبهم ويطلبون العماد.
لم نعد أمام عالم قديم، عالم أبكم (زكريا) وعاقر (اليصابات)، عالم ضعف إيمانه فصار ضعيفاً وغير قادر على التكلّم. لقد صرنا أمام عالم جديد. فها قد تجلىّ إيمان مريم (1: 45) التي تقبّلت قدرة الله في فجوة الضعف البشري، وبادرت إلى إنشاد شكرها أمام الذي صنع فيها عظائم.
إن ميثاق البركة الذي عقده الله مع إبراهيم (تك 15: 1- 18) الذي استودع مواعيد الحياة (رج تك 12: 1- 3) قد تمّ في مريم. فبإيمانها جعلت حنان الله حاضراً في العالم. في هذا المعنى كان إيمان ابراهيم صورة عن إيمان مريم. ونقول الشيء عينه عن أعمال الرسل: بالإيمان تقبّل المرتدون الجدد نعمة الخلاص. وهذا الإيمان ينقّي القلوب (رج أع 15: 9). وهكذا كانت مريم نموذج المؤمنين. وإذ بيّن لوقا أن إيمان مريم هو فوق علاقات الجسد، أتاح لكل إنسان أن يدخل في تاريخ يسوع بالإيمان، وإن لم تكن له أية علاقة بشعب إسرائيل (أي: الوثنيون). إنّ تاريخ يسوع هو تاريخنا، كيف يكون ذلك؟ حين نقرّ أنّ طريقنا الذي نكتشف فيه كل يوم قدرة الروح القدس، ليس غريباً عن تاريخ يسوع. وهكذا يصبح يسوع في الروح القدس حامل النعمة التي يعيشها المؤمن.
يدعو الإنجيلي قرّاءه، وعبرهم جميع البشر في كل العصور، ليتتلمذوا لدى طفل وُلد "اليوم" "كالمخلّص" و"المسيح الرب" المنتظر الذي يجتذبنا منذ كلمته الأولى إلى الله أبيه (2: 49). إنّ ولادة هذا الطفل تجعلنا نكتشف إلى أي مدى عقد الله ميثاقاً مع البشر. فهولا يسوع قد ضمّ إليه كل واقع بشري وأدخله في مسيرة نموّه. فهذا الولد يعطي ما هو خفي ومحتقر كل قيمته، ويظهر نسبية الأشياء بالعودة إلى الآب قبل كل شيء.
إن لفظة اليوم تعبرّ عن آنية حنان الآب من أجل عالمنا. فهذا الحنان هو ينبوع كل حياة، وهو يعطي كل لحظة من لحظاتها قوامها. مع يسوع الآتي، يقدَّم المخلّص اليوم في قلب حياة كل واحد منا. وهذا "اليوم" هو ثمرة انتظار طويل، بدأ منذ أجيال مع الخلق فمرّ عبر وعد الحياة الذي أعطي لإبراهيم. وهو أيضاً ثمرة تاريخ حبّ الله عبر ولادة كل إنسان وحبّه وآماله وموته. هذا "اليوم" يتضمّن في نظر لوقا ما هو جديد جذرياً.
فما أعطي ليست خلاصاً مجرّداً، بل المخلّص يسوع شخصياً (يسوع= يهوه يخلّص). ولكن، يا للمفارقة، يجب أن نتعرّف إلى هذا المخلّص من خلال سمات "طفل ملفوف بالقمط ومضجعاً في مذود" (2: 12). بهذا الطريق لا نخلطه مع "الالهة" الوثنية، ولا مع الأباطرة الذين "يحملون الخلاص" في الديانات المجاورة. إنه مخلّص ينمو وسط البشر. مخلّص هو حضور قدرة الله التي تلبّي انتظار إسرائيل، وأُفق أمام آمال الشعوب. ماذا يحمل هذا المخلّص؟ السلام للبشر، وهو سلام ينمو في مصالحة تدلّ على حنان الله.
اليوم ولد لنا مخلّص. وأول كلمة تفوّه بها دلّت على أبيه. إنه الإبن الذي يوجّه حياته إلى الاب منذ البداية حتى الموت على الصليب (23: 46: يا أبتِ، في يديك أستودع روحي). ولا نفهم شيئاً من هذا المخلّص، من هذا النور الظاهر للأمم، من هذا المسيح الرب، إلا إذا رأينا فيه الإبن. وما أخبرنا به في كل حياته هو كيف نعيش كأبناء، كيف ننمو في روح الإبن. هذا ما كشفه طفل سُلّم إلى ظروف الكبار ومشيئتهم، إلى والديه والرعاة وكل الذين يطلبون الله.
إذا كان لوقا في ف 1- 2 قد عاد إلى الكتب المقدّسة، إلا أنه لم يستعملها لكي يبرهن أن يسوع هو المسيح المنتظر، المتحدّر من داود والمتمّ النبوءات. بل هو اتخذ خطّاً معاكساً: توخى أن يجعلنا ندرك أدن يسوع يفسّر الكتب: قرأها على ضوء موته وقيامته فصارت مفهومة. ولكي يدلّ على ذلك، عمل عن طريق التلميح لا الإيرادات الواضحة. وهكذا جعل من العهد القديم قراءة مسيحية واضحة. ولجأ إلى النمطية التي عرفها العالم اليهودي والعالم الهليني: يوحنا ويسوع يشبهان هذه الوجوه الكبيرة في تاريخ إسرائيل (إسحق، جدعون، شمشون، صموئيل، إيليا، إرميا، عبدالله المتألّم). وذكّرتنا اليصابات ومريم بنساء نجح فيهنّ مخطّط الله (سارة، رفقة، حنة، إبنة صهيون).

2- بدايات الرسالة
في ف 3- 4، إرتدى يسوع قوّة الروح فدخل على مسرح العالم ليكشف له ملكوت الله ويدشّنه. وظهر يوحنا النبي أيضاً: إنه شاهد لواقع مقبل سيمّحى أمامه. لقد حل التدبير الجديد محلّ طقس العماد بالماء: فالعماد في الروح القدس هو ما يميّز الملكوت. لقد بدأت حقبة جديدة في تاريخ خلاص الله ساعة حلّ الروح على يسوع وهو يصليّ في الأردن. فهذا الروح الذي حضر ساعة الحبل به، سيبقى حاضراً فينا بشكل ملموس ومتواصل وفي فيض متجدّد بدأ مع مسحة يسوع المسيحانية. هي مسحة نبوية مثل مسحة عبد الله المتألمّ. وهي مسحة ملوكية، لأننا أمام الوارث الشرعي لملكوت الله، أمام الإبن الحبيب. ولكن لوقا يترك هذه الوجهة في الظلّ حتى تتويج يسوع الممجّد (أع 2: 32- 33؛ 3: 13- 15؛ 13: 33).
يسوع في بداياته هو رأس البشرية الجديدة. والرسالة التي يتجنّد لها بقوّة الروح تضمّ البشرية كلها التي تجد معناها في بنوّته الإلهية.
وتجرّب ابن الإنسان على يد الشيطان، لندرك معنى المجابهات والمحن التي تلي. فطريق الإبن (وطريق الأبناء) مزروعة بالإضطهادات. هذه هي طريق الملكوت ولا طريق غيرها. والعودة الأخيرة إلى أورشليم حيث يتمّ آخر فصل من رسالته، تربط إرتباطاً وثيقاً التجارب وموت يسوع على الصليب وعبوره إلى الآب. هذه هي نهاية "خروجه"، كما كانت نهاية حجّه إلى بيت الآب وهو في عامه الثاني عشر.
إن حلول الروح، وتصّرف يسوع النبوي تجاه وسوسات الشيطان تلقيان الضوء على الرسالة التي تبتدىء. ففي الناصرة كشف يسوع بركة الله في بُعدها الشامل والآني. فالتحرّر الذي أعلنه يعني كل إنسان: الفقير، السجين، الأعمى، المسحوق... إن ما حصل عليه إسرائيل من رحمة قد حلّ على جميع الفقراء وجميع المرضى. وهذا ما دلّت عليه أعمال إيليا واليشاع. غير أن لوقا لا يرينا يسوع مبشّراً خارج حدود إسرائيل: لهذا سيكون التعبير عن هذه الشمولية على هذا المستوى: لهذا فأقارب يسوع وأهل بلدته لا يملكون حقاً خاصاً على ابن يوسف وابن الناصرة. ولكن قلب التعليم (برنامج الناصرة) سيكون تمام كلمة النعمة اليوم. فبركة الله التي أعلنت اليوم، تتوجّه إلى جميع المسحوقين وجميع المرذولين: هذا ما تعنيه التطويبات.
ولكنّ سامعي الناصري لم يهتموا بهذه البركة المعلنة، بقدر ما اهتموا بانفتاح شامل يشككهم. بيد أنه وجب عليهم أن يعرفوا أن الله حرّ في منح نعمه كما يشاء، وهذا منذ أيام إيليا واليشاع. ثم إنّ ما حصل من شكّ في الناصرة سيحصل كل مرّة تُعلن البشارة. ولقد دلّ سفر الأعمال أن الإنجيل لم يحمل السلامٍ والمصالحة بل التصادم والعنف. وسيكون اسطفانس أوّل من يموت شهيدا. ولكن كلمة الله ليست مقيّدة. ففي الناصرة عبرَ يسوع بين الذين رفضوا الكلمة التي أعلنها عليهم، وقادوه إلى خارج المدينة ليرموه من أعلى الجبل. وفي أورشليم، حُكم على يسوع (الذي ظهر في الهيكل) بالموت فقادوه إلى خارج المدينة. غير أن مصلوب الجلجلة سيقوم في اليوم الثالث.
ونشاط يسوع في كفرناحوم سيشدّد في النهاية على الطابع الشامل للرسالة: هذه المدينة الجامعة في الجليل (4: 31) ستكون نموذجاً لإعلان يصل إلى اليهودية (4: 44). والإنتقال من المجمع إلى بيت سمعان (4: 35) وشفاء الحماة، يطلقان الحركة العامة: كل واحد شُفي. كلهم شُفوا (4: 40). وفي الوقت عينه، بدا يسوع منتصراً على الشّر في أعماقه، لأنه أجبر الشياطين والأرواح النجسة أن تقرّ بقداسته وأصل رسالته الإلهية.
إن إنجيل الملكوت بدأ طريقه، ولا شيء يوقفه. هذا هو قرار الآب. لهذا قال يسوع: "يجب عليّ أن أبشرّ المدن الأخرى أيضاً لأني لهذا أُرسِلْت" (4: 44).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM