الفصل الخامس والثلاثون
أشفية متعدّدة
6: 53- 56
درس الشرّاح ثلاث إجمالات رئيسية في إنجيل مرقس: 1: 32-34؛ 3: 7-12؛ 6: 53-56. هذه المقاطع تستحقّ إنتباهاً خاصاً، لأنها تنتج عن نشاط الإنجيلي التدويني، فتدلّ بشكل مباشر على تفسيره الشخصي لمعجزات يسوع. إن هذه الإجمالات (مع 1: 39 التي تذكر بإيجاز طرد الشياطين على يد يسوع) تلعب دوراً كبيراً في تأليف الإنجيل وفي قرائن الأخبار الخاصة بالمعجزات. فإن 1: 32- 34 ينهي ما سمي "اليوم الأول" في رسالة يسوع في كفرناحوم (1: 21- 34). ثم تبدأ 3: 7- 12 مجموعة أوسع تتضمّن عدة أخبار من المعجزات الهامة. إن 3: 7- 12 و6: 53-56 تشدّدان على التعارض بين موقف يسوع وموقف خصومه. تختلف الإجمالات عن أخبار المعجزات المعزلة، فتجعلنا نحسّ أننا أمام عدة معجزات متشابهة. وبما أنها تظهر في الجزء الأول من إنجيل مرقس (1: 1-8: 26)، فهي تبيّن لنا تواصل نشاط يسوع كصانع معجزات.
1- شرح النص
ينتقل لوقا حالاً من تكثير الخبز إلى اعتراف بطرس، ولهذا لا نجد عنده ما يوازي هذا النصّ. عند يوحنا، وبعد مشهد الخبز، صعد التلاميذ في السفينة ليذهبوا إلى كفرناحوم (6: 17) حيث يصلون ساعة انضمّ إليهم يسود بعد أن مشى على البحر (6: 21، 24). وفي مجمع هذه المدينة تلفظ بالخطبة عن خبز الحياة (6: 59).
مع مرقس نصل إلى جنسارت، جنوبي كفرناحوم. هذه الإشارة لا تتوافق مع آ 45. لهذا قام الشرّاح بالتصحيحات العديدة.
إن آ 53-56 تشكّل نبذة شبيهة بما في 1: 32-34 و7:3-12. إنها تستبق الأحداث. في آ 54، عرف أهل كفرناحوم (أو أهل هذه المنطقة) بيسوع، نشروا الخبر عن وصوله (آ 55 أ). في آ 55 ب، تتّبعوا يسوع إلى حيث يمضي ليحملوا إليه المرضى. في آ 56، جاء إليه أهل كل قرية وكل مدينة دخل إليها، وهم يحملون المرضى. نحن هنا أمام ملخّص لما سيحصل في الفصول التالية (رج 7: 24- 25، 32؛ 8: 22؛ 9: 17).
أما متّى (14: 34-36) الذي لا يبدو نصّه بشكل نبذة واضحة، فقد أوجز معطيات مرقس. أعلم أهل جنسارت كلَّ المنطقة بمجيء يسوع، فجاؤوا إليه بالمرضى.
ويدلّنا مرقس مرة أخرى على تحرّكات الجموع بالنظر إلى تحركات يسوع. لا تشير هذه النبذة إلى أي نشاط تعليمي. ومن الواضح أن يسوع تزحمه الجموع من جديد وهو الذي نزل إلى مكان ظنّ أنه يكون فيه وحده.
لماذا جاء الناس إليه؟ لماذا طلبوه؟ لأنه صنع ما صنع. فالأشفية تتمّ بمجرّد أن يلمسه المرضى. لا حديث عن الشياطين كما في 3: 11. ومهما يكن من أمر، فإن 3: 7-12 و 6: 53- 56 تتكلّمان عن أشفية لا يتدخّل فيها الإيمان بشكل مباشر، وإن تدخّل فهو لا يختلف عن ذاك الذي يقود المرضى أو أقرباءهم إلى "الشفّائين". إن هذه الأشفية تشبه تكثير الأرغفة: هي معجزات ومناسبات حلوة، ولكنها ليست آيات "تدلّ" على يسوع يبقى أن يسوع لم يرفض أن يجترحها، أو هو أجبر على اجتراحها.
نعمة يسوع هي التي خلّصتهم، لا إيمانهم. فالإيمان هو جواب تنتظره النعمة، وليس من خلاص تام إلا حيث نعي هذا الخلاص ونتعلّق به. ولكن النعمة تعرف أن تنتظر وتنتظر طويلاً. هي تشفي مرضى الجليل الذين لا يحملون معهم إلا صراخهم. فقد يفهمون في يوم من الأيام ما حصل لهم حقاً. فكان شفاؤهم علامة تدلّ عليه.
خاف يسوع من زحمة الجموع، ولهذا أراد أن تكون رسالته تعليماً يقود إلى الإيمان. وهكذا يربّي تلاميذ أحراراً واعين يستطيعون أن يحدّدوا موقعهم كمسؤولين أمام إنجيل نعمة الله. ولكنه علم، شأنه شأن موسى، أنه سيكون أمام شعب ماتت فيه النفس، ولا بدّ من حمل الخلاص إليه. لهذا، لم يرفض في النهاية هجمة الجموع. بل اجترح من أجلهم معجزات عرف أنها لن تكون علامة تضيء مسيحانيته بل "إندفاعاً" يلقي الظلمة على هويّته الحقّة.
2- دراسة نقدية
إعتبر بعض الشرّاح أن هذه القطعة مأخوذة من التقليد. وهي تجمع إجمالتين مختلفتين دُمِجَتا فيما بعد إنطلاقاً من نبذات أخذت من أخبار خاصة. إن آ 55 ترتبط بنص 2: 1- 10 (مخلّع كفرناحوم). وآ 56 بنصّ 5: 24- 34 (شفاء النازفة). ولكن يبدو أنه لا شك في الطابع التدويني لنص 6: 54-56. وهذا واضح إذا قابلناه مع 1: 32- 34؛ 3: 7- 12؛ 6: 31- 33.
إنطلق مرقس من أسلوب تعرّفنا إليه، فاستعاد "تصويره" من عدة أخبار تقليدية عن المعجزات. في آ 55، "على فرش" تذكّرنا بمقطوعة المخلّع حيث ترد كلمة "فراش" أربع مرات (2: 4، 9، 11، 12). وفي آ 56، يذكّرنا فعل "التمس" بما يفعله طالبو الشفاء (1: 40؛ 5: 23؛ 7: 32؛ 8: 22). ثم إن نهاية الآية "لكي يلمسوا طرف ثوبه. وكل من لمسه كان يبرأ" ترتبط بما في 5: 28 ("إن لمستُ ولو ثيابه"، النازفة).
أما آ 53، فيبدو أنها الخاتمة التقليدية لتكثير الخبزات الأول (ما عدا: إلى البرّ التي زادها متى بالعودة إلى الحدث السابق الذي هو سير على البحر).
وهكذا يبدو أن إجمالة 6: 53-56 هي من تأليف مرقس وتختلف عن 1: 32-34 بأنها لم تلعب وظيفة الخاتمة. وتختلف عن 3: 7-12 بأنها لا تلعب وظيفة المقدمة. إنها بالأحرى تشكّل انتقالة فيها يصوّر مرقس وضعاً مشابهاً لوضع مقدمة تكثير الأرغفة الأول: الشعب يتراكض إلى يسوع في تكثير الأرغفة، دلّ على شفقته حين علم الجموع (6: 34) وأطعمها (6: 35 ي). وفي 6: 53- 56، شفى المرضى. وما يولّد الشفاء هو "اللمس" هنا (آ 56) وفي 3: 10. تقول 3: 10 إن الناس يحاولون أن يلمسوا يسوع، ولكنها لا تقدّم إيضاحاً آخر. أما هنا فيقول النصّ: أن يلمسوا ولو هدب ردائه، ولو طرف ثوبه. في 5: 27، 28، 30، نحن أمام "ثوبه" أو "ثيابه". لا أمام هدب (طرف) ثوبه (كما في مت 9: 21؛ لو 8، 44؛ رج مت 23: 5). حسب عد 15: 38 ي، كان على اليهود أن يصنعوا لهم أهداباً على أذيال ثيابهم. وقال تث 22: 12: "إصنع لك أهداباً في أربعة أطراف ثوبك الذي ترتديه".
لماذا أضاف مرقس هذا التفصيل؟ ليدلّ على فاعلية لمس يسوع من أجل الخلاص. يكفي أن نلمس "طرف ثوبه". في أع 5: 15، إستلهم لوقا هذا النص فتحدّث عن "ظلّ بطرس" وقوته الشفائية: "كانوا يحملون مرضاهم إلى الشوارع ويضعونهم على الأسرّة والفرش، حتى إذا مرّ بطرس يقع ولو ظله على واحد منهم". وقال لوقا الشيء عينه عن بولس: "وكان الله يجري على يد بولس معجزات عجيبة، حتى صار الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامس جسده من مناديل أو مآزر، فتزول الأمراض عنهم، وتخرج الأرواح الشريرة" (أع 19: 11- 12).
نشير هنا إلى أن 6: 53-56 لا تتحدّث عن طرد الشياطين. كما لا نجد فيها أي تلميح إلى السر المسيحاني. إن مر 6-8 لا يتضمّن أي خبر عن طرد الشياطين. فإن 7: 24- 30 ليس "طرداً" بكل معنى الكلمة. المهم في هذه المقطوعة هو الحوار بين يسوع والسورية الفينيقية، والمعجزة تكمن في الشفاء عن بُعد.
فسّر أحدهم توافد الجموع كتعبير عن عماها: فهي في نظر مرقس متعطشة إلى المعجزات. وقال آخر: لا يريد مرقس هنا أن ينتقد موقف الجموع، ولكن (كما في 6: 33 ي) أن يبرز شقاءها وشفقة يسوع عليها لأنها "كخراف لا راعي لها" (6: 34). أما نحن فنتساءل: أما يشير مرقس مرة أخرى، وعن طريق المفارقة، إلى سرّ شخص يسوع الذي لا يُدرك؟ فانتشار قوته العجائبية والنجاح الذي لقيه لدى الجموع، لم يجعلا هذه الجموع تعترف بمسيحانيته. ففي منطق غريب، بقدر ما تظهر هذه المسيحانية، بالقدر عينه يصعب إدراكها. وهذا واضح بالنسبة إلى التلاميذ حين العودة إلى تكثيرَيْ الأرغفة في 8: 14 21.
إذا أردنا أن نفهم إجمالة 6: 53- 56، يجب أن نأخذ بعين الإعتبار السياق السابق الذي يرتبط به. ففي منظار الكاتب الإنجيلي، يشكّل 6: 30- 56 مجموعة واحدة. وهو يضمّ خبرين تقليديين: تكثير الخبزات الأول (6: 35- 44، 53) والسير على المياه (د: 45- 51 أ). كلا الخبرين يكشفان كشفاً مميّزاً شخصية يسوع. ولكن لم يفهمهما التلاميذ، وهذا ما يشدّد عليه الإنجيل بقوة (6: 51 ج- 52). لا شك في أن مرقس لا يصوّر تصرّف الجموع بألوان قاسية كما صوّر تصرّف التلاميذ. ولكن النبذتين التدوينيّتين في 6: 31-33 و 6: 54-56 اللتين تحيطان بتكثير الأرغفة والسير على المياه، لا تُستخدمان فقط لتدلاّ على حماس الجموع. فسواء تراكضت الجموع أو تهرب يسوع منها، فهي لا تزال تجهل من هو.
هنا نشير إلى التوالي في 6: 30- 56 بين اعتزال يسوع وقربه بالنسبة إلى الجموع: في 6: 31- 32، حاول أن يذهب إلى "موضع قفر" مع التلاميذ. في 6: 33، سبقته الجموع إلى هناك، فعلّمها وأطعمها في 6: 34- 44. في 6: 45 ي، أطلق الجموع، وانفصل أيضاً عن تلاميذه. ثم انضمّ إلى تلاميذه وهو يسير على المياه. في 6: 53-56 وجده الجمع من جديد وأخذ يزحمه.
في هذا المجال، نلاحظ غياب ردّة الفعل (وهذا أمرٌ غريب) عند الجموع بعد تكثير الأرغفة الأول: إستفادت من الطعام، ولكنها لم تعِ أبعاد المعجزة. وبشكل مماثل نقول عن الأشفية المذكورة في 6: 54-56 كما في 1: 32-34؛ 3: 7-10. إنها لا تحرّك وعياً تجاه الذي قام بها. أما ظهور يسوع على البحر، فهو محفوظ للتلاميذ الذين لم يفهموه (6: 52). كان عليهم أن يفهموا، لهذا ذكر عماهم بشكل واضح. أما بالنسبة إلى الجموع، فلا يمكن أن تفهم. ومعجزات يسوع، مهما كانت عديدة وساطعة، فهي تخفي مسيحانيته أكثر مما تكشفها.
ج- نشاط يسوع الخلاصي
يبدو يسوع في 6: 53-56 وفي 1: 32-34؛ 3: 7-12 ذاك المجترح المعجزات والشافى الشعبي و"مخلّص" المرضى والممسوسين. تزاحمت حوله جموع متراصّة وانتظرت منه الشفاء من آلامها. حاولت أن "تلمسه" وهي مقتنعة أنها بهذه الطريقة تستفيد من سلطته الشفائية. في هذه الإجمالات، لا يذكر الإيمان كشرط سابق للمعجزة. فتصّرف الجمع يعبّر بالأحرى عن ثقة "سحرية" بقدرة يسوع. ولكن مرقس لا ينتقد هذا التصرّف انتقاداً مباشراً.
يرى مرقس أن عمل يسوع الخلاصي يكوّن واقعاً تاريخياً لا جدال فيه. وهو لا يطرح سؤالاً حول الاعتقاد الشعبي بالمعجزات. ولكن هذه الأحداث التي يذكرها، لا ترتدي في نظره أهمية حاسمة. المهمّ هو الإنجيل. فمرقس يجعله المضمونَ الأساسي وعنوان كتابه (1: 1) وقلب برنامج يسوع (1: 14 ي). وإن لم ترد الكلمة إلا ثلاث مرات في هذه الإجمالات الثلاث، وإن لم يكن هناك أي تلميح إلى كرازة يسوع، يجب علينا أن نفهمها إنطلاقاً من الإنجيل. لقد اعتاد البعض أن يميّزوا بين كرازة "الإنجيل" والمعجزات، كما يميّزون بين القول والعمل. لهذا، كنا سننتظر بعد 1: 1 و1: 14 ي توضيحاً موسّعاً لكرازة "الإنجيل". في الواقع، تبقى حصة مرقس من كلمات يسوع محصورة، وهي تقوم أساساً في خطبتي 4: 1-34 و13: 1 ي اللتين تميّزان مضمون تعليم يسوع. مع العلم أن الأمثال (ف 4) لا تقدّم هذا التعليم إلا ببعض أمثلة تشدّد بالأحرى على "النتيجة" (تحجب أكثر مما تبيّن).
من المدهش أن لا يتضمّن أول يوم من رسالة يسوع في كفرناحوم أي توسّع عن أقوال يسوع، مع أن 1: 21 ي أشار إلى تعليمه في المجمع. في الواقع، لا نجد إلا توسيعاً عن الأشفية. ثم تعجّب الشهود بعد طرد الشيطان في 1: 27: "ما هذا؟ إنه تعليم جديد يُلقى بسلطان".
ولكن هذا التعجّب يتّخذ مدلولاً خاصاً لأنه لا يستند إلى خطبة سابقة ليسوع، بل إلى عمل قام به يسوع.
نستطيع أن نستنتج أن "الإنجيل" والأشفية العجائبية لا تتجاوران فقط، بل تتداخلان. فالضيق الذي تحسّ به الجموع يحرّك يسوع، والطريقة الملتبسة التي بها تعبّر عن انتظارها (3: 10؛ 6: 56) تكفي لتدفع يسوع من أجل عمله الخلاصي. لم يُطلب إيمان "كرستولوجي"، إيمان بيسوع المسيح. غير أن "الإنجيل" عند مرقس لا ينحصر في أشفية تمّت على يد يسوع. فهذه الأشفية قد انطبعت "بفرض السر" وشكّلت فقط "صورة سابقة" "لإنجيل يسوع المسيح ابن الله" (1: 1) الذي لم يكشف بعد. فالأمر بالصمت إلى الشياطين يعبّر عن هذا التقليد في إعلان المسيح (1: 34؛ 3: 12). ولكن أشفية يسوع تدلّ في الوقت عينه عمّا سيعلن كـ "إنجيل" منذ الآن، أي "كشف عن السرّ المسيحاني". فبالنسبة إلى هذا الإنجيل، لم يُظهر خصومُ يسوع وتلاميذه سوى اللافهم والعمى. فالمرضى الذين توافدوا إلى يسوع قد نالوا منه وحدهم "الخلاص" (6: 56) لأن الضيق الذي يعيشون فيه وغياب كل فكر مسبق، هيآّهم "للإنجيل"