الفصل الثالث والثلاثون
خبز يشبع شعب الله
6: 35- 44
استقبل يسوع تلاميذه العائدين من دورة رسولية استحقوا بعدها اسم "الرسل". إستقبلهم باهتمام وعناية ودعاهم إلى الراحة من تعبهم في موضع مقفر. ولكن متطلّبات الرسالة منعتهم من تنفيذ برنامجهم. فدفعهم قلب يسوع الحنون إلى الاهتمام من جديد بالجموع. في هذا الوقت، كثّر يسوع الأرغفة ليطعم في البرية هذه الجموع التي أتت إليه. بارك الخبز ووزّعه على التلاميذ، فوزّعه التلاميذ على الناس وأكلوا جميعهم وشبعوا، بل بقي لجميع أهل الجليل وأورشليم خبز يشبع جوعهم ويشبع جوع الكنيسة حتى نهاية العالم.
1- إلى البر القفر
نبدأ فنتذكّر الأهمية التدريجية التي اتخذها التلاميذ خلال المرحلتين السابقتين. لقد أرسلوا بسلطة هي سلطة يسوع نفسه (6: 7: أعطاهم سلطاناً)، فعلّموا كما علّم هو. نجد هنا في 6: 30 المرة الوحيدة التي فيها يتحدّث الإنجيلي عن "تعليم" يؤدّيه التلاميذ. هذا التعليم يأتي بعد الإعلان بالإنجيل (3: 14؛ 6: 12، 13: 10؛ 14، 9). هكذا بدت رسالة يسوع. بدأ "يعلن بشارة الله" (كالمنادي) (1: 14) ثم "دخل المجمع وأخذ يعلّم" (1: 21).
لقد اختبر الرسل قوة بشارة (إنجيل) الملكوت، واختبروا أيضاً المقاومة التي تواجه هذا الإنجيل. لقد أنهكهم العمل الرسولي. غير أن يسوع يقدّم لهم الراحة. يأخذهم على انفراد، إلى مكان مقفر (6: 31- 32). هناك يكونون معه وحدهم، بعيداً عن الجموع، وهكذا يستطيع أن يعلّمهم. هذا ما اختبروه بعد مثل الزارع (4: 10) وفي نهاية الأمثال حيث "انفرد يسوع بتلاميذه ففسّر لهم كل شيء" (4: 34؛ رج 7: 17؛ 8: 13- 14؛ 9: 2، 28؛ 13: 2). هذه الراحة هي قبل كل شيء إقامة مع يسوع وولوج إلى حياته الحميمة. هي مشاركته (إحساس معه) في شعوره كالراعي المسيحاني الذي يعتني بهذه الخراف التي لا راعي لها.
هنا نتذكّر اهتمام موسى حين أحس باقتراب ساعته. طلب من الرب أن يؤمّن خلفاً له يقود الجماعة الملتئمة في البرية: "ليوكّل الرب على الجماعة رجلاً يخرج أمامهم إلى الحرب ويعود بهم، لئلاّ تبقى جماعة الرب كغنم لا راعي لها" (عد 27: 16). وأسرّ حزقيال في آذان سامعيه كلمة الأمل: إن الله بنفسه سيهتمّ بقطيعه فيقدّم له المراعي الخضراء ويمنحه داود جديداً. يكون داود راعي الخراف، فيضع الرب حدّاً لتيهانها. قال الرب: "سأسأل عن غنمي وأتفقّدها كما يتفقّد الراعي قطيعه" (حز 34: 11).
واستعاد مز 23 موضوع الله الراعي الذي يقود تقيّه إلى الراحة ليستعيد أنفاسه، ويهيّىء أمامه مائدة كالمضيف أمام ضيفه (آ 2، 3، 5). هذا الموضوع ستستعيده أسفار الحكمة وتتوسّع فيه. تقول الحكمة لمن يعوزه الفهم: "تعالَ، كُلْ من طعامي، واشرب الخمر التي مزجت" (أم 9: 5). وتقول أيضاً: "تعالوا إليّ أيّها المشتاقون، واشبعوا من ثماري... من أكلني ازداد جوعاً، ومن شربني ازداد عَطشاً. من سمع لي فلا يخيب، ومن عمل بما أقول، لا يخطأ" (سي 24: 19-22).
راحة التلاميذ تقوم بأن يشربوا من ينبوع الرحمة الإلهية التي تجسّدت في يسوع، وأن يدركوا سخاء هذا الحب ومتطلّباته. هذا الحب الذي به يتقبّل البشر، وفي الوقت عينه يتفلّت منهم ليقودهم إلى أبعد، إلى أعلى، إلى أعمق. راحة التلميذ تقوم بأن يقيم في حنان الله من أجل شعبه ليتمرّس على عمله الرسولي. لقد دعا يسوع التلاميذ بشكل ملموس لكي يشاركوه في اهتمامه بالجموع، في تعليمه لهم، في عمله التحريري. وهذا يفترض أن يعلّمهم (6: 37- 41) قبل أن يتفرغّ هو وتلاميذه للطعام (31:6).
قام يسوع بمهمته كالراعي المسيحاني الذي تحدّث عنه النبي حزقيال (34: 23؛ 37: 24)، وطلبتْه صلاةُ الشعب اليهودي (مز 74: 1؛ 77: 21؛ 78: 52-53، 70- 72؛ 80: 1). فبدأ يعلّم الجموع الكثيرة ويعلّمها مطوّلاً، ويعلّمها أشياء كثيرة (6: 34؛ 8: 2؛ 9: 22). إهتم مرقس بتعليم يسوع اهتماماً خاصاً (يستعمل فعل "علم" 15 مرة) ولكنه لا يفصّل أبداً مضمون هذا التعليم. مضمون هذا التعليم هو يسوع نفسه. وما يلفت في هذا التعليم هو "السلطان" الذي به يمارس يسوع رسالته. ويظهر هذا التعليم في أقوال يسوع كما في معجزاته. فهو يعبّر عن نفسه هنا وهناك.
2- شعب جائع
في هذا الوقت، إتخذ التلاميذ المبادرة. وعوا أن الساعة تأخّرت، وأن القرى صارت بعيدة، فتساءلوا كيف يطعمون الجمع. قالوا ليسوع: "قل للناس أن ينصرفوا إلى المزارع والقرى ليشتروا لهم ما يأكلون" (6: 36). لم يربطوا بين التعليم والطعام، ونسوا العلاقة بين خبز الكلمة وخبز نأكله. لاحظوا أن المكان مقفر، ولكنهم نسوا أمثولة البرية التي يعلّمنا إياها تث 8: 2-3: "أذكر الطرق التي سيّرك فيها الرب إلهك في البرية هذه الأربعين سنة... أذلّك وجوّعك، ثم أطعمك المنّ الذي لم تعرفه أنت ولا عرفه آباؤك، حتى يعلّمك أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل ما يخرج من فم الرب".
المنّ هو الموهبة السرية، هو الزيادة (رج مت 6: 33: يزاد لكم) غير المتوقعة التي بها يطعم الله شعبه في حاجته. على التلاميذ أن يتذكّروا أولاً أنهم عاجزون عن إطعام إخوتهم. هذا هو معنى جواب يسوع: "أعطوهم أنتم ما يأكلون" (6: 37). ولكن الإعتراضات كثيرة على المستوى الإقتصادي: عدد كبير من الناس. نحتاج إلى كمية كبيرة من المال. وهكذا نعود إلى السؤال الأساسي: كيف يستطيع الله أن يطعم الإنسان ويدلّ على سخائه في وسط هذا الشقاء البشري؟
خبز البشر والسمك المصطاد في البحيرة، هما ثمرة عمل الإنسان وجوهر وجوده. هكذا يطعم الناس بعضهم بعضاً في قلب المجتمع. هذه معطية يجب أن يدركها التلاميذ ليفهموا كيف يطعم الله البشر. وحين ننتظر كل شيء من الله، نتقبّل من البشر كل شيء ونقر بضعفنا وحاجتنا. حينئذ يتكوّن الشعب في جماعة العهد مع بنيته الخاصة، كما كان إسرائيل في البرية.
يختار موسى من الشعب رجالاً أكفاء يخافون الله وأمناء يكرهون الرشوة. ويوليهم على الشعب رؤساء ألوف ومئات وخماسين وعشرات... يحملون الحمل مع موسى ويخفّفون عنه (خر 18: 21-22). هكذا تنظّم المجتمع مع مسؤولين على مختلف المستويات، مع موكّلين على الخير العام. ويوم تذمّر موسى على الرب الذي وضع عليه أثقال كل هذا الشعب، طلب منه الرب أن يختار سبعين رجلاً، ليحل عليهم روحه. "هم يحملون معك أثقال الشعب ولا تحملها وحدك" (عد 11: 18؛ رج 31: 14؛ تث 1: 9-18؛ 17: 8-13). إن العالم اليهودي يعتبر أن تنظيم جماعة البرّية هو الترتيب المثالي لشعب الله. هذا ما فعله يهوذا المكابي حين قسم جيشه فئات من عشرة وخمسين ومئة وألف (1 مك 3: 55). وهذا ما تحدّثت عنه مراراً جماعة قمران. حين تحدّث مرقس عن الجموع أشار إلى صفوف من "خمسين ومئة". فإذا قمنا بعملية الضرب نكون مع عدد الآكلين وهو: خمسة آلاف. هذه هي الجماعة المثالية. تغذّت من كلمة يسوع بواسطة التعليم، وأكلت من الخبز "المسيحاني"، فصارت جماعة الله الحقة.
دعا يسوع الناس فتجمّعوا. علّمهم يسوع فالتحموا في الوحدة. وكان الرسل بينهم كرؤساء مئات ورؤساء خمسين يحملون أثقالهم مع يسوع. في هذا الوضع، إستطاع يسوع أن يتلفّظ بكلمات المباركة: مبارك أنت يا رب. وهكذا يعود هذا الطعام البشري إلى الله. إن المباركة تبدّل عمل الإنسان فيصبح عمل الله: صار الخبز أكثر من الخبز، بعد أن لامسته كلمة جديدة خلاّقة. كيف تمّ هذا التحوّل؟ لا يستطيع التلاميذ أن يقولوا شيئاً عن هذه المعجزة قبل أن يشاركوا في العشاء الذي فيه سقم يسوع جسده ليُؤكل ودمه ليُشرب (14: 22- 25). ولكنهم منذ الآن مدعوون ليكونوا وسطاء عطية الله للجميع. لقد "قسّم يسوع السمكتين عليهم جميعاً".
"أكلوا كلهم حتى شبعوا" (6: 42). الله يفيض بركاته بغزارة لا يتصوّرها عقل بشري. يروي سفر الملوك الثاني أن اليشاع، تلميذ إيليا، قسم على مئة شخص عشرين رغيفاً من الشعير قدّمت له: "لأنه هكذا قال الرب: يأكلون ويفضل عنهم" (2 مل 4: 43). والأقوى الذي جاء بعد يوحنا المعمدان صار موزعاً لبركة الله على الإنسان. وترك لكل من الإثني عشر رسولاً سلّة مملوءة. وهكذا يصبحون بدورهم وكلاء على الخيرات المسيحانية.
لقد دقّت الساعة التي فيها يجمع الله كل مدعوّيه إلى وليمته. "تعالوا إلى المياه يا جميع العطاش. تعالوا يا من لا فضة لهم. أطلبوا حنطة وكلوا. تعالوا واشربوا خمراً ولبناً بدون فضة وبغير ثمن. لماذا تصرفون فضة لغير الخبز، وتتعبون في عملكم لغير شبع" (أش 55: 1-2).
أطعم يسوع خمسة آلاف. رقم كبير. إنه يدلّ على شمولية عطاء الله، وهو رقم يذكرنا بنموّ الجماعة المسيحية الأولى التي تضمّ في حضنها إسرائيل المسيحاني. بعد خطبة بطرس الأولى، "إنضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف" (أع 2: 41). وبعد وقت قليل، "بلغ عدد المؤمنين من الرجال نحو خمسة آلاف". وقال مرقس في نهاية خبره: "وكان الذين أكلوا من الأرغفة نحو خمسة آلاف رجل". جماعة أورشليم الأولى هي نموذج للجماعات المسيحية التي ستتوزّع حوض البحر المتوسط. وجماعة الآكلين مع يسوع في البرية يدلّون على ملء كنيسة الله التي سيكون لها ملء الطعام لأبنائها حتى نهاية العالم.
3- تحليل النصّ الإنجيلي
أ- أخبار تكثير الخبز
إحتفظت لنا الأناجيل بستة أخبار عن تكثير الأرغفة. أورد لوقا خبراً واحداً (9: 10- 17) وهو يرتبط بهذا الخبر الذي ندرسه. فالرسالة لدى الوثنيين لن تبدأ مع لوقا إلا بعد القيامة والعنصرة. وبما أن الخبر الثاني (رج مر 8: 1- 9= مت 15: 32-38) يتوجّه إلى الوثنيين، أغفله لوقا، فحدّثنا في سفر الأعمال عن كسر الخبز داخل الجماعة الأولى (أع 2: 46)، كما حدّثنا عن احتفال شارك فيه بولس في ترواس (أع 20: 7- 12): "صعد إلى الغرفة العليا وكسر الخبز وأكل".
وأورد يوحنا معجزة واحدة عن تكثير الأرغفة (6: 1- 15). هو يذكر فقط سبع معجزات، فيدلّ على ملء قدرة يسوع. وتبقى قيامته معجزة المعجزات. ثم إن يوحنا أبقانا في إطار يهودي، شأنه شأن لوقا، فلم يحتج إلى ذكر معجزة ثانية عن تكثير الخبز، تكون تكراراً للمعجزة الأولى. فالمهمّ بالنسبة إلى يوحنا ليس فقط المعجزة، بل التعليم الذي يلي المعجزة. إن خطبة خبز الحياة (يو 6: 25) قادت جموع كفرناحوم إلى أسمى تعليم عن الخبز الحقيقي الذي يتعدّى بعظمته المنّ في البرية. قادتهم إلى الافخارستيا، إلى الطعام الحقيقي والشراب الحقيقي.
إن جغرافية المجموعة 6: 30-8: 27 تبدو غامضة رغم التفاصيل العديدة. فالمكان المقفر في 6: 31- 32 قد يقع شمالي شرقي البحيرة. تحدّث لو 9: 10 عن بيت صيدا. أو بالأحرى: جوار بيت صيدا، لأنه يقول في آ 22: مكان مقفر. أما عند مرقس، فيسوع سيرسل تلاميذه إلى بيت صيدا بعد المعجزة. أرسلهم "إلى الشاطىء المقابل" (6: 45) كما تقول بعض المخطوطات. غير أن التلاميذ نزلوا في جنسارت وهناك ربطوا قاربهم.
سيلعب الجمع هنا دوراً كبيراً. هنا سيتمّ اللقاء العظيم بين يسوع والجمع الذي يصبح في النهاية جماعة هي صورة مسبقة عن الكنيسة التي تتغذّى بخبز الكلمة وخبز الجسد. كان الجمع في الفصول السابقة حشداً من الأفراد. ولكنه سيتّخذ هنا وجهاً جديداً بعد إرسال التلاميذ ليبشّروا ويطردوا الشياطين. لم تعد الجموع خرافاً لا راعي لها. لقد أشفق يسوع عليها فاهتم بها. وطلب من تلاميذه أن يشاركوه في اهتمامه. لم يتهرّب يسوع من الناس، بل واجه مسؤولياته التي تجعله الراعي العتيد الذي يتحدّث عنه يوحنا في إنجيله (10: 11، 14: أنا الراعي الصالح).
غاب الراعي الحقيقي عن إسرائيل، فكان يسوع ذاك الراعي. أطعم شعب الله ولم يتركه وحده يبحث عن طعامه. هذا ما أراده التلاميذ أن يعمل فبدوا وكأنهم رعاة يتهرّبون من مسؤولياتهم. ونظّم يسوع شعب الله فبدا مثل موسى الجديد (وربّما داود الجديد) الذي يرافق شعبه في البرية، يعلّمه، يؤمّن له الطعام. وفي النهاية، يصعد إلى الجبل (6: 47). هذا ما يبرزه يوحنا حين يشير إلى المنّ في جداله مع اليهود (يو 30:6-31).
ب- يسوع وجماعته
لسنا هنا كما في الفصول السابقة أمام يسوع تزحمه الجموع من كل جانب فيتّخذ تدابير مادية لكي يبقى بعيداً عنها (3: 9). هو يسيطر الآن على الوضع: لم يعد فريسة حماس الجموع، بل هي تخضع لسطانه. وما يلفت النظر، هو أنه لا يقال شيء بعد المعجزة عن دهشة الجموع وإعجابها.
بعد آ 34، نلاحظ واقعاً له أهميته: لا يعبّر يسوع عن شفقته أولاً بإطعام الناس، بل بتأمين التعليم لها. لن يكون الأمر كذلك في خبر تكثير الخبزات الثاني الذي يحصل في أرض وثنية. أما هنا، فاهتمام يسوع الأول هو إعلان الإنجيل، رغم ازدحام الجموع التي تعيق مثل هذا العمل. وهذا ما يؤكّده لوقا حين يقول: "كان يبشرهم بملكوت الله" (لو 9: 11). فالرباط بين شفقة يسوع والكرازة التي تليها، ليست بارزة في متّى الذي سبق وربط هذه الشفقة بالعمّال الذين يحتاج الحصاد إليهم. إختلف مرقس عن متى ولوقا فلم يتحدّث عن الأشفية، لهذا شدّد على أولوية التعليم.
واكتشف التلاميذ هذه الأولوية. فما إن عادوا من الرسالة حتى نسوا أمورهم الخاصة. عملهم الأول وعمل معلّمهم هو الكرازة. وحين فات الوقت، أرادوا أن يطلقوا الناس ليشتروا لهم ما يأكلون. فهذا عمل الناس لا عمل يسوع وأخصائه (آ 35-36). هنا نتذكّر وضعاً مباشراً في سفر الأعمال. كثرت الأشغال المادية على الرسل، فقالوا: "لا يليق بنا أن نهمل كلام الله لنهتمّ بأمور المعيشة" (أع 6: 2). واختاروا سبعة أشخاص لخدمة الموائد. ولكن هؤلاء السبعة أيضاً اهتموا بالكلمة، فلم نرَ أعمالهم الكثيرة في ما يختصّ بالمعيشة اليومية.
ويبقى أننا لا نستطيع أن نفصل طعاماً عن طعام، وجوعاً عن جوع. جوعاً إلى الخبز المادي، وجوعاً إلى كلمة الله. قال يسوع لتلاميذه: أعطوهم أنتم ليأكلوا" (آ 37). قال يسوع هذا الكلام لكي يجرّبهم. هذا ما لمّح إليه مرقس (أكثر من متى ولوقا) بشكل غير مباشر. فجاء جواب التلاميذ مصحوباً ببعض الإحتداد: "سنذهب ونشتري خبزاً بمئتي دينار ونعطيهم ليأكلوا"! ما هذا الأمر الذي يعطيهم وما هي نتيجته؟ إنه يشبه سؤاله حين لمسته النازفة (5: 31). أما يوحنا (6: 56) فقد كان واضحاً كل الوضوح حين أورد سؤال يسوع وأتبعه بالملاحظة التالية: "قال هذا ليجرّب فيلبس، لأن يسوع كان يعرف ما سيعمل".
هناك شيء واضح: فهمَ التلاميذ أن يسوع رفضَ طلبهم بأن يطلق الجموع. ولكنهم لم يفهموا شيئاً غير ذلك. وبدأ مرقس هنا يصوّر وضعاً روحياً سيتحدّث عنه في مناسبات أخرى (6: 52؛ 7: 17؛ 8: 4 1- 21، 32-33؛ 8: 22-26): لم يفهموا. ولكن ما يلفت نظرنا هو أنهم سلّموا أمرهم إلى المعلّم مثل الخدام في عرس قانا الجليل. قال لهم يسوع: إملأوا الجرار ماء. فملأوا. قال لهم: إستقوا الآن وناولوا رئيس الوليمة. ففعلوا. وكانت النتيجة المذهلة (يو 2: 1 ي). والتلاميذ أطاعوا يسوع. في إنجيل يوحنا بحثوا عن الخبز فوجدوا صبياً معه خمسة أرغفة وسمكتان. قالت لهم يسوع: أجلسوا الجموع. فأجلسوهم (يو 6: 9-10). ولكن أي طعام يهيّأ لهم؟ وفي إنجيل مرقس، جعل التلاميذُ الناس صفوفاً كما في جماعة كنسيّة. أمر يسوع ففعلوا.
التلاميذ ضعفاء، ولكن هذا لا يمنع يسوع من أن يجعلهم معه (3: 4). من أن يشركهم في عمله: "ناول تلاميذه ليوزّعوها على الناس". كمية صغيرة ستكون كمية كاملة (رقم 7: 5 خبزات+ 2 سمكتين) لتطعم كل هذه الجموع. كان هذا الطعام القليل مع الرسل، كما قال الإزائيون، ومع صبي صغير، كما قال يوحنا. المهمّ هو أن يسوع إنطلق من هذا القليل، ليطعم الشعب الكبير. إنطلق من عطايانا البشرية فحوّلها عطايا الله لشعبه.
ج- من طعام إلى طعام
ما الذي حدث في هذه البرية؟ عندما نذكر البرية نتذكّر موسى وتنظيم الشعب، كما قلنا. نتذكّر المنّ (خر 16: 20) الذي سيجول في عقل الجموع لدى يوحنا (6: 31، 49). ونورد أيضاً معجزة إيليا في صرفت صيدا (1 مل 17: 8-16) ومعجزة أليشاع التي ذكرناها (2 مل 4: 42-44).
ويتحدّث "بعضهم" عن خبر وُلد في مخيّلة الإنجيليين الأربعة. هذا الخبر وُلد أيضاً من أخبار العشاء السري. هو محاولة لإعطاء وجه مادي لما حدث يوم خميس الآلام. فالأهمية العظمى لعطية الله لكنيسته في الافخارستيا قادت التقليد إلى استباق "معجزة" العشاء في الخبزات وإلى التشديد على الطابع العجائبي (نكتشفه في العشاء بواسطة الإيمان) عبر حدث علني ومنظور. ووجود السمكات لا يعارض هذه الفرضية، بل يمكن أن يثبتها: فيسوع أكل السمك مع تلاميذه بعد القيامة (يو 21: 9، 13؛ لو 24: 41- 43). وفكر آخرون بمقاسمة الزاد الذي حمله بعضهم، وقد بدأ يسوع التحرك حين وزّع الأرغفة الخمسة. وحوّل التلاميذ هذا الحماس الأخوي إلى معجزة!! وفئة ثالثة: أعطى يسوع كل مدعو كسرة خبز وقطعة سمك خلاله مأدبة من الطعام الأسراري. وبهذه الفعلة التي ضمّ فيها أناساً فقراء إلى وضعه الحالي، أكّد لهم مشاركتهم له في الوليمة المسيحانية. قاسمهم فقرهم وأشركهم في فقره، فربطهم به وربطهم بعضهم ببعض ليعرفوا أنهم يكونون معاً على مائدة الملكوت. فهذا الطعام الذي شارك فيه الناس بترتيب (آ 39- 40) يدل على تجمّع الجماعة المسيحانية (رج مت 8: 11). أما وجود السلال فليدلّ على غنى الوليمة التي ترمز إلى الملكوت. وفكرة الشبع (آ 42) تجد موازاة لها في التطويبات (مت 5: 6؛ لو 6: 21، استعمال الفعل عينه). والرقم 5000 يدل على مجموعة المؤمنين في الأزمنة الاسكاتولوجية. وقد نذهب في الرمزية أبعد من هذا فنقول إنّ المعجزة هي "تكرار استعاري للكرازة". أشفق يسوع على الجمع (آ 34) فعبّر على شفقته بالتعليم. والخبز الموزّع ليس إلا رمز الكلمة التي يُسأل عنها التلاميذ رغم فقرهم وضعفهم. ستتكاثر نتائجها وتعطى للجميع بقدرة الله، وغناها سيغذّي الجموع التي تتجدّد يوماً بعد يوم.
ويبقى رغم كل هذه النظريات أن مرقس قدّم معجزة تكثير خبز بشكل خلق انطلق من خمسة أرغفة وسمكتين. أن لا يريد القارىء أن يؤمن، هذا شأنه. ولكنه لا يستطيع أن ينكر ما حدث في البرية بين يسوع والجموع. يبقى أننا لا نتوقف عند المعجزة كمعجزة فقط، بل نصل إلى التعليم الذي استخرجته الكنيسة على مستوى تنظيم الجموع، على أولوية التعليم، على المهمة الملقاة على عاتق التلاميذ.
ما هو معنى هذه الوليمة؟
نحن أمام طعام من خبز وسمك. أراد التلاميذ أن يذهبوا ليشتروا. أما يسوع فيعطي من خلال هذه الخبزات الملكوت الآتي. نحن أمام طعام عيد واستباق ووعد للوليمة المسيحانية. نقرأ في 6: 52 (ثم بعد تكثير الأرغفة في 8: 14- 21) أن التلاميذ لم يفهموا "قضية الأرغفة". هذا لا يعني أنهم لا يثقون بقدرة الله من أجل الخبز اليومي، بل هم لم يفهموا أن يسوع هو سيّد البحر، هو سيّد الخبز. هاتان الآيتان عن مسيحانيته قد فاتهم مغزاهما.
نجد نصّاً موازياً في يو 6: 26. فيه يوبّخ يسوع الجموع الذين جاؤوا يطلبونه غداة المعجزة. إنهم يطلبونه لأنهم رأوا الآيات. ولكن الجموع جاءت تطلب معجزة أخرى بعد التي رأتها البارحة. في الحقيقة، لم ترَ الآية التي تدلّ على حدث محمّل بالمعنى الآية توجّه أبصارنا إلى أبعد منها. والمعجزة الحقيقية ليست في تكثير الأرغفة بل في حضور الذي يعطي هذه الأرغفة. المهم ليس المنّ وليس خبز البارحة، بل خبز الحياة الذي هو يسوع بالذات.
هذا ليس بواضح عند مرقس ولكن تفاسيره (6: 52) وتفاسير يسوع (8: 17- 21) تعبّر عن هذا المعنى بوضوح. فالتلاميذ، شأنهم شأن الفريسيين (8: 11- 13)، لا يبصرون الآية بل الحدث العجائبي. لا يدركون ما يقوله الحدث عن معلمهم إلى أن تأتي صرخة بطرس: "أنت المسيح" (8: 29).
ماذا تقول لنا معجزة الخبز؟ ملكوت الله هو هنا في هذه المأدبة التي تستبق الوليمة الاسكاتولوجية (مت 8: 11؛ لو 13: 29؛ 22: 30). والذي يرأسها هو ابن الإنسان المنتظر. لقد انتظر العالم اليهودي تكرار معجزة المنّ الذي صار نموذج الطعام الروحي. رج حك 16: 20- 29، مز 78: 25: خبز الأقوياء. صار في السبعينية (إذن مز 77: 25): خبز الملائكة. تتحدّث 1 كور 10: 3 عن الطعام الروحي ورؤ 2: 17 عن المنّ الخفي.
تكثير الأرغفة هو علامة تدلّ على أن هذا الأمل قد استجيب. إنه الطعام الأسراري في الملكوت العتيد، كما هو الطعام الذي يقدّم إلى أجسادنا. بدأ يجمع في البرية أول أعضاء الجماعة المسيحانية، وهو سيجمع كل "كنيسة" من كنائسنا في وحدة تجد غذاءها في خبز الكلمة وفي جسد المسيح ودمه. كان هذا الاجتماع الافخارستي مسبوقاً بعشاء المحبة والتقاسم والمشاركة. فالوجه المادي يسبق الوجه الروحي، وتكثير الأرغفة في البرية يبقى الحقيقة المادية التي تدل على الافخارستيا ومأدبة الملكوت