الفصل الثاني والثلاثون
يسوع والرسل والشعب
6: 30- 34
خبر كله حركة. عاد الرسل من جولتهم الرسولية التي ذكرها مرقس في 6: 7- 13. وقدّموا "تقريراً. ليسوع الذي أرسلهم. فهل ندهش إن كان حديث عن الراحة في تلك الظروف؟ ولكن لا مجال للراحة مع رواح الناس ومجيئهم. بل لا وقت للأكل. لا بدّ من البحث عن العزلة، من الابتعاد عن الناس. صعدوا في القارب، ولكن عبثاً. فالناس رأوهم وعرفوا إلى أن يقصدون. فركضوا من جميع المدن وسبقوا التلاميذ. بعد الحديث عن هذا الهرب، وعن توافد "الفضوليّين"، توقّف الخبر عند صورة ستمتدّ طويلاً: جمع غفير أمام يسوع. تحنّن عليهم. وأخذ يعلّمهم مطوّلاً. أو يعلّمهم أشياء كثيرة.
حين نقرأ النصّ بهذا الشكل نحسّ وكأننا أمام "تقرير صحافي". ونمتدح فن مرفس ذاك الراوي الذي يقدّم لنا مشاهد من حياة يسوع تعجّ بالحركة والحياة. ونستطيع أن نبرز في هذا الجو التقوي، أدواراً عديدة: إهتمام يسوع برسله (هو الذي يهتمّ بأن يؤمّن لهم بعض الراحة)، الجاذبية التي بها "يسحر" الجموع (هرب منها. ولكنها توصّلت إلى الوصول قبله حيث كان ذاهباً)، استحالة التفلّت منْ متطلّبات الرسالة (كل مشاريع الراحة سقطت). حبّ يسوع للجموع وإدراك حاجاته الحقيقية (خراف لا راعي لها)، أهمية التعليم في حياته. وجهات مختلفة نستطيع أن نشدّد عليها.
وإن تحليلاً دقيقاً للنصّ سيتيح لنا أن نتحقّق من صحة هذه الاكتشافات الأولى لدى قراءة النصّ. فنتساءل عن بنائه، عن تلاحم عناصره، عن وظيفته.
1- تحليل النصّ
أ- تنظيم الخبر
يقدّم لنا الخبر سلسلة من العلاقات بين الاشخاص. من هذه الزاوية، نستطيع أن نقسمه إلى أربعة فصول تتقابل اثنين اثنين.
الأول: عاد التلاميذ إلى يسوع وأخبروه عن رسالتهم. قدّموا له " تقريراً".
الثاني: عرض عليهم يسوع أن يرتاحوا قليلاً: يهربون إلى موضع منعزل، فيكونون على انفراد
الثالث: تراكضت الجموع إلى يسوع.
الرابع: رأى يسوع الجموع، تحنّن عليها، علّمها.
تترابط هذه الفصول الأربعة في حركة توجّه انتباهنا إلى الفصل الأخير. فالفصل الأول يهيّىء الفصل الثاني: بعد التعب الراحة. والفصل الثاني يدخلنا في مشروع الذهاب الى العزلة والبحث عن الراحة ويخلق فينا "انتظاراً". هل سيتحقّق هذا المشروع؟ نعم، على ما يبدو بواسطة القارب الذي هو هنا. في الفصل الثالث يبرز الحاجز بحيث إن المشروع فشل في الفصل الرابع. في هذا الوضع الجديد (يسوع أمام الجموع) دخل عنصر جديد: شفقة يسوع على قطيع لا راعي له. وهذه الشفقة ولّدت تعليماً دام طويلاً، وتضّمن أقوالاً كثيرة.
إن دينامية الخبر تؤمّن توتّراً بين الراحة التي يطلبها لتلاميذه بعد نشاط رسولي متعب، وبين نشاط الذي يعلم الجموع في مكان أعدّ للراحة. وهكذا نكون أمام تعارض بين الراحة وبين ضرورة الاهتمام بالجمع. ما الذي نختار؟
إذا لبثنا على هذا المستوى، يبدو أن الفصلين الأولين قد جُعلا هنا، عبر ما في الفصل الثالث، لكي يُبرزا الفصل الرابع. فتحنُّن يسوع على الجموع والتعليم الذي يعطيه إياها، يكسفان بكل بساطة اللوحة عن علاقة يسوع برسله. وما نلاحظه في الفصل الرابع (كما على خشبة المسرح)، هو أن النور كلّه يتركّز على يسوع: لا يعود النصّ يتحدّث عن التلاميذ. هناك انتقاله مفاجىء من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد: رآهم الجمع منطلقين (هم، التلاميذ) فسبقوهم (آ 33). وبعد هذا: "ولما خرج (هو، يسوع) من السفينة، أبصر (هو) جمعاً غفيراً، فتحنّن عليهم وطفق يعلمهم" (آ 34).
ب- ولي الخبر
ولكن مرقس لم ينسَ التلاميذ ولهذا نحتاج أن نخرج من هذا النصّ بآياته الخمس (آ 30-34) لندخل في خبر أكثر توسيعاً. نقل نصّ 6: 30- 34 الاشخاص إلى مكان منعزل. ولهذا، فهو لن ينتهي قبل أن يجعل يسوع وتلاميذه يركبون السفينة ويذهبون إلى العبر، إلى الشاطىء المقابل، إلى الشاطىء "الوثني". كثرّ يسوع الأرغفة "لليهود" فأكلوا وشبعوا (6: 35- 44). ثم كثرّها للوثنيين المنتشرين في اربعة اقطار العالم (4000)، فأكلوا أيضاً وشبعوا (8: 1- 8).
إن الفصل الرابع (6: 34) لا يختتم الخبر، بل يشكّل وقفة، قبل الانطلاقة الجديدة. فالملاحظة حول التعليم "الوافر" (إذن، طالت مدّته) (آ 34) تهيّىء الملاحظة حول الساعة المتأخرة (آ 35: فاتت الساعة). وعاد التلاميذ إلى "المسرح". وسيشدّد ولي الخبر على الطريقة التي بها دفعهم يسوع إلى العمل. كان حوار بينه وبينهم: أعطوهم أنتم ما يأكلون". "هل نمضي ونبتاع..."؟ "كم رغيفاً عندكم"؟ تحقّقوا فعرفوا أن لديهم خمسة أرغفة وسمكتان.
بعد هذا، طلب منهم يسوع أن ينظّموا الشعب، أن يجلسوه جماعات (50؛ 100 كما في الجماعة المسيحانية، رج تث 1: 15) (آ 39- 40). وأن يطعموه (آ 41). إن ابراز دورهم الناشط، يفهمنا لماذا ذكر الإنجيل "اثنتي عشر قفة مملوءة" بالكسر (آ 43). لسنا أمام الفتات. بل أمام خبز كُسر (رج كسر الخبز في أع 2: 16). أكل منه الخمسة آلاف (50× 100) وشبعوا. وبقي منه للبشرية ولنا. فمائدة يسوع ممدودة حتى نهاية العالم، والاثنا عشر هم الذين يوزّعون خبزه.
إهتمّ القسم الأول (آ 30- 34) بيسوع والجموع. أما القسم الثاني (آ 35- 44) فاهتمّ بيسوع والتلاميذ. فالاهتمام الثاني يتضمّن الاهتمام الأول ويتجاوزه.
ج- تاريخ تدوين النصّ
هنا نكتشف الطريقة التي بها دوّن النصّ. فلقد لعب مرقس دوراً كبيراً في تجميع المعطيات التقليدية التي نراها في آ 30-34. لقد اتخذ من التقليد الخبر الأول عن تكثير الأرغفة (كما اتخذ الخبر الثاني)، كما اتخذ خبر مهمة الاثني عشر (6: 7-13). فلا بدّ من خلق اتصال بين الاثنين. وإن كل تماسك آ 30- 34 يرتبط بهدف مرقس بأن يجعل يسوع وتلاميذه أمام الجمع يسوع وتلاميذه الذين أرسلهم في مهمّة فعادوا منها فرحين. والجمع المؤلّف من خمسة آلاف والذي تبع يسوع وتلاميذه إلى البرية، فأطعموهم.
نحن هنا أمام لوحة مبنيّة بناء متقناً: صورة عن الرسل الذين عادوا معاً. هي جغرافياً غير واضحة وغير دقيقة (6: 45-53). ثم، كيف نوفّق بين هرب في قارب، وجري سريع قام به خمسة آلاف رجل جاؤوا "من جميع المدن (أية مدن؟). لوحة مبنيّة ولكنها ليست من عالم الخيال والمعنى اللاهوتي هو الذي يبحث عنه القديس مرقس.
هي الجموع تأتي إلى يسوع من كل جهة (1: 45؛ 3: 7-8)، فتلتصق به، تزحمه، تمنعه من أن يأكل هو وتلاميذه (2: 2، 13؛ 3: 7، ، 20؛ 5: 21، 24)، بل تمنعه من الوصول إلى القارب (3: 9؛ 4: 1، 26). كل هذا يعود مراراً في مرقس وهو يرتبط بذكريات حقيقية وإن جاءت في أسلوب أدبي خاص.
إهتمام مرقس هو إذن اهتمام تعليمي، وليس فقط اهتماماً سيروياً (يكتب سيرة يسود). هو يهتم بتنشئة التلاميذ. فيسوع ينشئهم من خلال اعتنائه بالجموع الآتية إليه. فلنحذر من أن نرى في 6: 30- 34 قطعة من "حياة يسوع". بل نحن أمام تعليم سنكتشفه حول قطبين اثنين: يسوع والجموع. يسوع والرسل.
2- يسوع والجموع
بما أن الخبر جعل يسوع تجاه الجموع، فلنتعرّف إلى علاقاته معها. حسب مرقس، يتمتّع يسوع بقوة جاذبية خارقة، وهو يؤثّر على الجموع منذ ظهوره الأول (1: 33): "تجمّع أهل المدينة كلهم". ولم ينفعه الذهاب إلى الأماكن المقفرة (1: 45). فالناس يجيثون إليه من كل مكان. هم يزحمونه، يمنعونه من أن يأكل مع تلاميذه. وستظلّ هذه الجموع متعاطفة معه إلى أن يحرّكها رؤساء الكهنة خلال محاكمة يسوع على يد بيلاطس (15: 11: فهيّج رؤساء الكهنة الشعب).
لم يبعد يسوع الجموع عنه يوماً وإن حاول ان يتجنّبهم (7: 24، 33؛ 9: 30: لا يريد أن يعلم به أحد) بل دعاهم بعض المرات ليسمعوا له (7: 14؛ 8: 34). يهمه حضور الجمع أو غيابه. والطريقة التي بها يتصرّف يسوع معه، لها معناها. إنها تدلّ على وجهة جوهرية في رسالته. وهذا واضح في 6: 34 حيث تدخلت الجموع ساعة أراد يسوع أن يهرب منها.
أ- تحنّن عليهم...
إن فعل تحنّن (أو اشفق) (في اليونانية: سبلانخنيزوماي) يدلّ على عاطفة عميقة تمسك بأحشاء الإنسان فيعبّر عنها بعمل خارق من أجل شخص آخر. نادراً ما يرد هذا الفعل في الأناجيل، ولكنه حين يرد يتّخذ معنى قوياً. نجده في مثل العبد الذي لا يغفر (مت 18: 21-35). ركع العبد أمام سيده، فأشفق عليه سيده وأعفاه من الدين الكبير. كما نجده في مثل الابن الضالّ. يقول النصّ إن أحشاء الأب تحرّكت حين رأى إبنه عائداً (لو 15: 20). في هذين المثلين نتعرّف إلى رحمة الله بالنسبة إلى الإنسان. وفي مثل السامري الصالح نعرف أن ذاك الغريب أشفق على الجريح. نحن هنا أمام تصرّف جديد يحدّد حبنا للقريب كما حدّده يسوع (لو 10: 33). ويكون هذا الفعل معبّراً بصورة خاصّة حين نقول مع آباء الكنيسة إن السامري هو يسوع نفسه الآتي إلى عالمنا الجريح والمتحنّن علينا. هنا نتذكر أيضاً الاسم: سبلنكنا: الرحمة. نتذكر رحم المرأة واحشاءها. وعمق كيانها ومحبّتها (فل 1: 8 حنان المسيح؛ 2: 1؛ كو 12:3؛ 1 يو 17:3).
إذا جعلنا هذه الأمثال جانباً، نجد أن فعل تحنّن يستعمل فقط ليسوع. وهذا ليس من قبيل الصدف. فالرحمة دفعته إلى ان يشفي الاعميين (مت 20: 34: أشفق عليهما)، إلى أن يردّ إبن أرملة نائين إلى أمه (لو 7: 13: أشفق عليها وقال لها: لا تبكي). وإذا أخذنا باختلافة في نصّ مر 1: 31 نقرأ: أشفق يسوع على الابرص، ومدّ يده ولمسه (هناك النصّ المعروف: انتهر). وفي مر 9: 22 يقول الرجل ليسوع: "أشفق علينا وساعدنا". نستطيع أن نرى في كل هذه النصوص تشديداً خاصاً على الصفة المسيحانية لمعجزات يسوع التي هي علامة الخلاص الموعود الذي انتظره الناس من رحمة الله وحنانه (رج لو 1: 78؛ يع 11:5).
إن رحمة الله وحنانه (رحميم في العبرية، أي: مراحم) هما الرجاء العظيم في نهاية الأزمنة. نقرأ في أش 14: 1: "الرب سيرحم بيت اسرائيل". وفي 49: 13: "الرب يعزّي شعبه، ويرحمه مشفقاً عليه". وفي 54: 7 يدلّ الرب عطفه على أورشليم فيقول لها: "هجرتكِ لحظة، وبرحمة فائقة أضمّك". (رج إر 12: 15؛ 33: 26؛ حز 39: 25؛ مي 7: 19؛ زك 1: 16).
وتظهر رحمة يسوع في خبَري تكثير الأرغفة مع صفتين مختلفتين. في الخبر الثاني، أشفق يسوع على الجموع الجائعة (8: 2: أتحنّن على هذا الجمع؛ رج مت 15: 32). في الخبر الأول بحسب متّى نبقى في خطّ خبر المعجزات: الشفقة هي التي تدفع يسوع لكي يشفي المرضى (مت 14: 14: تحنّن عليهم وشفى مرضاهم). أما مرقس فادهشنا حين تحدّث عن سبب الشفقة: "كانوا كخراف لا راعي لها". وكيف ترجم شفقته هذه؟ "طفق يعلّمهم أشياء كثيرة" (أو مدة طويلة). هل أحسّ لوقا هنا بالصعوبة؟ مهما يكن من أمر، فهو حين ذكر (مثل مرقس) تعليم يسوع (والاشفية مثل متّى)، لم يتحدّث عن الشفقة بل عن ترحيب يسوع بالجموع (لو 9: 11). كيف نرى العلاقات بين هذه النسخات المختلفة؟ فاذا قابلناها بعضها ببعض، اكتشفنا غرابة النصّ الذي ندرس.
ولكن قبل أن نعود إلى مر 6: 34، نودّ أن نقول إن رحمة يسوع تنتمي إلى الحقبة السابقة لتدوين مرقس خبرَيْ تكثير الأرغفة. إختلف مرقس عن متى فراعى الاختلافات اللافتة على مستوى اللغة والمفردات. إذن، لا يُعقل أن يكون نقل هذه الإشارة (عن الرحمة) من خبر إلى آخر، لاسيّما وأن هذه الرحمة تظهر بشكل مختلف.
ب-... لأنهم كانوا كخراف لا راعي لها...
"كخراف بدون راعٍ". هنا نتذكّر ايرادات واضحة من العهد القديم أو أقله تذكّرات تشير إلى هذه الصورة. إذا عدنا إلى عد 27: 7 نرى الوضع الخطر الذي يعيش فيه شعب الله الذي لا رئيس له. إنه أهل للشفقة، وسلّم إلى اعدائه وليس من يدافع عنه (1 مل 22: 17؛ 2 أخ 18: 16؛ يه 11: 19). شعب أهمله ملوكه وتخلّوا عنه (حز 34: 5). شعب ضاع وتبدّد بدون قائد يهديه (زك 10: 2- 3، 13: 7).
إن النصّ الذي نقرأ هو قريب من عد 27 وحز 34 بسبب التقارب على مستوى الالفاظ وعلى مستوى المواضيع المجموعة. في عد 27، يطلب موسى من الرب قبل موته، أن يعطي جماعة البرية قائداً يحلّ محلّه: ونصّ مر 6: 34 يتذكر موسى والطعام العجائبي الذي اعطاه لشعبه في البرية. وقول حز 34 يعلن أن الله نفسه سيعتني بقطيعه (آ 11)، يقوده إلى المراعي الصالحة (آ 14)، يؤمّن له الراحة (آ 14- 15)، ويجعل على رأسه راعياً هو "داود عبدي". وهناك عدد من هذه المواضيع تعود في مز 23 فتمتدح الرب راعي شعبه: "في مراعٍ خصيبة يقيلني، ومياه الرحة يوردني. يردّ نفسي ويهديني... تهيّىء امامي مائدة" (آ 2- 3، 5).
إنطلاقاً من هذه النصوص، تبرز تفاصيل عديدة في نصّ مرقس: إهتمام يسوع، الراحة التي يريد أن يؤمّنها لأخصّائه، تجميع الشعب، وليمة على العشب الأخضر، وفرة الطعام... ونظنّ أن هذا الخبز دوّن لأناس يستطيعون أن يفهموا التلميحات إلى نصوص نبوية حول الخلاص. تلميحات عديدة ولكنها ليست مبعثرة: إنها تصوّر الراعي المسيحاني الذي هو يسوع. إذن، الملاحظة حول الخراف هي في مكانها هنا. وحين تحدّثت هذه الآية عن حنان يسوع، شدّدت على نوعية هذا الحنان الذي فيه تنكشف رحمة الله ساعة يستعدّ ليفي بمواعيده فيجمع شعبه ويشبعه بعطاياه.
لا نستطيع أن ننسب إلى مرقس كل ما يرتبط بموضوع الراعي في هذا الخبر. فهو لم يعتَد أن يُغني خبره بتلميحات إلى العهد القديم. لهذا نقول إنه ظلّ في تدوينه قريباً من مراجعه. فتكثير الخبز الأول يعود إلى محيط يهودي (يهود صاروا مسيحيين). والثاني يعود إلى محيط هلنسيتي (يونان صاروا مسيحيين).
ج-... وطفق يعلّمهم أشياء كثيرة
أشفق عليهم فطفق يعلّمهم. هذا ما يدهشنا (لماذا لم يبدأ بإطعامهم؟). هنا نفهم بطريقة أفضل نسخة متّى ولوقا: شفى يسوع المرضى لأنه أشفق عليهم. وإن علّم فليس عن شفقة. ثم إن وظيفة الراعي ليست أن يعلّم، بل أن يطعم القطيع. أما حطّم مرقس الخبر الذي كان متماسكاً قبل أن يقحم فكرة التعليم؟ أما جعل مسافة بين عناصر الخبر؟
إن نصّ مرقس يُعطِي أهمية كبرى لهذا المشهد مع التشديد على تعليم يسوع (4: 2؛ 6: 34: علّم كثيراً؛ رج 3: 12؛ 5: 10، 23، 38، 43؛ 15: 3: استعمال "بولا" "كثير": اتهامات كثيرة). هناك من يقابل بين غنى متّى وفقر مرقس الذي لا يورد الشيء الكثير من أقوال يسوع! ولكن مرقس يعرف التقليد، فيختار منه الشيء القليل. ومع ذلك، فهو لا يترك مناسبة إلاّ ويقول إن يسوع كان يعلّم (1: 21- 22؛ 2: 13؛ 6: 2، 6 ب، 34؛ 10: 1). هو يعلّم بالامثال (4: 2) وينبىء بآلامه وقيامته (8: 21؛ 9: 1 3). لماذا يشدّد مرقس على هذا التعليم خصوصاً حين يجتمع الشعب حوله كما في 2: 13؛ 4: 1-2؛ 6: 34؟
أولاً: لا يبرز مرقس المواضيع المختلفة في تعليم يسوع، بل التجلي الخفي لرسالته وشخصه (نفهمه بصعوبة) (ما يسمّى "سره"). من هذا القبيل، تعليمه هو وحي.
فبعد الاجمالة حول الكرازة في الجليل (1: 14- 15) ونداء التلاميذ الأربعة (آ 16- 20) من أجل الرسالة المقبلة (آ 17)، يبيّن لنا مرقس يسوع وهو يعلّم في مجمع كفرناحوم (آ 21-28). لا تلميح مطلقاً إلى ما قاله يسوع. ولكن السامعين "بُهتوا من تعليمه: كان يعلّمهم كمن له سلطان، لا كالكتبة" (آ 22). بعد هذا يأتي شفاء الممسوس (فيه شيطان). ويختم مرقس الخبر فيقولن: "فذُهل (حلّ الخوف) الجميع حتى سأل بعضهم بعضاً: ما هذا؟ تعليم جديد يُلقى بسلطان! إنه يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه" (آ 27).
فالتعليم والمعجزة يجعلان الناس في ذهل، لأنهما يدلاّن على سلطة تتعدّى الإنسان. هذه السلطة هي في يد يسوع، وهو سيعطيها للاثني عشر ليطردوا الشياطين (3: 15؛ 6: 7) فيدلّوا على أن الاقوى هاجم مملكة ابليس وأن روح الله بدأ يتدّخل (3: 27- 30). إن يسوع يُظهر هذه السلطة أولاً بتعليمه. لهذا يتحدّث مرقس مراراً عن الدهشة التي تصيب السامعين (1: 22؛ 6: 2؛ 11: 18) كما تصيب شهود معجزة الأصمّ (7: 37): "من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أوتيها؟ وهذ العجائب التي تُجرى على يده" (6: 2)؟ فالله يعمل بكلمته التي تعلّم وتحطّم سلطان الشيطان، لكي يقيم ملكه. هذا هو الموضوع الجوهري في كرازة يسوع للجموع بحسب مرقس (1: 15؛ 4: 10، 26، 30).
بعد هذا، لا يدهشنا تعليم يسوع في خبر يشدّد على نوعية شفقة يسوع على قطيع متروك، ويقدّم يسوع على أنه الراعي المسيحاني. حين علّم يسوع، دلّ على سلطته بكل معنى الكلمة. وأظهر رسالته قبل أن يعلن أنه أتى (حسب المواعيد) لكي يجمع شعبه المبدّد ويشبعه بعد أن قرّر الله أن يهتم به.
ثانياً: إن خبر مرقس دلّ على وقفة طويلة ظلّ فيها يسوع يعلّم، فلم يحطّم منطق بنية عميقة تجعله قريباً من نصوص بيبلية أخرى، وتتيح لنا أن نحدّد معناه. فعمل موسى في الماضي، قد تميّز بالرباط الوثيق بين وحي كلمة الله وعطية الطعام السماوي (نح 9: 13-15). ونجد هذا الرباط قوياً أيضاً في تث 8: 3: "جعلك الرب تحسّ بالجوع، ثم أطعمك المنّ... حتى يعلمك أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل ما يخرج من فم الله" (رج حك 16: 28).
حين أطعم يسوع (موسى الجديد) الشعب في البرية، كيف نعجب إن هو علّمه؟ فهذه وظيفته كراعٍ بحسب الفكر البيبلي. وهذا ما تشهد عليه صلاة المرتّل الجائع إلى كلمة الله: "ضللت كالخروف الضائع فابحث يا رب عن عبدك" (مز 119: 176). والقطيع الذي يقوده الله إلى المرعى، هو مدعو في مز 95 إلى سماع صوت الله والدخول في راحته (آ 7-8، 11). وهناك منطق مشابه في الإنجيل الرابع، يربط بين خبر تكثير الأرغفة (يو 6: 1-15) وخطبة يسوع عن خبز الحياة (يو 6: 26-58). فمعجزة المنّ التي تدلّ عليها آية يسوع، قد تجاوزها عطاء الخبز الحقيقي الآتي من السماء، وهو ابن الله الذي به "سيعلّمهم الله كلّهم" (يو :31-35، 45).
ثالثاً: إن تماسك خبر مرقس تبرّره بنية الوظائف الكنسيّة في حياة الجماعات. فهذا الخبر قريب من خبر تقليدي (يعود إلى التقليد) من أصل ليتورجي حول تأسيس الإفخارستيا (ق 6: 41؛ 14: 22). كل شيء يدفعنا إلى أن نرى أن مرقس تسلّم خبره من الكرازة التي ترافق "كسر الخبز" في الجماعات المسيحية المتهوّدة. ففي ممارسة الجماعات (رج أع 2: 42؛ 20: 7؛ لو 24: 25-32)، يترافق التعليم مع الخبز المكسور. وهذا ما نعيشه اليوم أيضاً في جماعاتنا.
حين نتحدّث عن عمل الله بين البشر، لا تنفصل الكلمة عن العمل. وحسب مرقس، الكلمة تسبق العمل (1: 21-27؛ 6: 1-6؛ لاحظ العلاقة بين 4: 1-34 و4: 35-5: 43). الكلمة هي عمل وهي تثير الدهشة بسبب السلطان "الالهي" الذي تدلّ عليه. وهي تبرز هنا محبّة الراعي المسؤول عن قطيعه، فتهيّىء له الطعام الذي يحمله إليه وتمنحه الوحدة التي ينتظرها.
3- يسوع والرسل
لقد بيّن لنا تحليل النصّ أن الطريقة التي بها تصرّف يسوع مع الجمع، نفهمها مع طريقة اهتمامه بتلاميذه.
أ- إطار الخبر
إذا تتبعنا إنجيل مرقس، نرى أنه منذ الساعة التي فيها بدأ يسوع كرازته، لا شيء يحدث بدون حضور التلاميذ (هناك شواذ واحد في 7: 24- 30 حيث يبدو مرقس وكأنه نسي التلاميذ. ولكنهم حاضرون في سياق الخبر). إن نداء الأربعة الأوّلين (1: 16- 20) (ستكون أسماؤهم في لائحة الاثني عشر، 3: 16-18) يسبق أول ظهور في مجمع كفرناحوم (1: 21- 27). ولن يترك الاثنا عشر المسرح إلاّ خلال رسالتهم (6: 14-29). في هذا الوقت لا يقول مرقس شيئاً عن يسوع، بل يروي مقتل يوحنا المعمدان (6: 14-29). في هذا المنظار الخاصّ بمرقس، تتأثر علاقة يسوع بالشعب (أو بأي شخص كان) بحضور الاثني عشر (أو بعض منهم). لا يورد مرقس شيئاً لا علاقة له بهم.
وتثبّتت الرباطات بين يسوع والاثني عشر بشكل دقيق منذ اختياره لهم (3: 13- 19). وهذا يتعارض مع ازدحام الشعب (3: 7- 12) وقرابة يسوع، والكتبة الذين جاؤوا من أورشليم (3: 20- 35). لقد دلّ مرقس في درفتين كيف أن التعليم المعطى للجموع تبعه تعليم محفوظ "للذين يحيطون به مع الاثني عشر" (4: 1-34؛ خصوصاً آ 10-25، 34). وكيف أن سلسلة من الآيات أعطيت للتلاميذ بمعزل عن الشعب وحضوره (4: 35- 5: 43). وبعد فشل الناصرة (6: 1- 6) سنرى يسوع بحضور التلاميذ (آ 1) يجول في القرى المحيطة وهو يعلّم: حينئذ أرسل تلاميذه وأعطاهم وصاياه (6: 7- 13). إذن، إفترق التلاميذ عن يسوع بعض الوقت، فملأ مرقس هذا الفراغ بملاحظة عن رأي هيرودس وأناس آخرين بيسوع (6: 14- 16)، وبخبر مقتل يوحنا.
بعد هذا، سيعود مرقس إلى مسألة هوية يسوع في حوار بينه وبين تلاميذه (8: 27- 30). فعبر آراء "الناس"، دلّ جواب بطرس على خطوة حاسمة في مسيرة التعرّف إلى يسوع بشكل أدقّ: "أنت المسيح". تمّت هذه الخطوة بعد سلسلة من الأعمال والتعاليم التي وجّهت كلها إليهم بصورة خاصة، بعد رجوعهم من مهمّتهم الرسولية.
علّم يسوع الشعب وأطعمه، ولكن الشعب ظلّ منفعلاً لا فاعلاً، لم يتحرّك. ومن الواضح أن الآية، بحسب مرقس، كانت موجّهة إلى التلاميذ الذين لم يستطيعوا أن يفهموا شيئاً حتى بعد السير على المياه (6: 52). وإذا كان يسوع قد ناقش مسائل الطهارة فيما يخصّ الاطعمة وتقليد الفريسيين (7: 1-16)، فلكي ينير تلاميذه في عزلة عن الناس (7: 17-23). وفي نهاية "مقال الخبز" (سمّي كذلك بسبب خبرَيْ تكثير الخبز وتوزيعه على الجمع) يعبّر لوم يسوع للتلاميذ على أننا أمام وحي مُعطى للتلاميذ. وسيدلّ شفاء الأعمى الذي أقحم بين لوم يسوع وإعلان إيمان بطرس، على أن يسوع يستطيع وحده أن يفتح لهم عيونهم.
وهكذا، إن الرباط بين مر 6: 30- 34 مع إرسال الاثني عشر وعودتهم، ليس اسلوباً يؤمّن لنا انتقالة. إنه يعبّر عن طريقة لفهم المتتالية كلها. وهناك موضوعان كبيران يتداخلان: إن يسوع كشف عن سرّ رسالته وشخصه. والموضوع الثاني: وهو يحاول أن يدخل التلاميذ (هناك تماثل بينهم وبين الاثني عشر في هذا "الكتاب") إلى فهم هذا السرّ.
لماذا؟ هناك مركز الاهتمام الذي يلهم الإنجيل كلّه. يجب أن نربط بالبداية (1: 1) الإنجيل الذي يجب أن يُعلن في العالم كله (13: 10؛ 14: 19). فالإنجيل هو عمل الله الذي يتحقّق بيسوع المسيح، الذي يتواصل بيننا بفضل المهمة الرسولية. فوحي سرّ يسوع وتنشئة "الرسل" يسيران معاً.
وعلى ضوء هذا الإطار تستنير بعض العبارات في النصّ الذي ندرس.
ب- النصّ (30:6)
اولاً: واجتمع الرسل إلى يسوع...
ليس من قبيل الصدف أن ينال الاثنا عشر لقب رسل بعد عودتهم من مهمتهم، وفي هذا الموضع فقط (هناك أيضاً اختلافة في 3: 14 بتأثر من لو 6: 13). هذا اللقب يربط بين 6: 30- 34 ونصّ الإرسال (6: 7- 13). فهم قد عادوا إلى المسرح كرسل أي كأناس أوكلهم يسوع بمهمة ودعاهم ليتابعوا عمله. فلا يجب أن ننسى في ولي الخبر الفكرة التي تجعل رسالتهم على مثال وصورة رسالة يسوع.
ثانياً:... وأطلعوه على جميع ما فعلوا وعلّموا
بُني تقريرهم (عمل- علّم) حسب وجهتين من نشاطهم كما في 6: 12- 13 (كرز، طرد الشياطين، شفى). وهاتان الوجهتان نجدهما في تعليمات يسوع في 6: 7- 11 (سلطان على الأرواح النجسة، آ 7؛ وأي موضع لا يقبلونكم فيه، آ 11) وفي المشروع الذي وجّهه في اختياره لهم (3: 14- 15: كرز، طرد الشياطين). ونحن نجد صورة لهاتين الوجهتين في نشاط يسوع، ومنذ أول تدّخل علني له (1: 21-27: علّم وطرد شيطانا). كما نجدها في اليوم "العظيم، يوم الأمثال والآيات على البحر وعند الشاطىء (ف 4- 5)، ثم خلال الزيارة إلى الناصرة (6: 1-6). إذن، هناك تماثل بين خدمة الاثني عشر وخدمة يسوع. فخدمته تحدّد خدمتهم. وعمله سيجد له امتداداً في عملهم.
حين ذكر مرقس "تقرير" الاثني عشر حدّد (وكانت تلك المرّة الوحيدة) فقال إنهم علموا. فحين يتحدث عنهم يقول إنهم اعلنوا، كرزوا (كاروسو) (3: 14؛ 6: 12؛ 13: 10؛ 14: 9). عندما ندرس مفردات مرقس، نجد أن هناك ما يميّز بين "علّم" و"أعلن" (أو كرز): فالإعلان يسبق التعليم (ف 1: 14 و21). فالتعليم يمتدّ طويلاً ويلجأ إلى أشكال أخرى (قاربَ متّى بين اللفظتين وجعل التعليم يمرّ قبل الإعلان رج مت 4: 23؛ 9: 35). ولكن لا تعارض بين هاتي اللفظتين وكأننا أمام نشاطين مختلفين كل الإختلاف: أُرسل الاثنا عشر لكي "يعلنوا" فعلمّوا. فالتعليم يرتبط بالكرازة والعكس بالعكس. ومهما يكن من أمر، فحين يبرز مرقس تعليم يسوع، يذكر تعليم الاثني عشر ولا يعود يذكره فيما بعد. فتعليم يسوع يتواصل في تعليمهم. إن يسوع يضمّهم إلى هذا العمل الذي يرتبط برسالته ويظهر سلطانه. كما يلجأ إليهم لكي يجمعوا القطيع ويطعموه. نلاحظ هنا إهتمام مرقس بالتواصل في رسالة الكنيسة، اهتمامه بمسؤولياتها، ولاسيّما مسؤولية التعليم فيها.
ثالثاً: هلموا انتم على انفراد، إلى موضع منعزل، وأستريحوا قليلاً
هذه المعطية تجعل مرقس ينفرد عن متّى ولوقا. وتهدف الى تقديم سبب انتقال يسوع والتلاميذ الى مكان مقفر حيث سيتم اللقاء مع 5000 رجل. وتتيح أن تربط رسالة الاثني عشر وعودتهم بلقاء الراعي مع قطيعه المتروك. وهذا الرباط مهمّ بالنسبة إلى مرقس: فالتلاميذ سيتعلّمون كثيراً في هذه "المواجهة" من أجل مهمتهم. بيد أن هذا الدور الوظيفي للمشروع في الخبر، كان يمكن أن يحل محلّه موضوع آخر وهو: لماذا مشروع الراحة؟ هناك جواب اول: احتاج المرسلون إلى الراحة بعد تعب طويل. جواب واقعي ولكنه لا يكفي في الخبر.
إذا عدنا إلى التدوين المرقسي نجده جديراً بالملاحظة. إذا كان صمت متّى ولوقا في هذه النقطة (الراحة) هو امتداد لصمت مرجع سابق لمرقس، فهذا يعني أن مرقس تدّخل لكي يغنيه. أما إذا كان قد عاد إلى معطى تقليدي لا يهمل موضوع الراحة الحاضرة بين المواضيع المرتبطة بصورة الراعي في التوراة (حز 34: 14- 15؛ مز 23: 2؛ 95: 7، 10)، يبدو من الصعب ان يكون موضوع الراحة هذا قد لعب الدور الذي يلعبه في مرقس. إذن، انطلق من التوراة ولكنه اعطى هذا الموضوع بعداً جديداً.
ونلاحظ أولاً تشديد مرقس الذي يدلّ عليه بالتكرار: "على انفراد، إلى موضع منعزل" (آ 31-32). القفر هو الموضع التقليدي لتكثير الأرغفة. ولكن "على انفراد" هو من تدوين مرقس. فهو في سائر الاماكن يتحدّث عن عمل أو تعليم هام يتم أو يُعطى بعيداً عن الجمع (7: 33: بمعزل عن الجمع) أو فني خلوة مع التلاميذ وحدهم (4: 34؛ 9: 2، 28؛ 13: 2). أما هنا، فالعبارة تشدّد على أن يسوع قدّم لتلاميذ مناسبة لكي يكونوا معه وحدهم، بعيداً عن الجمع. إذن، إنطلقوا في القارب مع يسوع. وكانوا في القفر مع يسوع، لا وحدهم. في هذه الظروف، تتّخذ الراحة المعروضة شكل "رياضة روحية" في إطار حميم من أجل علاقات وثيقة بين المعلم وتلاميذه. لقد اختارهم يسوع "ليكونوا معه" قبل أن يرسلهم إلى الكرازة (3: 14). وها هو يأخذهم بعد العودة من الرسالة لكي يستريحوا معه.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تدلّ هذه الدعوة (هلّموا على انفراد)، حسب مرقس على أن يسوع يرغب من أجل تلاميذه التناوب بين نشاط علني وانعزال في القفر الذي عاشه هو. فمرقس يورد أنه بعد نجاح يوم كفرناحوم الشعبي، "نهض يسوع في الصباح الباكر، وخرج إلى موضع قفر، وكان هناك يصلّي" (1: 35). وحين نصت شعبيّته، كان يطلب العزلة في الاماكن المقفرة (1: 45). وسنرى يسوع بعد هذا الخبر ينعزل على الجبل ليصلّي (6: 46؛ رج 9: 2). في هذا المجال، حبة الحنطة التي زُرعت نصت وحدها، سواء سهر الزارع أو نام (4: 26- 29).
ولكن قد تصبح الراحة مستحيلة بالنسبة إلى يسوع وإلى الرسل. ففي 1: 45، كان مرقس قد لاحظ أن الاعتزال في البرية لا يكفي ليحمي يسوع من هجمة الناس الآتين من كل مكان. وهنا أيضاً، كان "مشروع سري". ولكنه عُرف. وحين كاظما الجموع هنا، رأى يسوع أن من واجبه أن يتكرّس لها. ودفع التلاميذ حالاً إلى العمل. بما أنها المرّة الوحيدة التي فيها يتكلّم مرقس عن الراحة بشكل جدّي (هناك دعوة إلى الراحة في 14: 41، ولكن اية دعوة؟!)، فهو يدلّ على أن الراحة ضرورية للمرسل ولكنها في الوقت عينه بعيدة المنال مرات عديدة. فنكون هنا أمام روح مداعبة كما في تعداد حسنات ترك كل شيء من أجل يسوع والإنجيل: ننال في هذا العالم مئة ضعف "مع اضطهادات" (10: 30). أجل وقت الرسالة لا يتيح لنا الراحة.
وقد تأخذنا لفظة "راحة" إلى أبعد من ذلك. فإن انتمت إلى الخبر التقليدي لتكثير الأرغفة، فهي تحتفظ بإشارة اسكاتولوجية، هي خاصة بها في عدة نصوص بيبلية ويهودية محّملة بالرجاء (مز 95: 7، 11: نحن شعبه، رعيته التي يرعاها بيده... لن يدخلوا دياري).
لا شيء يشير إلى أن مرقس أخذ بهذا المعنى. ولكن هل يفترض أن إرادة يسوع بان يأخذ تلاميذه على انفراد لكي يستريحوا قد فشلت؟ رغم الشعب الذي يحتاج إلى "القفر"، فالعمل موجّه إلى الاثني عشر. فعبارة "على انفرادي تؤثّر على الوحي الذي يتضمنه تدخلّ الراعي المسيحاني: نحن هنا أمام وحي خاص. أما نستطيع أن نقول الشيء عينه عن "تقديم الراحة"؟ لا تستطيع أن تتحقق كما خُطّط لها. ولكن الاتجاه الاسكاتولوجي للآية التي تعلن تجميع شعب الله واشباعه، يفهمنا أن الراحة تأجّلت ولكنها لم تترك.
وليس هذا هو النصّ الوحيد الذي فيه يوجّه مرقس رجاءنا نحو ملكوت الله الذي يدلّ عليه في طريق التحقيق (1: 15: اقترب ملكوت الله؛ 3: 27: يُربط القوي؛ 4: 26- 32؛ 9: 1؛ 14: 25). فإعلان تجميع الخراف بيد الراعي القائم من الموت هو قريب من إعلان الملك النهائي في 14: 15-27 (أشربه جديداً في ملكوت الله). ثم اذا كان يسوع قد علّم، مع أنه يريد أن يمنح الراحة لتلاميذه، فهذا ما نقرّبه من نصوص تعد فيها الحكمة بالراحة لسامعيها (سي 6: 28؛ 51: 23-27) والطعام (أم 9: 1- 6؛ سي 24: 19- 21؛ رج أش 55: 2-3). قد لا يكون مرقس قد قام بهذه التقاربات. ولكنه حين يتحدّث عن الراحة، هل يستطيع أن يلغي قوة موضوع يملأ العالم الحضاري الذي عاش فيه يسوع؟
خاتمة
إن خبر مرقس يستولي على الانتباه، يجتذبه في حركته، يوقفه حيث يريد فلا يتخلّى عنه إلاّ بعد أن يكون غرس فيه بذاره. فهو يريد قراءه مطواعين مع تربيته الملموسة. لهذا يستحيل علينا أن نحوّله إلى عرض تعليمي أو امثولة فقاهة، دون أن "نبنّجه". مرض يجعلنا نرى بعيننا يعطينا أن نفكّر. والنظرة التي نوجّهها إلى يسوع هي نظرة تأمّلية قبل كل شيء. نتعلّم كيف ننظر، يعني نتقبل النور الذي ينطلق من "اللوحة" وينتشر علينا.
إن يسوع يحزك الجموع. فإن حاول أن يهرب منها، فرضت نفسها عليه. واقيمت علاقات متشعّبة بينه وبينها. لا يستطيع أن يتكّل ببساطة على النجاح الشعبي، كما لا يستطيع أن يرفض نداء يصعد من شعب هو كخراف لا راعي لها. ولهذا فالعمل الأول والضروري والموحي الذي به يحدّد موقعه بالنسبة إلى الجمع هو الكلمة. فهو يترجم رسالته بما يقوله. وكالخبز المكسور والموزّع للجميع، هكذا يُعطى تعليمه للجميع: هذا هو الراعي أمام القطيع، وتعلقه بالخراف المهملة يدلّ على رحمة الله وحنانه.
"والاثنا عشر" هم هنا. إنهم "رسل" يشاركون يسوع في عمله. فهذا العمل يفرض نفسه. أمّا الراحة فإلى ما بعد. ولن نصل إلى الراحة الحقة إلاّ في نهاية الرسالة. لم يفهموا بعد من هو يسوع. ولكنهم بدأوا العمل. هم يعلّمون ويطعمون شعباً في القفر. وحين يتقبلون "سرّ" يسوع عبر شكّ الالام، سينكشف لهم معنى عملهم والطريقة التي بها يتمونه