الفصل الثلاثون رسالة الاثني عشر في الجليل

الفصل الثلاثون
رسالة الاثني عشر في الجليل
6 :6 ب-13

يرتدي خبر إرسال الاثني عشر أهمية كبرى للكنيسة في كل العصور: هي لا تحسبه خبراً بسيطاً من الأخبار المتفرّقة، بل تعود إليه دوماً لتكتشف فيه مشيئة يسوع تجاهها.
بدل الاجمالة العادية عن نشاط يسوع (1: 14- 15؛ 3: 7- 12)، نجد هنا تذكّراً سريعاً لتعليمه وهو يسير في مناطق الجليل. ثم امّحى أمام تلاميذه الذين يرسلهم اثنين اثنين، بعد أن سلّمهم سلطته الخاصة على الأرواح النجسة. وامحاء المعلّم هذا هو امتداد لحركة بدأت في عتبة المرحلة الثانية: اعتزال على شاطىء البحيرة حيث جعل تلاميذه بينه وبين الجموع، دعوة الاثني عشر على الجبل (3: 7-19). ولكن يسوع يذهب أبعد من ذلك. فها هو الآن يُعطي ما وعد به (3: 15). والتلاميذ يضعون موضع العمل السلطان الذي مُنح لهم. فنداؤهم يدعو إلى التوبة مثل نداء يسوع (1: 15)، ومثله يشفون المرضى.

1- النصّ وقرينة النصّ
أ- النصّ
يروي لنا الخبر كيف دعا يسوع الاثني عشر وارسلهم اثنين اثنين. وأعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة (آ 7). وتتركّز تعليمات يسوع على موضوعين يحتلاّن الجزء الأكبر من النصّ: تجرّد المرسلين، طريقة تصرّفهم في الأمكنة التي إليها يذهبون (آ 8- 11). أخيراً، تشير الخاتمة بسرعة إلى بعض وجهات الرسالة كما نفّذها الاثنا عشر: تحريض وعلى التوبة، طرد الشياطين، مسح بالزيت المقدس. شفاء المرضى (آ 12-13).
وتدخّل الكاتب بشكل خاص حين وصل إلى أقوال يسوع. إستعمل على التوالي ثلاث طرق لإيراد هذه الاقوال: الأسلوب غير المباشر، الأسلوب المباشر، الايراد الواضح. ومقابلة هذا المقطع مع التعليمات الرسولية التي نجدها في متّى (10: 5- 14) ولوقا (9: 1- 6؛ 10: 4- 12) تؤكّد هذ الملاحظة. لقد كثّف مرقس تقليداً واسعاً استعمله بحرّية تامة.
يمّحى الروائي أمام الوقائع في بداية المقطوعة وفي نهايتها. وهذا ما نكتشفه في عبارات تتكرّر مراراً في كتابه: "دعا" يسوع، "نادى" الذين سيسلّمهم بلاغاً هاماً. نقرأ في 3: 23 عن الكتبة: "دعاهم إليه وجعل يقول لهم بأمثال". وفي 7: 24: "ثم عاد فدعا الجمع وقال لهم". وفي 8: 1، وقبل تكثير السعبة الأرغفة: "دعا يسوع تلاميذه وقال لهم" (رج 8: 34؛ 10: 42؛ 12: 43). لقد نادى يسوع أولئك الذين هم موضوع قرار هام من قبله، كما نرى هنا أو بمناسبة تأسيس الاثني عشر (13:3).
يرى الشرّاح أن لو 9: 1-6 يستلهم مر 6: 7-13، ولو 10: 4-12 يستلهم مرجعاً آخر يستعمله متّى كما يستعمل مر 6: 7-13 في 10: 5- 14. وحسب هذا المرجع الآخر، يسوع يرسل "التلاميذ". إهتمّ مرقس اهتماماً تاماً بالاثني عشر الذين سيصيرون "التلاميذ" بعد عودتهم من الرسالة. إن الاثني عشر في 6: 7 صاروا الرسل في 6: 30 والتلاميذ في 6: 35 (رج 7: 2؛ 8: 1، 4).
إذا عدنا إلى التقليد العتيق في 1 كور 15: 5-7 نجد أن "الرسل" في لغة بولس، يكوّنون مجموعة تتمّيز عن الاثني عشر. والتماثل بين الاثني عشر والرسل هو ظاهرة متأخّرة. وقد تكون قد بدأت مع مرقس.
لقد قدّم الانجيل الثاني هذا الحدث على انه واقع جديد (وبدأ يرسلهم) له أبعاد هامة. إتخذ يسوع المبادرة وتحمّل المسؤولية تحملاً كاملاً. هو الراعي أرسلهم كرعاة وحمّلهم عصا الرعاية. وسينطلقون اثنين اثنين. لأنهم سيكونون شهوداً ليسوع. والشهادة لا تصحّ إلاّ إذا كانت على فم اثنين (تث 19: 15؛ رج 2 كور 13: 1؛ 1 تم 5: 19؛ عب 10: 28). ثم إن إعلان الملكوت ليس عملاً شخصياً ولّدته مبادرة فردية، بل عمل شهود عديدين سيكون لشهادتهم قيمتها أمام الجماعة. بالإضافة إلى هذا، سينعم الشهود بحضور المسيح بينهم: "حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة بإسمي، فأنا اكون هناك في وسطهم" (مت 18: 20).
ب- قرينة النصّ
واهتمام مرقس بإرسال الاثني عشر يتأكّد بصورة خاصة حين نتفحّص مكانة هذا الخبر في انجيله.
فمهمّة الاثني عشر قد أعلنت في 3: 14 (أقام منهم اثني عشر ليكونوا معه ويرسلهم للكرازة) كأحد أهداف اختيارهم وتنظيمهم. وهذه المهمة كانت حاضرة منذ بداية الكتاب في الوعد الذي اسند نداء يسوع إلى سمعان واندراوس: "أجعلكما صيادي بشر" (1: 17)
إن صورة الصيد في إنجيل مرقس، تدلّ على تجمّع يتمّ بكرازة "انجيل الله"، بإعلان بشرى ملكوت الله. لقد بدأ هذا الملكوت وتدشّن وسط البشر (1: 14- 15): "تمّ الزمان. توبوا وآمنوا بالإنجيل". لهذا أرسل يسوع (1: 38) وضمّ إلى عمله الاثني عشر ليكونوا معاونيه. وحدّد مرقس منذ كلماته الأولى وجهة كتابه: يجب العودة إلى "البدء". بدء انجيل المسيح وابن الله. نحن في بداية جديدة بعد البدء الأول في تك 1: 1. بداية جديدة مع إنجيل يؤسّس ويحدّد الإيمان المسيحي (1: 1) ويطلق جماعة العهد الجديد.
فنداء التلاميذ الأربعة، وتنظيم الاثني عشر في حلقة، وإرسال رفاق يسوع في مهمّة رسولية، كل هذا يبرز تواصل عمل يسوع: سينتقل الإنجيل ويُعلن في العالم كله، إلى جميع الأمم (13: 10: ولا بدّ من قبل أن يُكرز الإنجيل في جميع الأمم؛ 14: 9: كرز بالإنجيل في العالم كله)، وذلك حتّى مجيء ابن الإنسان لكي يقيم ملك الله بصورة نهائية (13: 10، 26-27).
إن نداء الأربعة، وتنظيم الاثني عشر، وإرسالهم، هي ثلاثة مشاهد تتوزعّ القسم الأول من الكتاب وكل مشهد تسبقه إشارة قصيرة وعامة عن نشاط يسوع (1: 14-15) من أجل جمهور كبير جاء من كل مكان (3: 7- 12)، أو من القرى المحيطة (6: 6 ب). وهكذا نحدّد موقع إرسال الاثني عشر في توسّع لعمل الله: إن هذا العمل يتحقّق بيسوع وهو مدعّو إلى أن يتواصل في العالم حتى يصل إلى تمامه.

2- وجهات من رسالة الاثني عشر
أ- "رسل" يسوع
حين عاد الاثنا عشر من الرسالة حملوا اسم "رسل" (6: 30). هذا اللقب ينتمي إلى اللغة المسيحية التي بعد الفصح. وقد يكون المحيط الحضاري الذي عاش فيه مرقس لم يحتفظ به إلاّ للاثني عشر. مهما يكن من أمر، فهو يدلّ على الذين أوفدهم يسوع. وهم يقومون بالمهمّات التي قام بها. مثل يسوع كرزوا (3: 14؛ 6: 12؛ يسوع: 1: 15، 38). كرزوا بالانجيل اقتراب الملكوت، وهذا يعني ان التوبة أمر ملحّ (1: 15: 6: 12). ومثل يسوع علّموا (6: 30؛ يسوع 1: 21؛ 4: 1- 6، 6: 2، 6). ومثله طردوا الشياطين وشفوا المرضى (ق 1: 39؛ 3: 14- 15 مع 12:6-13).
ومع ذلك يبقى اختلاف جوهري. لم يتحدّث النصّ عن دهشة السامعين إلا حين تحدّث عن يسوع. نقرأ في 1: 22: "وكان يعلّمهم مثل من له سلطان، لا مثل الكتبة". وهو الإنسان "الاقوى" من الشيطان، والذي يستطيع أن يدمّر له مملكته (3: 24- 27). كرز الاثنا عشر وعلّموا. ولكنهم فعلوا ما فعلوا بتفويض منه. ومنه نالوا قدرة على الشياطين وعلى الأمراض. وشفوا المرضى بعد مسحهم الزيت، تبعاً لعادة عملت بها بعض الكنائس المتهوّدة (أي: مسيحيون من أصل يهودي رج يع 5: 14). هذا يعني بالنسبة إلى قرّاء مرقس أن الرسل يعملون بقدرة آخر هو يسوع.
ب- أنواع المرسلين المسيحيين
يرى مرقس الذي يعدّد الأسماء (3؛ 16-19: سمعان، يعقوب، يوحنا) أن الاثني عشر ينتمون بلا شكّ إلى الماضي. ولكن اهتمامه بهم يتجاوز المستوى التاريخي. إنهم يقدمون صورة حالية عن عمل يسوع وتعليمه. وهذا ما تشهد له التعليمات المعطاة للمرسلين.
لا نستطيع أن نرى في هذه التعليمات فقط انعكاساً لرسالة الكنائس بعد الفصح والقيامة. لا يبدو أن هؤلاء المرسلين ذهبوا إلى الرسالات البعيدة من دون زاد ولا طعام، ذهبوا ومعهم عصا ونعلان. مثل هذا النصائح عُمل بها في بداية الكنيسة ولاءمت جولات رسولية محدّدة، في بلاد معروفة هي الجليل. غير أن الكنائس المسيحية عرفت عادة إرسال موفدين أو مرسلين. ترسلهم اثنين اثنين. هكذا أرسلت كنيسة اورشليم إلى السامرة "بطرس ويوحنا" (أع 8: 14). وأرسلت كنيسة انطاكية "برنابا وشاول" (أع 13: 2). وحين يفارق برنابا شاول، يتخذ معه مرقس، بينما يتخذ شاول سيلا (15: 36- 40) من أجل الرسالة في سورية وكيليكية وحتى أقاصي الأرض (رج 1 كور 9: 6: أنا وبرنابا).
كان على المرسلين ان يحسبوا حساب الضيافة من قبل أهل البلد الذي يذهبون اليه. والنصيحة بالبقاء في أول بيت يستقبل المرسلين، قد جاءت ضد اولئك الذين يبحثون عن أفضل البيوت من أجل سكنهم وظروف حياتهم (رج الديداكي 11: 4- 5). ومهما يكن من أمر، نحن نرى في أقوال يسوع وجه أناس أُرسلوا أو انطلقوا ينشرون الإنجيل. قُبلوا هنا في بيوت صارت مركز تجمّع الكنيسة الفتية. رُفضوا هناك فأجبروا على الذهاب إلى مكان آخر.
هذا ما نعرفه عن بطرس. شفى طابيثة، "فاتتشر الخبر في يافا كلها. فآمن بالرب عدد كبير من الناس. وأقام بطرس عدة أيام في يافا عند دبّاغ اسمه سمعان" (أع 9: 42-43). هنا ستجتمع كنيسة يافا حول بطرس أو حول من يقيمهم في غيابه. وستكون كنيسة اخرى في قيصرية، في بيت كورنيلويس الضابط الروماني. أمرهم بطرس "بأن يتعمّدوا باسم يسوع المسيح، فدعوه إلى أن يقيم عندهم بضعة أيام" (أع 10: 48). أما عن بولس وبرنابا فنسمع خبراً من نوع آخر. "إنتشر كلام الرب في تلك البلاد كلها" (حول انطاكية بسيدية). ولكن اليهود اضطهدوا بولس وبرنابا وطردوهما من ديارهم، "فنفضا عليهم غبار اقدامهما، وانتقلا إلى ايقونية" (أع 13: 49- 51). حين يترك اليهود مدينة وثنية، كانوا ينفضون الغبار عن أرجلهم. وحين فعل بولس وبرنابا ما فعلا، اعتبرا انهما أمام مدينة وثنية، وإن كان يسكنها بعض اليهود.
وسيكون بيت ليدية التي من تياثيرة أول "كنيسة" في فيلبي (أع 16: 14- 15، 40). وبيت ياسون (يقابل يشوع في العبرية) أول "كنيسة" في تسالونيكي (أع 17: 5).
هؤلاء الوعّاظ الذين سموا "رسلاً"، نجدهم ينتقلون من بلد إلى بلد. وهذا ما تشهد له الكتابات المسيحية الأولى. فسفر الاعمال يتحدّث عن بولس وبرنابا على أنهما رسولان (أع 14: 4، 14). ويتحدّث بولس في رسالته إلى رومة (16: 7) عن اندرونيكس ويونيا المشهورين في الرسل. وفي 2 كور 9: 5 عن انواع من المرسلين: امرأة اخت، الرسل، اخوة الرب، كيفا (اي: بطرس). لا ننسى ان بعض النساء رافقن يسوع وعاونه (لو 8: 2- 3). وهناك تيطس (2 كور 8: 23). وابفرودتس (فل 2: 25).
هْناك سمتان تظهران في وجه المرسل كما رسمته تعليمات يسوع في مرقس. بينما عالج متّى بطريقة متساوية ومتعاقبة القبول والرفض (مت 10: 11-14: قبلوكم. امتنعوا عن قبولكم)، فإن مرقس قدّم تفاصيل عديدة عن الرفض (ما قبلكم اهل المكان ولا سمعوا كلامكم). فالحدث الذي سبق هذه التعليمات ينير هذا الواقع: لقد لاقى يسوع عدم الإيمان في وطنه، في الناصرة، وبين اقاربه. وبعد هذا، سينظر الانجيلي إلى مصير إبن الإنسان الذي يرذله رؤساء الشعب (8: 31)، ويربطه بضرورة تدفع الذي يريد أن يتبع يسوع، أن يخاطر بحياته ليشهد له (8: 34-38: من أجلي رمن أجل الإنجيل). إن يسوع يطلب التزاماً من قبل الذين يتبعونه، ويقدّم لهم طريقه الخاصة: هناك سيختبرون المعارضة. "ما كان خادم اعظم من سيده. فإذا اضطهدوني يضطهدونكم، وإذا سمعوا كلامي يسمعون كلامكم" (يو 15: 20).
ومن جهة ثانية، يوصي يسوع رسله بأن لا "يتلبّكوا" بأمتعة ثقيلة. فتكون لهم رشاقة المسافرين. قال متى ولوقا: لا تأخذوا شيئاً. أما مرقس فسمح لهم بعصا وحذاء. لن نبحث عن النصّ الاولاني. ولكننا نظنّ أن عبارات متّى ولوقا بما فيها من مفارقة، تقابل فن يسوع الأدبي. ومهما يكن من أمر، فهذ التعليمات تريد أن تشدّد على الفقر الكامل، على التجرّد الكامل عند رسول يسوع. وإن هذا التجرّد يُفرض على كل مؤمن في سبيل يسوع وفي سبيل الإنجيل (10: 29-30). تميّز التلميذ المستعدّ لأن يتبع يسوع، في تجرّده العام من خيراته، في تخلّيه عن رباطات العائلة، في تنكره لنفسه. فمسؤولية حمل الإنجيل وحمله بأمانة، نعيشها في ظروف صعبة. وهي تطلب منا أن نتخلّى عن كل حمل لا فائدة منه لأن الزمان قصر.
تفرّد مرقس فذكر العصا والنعلين، فكيّف كلام يسوع وظروف الرسالة خارج فلسطين. وقد يكون قد أشار الى العبرانيين المستعدين للانطلاق من مصر في رحلة الخروج والدخول إلى أرض الميعاد (خر 12: 11: أحذيكم في ارجلكم، وعصيكم في أيديكم). نحن هنا في خروج جديد تعيشه الرسالة المسيحية. ومهما يكن من أمر، فهذ الإشارة تعبّر عن سرعة التحرّك عند عمّال الإنجيل والجهوزية المطلوبة منهم. فعمل الله يدعونا، وهو لا يستطيع ان ينتظر.
ج- مهمة الإنجيل
ذكرنا إشارتين هامتين: تجرد من كل شيء، وتكيّف مع ظروف الرسالة الصعبة. هذا هو وجه الرسول الذي يلتقي مع "كل" من يريد أن يتبع المسيح فيصل به هذا الاتباع إلى التضحية بكل شيء في سبيل الإنجيل. وهكذا يصوّر مرقس الخطّ الذي يسلكه المسيحي. في هذا المجال، يستطيع قارىء الإنجيل أن يطبّق على نفسه، ومن زاويته الخاصة، ما يقال للاثني عشر أو ما يقال عن الاثني عشر.
إعتدنا إن نعتبر هؤلاء أول الاشخاص في سلسلة من الناس صاروا خلفاءهم. هؤلاء "الخلفاء" أمنّوا نقل الرسالة و"السلطة" التي أعطاها يسوع للاثني عشر ثمّ لمن بعدهم. ولكن في زمن مرقس، لم تكن تطرح مسألة التواصل في عمل يسوع بهذا الشكل. فنحن لا نجد في إنجيله هدفاً دفاعياً يؤسّس صلاحيات الذين تابعوا عمل الاثني عشر رسولاً. هذا الاهتمام سيظهر فيما بعد. أما في مرقس، فالصدق المسيحي يُعرف بأمانته للإنجيل ولدى الذين يتبعون يسوع. وتذكّر هذه المتطلبة يتوجّه إلى الجماعة كلّها.
والمهمّة التي أعطاها القائم من الموت للأحد عشر هي: "إذهبوا إلى العالم كله، وأعلنوا الإنجيل على الخليقة كلها" (16: 14- 15). هذه الكلمات نجدها في الخاتمة الثانية من الكتاب، وقد كتبها أحد الذين جاؤوا بعد مرقس. أما نصّ خاتمة مرقس الأولى، فينتهي فجأة في الاعلان عن لقاء في الجليل. هناك يسبق القائم من الموت بطرس والتلاميذ (16: 7؛ رج 14: 28). إن الجليل يمثّل في نظر لوقا المنطقة المفتوحة على الأرض الوثنية: هناك علّم يسوع تلاميذه أن يتجاوزوا حدود العالم اليهودي، وهيّأهم لتبشير جميع الأمم. ولكن حين أعلن يسوع بشكل واضح هذا التبشير (الانجلة)، فعبارة "أعلن الإنجيل" (أو بشّر) جاءت في صيغة المجهول. والنصّ لا يوضح من عليه أن يتمّ هذا العمل. نقرأ في 13: 10: "يُكرز بالإنجيل". وفي 14: 9: "حيثما كُرز بالإنجيل".
إن إرسال الاثني عشر من الجليل يصوّر مسبقاً رسالة لا حدود لها ستنطلق بعد الفصح والقيامة. ولكن واجب اتمامها يقع على عاتق كل قرّاء مرقس. نقرأ: "يجب" (13: 10). وهذا الواجب وإن توجّه إلى أربعة تلاميذ (13: 3)، إلاّ أنه معدّ للجميع. فنقرأ في 13: 37: "ما أقوله لكم، أقوله للجميع".
من هذا القبيل، فإن تحملّ الناس مسؤوليات خاصة، فلا يستطيع أحد أن يتخلّى عن مسؤولية نشر الإنجيل. فحسب 13: 9-10، هذا الاعلان يتمّ بالشهادة أمام المحاكم خلال الاضطهادات (وهناك إمكانيات أخرى). من الواضح أن واجب الشهادة يعني جميع المؤمنين سواء تسلّموا مهمّة خاصّة في الكنيسة أم لم يتسلّموا.
من هذا القبيل، تعني رسالة الاثني عشر في الإنجيل، تجذّراً في حياة يسوع وفي إرادته البشرية، تعني تجذّر هذه المهمة التي صارت مهمة الكنيسة: فهي تشهد للمسيح. تشهد لأقواله، تشهد لإنجيله. وبحسب مرقس، الاثنا عشر هم كافلو هذه الأرادة (إرادة يسوع). فالمسيح قد أقامهم لهذه الغاية. ثم أفهمهم أن الانجيل موجّه إلى جميع البشر. فلقد صاروا نموذج المرسلين. وبواسطتهم امتدّ اعلان الإنجيل بعد فصح المسيح وقيامته. وهذا الإعلان يميّز زمن الكنيسة (4: 21- 22. سراج على مكيال) التي ترى في رسالة الاثني عشر في الجليل، إرادَة المسيح الواضحة تجاهها. لقد اغتنت بإرث الاثني عشر، اغتنت بتقليد أعمال يسوع وأقواله، فوجب عليها أن تحيا من هذا الارث وتشهد له في العالم كله إلى ان يعود الرب.
د- إنجيل يسوع وقدرته
وتقبّل الاثنا عشر من أجل القيام بمهمتهم، تقبّلوا من يسوع "سلطة على الأرواح النجسة". فرافقت كلمتهم الأشفية وطرد الشياطين (6: 7، 12-13). لسنا فقط مع الكلام والتعليم. بل هناك "عمل" كما تقول 6: 30: "أطلع التلاميذ يسوع على ما عملوا". فملكوت الله لا يظهر فقط في الكلام. بل هناك "علامات" تدلّ عليه. هذا الواقع يشهد له القديس بولس الذي يرى فيه علامة لا تردّ عن صفته "رسول" المسيح (1 تس 1: 5؛ 1 كور 2: 1- 5؛ 2 كور 3: 1- 3؛ 12: 12؛ غل 3: 2- 5؛ روم 15: 18- 19). ثم إن الاناجيل تربط دوماً بين كرازة يسوع وعمله. وفي مرقس، يجري عمل يسوع هذا داخل صراع ينتصر فيه على "الأرواح النجسة": هي نجسة لأنها تدلّ على وجود قوة وسط البشر تعارض قداسة الله وشعبه. لم يكن في ذلك الوقت تمييز بين المرض وتأثير الشيطان (1: 34؛ 3: 10- 11؛ مت 8: 16-17).
لا يتكلّم العهد الجديد عن الشياطين إلا بمناسبة ذكر النتائج السيئة التي تنسب إليهم، لاسيّما في مجال صحة البشر. ففي الأشفية نجد أكثر ما نجد علامات ملكوت الله الذي يأتي ليعيد الإنسان والعالم إلى التناسق الذي أراده الخالق. ولهذا، فأول عمل علني يذكره مرقس عن يسوع هو أنّه علّم بسلطان وطرد "روحاً نجساً" (1: 22، 27). ونرى الشيء عينه في التعليم الذي سلّمه يسوع لتلاميذه: أعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة (3: 14-15، 6: 7).
تنظر الكنيسة إلى مهمة الاثني عشر، فتقرأ فيها مسؤوليتها من أجل إعلان الإنجيل على جميع البشر. وتكتشف أيضاً حين تقرأ نصّ مرقس هذا، أن السلطان المعطى للاثني عشر ليس محصوراً فيها. وبعد هذا، لن يستطيع التلاميذ أن يطردوا روحاً نجساً، فيذكّرهم يسوع بأنه لا بدّ من الايمان والصلاة (9: 18- 29؛ رج 11: 22- 24). وهناك حدث المقسّم الذي يطرد الشياطين باسم يسوع دون أن يكون واحداً من التلاميذ. فهو يدلّ على أن قدرة يسوع لا تنحصر في مجموعتهم (9: 38-39). وفي "السلطان" المعطى للاثني عشر، تُدعى الكنيسة كلها للتعرّف إلى زخم الإنجيل الذي تحمله إلى البشر. فقدرة يسوع نفسه مسلمة إلى إيمانها وصلاتها. وهكذا تدلّ في نجاحات محدّدة على أن خلق الإنسان (من جديد) قد تدشّن (بدأ) في المسيح القائم من الموت.
وهذا اليقين يعبّر عنه مرقس بطريقة شبه سطرية. ولكن خلال الحديث عن ابليس وعن المعجزات، يجب أن نتجاوز الصور التي تعود إلى ما قبل العلم. غير أن العلم لا يحلّ محلّ الإنجيل، ولن يستطيع أن يترجم في لغة يبنيها، نمط وجود يعرضه الإنجيل ويجعله ممكناً للإنسان الذي تجدّد في الإيمان. إن واقعية مرقس تذكّرنا أننا لسنا أمام مجرّد تجديد "روحي" في المعنى الحديث للكلمة. فالروحي لا ينفصل عن اللحم والدم. والتوراة تجعل الروح في حياة البشر الملموسة. لا يكفي أن نشجّع البحث عن المعجزات (أو نتحسّر عليه) الذي ينغلق على ذاته ويبقى على هامش الكرازة، ويتوقف عند تفكير بعيد عن الواقع. ولا يكفي أيضاً أن نستند إلى معنى التاريخ أو إلى قوة نموّ داخلية من أجل تحرير الإنسان. فالإيمان كخبرة نمط جديد من العلاقات بين البشر، له تأثيره على التوازن البشري، على توازن الافراد والمجتمعات. وصحّة الاشخاص والجموعات قد تكون الموضع الذي فيه تظهر آيات الإنجيل، والمعيار الذي يقيس عمق إيماننا.

خاتمة
إن خبر مهمّة الاثني عشر في الجليل، يقوم (في مرقس) بوظيفة تتجاوز أهمّيته التاريخيّة. إنه يدلّ على محطّة هامّة (ولها معناها في البداية) ونموّ عمل يتواصل في الكنيسة وفي العالم. وحين تقرأه الكنيسة، فهي مدعّوة إلى أن تكتشف دعوتها التي تتضمن مهمّة تمنعها من ان تكون جماعة منغلقة على ذاتها، او تنحصر داخل حضارة أو مجتمع مهما كانت هذه الحضارة وهذا المجتمع.
حين نقرأ خبر مرقس، لا يرافق إرسال الاثني عشر أي تحديد جغرافي يحدّه في المكان (ق مت 10: 5-6؛ لو 9: 6؛ 10: 1). ويتبعه تمرّس صعب للتلاميذ، يكثر فيه يسوع التعليمات والتنبيهات ضدّ الانغلاق على العالم اليهودي (7: 1-8؛ 13). وليس من قبيل الصدف أن لا يبقى شيء في انجيل مرقس ليذكرنا برمز الاثني عشر الاولاني. فهذا العدد يرمز إلى تجمّع قبائل اسرائيل الاثنتي عشرة في الأزمنة المسيحانية (مت 19: 28: تجلسون على اثني عشر كرسياً لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر، لو 22: 30). ففي نظر الكنيسة، هم كافلو المهمة التي وصلت إليها وقد تسلّمت مسؤولية عرض الإنجيل على جميع البشر.
وبما أن هذه المهمة هي امتداد لمهمة يسوع فيها، فالمرسلون يحملون السمات التي تميّز التلميذ كما يريده يسوع: حرّ من أي رباط، خفيف لا يحمل امتعة، جاهز ومستعدّ ليتبع يسوع في الصعوبات وحتى التضحية بالذات. فصورة التلميذ تشبه صورة الرسول. وإنجيل مرقس لم يتحدّث عن التلاميذ كـ "محترفين" لا خلال حياة يسوع، ولا في مستقبل الكنيسة (13: 10؛ 14: 9). فينتج عن هذا أن مرقس أعطى لرسالة الاثني عشر أوسع أبعادها.
إن هذا الخبر لا يعارض واقعاً وهو أن لكل رسالة اساساً. ولكنه يذكّر كل مسيحي أنه ينتمي إلى كنيسة مرسلة إلى الآخرين. وأنه مدعو ليكون شاهداً ليسوع أمام البشر. وأخيراً، إن قدرة يسوع لا يمكنها أن تزول. ولا نستطيع أن نحصر الإنجيل في خطبة بشرّية ترتبط بالبلاغة أو بسائر علوم البشر. فالأقوال والأعمال تسير معاً وسنحتاج دوماً في رسالتنا إلى الإيمان والصلاة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM