الفصل الثامن والعشرون يسوع في الناصرة

الفصل الثامن والعشرون
يسوع في الناصرة
6: 1- 6 أ

جاء يسوع إلى أخصّائه يحمل تعليم الخلاص، ولكن أهل قريته رفضوه، فتعجّب من قلة إيمانهم. هذا الخبر الذي أورده مرقس (6: 1- 6) يبدو غريباً. ونحن لا نفهم لماذا أراد الإنجيلي أن يذكّرنا بهذا الحدث الذي لا يشرّف أهل الناصرة ولا يشرّف يسوع نفسه. قد يقال: "لم يعرف أن يفرض نفسه في قريته"! تعذّر عليه أن يصنع أية معجزة هناك، سوى أنه شفى بعض المرضى. وتعجّب من قلة إيمانهم، وكأنه كان بالإمكان أن ننتظر شيئاً آخر. فمتى أكرم نبي في بلدته؟!
أما كان من الأفضل أن يسكت مرقس عن هذا الحدث التعيس؟ ولماذا أورد خبراً لم يكن يسوع ناجحاً فيه؟ الجواب هو أن هذه المأساة هي مأساة كل الإنجيل الذي ينتهي في فشل الصليب. إن رفض أهل الناصرة يعلن مسبقاً سر الآلام. ودهشة يسوع المسمّر على الصليب هي دهشة إله جاء يحمل إلى البشر كل شيء، فإذا بهم يرفضون أن يعطوه أي شيء.
وهناك أيضاً دهشة حاملي الإنجيل عبر العصور. يحملونه بالقول والعمل فيكونون موضوع شك ومناسبة عثار للذين يسمعون الكلمة ويرفضونها. ليس تلميذ أفضل من معلّمه: هذا ما أحسّ به مرقس، وهو يشير في بداية الخبر إلى حضور التلاميذ الذين يشاركون يسوع في فشله. والكنيسة ستصطدم باللاإيمان عينه.
لندخل في فهم هذا الخبر المليء "بالألغاز". ولنذكر الصعوبات قبل أن نقدّم الأجوبة على المستوى الأدبي والتاريخي. ولنكن متحفّظين. فقد لا نستطيع أن نفهم كل شيء، لكننا لا نلغي الصعوبات. حينئذ نشبه أهل الناصرة الذين ظنوا أنهم عرفوا كل شيء فغاب عنهم الجوهر. توقّفوا عند النجار ابن مريم، لم يصلوا إلى ذاك النبي، إلى المسيح ابن الله.

1- وثيقة أدبية
يدهشنا بناء خبر مرقس هذا، بحيث لا ندرك سبب وجوده كل الادراك كما يفلت منا مدلوله ووظيفته في مجموعة مرقس الاخبارية. وهكذا نستطيع أن نكدّس الاسئلة بالنسبة إليه. (1) لماذا هذا التحوّل غير المنتظر لدى السامعين في مجمع الناصرة؟ إنتقلوا فجأة من الدهشة والإعجاب (آ 2، بهت، تعجّب، رج 1: 22)، إلى عدم الموافقة والرفض والعداوة (آ 3، تشككوا، تحيّروا في أمره). (2) ما هو المعنى الحقيقي للسؤال الذي طرحه أهل القرية؟ (3) لماذا تعجّب (دهش) يسوع من لا إيمانهم (عدم إيمانهم، قلة إيمانهم) مع أنه أعطى السبب في هذا النص: "ليس نبي بلا كرامة إلاّ في وطنه وفي أهله وفي بيته" (آ 14)؟ (4) لماذا أكّد مرقس في الآية نفسها وبشكل شبه متعارض، أن يسوع لم يستطع أن يصنع شيئاً من العجائب، وأنه صنع بعض العجائب رغم كل شيء (آ 5 أب)؟.
خبر صغير يسير بنا في كل الإتجاهات، فتتصادم عناصره. نصّ غريب لا نجد ما يقابله في التقليد الإزائي (ما عدا مت 53:13- 58). فسّره الشرّاح، وها نحن نذكر أجوبتهم.
أ- قراءة "تاريخية" وغير حرفية
أخطر طريقة لقراءة نصّ هي أن نزيل الصعوبات، ونحوّل المعنى الموضوعي للكلمات، وننسّق بين االعناصر المتفرّقة، ونحاول أن ننير النص بمعطيات سيكولوجية. ونعطي أمثلة. (1) لماذا جاء يسوع إلى الناصرة؟ الجواب: ليزور عائلته (أسرته). (2) ماذا قال في المجمع؟ الجواب: الخطاب الوارد في لو 4: 21- 27. ويروي الشارح الخبر بالتفصيل. بعد خطبة يسوع، إنقسم السامعون قسمين: كثيرون أعجبوا بالمعلّم. وبعض السامعين تشكّكوا منه فرفضوه. أو: عرفوا بما وصل إليهم من أخبار عن معجزات يسوع الخارقة، فامتلأوا حسداً منه وتساءلوا: كيف نبت هذا العبقري في هذه القرية المغمورة؟ ثم، حمّل الشرّاح الدهشة والإعجاب الظاهرين المذكورين في آ 2، تضمينات مسيئة إلى يسوع، تضمينات تشير إلى تشكك هؤلاء المرائين!
يجعل "الشارح" نفسه حالاً على مستوى الحدث كما يتخيّله، ويملأ فجوات النص بما "ينقصه"، ثم يستنبط نصاً آخر يجعله فوق النصّ الذي نقرأه في الأنجيل. في الواقع، لقد خرج من النص كما يبدو لنا في الإنجيل الثاني، وبنى الحدث بطريقته وفهمه، دون أن يعي أنه ألغى تاريخيته الحقيقية.
ب- شرح النص إنطلاقاً من مراجعه
هناك أسلوب قراءة ثانٍ وهو أكثر جدية من الأول. يقوم بأن نفسّر النصّ بواسطة مراجعه، فنعيد بناء تكوينه الأدبي. مثلاً، قال بولتمان: إنطلق الكاتب من مثل معروف في أيامه (آ 4: لا يحتقر بني...) وقد نسبه التقليد المسيحي إلى يسوع. إنطلق من المثل وتوسّع فيه فأعطانا هذا الخبر. وقال شميت: هذا النص هو نتيجة مرجعين متميّزين: آ 2 ب، 3 ج، 5، 6 أ. هذا الأسلوب سيجد ذروته عند الأب بوامار.
لهذا الأسلوب أهميته على مستوى التاريخ الأدبي للنصّ. ولكن الخطر يكمن حين نحاول أن نفسر النصّ في حرفيته بواسطة هذه الفرضية. كل ما يستطيع هذا النقد أن يفعل، هو أن يكتشف نصوصاً أخرى تستتر في هذا النص، ويبحث عن وظيفتها بالنسبة إلى المقطع الإنجيلي الذي ندرس.
مثلاً، ننطلق من مقابلة مع مت 53:13-58: نستطيع أن نتحدّث عن نصّ سابق لمرقس حيث لا ذكر للتلاميذ (آ 1)، لأن لا فائدة لهذا الذكر (ولكن لا ننسى أن مرقس جعل التلاميذ دوماً مع يسوع. أما متى، فيجعل يسوع وجهاً لوجه مع الشخص الآتي إليه لئلا يشتّت انتباه القارىء). ونقول الشيء عينه عن آ 5 ب (مع ذلك، شفى بعض المرضى). قد يكون مرقس قد زادها فجعل نصّه ثقيلاً. أو: يجب أن نفضّل نص مت 54:13 ب- 56 مع بنيته التصالبية (خياسما، أي: أ ب ب أ) على نص مر 2:6 ب- 03 النص الأول هو ما نقرأه في مت 13: 55: "ابن النجار". والنص الثاني هو ما نقرأه في مر 3:6 أ: "النجار ابن مريم".
هذه الملاحظات معقولة. ولكن نص مرقس يجب أن يقرأ أيضاً في ذاته. والدراسة التكوينية لا تكشف دوماً السبب الذي لأجله كتب الإنجيلي ما كتب. نحن لا نقرأ فقط النصوص "السابقة"، بل ندرس النصّ الحالي. ومن يؤكّد لنا أن هذه النصوص السابقة التي "افترضناها" هي أكثر تاريخية من النص الحالي: يسوع في الناصرة.
ج- شرح النصّ إنطلاقاً من وظيفته في قلب الجماعة
وهناك فرضية قراءة ثالثة تكمن في أن نحدّد الفن الأدبي للنص الذي ندرس، ونتساءل لماذا كتب؟ أية حاجة في الجماعة أراد أن يلبي؟ الجواب صعب فيما يخصّ مر 6: 1- 6. وهو يختلف بين كاتب وآخر بالنظر إلى أفكاره التاريخية واللاهوتية المسبقة. ديباليوس يرى فيه خبراً مثالياً: ما حدث هنا حدث في كل مكان، وفي النهاية رفض اليهود يسوع وصلبوه. بولتمان يتحدّث عن خبر يحيط بقول مأثور. ولكن إلى أيّ حدّ يشكل القول في آ 4 (لا يكرم نبي) عقدة الخبر؟ فقد نستطيع أن نحذف هذا القول المأثور دون أن "ندمّر" بنية المقطع.
ما نستطيع أن نقوله هو أن هذا الخبر لا يدخل في إطار من الأطر. إنه "إجمالة". إنه ملخّص نموذجي لرسالة يسوع التي اصطدمت بالفشل.
أما لماذا دوّن هذا الخبر في قلب الجماعة المسيحية الأولى، فهناك فرضيات عديدة؟ (1) هذا الخبر هو تحريض خفي يوجّه إلى الوعّاظ المسيحيين لئلا ييأسوا أمام خبرات غير ناجحة. ولكن لماذا هذا الخبر الغريب لكي نبرّر خبرة عادية؟ (2) هناك سؤال طرحه أهل الشتات ولا نزال نطرحه اليوم: لماذا لم ينفع مثل هذا التعليم والعجائب الخارقة التي اجترحها يسوع، لكي تجعل بني اسرائيل يأتون جماعات إلى الإيمان الجديد؟ هذا هو السؤال الذي أراد مرقس أن يقدّم له جواباً. في هذا المنظار، يبيّن الخبر أن المعجزة لا تعني شيئاً من دون إيمان سابق. وأن لا إيمان أبناء بلدة يسوع، كان نقطهّ انطلاق لانتشار رسولي مسيحي، والشرط لانتقال الإنجيل إلى الأمم.
تفاسير مختلفة لا نستطيع أن نتحقّق منها بسهولة. تفاسير لا بأس بها، ولكنها لا تفكر تشعّبات النص وما فيه من تعارض. ثمّ لا نستطيع أن نعزل مر 6: 1- 6 عن إطاره. كما نعزل مثلا. 10: 13- 16 (يسوع يبارك الأطفال). وهكذا تصبح التفاسير السابقة غير كافية، لأنّها تعتبر هذا النصّ مقطعاً نستطيع أن نعزله عن الإطار الذي وضع فيه.

2- أسلوبان لدراسة النصّ
أ- بناء مرقس اللاهوتي
هناك طريقة رابعة لقراءة النص هي أن نكتشف نيّة راوي الخبر إنطلاقاً من لاهوته الخاص. لقد صاغ مرقس بناء هذا الخبر (6: 1- 6)، فدمج موضوعين لاهوتيين اهتمّ بهما إهتماماً خاصاً: قبل الفصح، لم يستطع أهل يسوع أن يروا فيه إلاّ إنساناً بسيطاً، واعظاً ومجترح معجزات (لاهوت السرّ المسيحاني). لم يكن سرّه ليُعرف في واقعه الإلهي قبل القيامة. لهذا ظلّ كذلك للذين في الخارج ولأهل وطنه (لاهوت القلوب القاسية. مر 4: 11- 13). ولكن مقابل هذا، كشف هذا الخبر المثالي الإيمان الفصحي لدى التلاميذ في ذلك الذي رأوا فيه إنساناً كاملاً وإلهاً كاملاً. وبمختصر الكلام، إن مر 6: 1- 6 هو في النهاية بناء لاهوتي محض به يعبّر الكاتب عن إيمانه بيسوع المسيح، ويشدّد في الوقت عينه على رفض إسرائيل بأن يقبل هذه الحقيقة.
ب- نحو دراسة النص في حرفيته
ليس الهدف أن نبحث عن "النصوص السابقة" للنص، ولا أن نكتشف إن كان يقول الحقيقة، ولا أن نعرف ما يعني. بل أن نكتشف مبدأ يصبح فيه هذا المقطع مقروءاً. نتوقّف أولاً عند النص، ثم عند علاقة النص بقرائنه.
أولاً: نص محيّر
نشدّد أولاً على أمر مهم: لا نستطيع أن نعتبر مر 6: 1- 6 وحدة نعزلها عن قرائنها. لا شك في أن هذا الخبر يشكّل وحدة. وهذا ما تدلّ عليه التضمينات الأدبية. في آ 1: وطنه. في آ 4: لا كرامة لنبيّ إلاّ في وطنه. هناك فعل "علّم" في البداية (آ 2: يعلّم في المجمع) وفي النهاية (آ 6 ب: سار في القرى وهو يعلّم).
هو وحدة، ولكننا لا نفصله عن المجموعة. ليست فقط بسبب الرباطات التدوينية مثل "وخرج من هناك" (آ 1). أو ذكر التلاميذ السابق مباشرة لإرسالهم (6: 1، 7- 8)، بل بسبب شكل الخبر العام. فهو في بنيته الأولى يورد خبر وضع يتدهور منذ الوقت الذي فيه جاء يسوع إلى أهله. وسبب التدهور هو أسئلة سلبية يطرحها أهل الناصرة عن أصل يسوع (أليس...). ويلاحظ يسوع نفسه هذا التدهور فيقول: "ليس نبي بلا كرامة...". وفي النهاية، يصل التدهور إلى ملئه: أحاط الاحتقار بيسوع. لم يؤمن أخصّاؤه به. قيّد عمل الخلاص لدى مجترح المعجزات: لم يستطيع أن يصنع شيئاً من العجائب.
لا يروي راوٍ مثل هذا الخبر دون أن يفترض عند السامع والقارىء إمكانية قلب النص وإعطائه وجهاً إيجابياً بواسطة إطار شفهي أو مكتوب. إذا عزلنا خبر الفشل هذا بصورة اعتباطية عن قرائنه الإخبارية التي تساعدنا على فهمه، وعن إيمان السامع الذي يقلب معطياته، إذا عزلناه، لن نستطيع أن نسمعه ولا أن نفهمه.
حين أشار الراوي إلى دهشة يسوع (من قلة إيمانهم)، شدّد في الوقت عينه على طابع غير عاديّ للوضع: كان يجب أن تجري الأمور على غير ما جرت. قال أهل الناصرة: أما هو فقط النجار؟ ولكن يدعى القارىء ليعلن مكانهم: هل هو فقط النجار؟ أما هو أكثر من النجّار؟ وهذا ما يقرّ به يسوع حين يقدّم نفسه كالنبيّ، والنبي المكرّم خارج وطنه. وحين تحدّث الراوي عن رفض أهل الناصرة بأن يؤمنوا (ابيستيا، 6:6؛ 9: 24)، دعا القارىء إلى أن يعلن إيمانه بابن الله (1: 1؛ 39:15). فعدم الإيمان يقوم بأن نضع علامة استفهام حول أصل يسوع الإلهي. فلا يكفي بأن نقرّ أن في يسوع حكمة أعطاه إياها الله (آ 2). وأن عنده سلطان صنع العجائب. لا يكفي أن نتحدّث عن سلطة يسوع المسيحانية (الحكمة والقدرة هما صفتان مسيحيتان، أش 11: 2؛ ق 1 كور 1: 24)، بل يجب أن نعلن ما أعلنه قائد المئة عند الصليب. "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (39:15).
ونلاحظ أخيراً هذه الرسمة الغريبة في خبر مرقس. في البداية، دهشة وإعجاب لدى أناس سمعوا تعليم رابي (معلّم) يحيط به تلاميذه. ثم، سؤال حول أصله. وأخيراً ردة فعل اللا إيمان. إننا نجد هذه الرسمة عند يوحنا وفي سياق آخر (يو 7: 14، 15- 19، 24- 29)، كما نجدها عند لوقا (16:4- 30). إنها رسمة سر اللاإيمان. لا يكفي أنّ نؤمن "بالواعظ" ومجترح المعجزات، بل يجب أن نصل إلى مستوى أعلى فنؤمن بشخص يسوع نفسه.
ولكن حينئذ قد يصبح يسوع حجر عثار للذين يقتربون منه فقط على مستوى الجسد. يقول يو 1: 11: "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله". فكلمته تدين القلوب (مركز الفهم والارادة) وتفرض على كل واحد أن يتخذ موقفاً من السؤال الأساسي: "من هو يسوع"؟ وفي هذا الخبر الذي فيه يرسم مرقس موضوع الإيمان بشكل سلبي، فهو يطرح هذا السؤال الجوهري قبل أن يصل إلى الإعلان الإحتفالي في فم قائد المئة: المصلوب هو ابن الله.
ثانياً: النصّ وقرائنه
نتوقّف الآن عند النص في قرائنه التي تعطيه معناه. نتوقّف عند وظيفته في المجمل الاخباري. فكلّ مفردات الخبر هي صدى لعبارة أو موضوع ذُكر سابقاً، وتحتاج إلى توسيع لاحق: من هذا القبيل، نستطيع أن نعتبر مر 6: 1-6 كخبر إنتقالي. لا شكّ في أننا لا ننسب إلى مرقس مخطّطاً بأقسامه المرتّبة والمرقّمة. ولكن يبقى أن كرازته تتبع ترتيباً محدّداً في توسّعه المتدرج في سر يسوع المسيح وابن الله. فالقسم الأول من هذه الكرازة اللاسيروية (لا تقدّم سيرة. تنطلق من نداء التلاميذ حتى 8: 26)، يطرح سؤالاً عن هوية يسوع. وهذا السؤال سيجد جوابه فيما بعد بشكل تدريجي، من إعتراف قيصرية فيلبس (قال بطرس: أنت المسيح) حتى الآلام. ويبرز هذا السؤال الأساسي بشكل خاص في ما يسمّى عادة بداية الرسالة الجليلية (1: 21- 13:6). وتتوالى الأسئلة. "ما هذا؟" هذا التعليم جديد (1: 22)". "لماذا يتكلّم هذا الرجل هكذا" (7:2)؟ "فمن هو هذا" (4: 41)؟ "من أين له هذا" (2:6)؟ بعد هذا، سيعود السؤال في ألفاظ مشابهة في 6: 14- 16 (يقولون: قام يوحنا المعمدان)؛ 8: 27- 29 (من أنا في رأي الناس؟).
ونستطيع أن نقدّم أيضاً بعد الملاحظات الدقيقة.
* الأولى: تذكرنا آ 1- 2 بألفاظ "يوم كفرناحوم" وفكرته الرئيسية. في هذا اليوم النموذجي، بدا يسوع كواعظ ومجترح معجزات. نقرأ بصورة خاصة 1: 21- 22: "دخل يسوع المجمع وأخذ يعلّم، فبهتوا من تعليمه" (اكبلسوماي. في 1: 22 وفي 6: 2). إذن، نجد في مر 6: 1- 6 التوازي الذي يناقض هذا اليوم التدشيني، يوم كفرناحوم.
* الثانية: يذكّرنا السؤال على أصل يسوع وكلامه عن رفض أخصائه له (أقربائه. خاص بنص 6: 4) بالسؤال عينه الذي نجده في 3: 20- 35. في الحالتين نجد "هجوماً" على أقارب يسوع.
* الثالثة: إن مجموعة المعجزات في 4: 35- 43:5 نجد خاتمتها في 6: 1- 6. فالفكرة الكبرى في هذه المجموعة نجدها في الجمع بين المعجزة والإيمان. فلفظة "إيمان" نجدها في عدد من مقطوعات هذه المجموعة: في تسكين العاصفة (4:4: أما عندكم إيمان؟)، في شفاء النازفة (5: 34: إيمانك شفاك). عند يائيرس (5: 36: يكفي أن تؤمن). عند وثني الجراسيين الذي يريد أن يتبع يسوع ويعلن أعماله العظيمة. إستعاد مر 6: 1- 6 الفكرة الرئيسية عينها وقلبها رأساً على عقب: من دون الإيمان، لا يستطيع يسوع أن يصنع عجائب. ونلاحظ أن موضوع اللاإيمان موجود في بداية هذه المجموعة (4: 40) وفي نهايتها (6: 6).
وبمختصر الكلام، يبدو مر 6: 1- 6 بالنسبة إلى الأخبار السابقة، بشكل إجمالة "سلبية" عن رسالة يسوع التي انتهت بالفشل. فهذا النص الذي يبدو للوهلة الأولى حيادياً، يلعب دوراً هاماً في بناء مرقس الأدبي واللاهوتي.
هل نستنتج أنه لا يشير إلى حدث تاريخي محدّد؟ كلا.

3- الحدث التاريخي
إن هذا البناء المرتب على المستوى الأدبي واللاهوتي، يتضمّن عناصر تاريخية. فاللاهوت والتاريخ لا يتعارضان على المستوى التاريخي. لا نستطيع أن ننكر قيمة المعلومات التي يعطينا إياها النصّ: لقد عرف يسوع الفشل بين أخصائه (رج 3: 21)، بحيث بدا وكأنه خسر قدرته العجائبية. يسوع هو صاحب مهنة يدوية (هو نجّار). هو ابن مريم. له إخوة وأخوات. هو يعلّم في المجامع ويبدو كصانع عجائب وطارد شياطين...
إن 3:6 تطرح مسألة هامة على مستوى النقد النصوصي. فمتى ولوقا لا يقولان إن يسوع كان نجاراً كما فعل مرقس، بل "ابن النجّار". أيكونان قد حسبا أن "مهنة يدوية" تتعارض وكرامة يسوع الإلهية؟ ربّما. إنّ بعض الشواهد ومنها بردية 45 تقرأ هنا في مرقس: "ابن النجار" بدل "ابن مريم". أما تأثر الناسخ بما في مت 13: 55 (ابن النجار، أمه اسمها مريم)؟ فعبارة "ابن مريم" أو "ابن أمه" غير عادية في عالم يهودي، بل تعتبر إهانة (رج قض 11: 1)، ولكن قد يكون نص مرقس "ابن مريم" صدى للإيمان بالحبل البتولي.
كل هذه النقاط المذكورة في مر 6: 1- 6 هي متينة، ولا شكّ في القيمة التاريخية لكل عنصر من عناصرها نأخذه على حدة. ولكن عل مستوى الجماعة، سيكون الحكم التاريخي متحفظاً. فعناصر الخبر كما ربطها الراوي لا تعطينا صورة فوتوغرافية أو تقريراً صحافياً لحدث حصل في الناصرة. فتذكّر حقيقي لرفض عرفه يسوع في الناصرة على يد أهله، وجد مكانه في إطار مشهد نموذجي حول اللا إيمان الذي "منع" يسوع من أن يعمل معجزات في وطنه.
وإذا ظللنا على المستوى التاريخي، نرى أن الرباط مع خبر إقامة يائيرس، قد ألّفه مرقس (وخرج من هناك). ثم إن قول يسوع (لا يكرّم نبي) جاء من الخارج. جعله مرقس في الخبر. وربطه بعبارة "فقالت لهم يسوع". فنحن نستطيع أن نقرأ آ 5 على أثر آ 3: وكانوا متحيّرين في أمره. ولم يستطع هناك. ونحن نجد اللحمة التدوينية نفسها في 27:2 (ثم قال لهم)؛ 4: 11، 21، 24. ثم إن التقليد قد حمل هذا القول المأثور وجعله في نصوص عديدة: يو 4: 44: إنجيل توما 31؛ بردية البهنسة (مصر) 6:1؛ لو 4: 24 (يبدأ: الحق أقول لكم. هذا يعني أنه لم يستقِ من مرقس). ثم إن لوقا يقدم خبراً يختلف عمّا في مرقس. لا نستطيع أن نجمع الخبرين وننسّق معلوماتهما. ولا نستطيع أن نتحدّث عن زيارتين متواليتين ليسوع إلى الناصرة (لو 4: 16- 30).
ولكن الجوهر ليس هنا. ولا نحاول أن نبني الحدث بالتفصيل. فمرقس يعرف عمّا يتكلّم. لقد عرف فشل يسوع في الناصرة. بيد أنه يعرف أن هذا الفشل حاضر اليوم. ورفض أهل الناصرة مستمرّ. نحن اليوم أهل الناصرة. ويبقى يسوع دوماً لنا موضوع دهشة وحجر عثار. وعدم إيماننا لا يدهش ذلك الذي أعطانا كل شيء. إن عمله الخلاصي يبدو مقيّداً بسبب رفضنا. ولكن يسوع يستطيع أن يعمل بعض المعجزات رغم لا إيمان أهل الناصرة. وهو لا يزال يوزّع مواهبه بدون كلل رغم رفضنا وعمى قلوبنا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM