الفصل السابع والعشرون النازفة وابنة يائيرس

الفصل السابع والعشرون
النازفة وابنة يائيرس
5: 21- 43

طلب الجراسيون من يسوع أن يتحوّل عن ديارهم، ففعل. ركب القارب واتجه إلى الشاطىء المقابل، إلى "أرض اليهود" بعد أن كان في "أرض الوثنيين" حيث حمل البشارة. والجمع الذي علّمه بالامثال (4: 1) وتركه على الشاطىء (4: 36)، بدأ يحتشد حوله من جديد. فجاءه يهودي، رئيس المجمع. أي ذلك الذي يرأس الجماعة هناك. إسمه يائيرس أي ذاك الذي ينير (يائير في عد 32: 41؛ قض 10: 3- 5) أو ذاك الذي يوقظ (يعير. رج في العربية: أعار).
ما فعله يشبه ما فعله مجنون الجراسيين (5: 6). إرتمى على قدَمي يسوع (5: 22). وأخذ يتوسّل إليه مطوّلاً لأن ابنته صارت على فراش الموت.

1- شفاء مريض وإقامة ميت
نجد في التقليد الازائي خبراً في خبرين، خبر إقامة ميت وخبر شفاء امرأة. فشفاء نازفة الدم يقع بين طلب يائيرس من أجل ابنته، وقيامة الإبنة بيد يسوع: "طليتا قومي". إعتاد الإنجيليون أن يعالجوا كل معجزة بشكل مستقلّ، أما هنا فتتداخل المعجزة في اختها، ويبدو أن هذا التداخلِ يتوافق مع تذكر تاريخي. هذا مع العلم أن بعض الشرّاح يعتبر أن المعجزتين كانتا مستقلتين قبل أن تصبحا خبراً واحداً، وذلك بالاستناد إلى فوارق لغوية ولاهوتية.
ثم إننا نلاحظ ان تلك هي طريقة مرقس: إدخال خبر في خبر. هذا ما نجده في 3: 21-35. يأتي أقرباء يسوع ليأخذوه (آ 21-22). ثم يكلّم يسوع الناس "بأمثال". وفي آ 31، يعود مرقس فيقول: "جاءت أمه واخوته..." (آ 31-35). ونجد الشيء عينه في 6: 7-33. يدعو يسوع تلاميذه ويرسلهم (آ 7- 12). هنا يأتي خبر موت يوحنا المعمدان (آ 14-29). بعد هذا، يعود مرقس إلى الرسل الذين عادوا إلى يسوع وأخبروه بكل ما عملوا وعلّموا (آ 30-33). وفي 11: 11- 21، نجد طرد الباعة من الهيكل (آ 15-19) بين لعن شجرة التين (آ 12-14) والعبرة من شجرة التين (آ 20- 21). وفي 14: 1- 11، نقرأ عن المرأة التي سكبت الطيب على يسوع (آ 3-9) بين محاولة قتل يسوع (آ 1-2) وخيانة يهوذا (آ 10- 11) التي هي امتداد للقسم الأول. وحين يفعل مرقس هذا فهدفه هدف لاهوتي. وهذا، واضح بصورة خاصة في 3: 21-35. هناك مقابلة بين الكتبة وأهل يسوع. هؤلاء أقاربه باللحم والدم، وأولئك أقاربه على مستوى الإيمان الواحد والعقيدة الواحدة. وواضح في 11: 11- 21. حال الهيكل ستكون مثل حال هذه التينة.
نجد موازة بين المعجزتين، شفاء النازفة وإقامة إبنة يائيرس. فالرقم 12 نقرأه هنا هناك. فابنة يائيرس عمرها 12 سنة، وهو سنّ الزواج. والنازفة مريضة منذ اثنتي عشرة سنة. ستبدأ حياة جديدة بالنسبة إلى الاثنتين. الأولى تقوم من الموت، والثانية تستعيد امكانية الأمومة. ثم نلاحظ أن الشفاءين تمّا بواسطة اتصال جسدي. شفيت النازفة حين لمست طرف ثوب يسوع. وقامت الفتاة حين أمسك يسوع بيدها. والمعجزتان تمتّا في السرّ لا في العلن. شُفيت النازفة ولم يعرف أحد بشفائها. هي أخبرت. وقامت الصبية ولم يكن في البيت أحد سوى والد الصبية ووالدتها، وثلاثة من التلاميذ هم بطرس ويعقوب ويوحنا. هكذا أراد يسوع أن يحافظ على "السرّ" المسيحاني. وهناك أخيراً موضوعان أساسيان: خلّص وآمن. حين شُفيت النازفة قالت لها يسوع: "إيمانك خلّصك". وحين أخبر الناس يائيرس أن ابنته ماتت، قالت له يسوع: "لا تخف. يكفي أن تؤمن".
أورد متّى (9: 18- 26) ومرقس (5: 21- 43) ولوقا (8: 40- 56) هذا الحدث المضاعف. لخّص متّى كعادته الخبر، فألغى "الوسطاء" الذين قد يحوّلون انتباهنا على حساب يسوع: لا وجود للجمع الذي يحيط بيسوع حتّى "يخنقه". لا وجود لوفد جاء من عند يائيرس يخبره بأن ابنته ماتت. لا وجود لتلاميذ يشهدون للمعجزة. وهكذا يشدّد متّى على إيمان يائيرس الذي لا يطلب شفاء مريضة، بل إقامة ابنته التي ماتت. مقابل هذا، لا نفهم كيف استطاعت النازفة أن "تسرق" العجيبة دون أن يعرف بها أحد، في غياب الجميع. أما لوقا فهو قريب جداً من مرقس، وسيشدّد على الرباط بين الإيمان والخلاص في جواب يسوع إلى يائيرس: "لا تخف. يكفي أن تؤمن وهي ستخلص". (لو 8: 5).
في مرقس نحن على شاطىء البحر (5: 21-22). في متّى، ما زال يسوع على المائدة مع العشّارين. وتأتي عبارة انتقالية (وفيما هو يكلّمهم بهذا) فتجعلنا في خط الأخبار البيبلية (1 صم 17: 23). في 5: 30، سأل مرقس: "من لمسني"؟ أما متّى فألغى هذا السؤال، لإنه يعتبر أن يسوع يعرف كل شيء فلا يحتاج أن يسأل. قال (9: 22): "والتفت يسوع ورآها، فقال".

2- شفاء النازفة
يتضّمن خبر مرقس عشر آيات (5: 25-34)، بينما لا يتضّمن خبر متّى سوى ثلاث (9: 20- 22). وهكذا نرى أن متّى أوجز الخبر ليوجّه كل انتباهنا إلى هذه المرأة التي ترمز الى مسيرة المؤمن الآتي يطلب من المسيح الخلاص (إيمانك خلّصك). أما مرقس فجعل في نصّه عدداً من التفاصيل، سنحاول أن نفهم معناها.
أ- إيمان سطحي في الظاهر
أدخلنا مرقس في عواطف الأشخاص لكي نحيا الحدث في العمق. نحن نغطس في مناخ جموع فلسطين الضاجّة، تدفعها الرغبة إلى مشاهدة معجزة جديدة، هي شفاء إبنة يائيرس. وسار يسوع وسط هذا الصخب يحيط به تلاميذه. ووسط هذا الجمع الذي يزحم المعلّم، ميّز مرقس امرأة جاءت من وراء يسوع. هي امرأة فطنة، ولكنها جريئة في الوقت عينه. هي نجسة، فكيف تدخل وسط الجمع، وكيف تقترب من يسوع؟
وإذ هي تحاول أن تفتح لها طريقاً وسط الجموع إلى يسوع، روى لنا مرقس مرضها الطويل الذي يجعلها نجسة بحسب الشريعة (لا 15: 25: وإذا سال دم امرأة، فلتكن نجسة)، ويحرّم عليها الإتصال بالناس ولمس أي شيء. فكل ما يلمسها يصبح نجساً. ثم يقدّم مرقس اعتباراته حول الأطباء، وثقة هذه المرأة بقوة تخرج من هذا الصانع المعجزات، والشعور السريع بالشفاء. لم يعرف أحد بما فعلت، لم يعرف أحد أنها شُفيت. إلا يسوع.
هذه المرأة تموت ميتة بطيئة. ولكنها سمعت أخبار، يسوع. فقامت بفعلة "قريبة من السحر" لتستولي على قوة سرّية تنبعث من شخص يسوع وتقيم في رداء يلبسه. بل فعلة فيها الثقة الممزوجة بالخوف من هذا النبيّ العظيم: هل يقبل يسوع بأن تلمسه امرأة نجسة؟ وإن عرف الجمع بها فسوف يبتعد عنه. ومهما يكن من أمر، فقد وضعت نصب عينها شيئاً واحداً: الخلاص. وستحاول أن تستقي من قدرة يسوع لتنال الشفاء. قامت بفعلتها. لمست يسوع، فوقف حالاً نزف دمها.
تحدّث مرقس عن عواطف المريضة. وها هو يورد ردة الفعل الداخلية لدى يسوع: أحسّ أن قوة خرجت منه. لم يعرف التلاميذ شيئاً ممّا فعلته المرأة، ولم ينتبهوا إلى المعجزة التي تمّت أمامهم. وسؤال يسوع (من لمسني؟) يبدو في غير محلّه. غير أن يسوع نظر حوله "وبدا مغضباً". بحث عن تلك التي لمسته.
نظر يسوع حوله. ألقى نظرة دائرية. هذا ما فعل مع خصومه (3: 5) ليكشف أفكارهم الخفيّة. هذا ما فعل حين جاءت أمه واخوته (3: 34)، لكي يكتشف القرابة الحقيقية. وهذا ما فعل هنا. ما يريده ليس أن يذلّ المرأة، بل أن يقيم معها اتصالاً شخصياً يجعلها تتجاوز الفعلة السحرية لتدخل في مسيرة الإيمان. نظر، ولكن المرأة لم تستطع أن تتحمل نظره. تزعزعت في جسدها بل في أعماق كيانها. خافت، إرتجفت حين عرفت ما حصل لها. ما حدث في هذه اللحظة صار مبدأ معرفة جديدة، فجعلها تخرّ عند قدميه. وأعاد إليها امكانية النطق: "أخبرته بالحقيقة كلها". ما خلّصها هو إتصال تمّ بين حرية الله وحرية الإنسان. إتصال تمّ في الشفافية. هذا هو إيمانها الذي نبت في أعماق خوفها.
تكلّمت المرأة، فشرح لها يسوع كما شرح للتلاميذ مدلول الفعلة التي قامت بها. ما دفعها إلى فعل ما فعلت هو إيمانها. وبسبب هذا الإيمان نالت الخلاص.
ولكن حين نتعرّف إلى العواطف التي دفعت المرأة إلى لمس يسوع، نحسّ وكأننا أمام موقف ديني بدائي يمزج بين الإيمان والسحر. فما فكّرت فيه المرأة يجعلنا نظن أنها اعتبرت هذا الإنسان الخارق (يفعل المعجزات) كإناء يتضّمن قوى خيّرة قد وضعت في خدمة المحتاجين وهي تعطي نتائج بصورة آلية. هذه نظرة قريبة جداً من السحر. إن الانجيليين قد تحدّثوا مراراً عن هذه القدرة الموجودة في يسوع (لو 5: 17: كانت قدرة الرب تجري على يده الاشفية؛ 6: 19: إن قوة كانت تنبعث منه وتشفي الجميع). وهذه القدرة أعطاها للاثني عشر (لو 9: 1: قلّدهم قدرة وسلطانا). وبمناسبة الأشفية الجماعية، تلاحظ النصوص أيضاً (6: 56؛ مت 14: 36) أنهّم كانوا يبتهلون إلى يسوع لكي يسمح لهم أن يلمسوا طرف ثوبه. فكان كل من يلمسه يُشفى. وحسب أع 5: 15، كان ظلّ بطرس يشفي المريض. وكذلك كانت تفعل المناديل والمآزر التي لامست جسد بولس (أع 19: 12).
ب- إيمان حقيقي بحسب مرقس
قد لا نظهر كل احترام لمثل هذه الأعمال التي ترتبط بأعمال "السحر" أكثر منه بالإيمان بشخص يسوع. ومع ذلك، احتفظ لنا مرقس بهذا التقليد، فلم يحكم عليه كما نحكم عليه. شدّد على ايمان هذه المرأة التي اخترقت سرّ شخص المسيح. ففيه قدرة خفية ولكنها حقيقية، لا يستطيع اللامؤمن ان يكتشفها، ولكنها تنكشف للمؤمن (6: 5-6). هذا التعليم يرافق مجمل لاهوت مرقس: عرف الشياطين قدرة يسوع الالهية، أما الجموع، أما التلاميذ فجهلوها. وحده الإيمان يتيح لنا أن نتعدّى الظواهر. حينئذ يُعطى الخلاص للذي يقترب من المسيح.
وإيمان هذه المرأة مدهش، بل أكثر من مدهش، لاسيّما وأن يسوع هو مسيح خفيّ وغير معروف. تحيط به جموع لا يهمّها إلاَّ المعجزات، وتلاميذ لا يميّزون بين أناس يزحمونه وامرأة مؤمنة تلمسه. لقد ظهر المسيح حقاً وسط البشر. لقد ظهر انساناً وسط أبناء بلدته الذين رأوا فيه إبن النجّار (6: 3). هو يجهل من لمسه، كما سيجهل ساعة الدينونة (13: 32). فالمسيح لم يمتلك بعد قدرة القيامة. ولكن هذه القوة التي تنبعث منه، بل نكاد نقول رغماً عنه، تعلن الخلاص الممنوح لكلّ من يؤمن به.
لم يقل مرقس بوضوح إن شفاء هذه المرأة التي تحدّت شريعة اليهود التي تمنعها من الاقتراب من الناس، لم يقل إن هذا الشفاء يعني أيضاً عودة إلى جماعة المؤمنين الذين ظلوا خارجاً بسبب شرائع طهارة خارجية (لا: 1 ي). هكذا عاد الأبرص إلى الناس، بل ذهب إليهم مبشّراً (1: 45). وهكذا استطاعت هذه المرأة أن تعلن عن نفسها من دون خوف. فاعلان يسِوع الذي ينهي الخبر: "يا ابنتي، إيمانك خلّصك. إذهبي بسلام وتعافَيْ من دائك"، يكشف بُعد المعجزة. لسنا فقط أمام شفاء جسدي نالته هذه المرأة بفضل اتصال خارجي محض مع شخص يسوع. بل نحن أمام خلاص تعلنه كلمة الله وتمنحه لكل الذين يأتون إلي الربّ بإيمان.
وننهي بملاحظة صغيرة حول كلمة يسوع. قال يسوع: تعافي من دائك. وكان مرقس قد قال إن الشفاء تمّ في الوقت الذي فيه لمست المرأة رداء يسوع. صحّح متّى ما كتبه مرقس. قال: "ثقي يا إبنتي، إيمانك شفاك". وهكذا لم يتحدْث متّى عن القدرة السرية التي تنبعث من يسوع. أما مرقس، فتحدّث عن هذه القدرة، ولكنه عاد فربط شفاء المرأة بكلمة يسوع، قال لها: تعافي. فتعافت.

3- إقامة إبنة يائيرس
أ- نداء يائيرس
وأعطانا مرقس هنا أيضاً خبراً مليئاً بالتفاصيل (5: 21- 24، 35-43). جاء يائيرس يطلب شفاء ابنته التي بلغت الثانية عشرة (آ 42). يائيرس هو أحد رؤساء المجمع، أحد المسؤولين فيه. إذن، هو وجيه يهودي يقيم في إحدى المدن الواقعة على شاطىء البحيرة. إن موقفه أمام يسوع يعبّر عن إيمانه: خرّ أمام يسوع. هكذا فعل الشياطين حين إكتشفوا أن يسوع هو ابن الله (3: 11؛ 5: 6). هكذا فعل كل الذين جاؤوا يبتهلون إلى يسوع: الأبرص (1: 40)، المرأة الكنعانية (7: 25). كل الذين رأوا فيه مرسل الله (10: 17: الرجل الغني؛ رج 19:15).
إبنة يائيرس هي في ساعاتها الأخيرة: يجب أن يخلّصها يسوع لكي تحيا (حرفيا: تخلص وتحيا). إذا عدنا إلى متّى نرى أن الفتاة قد ماتت حين يأتي الأب إلى يسوع. فهو إذن يطلب منه أن يقيم ابنته. وهكذا يشدّد الإنجيلي بصورة أقوى على عظمة إيمان يائيرس. غير أن الألفاظ التي استعملها مرقس (تحيا، تخلص، على آخر رمق) تشدّد أيضاً على اقتراب ساعة الموت. لم يعد هناك أمل بشري بالشفاء. عملياً، الابنة قد ماتت.
وطلب يائيرس من يسوع أن يأتي ويضع يديه عليها. إعتاد يسوع أن يضع يديه على المرضى (6: 5: وضع يديه على بعض المرضى فشفاهم). هكذا فعل مع الأصمّ (7: 32) ومع أعمى بيت صيدا (8: 23- 25). وستواصل الكنيسة هذه الممارسة على خطى مؤسّسها (16: 18: يضعون أيديهم على المرضى فيشفون). ونحن نجد هذه الفعلة في أخبار أشفية قديمة. مثلاً، إنتظر نعمان السوري من النبي أليشاع أن يأتي ويضع يده فوق موضع البرص ويشفيه (2 مل 5: 11). الاتصال الجسدي هو ضروري لكي تفعل قدرة النبي (مجترح المعجزات) في المريض. وهكذا نرى كيف أن يسوع أخذ بأعمال البشر العادية، ولكنه حمّلها معنى روحياً كبيراً وسوف يظلّ وضع اليد الذي مارسته شعوب عديدة، هو الذي تمارسه الكنيسة في مناسبات عديدة لتعطي قدرة الله إلى من يتسلّم الأسرار المقدسة، أو إلى مريض يحتاج إلى شفاء.
ب- مؤمنون ولامؤمنون
واختفى يائيرس فترة قصيرة وسط الجموع التي ترافق يسوع. في هذه المسيرة تمّ شفاء النازفة. فجاء أناس يخبرون الأب يموت ابنته، ويقنعونه بأن لا يزعج المعلم بعد الآن: "لا حاجة إلى إزعاج المعلّم". فهم يرون أن محاولة الأب للحصول على شفاء ابنته قد تأخّرت. فالموت قد فعل فعله ولا عودة عنه. "أضاع" يسوع وقته مع هذه المرأة. لو أسرع. ولكن يسوع أراد أن يكون له حوار معها. فهناك أكثر من شفاء جسدي. نظرته بحثت عنها، وها هو يكلّمها.
تكلّم هؤلاء الناس الذين جاؤوا إلى يائيرس فعبّروا عن لا إيمان يضع حداً لقدرة يسوع. ولكن صمت الأب عبّر عن استمرار الإيمان في قلبه. هو لم يستسلم مثلهم، ولم يعتبر أن الأمور انتهت. وإن نقصَه بعضُ إيمان، فسيعطيه إياه يسوع. شجّعه وقال له: "لا تخف. يكفي أن تؤمن". إن يائيرس يحتاج إلى أن يتجاوز خوفه، لأنه سيكون شاهداً لظهور (ابيفانيا) قدرة الله في يسوع.
شدّد مرقس مراراً على الخوف، على الدهشة، على الرعدة المقدسة التي تمسك بالناس الذين يشهدون عجائب يسوع. طرد يسوع الشيطان، فانذهل الناس كلهم وتساءلوا (1: 27). وحمل المخلّع سريره "فخرجوا من نفوسهم" ومجّدوا الله (2: 12). وسكّن يسوع العاصفة، فخاف التلاميذ خوفاً عظيماً. هذه هي عاطفة الإنسان أمام ظهور الله. وبعد شفاء "لجيون، جاء الناس فرأوه "جالساً، لابساً، سليم العقل، فخافوا". هذه هي نتيجة عمل الله (5: 15).
ولكن مثل هذا الخوف قد لا يقود إلى الإيمان، بل يبقينا على مستوى الدهشة والإعجاب والحيرة. لهذا يحضّ يائيرس على أن لا يتردّد في إيمانه، "فكل شيء ممكن للذي يؤمن" (9: 23). هذا ما يقوله يسوع لوالد الابن الذي يقع في داء الصرع.
إن عدم إيمان الناس الذين أرادوا أن يمنعوا يائيرس من إزعاج المعلّم، يشبه عدم إيمان الذين "يبكون وينتحبون"، ويضجّون على موت الصبية. ولهذا هزئوا من كلمات يسوع: "لماذا تضجّون وتبكون؟ ما ماتت الصبية. لكنها نائمة"! ففي نظرة يسوع، ليس الموت شيئاً نهائياً لا مردّ له. إنه رقاد يخرج منه الإنسان بقدرة الله. ولكن من يرفض أن يرى في يسوع قدرة الله، سيصل به هذا الانكار إلى الهزء ثم إلى البغض.
ج- الظهور الخفي
أبعد يسوع عنه كل هؤلاء "اللامؤمنين". اولاً، بعد تدخّل اولئك الذين أرادوا أن يمنعوا يائيرس من عيش إيمانه، ترك يسوع معه بطرس ويعقوب ويوحنا فقط. ثم، لم يستطع إن يدخل إلى البيت إلاّ هؤلاء التلاميذ الثلاثة ووالد الصبية. إن موقف يسوع هذا والأمر بالصمت الذي سيُعطى فيما بعد (آ 43) يوافقان السرّ المسيحاني الذي كان موضوعاً مهماً في إنجيل مرقس. يجب أن تبقى خفية مظاهُر قوّة يسوع: المعجزات (1: 44؛ 7: 36). التجلي (9: 8). وهذا ما يدهش القارىء.
إن كان يسوع قد شدّد على هذا الأمر (حين أقام كل من إيليا والبشاع ميتاً، لم يسمحا لأحد أن يشهد الحدث. 1 مل 17: 19؛ 2 مل 4: 33) فلكي يجعلنا ندرك أن أعمال يسوع وعجائبه المدهشة التي تدلّ على قدرة الله ومجده، هي إعلان خلاص تام يمنحه المسيح في سرّ موته. وموت يسوع وحده ينير مدلول هذه المعجزات. لهذا يتوقّف السرّ مع القيامة. قال يسوع لتلاميذه بعد التجلّي في أن "لا يخبروا أحداً بما رأوا إلا متى قام ابن الإنسان من الأموات" (9: 9). ونزيد هنا ملاحظة ثانية. هناك أعماله تدلّ بصورة خاصة على مسيحانية يسوع حسب أقوال الانبياء وهذه الاعمال يجب أن تبقى سرّية: شفاء الأبرص (1: 43: لا تخبر أحداً بشيء)، شفاء الأعمى، (8: 26: لا تدخل القرية). شفاء الاصمّ (7: 36: اوصاهم أن لا يخبروا أحداً بشيء)، إقامة الموتى (5: 43): "أوصاهم يسوع بشدة أن لا يعلم أحد بما حدث". ولكن كيف يستطيعون أن يخفوا مثل هذه المعجزة؟ المهم هو أن لا يعتبر الناس يسوع مسيحاً مثل سائر المسحاء "السياسيّين". فهو يحمل خلاصاً من نوع آخر. وتمرّ مسيرته في الألم والموت قبل أن تصل إلى القيامة والمجد.
إن حضور بطرس ويعقوب ويوحنا ساعة إقامة إبنة يائيرس، يدخل في تفكير مرقس اللاهوتي. سيكون هؤلاء الثلاثة شاهدين لنزاع يسوع في بستان الزيتون والضيق الذي عاناه خلال الآلام (14: 33). وكان لهم قبل ذلك أن يكتشفوا مجده المقبل على جبل التجلّي (9: 2). وها هم يكتشفون هنا القدرة التي يعطيها هذا المجد الخفي ليسوع على الموت مندْ الآن. هذه القدرة هي استباق للتي سينالها في القيامة.
د- إعلان الحياة الجديدة
في هذا المستوى يتّخذ الخبر كل بُعده. فبساطة فعلة يسوع الذي أخذ الصبية بيدها، وإيجاز الكلام الذي رافق هذه الفعلة، لا ينسيانا أهمية الحدث. أورد مرقس كلمة يسوع في الارامية: طليتا قومي. يا صبية، قولي! قد يكون في جماعة رومة بعض اليهود (أو غيرهم) الذين يفهمون الأرامية. وقد تكون هذه العبارة انتقلت من فم إلى اذن، فأراد مرقس أن يحتفظ بها كما خرجت من شفتي المسيح نفسه. وسيحتفظ مرقس أيضاً بعبارة مماثلة حين يشفي يسوع الاصمّ: "إفاتا" أي انفتح (7: 34). ولا ننسى كلمته على الصليب في الأرامية إيضاً "ايلوئي، ايلوئي، لما شبقتاني، أي: إلهي إلهي لماذا تركتني" (15: 34).
إقامة الموتى حدث مهم، وهو جزء من الآمال المسيحانية. نقرأه في أش 26: 19: "تحيا موتاك وتقوم أشلاؤهم، فاستفيقوا ورنّموا يا سكّان القبور". وفي دا 12: 2: "كثير من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون. بعضهم للحياة الأبدية وبعضهم للعار والذعر الأبدي". إذا كان التعليم لم يكن بعد ثابتاً في مجمل الجماعة اليهودية (رفضه الصادوقيون)، فقد كان من العناصر الأساسية في كرازة يسوع (12: 18-27). لقد أعلن يسوع لتلاميذه مراراً عن موته كما أعلن قيامته. قال في الإنباء الأول: "إن ابن الإنسان يموت قتلاً ويقوم بعد ثلاثة أيام" (8: 31). ويقول الشيء عينه في الانباء الثاني (9: 31) والانباء الثالث (10: 34). وحين جاء وفد يوحنا المعمدان، أورد يسوع قيامة الموتى من بين الآيات التي تبرهن على مجيء الزمن المسيحاني (مت 11: 4-5؛ لو 7: 22) وعرفت الجماعة المسيحية أن يسوع أعطى رسله هذا السلطان: "أقيموا الموتى" (مت 10: 8). وهذا ما سيفعله بطرس حين يقيم طابيتة (أع 9: 36 ي، وبولس حين يقيم افتيخوس في ترواس أع 20: 9- 12). والإنتصار الكامل على الموت، آخر عدوّ يقهره يسوع (1 كور 15: 26) يدلّ على قيام الملكوت في ملئه. وقيامة ابنة يائيرس هي باكورة هذا الإنتصار الذي يجد ذروته في قيامة يسوع
بعد أن أقام يسوع الصبية، "أمر بأن يطعموها". من جهة، نرى لطافة يسوع وشدّة اهتمامه. ومن جهة ثانية (وهذا الاهم)، نجد في هذا الكلام البرهان على واقع قيامة الصبية. لا ننسى ان يسوع طلب من الرسل الذين لم يصدّقوا قيامته: "أعندكم شيء يؤكل؟ فناولوه قطعة سمك مشوي. فأخذ وأكل أمام أنظارهم". وهكذا دلّ على أنه قام حقاً، على أنه حي. ونزيد على تدوين مستوى مرقس لإنجيله، أي في إطار كرازة المسيحية، أننا على مستوى أسرار التنشئة. ماتت الفتاة وقامت فكأنها تقبّلت سرّ المعمودية. وها هي تستعد للافخارستيا (6: 30- 44؛ 8: 1- 9). فالخبز الذي سيكثّره يسوع، يعلن مسبقاً الطعام الروحي الذي يناله المعمّد في موت المسيح وقيامته.
إن إقامة الموتى والحرب على الشياطين وشفاء المرضى، هي آيات تدلّ على عمل الله بواسطة يسوع، وعلى الخلاص الذي يُعطى للبشر. ولكن قيامة المسيح وحدها تستطيع أن تلقي ضوءاً كاملاً على هذه المعجزة. فأي معنى لقيامة مؤقته إن لم يكن في الوقت عينه رجاء بقيامة على مثال قيامة المسيح، وبحياة أبدية؟ فالاعلان الملتبس: "لم تمت الصبية. إنها نائمة"، يفهمنا رأي يسوع في المعجزة التي سيجترحها: نحن نفسّرها بالنظر إلى قيامته. فالحدث لا يظهر منذ الآن على أنه قيامة. لهذا أخفى يسوع المعجزة وتحدّث عن رقاد الصبية. فالذين هزئوا بيسوع، لا يستطيعون أن يؤمنوا بقيامة الموتى إن لم يؤمنوا بقيامة يسوع. لا يقول لنا مرقس في نهاية الخبر ردّة الفعل عندهم، ولا خزيهم، ولا إعجابهم: فهؤلاء الناس لا يستطيعون بعد أن يفهموا.
أما بطرس ويعقوب ويوحنا، فيكونون كرسل الشهودَ الرئيسيين لقيامة يسوع. لهذا كان لهم هذا الحدث دلالة على انتصار المسيح على الموت. منذ ذاك الوقت، كانوا الشهود الممّيزين لانتصار المسيح، فرأوا في قيامة ابنة يائيرس اعلاناً عن قيامة جميع المسيحيين في المسيح. ولكن سننتظر الفصح والقيامة لكي يظهر عمل يسوع وشخصه في ملء نور الله.
نكتشف التفسير المسيحي للحدث في ألفاظ استعملها مرقس: كاتادين (رقد، نام)، اغايرو (استيقظ)، اناستامي (قام). نجد هذه الالفاظ في نشيد مسيحي قديم استعمل في ليتورجية العماد: "إستيقظ أيها النائم وقم من بين الموت، والمسيح يضيء لك" (أف 5: 14). هذه الكلمات التي تصوّر الكرازة المسيحية عن قيامة المسيح، وقيامة المسيحيين في المعمودية، تلقي ضوءاً على المعجزة التي صنعها يسوع. فهذا العمل يدّل على قدرة ابن الإنسان على الموت، ويعلن انتصاره النهائي عليه. وفعلة يسوع حين أخذ الصبية بيدها، تدلّ على أكثر من اتصال جسدي منظور. إنها تدلّ على تدخّل يد الله القديرة في عمل الخلاص (أش 41: 13).
لم يعد الموت يسيطر على الإنسان. إنه رقاد. وستأتي قدرة الله الظاهرة في يسوع، فتنتزع الإنسان من الموت وتعيده إلى الحياة.

خاتمة
نحن هنا أمام الخلاص الذي يحمله يسوع إلى الإنسان. هذا ما تدلّ عليه المعجزتان. فيائيرس جاء يطلب من يسوع لكي "تحيا ابنته وتخلص". وحاولت النازفة أن تلمس يسوع لأنها متأكدة أنها ستخلص. كلاهما اختبرا ضعف الإنسان لكي يمنح لنفسه الخلاص. في هذا الوعي سيتفجّر الإيمان بالمسيح، هذا الإيمان الذي يستطيع وحده أن ينتزع الإنسان من يأسه. ولكن الإيمان ليس يقيناً لا تردّد فيه. فالمسيح "يختبىء" وسط جمع "يهزأ" به ويستعدّ لكي يتركه. هو وحده يستطيع أن يخلّص. ولكن المؤمنين وحدهم يقدرون أن يكتشفوا في ضعف هذا الإنسان (يسوع) قدرة الله وينالوا الخلاص.
أرانا مرقس في يائيرس والنازفة مثلين من مسيرة المؤمن إلى يسوع، وعن جواب يسوع على هذا الإيمان. ولقد أراد الإنجيلي أن ينقلنا إلى أبعد من المعجزة "الجسدية" ليجعلنا ندرك ملء الحياة الذي يعطيه المخلّص للمسيحي بعد أن يتمجّد في آلامه وقيامته

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM