الفصل السادس والعشرون مجنون الجراسيين

الفصل السادس والعشرون
مجنون الجراسيين
5: 1- 20

خبر فيه نكهة ونكتة: فالشياطين لا يكتفون بأن يخضعوا لأمر المسيح فيتخلّوا عن تعذيب ضحيّتهم البشرة. فبعد أن حصلوا على السماح بأن يلجأوا إلى هؤلاء الخنازير التعساء، طُرحوا في البحر مع ضحاياهم الجدد. مرات عديدة نحتار أمام هذه المجموعة من العناصر الخارقة والشعبية، فلا نحتفظ من الخبر إلا بأربع أو خمس مسائل نتجادل حولها ولا ننتهي: هل التقى يسوع ممسوساً واحداً ام ممسوسين إثنين؟ ما هو رأينا بهذه الحالة التي فيها "يمتلك" الشيطان إنساناً؟ ما هو المرض العقلي الذي أصاب هذا الممسوس؟ كيف نبرّر هلاك الخنازير؟ أي مكان من الشاطىء يرتفع عن سطح المياه فيتيح للحيوانات أن ترتمي في البحيرة؟ ما هي القيمة التاريخية لهذا الخبر؟
نحن لا ننكر أهمية هذه الأسئلة. ولكننا نودّ أن نوجّه دراستنا في خط آخر. ولنقلها مرة واحدة: يبدو هذا الخبر، لا سيما عند مرقس، في شكل تصويري وشعبي. وقد يتشكّك البعض من حيوية الرواية وما فيها من نكتة. أما نحن فنندهش أمام المزيج الشيّق الذي يقدّمه هذا الخبر: فبعد أن نشارك المسيح حربه ضدّ الشياطين، وبعد أن نضحك بملء أواهنا من حيلة يسوع على الشياطين. نستعدّ لنفهم بجدية من أي خطر قاتل نجّانا يسوع وكيف أن ابن الله الذي جاء لمساعدتنا قد طرده البشر.
إذن، لنحاول أن نتذوّق جمال الحدث، وأن نستشفّ عمقه الروحي. وخلال دراستنا سنميّز المعنى الذي نسبه كل من الإزائيين الثلاثة إلى هذا الخبر. ففي نظر مرقس، إنتصر يسوع بصعوبة على قوى الشر وغلبها بالحيلة. أما أمام إرادة البشر السيئة، فظلّ ابن الله اعزل بلا سلاح: طرد بعد أن غُلب في الظاهر، فابتعد. ولكنه ترك وراءه شاهداً على هذه الأرض الوثنية. وأرانا لوقا هذا الإنسان الذي هو ضحية الشياطين، وبيّن الخلاص الذي يحمله إليه يسوع القدير. أما متى فرأى في هذا المشهد صورة مسبقة عن الآلام.

1- خبر مرقس
أ- رفيق القبور ومسكن الشيطان
للوهلة الأولى تظهر بداية الخبر عند مرقس بشكل غير مرتّب. ففي سلسلة من الجمل المتداخلة حيث تتكوّم التكرارات والتوكيدات، حاول الكاتب أن يصوّر نزول يسوع على الأرض، وصول المتشيطن، قوته وجنونه. أسلوب مرقس أسلوب حدسي ومليء بالصور. لهذا يأتي ما يكتبه تصويرياً ومتحرّكاً. فتأليف كل نظرة من نظراته، وترتيب كل من متتالياته يتضمّن لاهوتاً عميقاً. فكلمة "قبر" ترد تحت قلمه ثلاث مرات في بضعة أسطر. هل نرى في هذه الظاهرة إشارة إلى تعدّد المراجع (تظهر لفظة "قبر" في لفظتين مختلفتين)، أو نتهم الكاتب بتقصير في الكتابة؟
في التدوين الحالي نحن بالأحرى أمام صورة تسيطر على القارىء وتحمل معنى لاهوتياً: فهذه "القبور" التي تتكاثر على خلفيّة الخبر تدلّ بوضوح على أن الشياطين يرتبطون بالموت. فالإنسان "المملوك" لم يعد ينتمي إلى عالم الأحياء. وعبر هذا الإنسان المهدّد، هي قوة الشياطين والموت تظهر بشكل يفوق الطبيعة، هذه القوة يصوّرها لنا مرقس (آ 3- 4) بأسلوب معبّر: يلفت انتباهنا بتكراراته وتوكيداته. فالسلاسل والقيود تتلاقى فتحيط بنا وتسجننا فتؤثّر علينا أكثر من خطبة مجرّدة.
هذا التصوير الذي يحيط به تكرار "القبور" (آ 3 أ، 5 أ) يتضمّن عدداً من الكلمات تعود مراراً: السلاسل (3 مرات)، القيود، ربط، أحد (مرتين لكل من هذه الألفاظ). ثم فعل "قطع"، حطّم، القريبان الواحد من الآخر. وتكويم علامات النفي يشكّل حشواً ولغواً. وتعود "القيود" و"السلاسل" في آ 4 أ ثم آ 4 ب بشكل معاكس. وأخيراً في آ 4، وبعد "لأن" انتظرنا تفسيراً أول. في الواقع، جاءت الجملة التالية تدخلنا في التفسير الحقيقي الذي نجده في آ 4 ب.
إن أول ردّة فعل عند الممسوس حين رأى يسوع من بعيد، كانت أنه ركض وسجد له. هل نحن أمام حيلة من العدوّ يتظاهر بأنه مسالم ومليء بالإحترام، أم أن الممسوس أحسّ بنفسه مجبراً رغماً عنه أن يخضع لانجذاب سرّي في يسوع؟ ماذا نختار، وهل يجب أن نختار؟ كان مرقس قريباً من التباسات الحياة فلم يتطرّق إلى تفسير سيكولوجي لا يحيط بتشعبّات الواقع المعاش. فالناظر، شأنه شأن الممسوس، لا يعرف شيئاً عن الدوافع العميقة التي دفعت هذا الإنسان المسكين إلى المسيح. فليست السيكولوجيا هي التي تعلّمنا، بل نتيجة العمل الذي قام به يسوع. والكلمات الأولى التي تلفّظ بها الممسوس تدلّ على مزيج من الخوف والحيلة: "مالي ولك، يا يسوع ابن الله العلي! ناشدتك الله أن لا تعذبني"! ها هو هذا الشيطان الخبيث يستحلف يسوع باسم الله. أي مكر، أي مداعبة تجديفية! ولكن حين دلّ يسوع على أنه يعرف اسمه وصفته، جعل نفسه في موضع القوة وتقدّم يرافقه تهديد خفي.
عبر كل ما هو هزء وتهديد ونوايا سيّئة، يجعلنا مرقس نكتشف حقيقة الأحداث والأشخاص. ففي نظر الإنجيلي وقارئه، إن الذين يهزأون بيسوع ويسمونه "النبي" (14: 65). والجنود الذين يضعون على رأسه إكليلاً (تاجاً من الشوك!) (15: 17- 18). والعابرون الذين يطلبون منه أن يعيد بناء الهيكل في ثلاثة أيام (15: 29). كل هؤلاء يعبّرون عن حقيقة عميقة جداً. وقد نكون هنا أمام الوضع عينه: ما يقوله الشيطان تملّقاً وتهديداً، يشكّك في الواقع اعترافاً بسرّ يسوع وإعلاناً له. وفي ساعة المعمودية والتجلّي كان قد أعلن الصوت الإلهي بنوّة يسوع الإلهية (1: 11: انت ابني الحبيب عنك رضيت؛ 9: 7: هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا). أقرّ الشياطين بهذا القول على طريقتهم (3: 11: انت ابن الله؛ 5: 7). يجب أن ننتظر موت يسوع وارتداد الأمم (15: 39: قائد المئة: هذا بالحقيقة إبن الله) لكي تشارك الأرض والسماء والجحيم في هذا الإعلان الشامل: يسوع هو الرب لمجد الله الآب (فل 2: 10).
قال الممسوس: ما لنا ولك؟ إلى من ننسب هذا الإعلان؟ إلى الممسوس أم إلى الشيطان؟ سؤال باطل بالنسبة إلى مرقس الذي لا يميّز الواحد عن الآخر: إن الراوي يصوّر ما يرى وما يسمع. ولكن في الواقع، هو الشيطان يجعل الممسوس يتكلّم. شيطان يعرف أنه في بيته في هذه الأرض الوثنية، فلماذا يهاجمه يسوع في عقر داره؟
كانوا يعتبرون أن العالم مقسوم قسمين: القسم العلوي (الفوقي) يخصّ الله العلي. أما الجحيم والغمر والمياه العميقة فهي مواطن الشياطين. وقسمت الأرض أيضاً قسمين فتوزّعت بين قوتين: أعطيت أرض إسرائيل لله وأرض الأمم للشياطين. وهكذا نفهم ردّة الفعل عند الشيطان: "مالي ولك"؟ لا علاقة بيننا وأنت في أرضك وأنا في أرضي؟ لماذا تتدخّل، لماذا العداء؟ تملّق وتهديد أيضاً. هناك فصل بين أرض وأرض، بين قوّة وقوّة. لماذا يأتي ابن الله العلي إلى منطقة لا تخصّه. هناك "معاهدة ضمنية"! أن يجترح معجزات، أن يقوم بطرد الشياطين في أرض إسرائيل، فهذا أمر عادي! ولكن لماذا يأتي إلى هذه الأرض الوثنية لكي يعذّب الشياطين؟
إن سفر الرؤيا يصوّر العذاب الذي ينتظر الشياطين: "وأما إبليس... فطُرح في بحيرة النار والكبريت، حيث الوحش (يدلّ على ما هو شرّير وألحق الضرر بالكنيسة) والنبي الكذاب أيضاً. هناك يعذّبون ليلاً ونهاراً إلى دهر الدهور" (رؤ 20: 10).
لا ننسى أننا هنا في أرض وثنية. هذا الأمر واضح بالنسبة إلى الإنجيلي وبالنسبة إلى قرّائه. نحن في الجهة المقابلة من البحيرة (هناك جهة يهودية سنعود إليها مع إبنة يائيرس، 5: 22، وجهة وثنية)، في بلاد الجراسيين (5: 1). فاليهودي سواء كان مجنوناً أو ممسوساً لن يقبل يوماً أن يعيش في القبور (5: 3). ثم إن اسم "العلي" قد استعمله الوثنيون ليدعوا إله إسرائيل (5: 7). الشياطين يطلبون أن لا يتركوا هذه المنطقة، فهي أرض وثنية وبالتالي تخصّهم (5: 10). أخيراً إن وجود قطيع الخنازير يدلّ بما فيه الكفاية أننا لسنا في أرض اسرائيل (5: 11).
وإذا أخذنا بعين الإعتبار الرنّة السرية للكلمات، نتساءل: حين صوّر مرقس الممسوس (رأى يسوع من بعد فأقبل إليه 4، 5: 6) أدخل تلميحاً رمزياً إلى وضع الوثنيين الذين هم "في البعيد". نجد هذه العبارة في تكثير الخبز الثاني، الذي يهتمّ بالوثنيين: "بعضهم قد جاء من بعيد" (8: 3). أخيراً يشير هذا النص إلى أف 2: 13 حيث المسيحيون الآتون من العالم الوثني يسمّون: "أنتم الذين كنتم بعيدين".
مهما يكن من أمر هذه التقاربات الدقيقة، من الواضح أن مرقس يصوّر لنا هنا عمل يسوع الخلاصي من أجل إنسان وثني. وبعد وقت قليل، وفي الخط عينه، سيورد مرقس "تقسيماً" (طرد الشيطان) على ابنة امرأة سورية فينيقية (7: 21- 30)، ثم شفاء أخرس ألكن في قلب منطقة الدكابوليس (المدن العشر) (7: 31- 37). وأخيراً، تكثير الخبز الثاني من أجل الوثنيين (8: 1- 10). إن هذه الأحداث "الأممية" (توجّه إلى الأمم الوثنية الموزّعة في العالم) قد رتبت بشكل متصاعد كما في أسرار التنشئة: دعوة يسوع من خلال مجنون الجراسيين، طرد الشيطان (التقسيم في المعمودية) من إبنة المرأة الكنعانية. حفلة المعمودية مع الأصمّ الألكن ولفظة "افاتا" أي انفتح، المرتبطة بسر العماد. وأخيراً حفلة الإفخارستيا من أجل الجموع الوثنية التي جاءت من بعيد، فأكلت وشبعت.
ب- يسوع يهاجم الشرّ
منذ البداية بدأ يسوع هجومه: "أخرج من هذا الرجل، أيها الروح النجس". ولكن هذا الأمر يعطى في صيغة الماضي: "كان يقول له". لا شكّ في أن الماضي يُستعمل مراراً مع فعل "قال" وما يشبهه. ولكن أن يستعمله مرقس وهو الذي يفضّل الحاضر التاريخي، ويستعمله ثلاث مرات في هذه المقطوعة (آ 7، 9، 19) فهذا ما يدلّ على أنه يجب أن نأخذ هذه الصيغة بكل قوتها. ففي كل هذا الخبر إستعمل مرقس صيغاً تدل على عمل يدوم ويتكرّر، صيغاً تصوّر عملاً لا يصل إلى هدنة في الوقت المباشر. لهذا نحن ننتظر الفشل أو أقله صراعاً طويلاً (رج شفاء أعمى بيت صيدا). إذن، يستطيع يسوع أن يكرّر أمره. فالنتيجة تتأخّر، والأمر لا "ينفَّذ" في الحال. لا عجب في ذلك، فنحن في أرض وثنية. ثم، إذا عدنا إلى عقلية ذاك الزمان، نفهم أنه من الضروري أن نعرف إسم المحاور لكي يكون لنا سلطة عليه. أما هنا فالشيطان يعرف اسم يسوع، أما يسوع فيجهل اسم الشيطان. ورغم الأمر الذي تكرّر، رفض الروح النجس أن يطيع لأنه متأكّد من قوته. هل سيكون الفشل نتيجة هذه الحرب؟!
على يسوع أن يأخذ خصمه بالحيلة، أي أن يجبره على البوح باسمه. والماضي المستعمل هنا يجعلنا نستشفّ مقاومة العدو (سأله أكثر من مرة، آ 9)، ويصوّر إلحاح يسوع الذي ينتصر في النهاية. ولكنه انتصار قصير لأن القوة الشيطانية الظاهرة بدت وكأنها لا تُقهر: "إسمي لجيون لأننا كثيرون". ما نستغربه في هذه الجملة هو وجود مزيج من المفرد والجمع. هل يدلّ المفرد على الإنسان "المملوك"؟ أم نحن بالأحرى أمام الكائن الشيطاني؟ أما اسم "لجيون" فيدلّ على قوة التقسيم والتفكيك التي تعمل في هذا الممسوس. بل يدلّ بالأحرى على أن الكيان الشيطاني الحاضر هنا يشكّل قوة عظيمة ومنظّمة (في مت 53:26 تستعمل كلمة لجيون فتدلّ على هذه القوة، على هذا الجيش المنتظم). من يستطيع أن يقهر هذا "اللجيون"؟ أما خاطر يسوع حين هاجمه؟ ولكن يسوع سيفكّك هذا الجيش ويلقيه في البحر. هو جيش من الشرّ صعد من البحر، وها هو يعود إلى موضعه فلا يؤذي الإنسان من بعد.
غير أن "لجيون" بدأ يتوسّل إلى يسوع. انتظرنا حرباً قاسية، فإذا العدوّ يقرّ سريعاً بقدرة الذي أجبره على أن يبوح باسمه. وهكذا بدا يسوع، كما صوّره مرقس، شخصاً يملك قوة لا تنازع. ومع ذلك فهو يُعمل فكره و"حيلته" الروحية ليستعمل قدرته حيث يجب أن تُستعمل.
نجح يسوع في التعرّف إلى اسم الشياطين، فتفوّق عليهم. حينئذ لجأوا إلى التوسّل، كما تقول صيغة الماضي هنا: طلبوا وكرّروا طلبهم، ألحّوا عليه بأن لا يطردهم من خارج أرضهم، من هذه الأرض الوثنية: ولكن يسوع ليس مستعداً للتنازل. ولكن كانت هناك تسوية أملها الشياطين في سؤال جديد (آ 12). تقوم هذه التسوية بأن يبدّل الشياطين موضع إقامتهم. والغريب هو أن يسوع قبل طلبهم. هل مزج بين العطف والضعف؟ هل سيترك الشياطين يغشّونه ويضلّلونه؟ في هذا الهجوم المليء بالحيلة والفخاخ، بدا يسوع في وضع سيّء، وبدا الشياطين وكأنهم سينجحون بأقل ما يكون من التعب. ها هم يفلتون من قبضة يسوع.
يجب أن نتبع تحرّكهم في هذه الجملة المرقسية: هناك حروف الجرّ المنفصلة أو تلك المتّصلة بالفعل، وهي تجعلنا نشاهد انتقال الشياطين. ولكن هذا التحرّك الذي لا يقاوَم، راح أبعد مما كان متوقعاً: إندفع الشياطين وجرّوا في اندفاعهم الخنازير. سقطوا مع الخنازير في البحر. بعد هذا المشهد الذي يصوّر بصيغة فعلية تدلّ على حدوث الأمر مرة واحدة، يرد فعل الماضي لكي يقول لنا إن الخنازير كانت 2000، فاختنقوا كلهم في البحر.
خبر جدّي، ولكنه يتضمّن عنصراً هزلياً وشعبياً. يجب أن نترك الراوي يقودنا، فنحسّ مع السامع أو مع القارىء. أولاً، قلقنا من أجل المسيح، وحاربنا (في قلبنا) معه ضدّ الشياطين. واستشففنا النصر، ولكن بدا العدو وكأنه يفلت، وتوقّف الخبر قليلاً فحبسنا أنفاسنا. وفي النهاية كانت صيحة النصر قوية جداً لأن الضربة القاضية لم تكن متوقّعه على هذا النحو. فالإذن الذي أعطاه المسيح للشياطين بأن يدخلوا الخنازير، كان حيلة عادلة: ظنّوا أنهم يفلتون. فهلكوا وعادوا إلى البحر الذي هو في العقلية السامية موطن القوى الشرّيرة.
لم يكن من قبيل الصدف أو الخطأ أن يكون مرقس قد سمّى بحيرة الجليل "البحر". ففي اللغة العبرية، كل مساحة مياه، سواء كانت بحيرة أو بحراً، تسمّى باسم واحد. إذن، كان من الطبيعي أن يطبّق على البحيرة ما يقال عن البحر. فهناك تصوّرات سامية نعرفها من الكوسموغونيات (نشوء الكون) البابلية والفينيقية، ونجد آثاراً لها في التوراة، لا شك في أن الكاتب الملهم عرف أن يأخذ حذره من السطر الوثنية (رج تك 1: 21: خلق الله "حيتان البحر" التي كانت مؤلّهة). غير إننا إذا شئنا أن نفهم كل التلميحات البيبلية إلى البحر، إلى الغمر العظيم، إلى التنانين البحرية، يجب أن نعود إلى الكوسموغونيات القديمة التي تصوّر الخواء الأولاني بشكل مياه تغمر كل شيء، وتتحدّث عن حرب الآلهة ضد التنانين الخارجة من البحر أو التي تمثل البحر. حينئذ ندرك مدلول المياه المذكورة في تك 1: 2 (توه وبوه= الخواء، الفراغ). ونستشفّ المعنى الديني للوحوش البحرية المذكورة باسم لاويتان (أش 27: 1: مز 74: 13- 14) ورهب (أش 30: 7؛ 51: 9- 10؛ مز 87: 7؛ 89: 10- 11، أي 9: 13؛ 26: 12- 13) أو المصوّرة بشكل تنانين (أي 7: 12؛ دا 7؛ رؤ 12-63). ونحن نكتشف معنى حدث تسكين العاصفة في هذا الإطار: إن المسيح قد كشف بفعلته عن قدرته الخلاّقة وعن سلطانه على قوى الشر (مر 4: 35- 41). ونفهم قساوة سفر الرؤيا على البحر: هو يسير مع الموت والجحيم، ولهذا عليه أن يزول فتحلّ محله الخليقة الجديدة (رؤ 20: 13- 21: 1).
وحين يثب إلى البحر الشياطين مع هذه الحيوانات النجسة التي هي الخنازير (5: 13)، فهذا يعني أنهم عادوا إلى حيث يجب أن يكونوا بقوّة المسيح: إن قوى الشرّ والنجاسة قد حاولت أن تجتاح أرض (تفيض عليها مثل الماء لتغرقها) البشر، فأجبرت على العودة إلى البحر الذي هو موطنها الأصلي. أرجعت إلى الغمر العظيم، وما كان لها أن تخرج منه. نستطيع الآن أن نستخرج من هذه التصوّرات أقله تعليمين: الشر ليس في بيته حين يكون في الإنسان. إنه في جوهره قوّة تدمير: دفع الشياطين الممسوس لكي يهشّم نفسه. وما ان دخلوا (احتلوا) إلى الخنازير حتى قادوها إلى هلاكها.
إذن، عاشت الأرواح النجسة في إطار من الموت. عذّبت الممسوس وجعلته يهشّم نفسه. وفي النهاية قادت ضحاياها الجديدة إلى الموت. ولكن المسيح الذي هدّأ العاصفة وقهر كل القوى الشيطانية في الخواء (أو الغمر العظيم) (4: 35- 41)، قد توصّل أيضاً إلى إخراج قوى الموت هذه من حيث تقيم. طردها من هذا الممسوس المسكين، وأخرجها من الأرض الوثنية ورماها في أعماق البحر.
إن مرقس يشدّد على الرباط بين الموت والشيطان في حدث الإبن المصروع (داء الصرع). فهذا الروح النجس "رمى الصبي مراراً في النار أو في الماء لكي يهلكه" (9: 22). وقبل أن يخرج الشيطان من الصبي، هزّه بعنف فصار الولد كالميت فقال الناس: لقد مات" (9: 26).
ج- وأقبل الناس
وتأتي نهاية آ 14 (أقبلوا ليروا) وآ 15 (جاؤوا إلى يسوع، رأوا المجنون، ارتاعوا) فتصوّران تصويراً كاملاً تحرّك الجموع، وعمليّة التحقيق في ما حدث. إن مرقس يصوّر المشهد بعين الجموع: ها هو المتشيطن (كان فيه شيطان) الذي لم يزل في نظرهم "مملوكاً" (ممسوساً). ها هو جالس، لابس، محتشم، صحيح العقل. بيد أنهم متأكدون أنه هو ذاك الرجل الذي كان خاضعاً كل الخضوع لقبضة لجيون. أي تعارض بين ما يعرفون عن هذا المجنون "المملوك" وما يرون الآن. لهذا أحسّوا بالرهبة والخوف. ولكن هذه العاطفة بدأت تتبدّل حين فُتح موضوع الخنازير. هذا ما يلمّح إليه مرقس بنحافة، فيقطع سياق الجملة ويغيّر اللهجة: "روى لهم الناظرون ما جرى للمجنون... وخبر الخنازير". فجاءت ردّة الفعل سريعة. ألحّوا على يسوع أن ينصرف عن تخومهم. هو الذي قهر لجيون، ها هو يخضع لإرادة البشر وما فيها من سوء. ولكن مع يسوع الذي أظهر كل رجاحة عقله وقوة حيلته في الحرب السابقة، نحن نتساءل: أما يكون خضوعه مرتبطاً بفهم عميق لرسالته المسيحانية؟ طرده الناس وها هو ينصرف الآن في الظاهر. ولكنه لم يقل كلمته الأخيرة. وعلى الذين لاحقوه أن يحذروا من هذا الإله الذي يسلّم نفسه بلا قيد ولا شرط.
أما الآن وحسب الظواهر، فالفشل كامل. غير أن الممسوس القديم طلب في صلاة بسيطة وعميقة أن يكون مع المسيح، شأنه شأن سائر التلاميذ. لم يستجب يسوع طلبه كما عبّر عنه الممسوس. ولكن هذا الرجل الذي نعم بالخلاص قد كلّف بمهمة في بلاده، في الدكابوليس. إنه باكورة المرسلين الذاهبين إلى العالم الوثني: أخذ يذيع جميع ما صنع إليه يسوع وكان الجميع معجبين. تلك كانت أيضاً ردّة الفعل عند الذين يسمعون يسوع.
لماذا لم يسمح يسوع لهذا التلميذ الجديد أن يتبعه؟ لا شكّ في أن ساعة الوثنيين ما دقّت بعد. فلا بدّ من تهيئة الطريق. وأبعد من هذا السبب المباشر، نفهم مع مرقس أن يسوع الذي طرده البشر من هذه الأرض الوثنية، قد ترك له شاهداً في بلاد الجراسيين. هكذا كانوا يقولون عن بولس الذي ارتدّ إلى المسيح. وقد يقولون الشيء عينه عن مجنون الجراسيين.
وهذا الشاهد الذي أمره يسوع بأن يخبر بما صنعه الرب له، أخذ يذيع ما صنعه يسوع له. فالموازاة بين يسوع والرب الإله، قد أرادها مرقس ليلمّح إلى دور يسوع كمخلّص، وإلى اتحاده بالله أبيه. ما يعمله الآب يعمله الإبن مثله. وحملت كرازة المجنون ثمارها وانتهى الخبر كما قلنا: "كان جميع الناس يتعجّبون".
وقد نلقي ضوءاً على هذا النصّ فنكتشف التأثرات التي عملت في تكوينه. هناك مثلاً موازاة بين هذه المقطوعة وأش 65: 1- 5 (ظهرت لمن لا يسألون عني، ووجدت لمن لا يطلبونني، وقلت ها أنا هنا لأمة لا تدعو باسمي... يجلسون ويبيتون في المدافن... يأكلون لحم الخنزير). فعبر تقرّبات مباشرة (في القبور، لحم الخنازير، يقولون: إبتعد، لا تقترب)، نجد في هذين النصّين تشابهاً حقيقياً. فنحن في كلا الحالين أمام دراما واحدة: يتقدّم الله متوسّلاً إلى أناس متمرّدين. أما هم فيرفضون حضوره ويطردونه. وتنتهي هاتان المقطوعتان بشكل مختلف جداً: عبّر أش 65 بوضوح عن غضب الله (سألقي على رؤوسهم عقابي، آ 6). أما في مرقس فالأمور جرت على ما يرام بفضل كرازة الشاهد الذي أرسله يسوع.
وهذه النهاية الرسالية والكرازية والكنسية في مقطوعة مرقس لها معناها العميق وأهميتها. وهي تعطي الخبر كله وجهته الرئيسية. فلا يجب أن ننسى أن هذا الجزء من مرقس (3: 8-6: 6) الذي يقع فيه مر 5: 1- 20 يتركّز على تكوين التلاميذ.
لهذا، نحن نجهل موقف مرقس. ففي هذا الخبر الذي فيه تمتزج امتزاجاً عجيباً البلادة والنحافة، العناصر الشعبية والعمق اللاهوتي، يصوّر لنا مرقس يسوع في وجه القوى الشيطانية وفي وجه البشر. فالشياطين قُهروا رغم قوّتهم. أما البشر فتحريرهم صعب بسبب تمرّدهم وشهواتهم. هكذا يكون الوضع في وقت الآلام. فوراء هذا الفشل الظاهر، ها نحن أمام وحي ساطع لإله يسلّم نفسه "مقيّداً" في يد البشر. فكيف يستطيعون أن يسمعوا شهادة مرسلي المسيح دون أن يتعجّبوا؟ كيف يستطيعون أن يكتشفوا حنان الرب المدهش دون أن يتعجّبوا؟ هكذا كان زمن المسيح وهكذا سيكون زمن الكنيسة.

2- رسالة في الدكابوليس
ونعود إلى النص نستقرئه على ضوء سر ملكوت الله. ذهب يسوع يبشر في منطقة وثنية فيطرد منها، فيذهب إلى منطقة أخرى (6: 11: إذا اضطهدوكم في مدينة)، ويترك وراءه من يشهد له في عالم يُعتبر "مملكة الشيطان"!
أ- لقاء محرّر (5: 1-17)
نجت المجموعة المؤلفة من يسوع وتلاميذه من الموت (بسبب العاصفة، 4: 35-39)، فوصلت إلى الشاطىء المقابل من البحيرة. وصلوا إلى أرض الجراسيين. إذن، انتقل يسوع إلى أرض غريبة، إلى أرض كانوا يقولون عنها إن الله لا يصل إليها (خاف داود أن يموت في أرض وثنية. ويونان هرب إلى ترشيش لأنه ظن أن يد الله لا تصل إلى هناك).
وواجه يسوع الأرواح النجسة لا في مخبأها البحري، بل على الأرض حيث هي السيدة. والعلامة على ذلك: رجل يقيم في القبور. قطيع من الخنازير على رأس الجبل. لو نظر يهودي إلى هذه الصورة، لقال: إنقلب العالم رأساً على عقب: كيف يستطيع الحي أن يقيم بين الموتى (مز 88: 4- 10)؟ وكيف يستطيع خنزير، وهو حيوان نجس، أن يرعى على الجبال التي هي مكرّسة للصلاة والعبادة؟
رجل يعيش على هامش المجتمع. لا شخصية له. لا إسم له، فاسمه من اسم الشياطين الذين يسكنونه. رجل هو خطر على نفسه وعلى الآخرين: يهشّم نفسه بالحجارة ويحاول دوماً أن يقتل نفسه. لا يستطيع أحد أن يضبطه. ومن يستطيع أن يقيّد الموت؟
ومع ذلك، يا للمفارقة! هذا الرجل هو حرّ أكثر من الذين رذلوه فعاشوا لا ينتظرون شيئاً غير حياة ماديّة مؤمّنة. أما هو المنبوذ فهو صرخة وجرح. إنه علامة عن نجاسة العالم البعيد عن الله: كلّ الزمان الذي يعيش فيه (ليلاً ونهاراً، آ 5؛ رج 4: 27)، كل المكان الذي يتحرّك فيه (القبور التي هي عالم الموت، والجبال التي هي موضع العزلة) يعيدان إليه صوته وصراخه ويزيدان ألمه ألماً. حين ننظر إليه نتذكّر وضع البار المتألّم: "في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرّك ساكناً، امتنعت عن نجدتي وسماع أنيني" (مز 22: 2- 3؛ أش 52: 14؛ 53: 3).
رأى الرجل يسوع فأقبل إليه. وصرخ بصوت جهير. هكذا فعل الروح النجس في مجمع كفرناحوم (1: 26). وهكذا فعل يسوع على الصليب (15: 34، 37). هذه هي صرخة الموت. ولكن يسوع يريد لهذا المتألّم الحياة.
الأرواح النجسة تخاف من يسوع في أرض يهودية أو في أرض وثنية. ممسوس كفرناحوم رأى في يسوع "قدّوس الله". نحن في عالم يهودي. ومجنون الجراسيين استعاد لقب الإله الفينيقي: الإله العلي أو إله الأعالي (رج تك 14: 18- 20). من عمق قبره وجّه صلاته إلى ذاك الساكن في الأعالي (مز 121: 1- 2؛ 130: 1- 2). وسيكشف له يسوع "إبن الله العلي" أصل آلامه وانفصام شخصيته.
وانكشفت الأرواح النجسة. فالإنسان والشيطان موحّدان في شخصية مفكّكة. اسم الشيطان لجيون هذا يدلّ على الحرب، على حضور المحتلّ. اسمه لجيون. ولكن هذا ليس باسم علم. إنه مجموعة لها قوتها. ألا يخاف يسوع منها وهو فرد أعزل؟ وقدّم يسوع إلى هذا الإنسان المقسَّم إمكانية حياة جديدة: يجب عليه أن يتجاوب مع نداء المسيح بحرّية، ويخرج من انفصامه الداخلي. ومقاومته تدلّ على أن قدرة الله قد أصابته في الصميم.
وانكشفت الأرواح النجسة، وصار طردها قريباً. ودخولها في الخنازير واندفاعها إلى القبر كشفت في صورة "منظورة" خلاص الإنسان من عالم الشرّ الذي كان يقيّده. أجل، يسوع هو حقاً الأقوى الذي يهزم "الرجل القوي" (رج 3: 27) الممثّل هنا بلجيون أو بألفين من الخنازير.
وتدخّل رعاة الخنازير بعد أن حرموا من لقمة عيشهم النجسة. تجاوزتهم الأحداث فلاذوا بالفرار وحملوا الخبر الذي هو "إعلان" وبشرى (فعل أنجل، الإنجيل) إلى المدينة والمزارع. جاء الناس ورأوا. خافوا مثل التلاميذ بعد تسكين العاصفة (4: 41). وهذا الخوف يعني أنهم تزعزعوا في آرائهم وفي رخاء حياتهم. فأخبرهم الشهود بما جرى. طلبوا من يسوع أن يتحوّل عنهم. فهو يهدّد قطعانهم، بل يهدّدهم هم أنفسهم. من هو هذا الرجل الذي يبلبل إلى هذا الحدّ وجودهم وحياتهم؟ لماذا لا يزيلونه؟
ب- انصرف يسوع وترك شاهداً له (5: 18- 20)
من هو هذا الرجل؟ سؤال لم يطرحه الناس. بل طرحه الإنسان الذي تحرّر من الأرواح النجسة. طرحه بشكل سؤال يريد، أن يوجّه حياته الجديدة. توسّل إليه "أن يكون معه". أراد أن ينضّم إلى الإثني عشر الذين اختارهم يسوع ليكونوا معه (3: 14). ولكن رسالة التلميذ هي نعمة مجانية. والمبادرة فيها تعود كلها إلى يسوع. فهي لا ترتبط بإرادة انسان من الناس. هذا ما حدث للمخلّع الذي شفي من خطيئته ومن مرضه. قال له يسوع: إذهب إلى بيتك (2: 12). وهذا ما طلب من "لجيون" أن يفعل: أن يذهب إلى بيته وإلى أهله ويخبرهم. بدأ الرعاة "البشرى" (5: 14) من حيث لم يدروا ولم يريدوا. أصابهم ما أصاب يونان الذي حمل حضور ربّه مع الملاّحين في السفينة غصباً عنه (يون 1: 9 ي). أصابهم ما أصاب الأبرص الذي أرسله يسوع ليري الكاهن نفسه ويعمل ما تطلبه منه الشريعة. أذاع الأبرص الخبر لا في الهيكل وحسب، بل في كل مكان (1: 45). بدأ رعاة الخنازير، وتابع مجنون الجراسيين، فنادى برحمة الله وإحسانه إليه.
مع آ 20 نصل إلى ذروة الخبر. إن اليهودي الأبرص الذي طهّره المعلّم من برصه، لم يُدعَ ليتبع يسوع، بل لأن يذهب ويعلن (كاروسو) الكلمة مطوّلاً (1: 45). يعلنها في العالم اليهودي، بل في قلب العالم اليهودي، في الهيكل. وها هو وثني يرسل الى الدكابوليس ليعلن (كاروسو) أيضاً ما عمله يسوع له. هو لا يستطيع بعد أن يحمل الإنجيل، ولكنه يهيّىء الناس ليسمعوه. إنه يشبه أبلوس الذي أخذ يعلّم ما يختصّ بيسوع. أخذه اكيلا وبرسكلة وأكملا تربيته الدينية (أع 18: 24 ي). ومن يدري؟ قد يكون هذا الذي لا اسم له أول من حمل البشارة في الأرض الوثنية.

3- الخبر في لوقا ومتى
أ- الخبر في إنجيل لوقا (8: 26-39)
حين نقرأ نصّ لوقا عن مجنون الجراسيين (8: 26-39) للمرة الأولى، يبدو الخبر قريباً مما في مرقس. في الواقع، إحتاج لوقا إلى بعض التعديلات الطفيفة لكي يُعطي الخبر اتجاهاً مختلفاً. سيطر على خبر مرقس موازاة بين حرب المسيح ضدّ الشياطين (وانتصاره عليهم) وفشله أمام البشر. أما لوقا فركّز خبره كله على الإنسان الذي تحرّر من الشياطين وخلصته قدرة يسوع.
في بداية الخبر، قال لوقا (آ 26) إننا في بقعة الجراسيين "التي تقابل الجليل": إذن هو وثني يعيش على أرض وثنية، سوف يستفيد من قدرة يسوع. وهذا التقسيم (= طرد الشياطين) هو صورة مسبقة عن الخلاص الذي يُحمل إلى جميع الأمم. وصورة الممسوس (آ 27) لا تدلّ على وحشية الشياطين بقدر ما تدلّ على الحالة اللاإنسانية التي يعرفها هذا الكائن المسكين. إنفصل عن أهله، استبعد عن عالم البشر، عاش بدون لباس، فلا منزل له إلا موطن الموت. لا يحتفظ لوقا هنا إلا ببعض السمات التي تنطبق بشكل مباشر على الممسوس. وهكذا يجعلنا ننتبه إليه، نشفق عليه. أما بقية الصورة التي نجدها عند مرقس، فقد نُقلت إلى موضع تبرز فيه قدرةُ الشياطين (التي تفوق البشر) قدرة يسوع الإلهية (آ 29- 30). أما الآن فيقدّم إلينا قسم من الحوار بين يسوع والممسوس (8: 28-29 أ). إن نصّ لوقا هو قريب من نصّ مرقس، غير أنه يتحاشى المداعبة التجديفية التي وجدناها في نصّ مرقس. ورفض الطاعة الذي تشير إليه صيغة الماضي في آ 29 أ، يفسّر بصورة عن قدرة الروح النجس التي لا شيء يقيّدها (آ 29 ب). ولكن لوقا يستبعد في هذه الآية كل مزج بين الروح الشرير وضحيّته البشرية: في بداية آ 29، يتوجّه يسوع بصريح العبارة إلى الروح النجس. وفي وسط هذه الآية عينها، يوضح النصّ أن الروح سيطرت على هذا الرجل. وفي النهاية، هو الشيطان الذي يجتذب الممسوس إلى الأماكن المقفرة.
وفي النهاية خضع الشياطين لقدرة يسوع فكشفوا عن اسمهم. وها هم يتوسّلون إلى يسوع "بأن لا يأمرهم بالذهاب إلى الهاوية". فلفظة "الهاوية" خاصة بلوقا، وهي مع فعل "خلّص" أحد مفاتيح الخبر. إذ كان لوقا يكتب لقارئين يونانيين (في أكثريّتهم)، تحاشى أن يسجن نفسه في عالم من التصوّرات السامية: فموضوع البحر مع رنّته البيبلية (كما نجده عند مرقس) قد تحوّل معناه. فمساحة المياه التي تُستعمل كإطار للخبر، لم تعد هنا "البحر" بل فقط "البحيرة" (آ 33). غير أن الفكرة الأساسية (موضع القوى الشيطانية) قد استعيدت في لفظة "الهاوية". هي لفظة غنية بالتصورات كما يشهد على ذلك رؤ 20: 1 ي: "ورأيت ملاكاً هابطاً من السماء ومعه مفتاح الهاوية، وبيده سلسلة عظيمة. فقبض على التنين، الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، وقيّده لألف سنة. وطرحه في الهاوية وأقفلها وختمها عليه" (رج رؤ 9: 1، 2، 11؛ 11: 7؛ 17: 8، تعني الهاوية البحر في خر 15: 5؛ أش 44: 27؛ 51: 10؛ 63: 13؛ يون 2: 6، كما تعني عالم الأرواح ومثوى الموتى في مز 71: 20؛ روم 10: 7).
إذن، الهاوية تمثّل (على ما يبدو) الموضع الذي فيه تسود الأرواح الشريرة. خرجوا من هناك لكي ينجّسوا الأرض. ولكن يسوع انتصر عليهم فأجبرهم على العودة إلى مساكنهم، وهكذا تنفتح أمامنا مع هذه اللفظة نظرة إلى الصراع الأساسي بين يسوع وقوى الشرّ. نحن الذين نعرف أن يسوع لن يتوقّف عند هذه المعركة الصغيرة، بل يتابع عمله حتى النهاية في إرجاع قوى الشر إلى الهاوية وتخليص البشر، نفهم مع لوقا أن هذا الخبر يوجز الفداء المسيحي وينيره بضوئه.
وبانتظار الساعة الحاسمة، إنتصر يسوع على أعدائه. ولكن في هذا الخبر (يختلف عن مرقس) الذي أنار صراع يسوع مع الشياطين، صوّر لوقا هزيمة الشياطين وزوالهم في البحيرة، وفي الوقت عينه شدّد على تحرير الإنسان. "خرج الشياطين من الرجل" (آ 33).
ونجد هذا الإنتباه إلى مصير الإنسان في الصورة التالية (آ 34- 36). لا يشركنا الخبر (كما في مرقس) في دهشة الناس الذين وصلوا، بل يجعلنا حاضرين بشكل مباشر أمام واقع مهمّ وهو: قد تخلّص هذا الرجل الآن من الشياطين. وعادت إليه كل صفاته الإنسانية (لابس، سليم العقل). وقد جلس عند قدمَي يسوع في وضع التلميذ (آ 35). وهناك كلمة يضعها لوقا في فم الشهود، وهي تفهمنا كل شيء: "أخبروهم كيف خلص ذاك الذي كان متشيطناً" (مجنوناً) (آ 36). لسنا فقط أمام شفاء، بل أمام خلاص حمله ابن الله. الآن، هذا الخلاص ما زالت محدوداً. ولكن بعد وقت قصير، سوف يمتدّ إلى جميع البشر الذين ينجون من قبضة الشر. يصيرون سليمي العقل ويجلسون عند قدمَي يسوع ليتعلّموا مثل مريم التي اختارت النصيب الأصلح (10: 42).
أمام هذا الحدث النبوي الذي يعلن خلاص الحاضرين، ما هي ردّة فعلهم؟ إن الشهود الذين يخبرون بما حدث (في لوقا) لا يلمّحون إلى الخنازير: لقد تركّز كل شيء على الإنسان الذي خلص (آ 36؛ ق مر 5: 16؛ مت 8: 33). وهذا الخوف (عند لوقا) لا يرتبط أبدأ بخسارة مادية تتعلّق بالخنازير. بل هي صدى لمخافة مليئة بالاحترام استولت على الجموع حين رأت المتشيطن القديم قد تحوّل، قد شُفي، قد خلُص (آ 35). ونستنتج من هذه الإغفالات وهذه التلميحات أن لوقا أراد أن يفهمنا بلباقته أن الجراسيين لم يطردوا يسوع من أجل منفعة مادية. بل أحسّوا بتواضع عميق، ودفعتهم مخافة مقدّسة، فطلبوا منه أن يبتعد عن أرضهم. وهكذا جاءت فعلتهم تشرّفهم. أراد لوقا ورفاقه أن يردّوا هذه الشعوب وكل الأمم الوثنية إلى المسيح، فقدموا لنا عنهم هذه الصورة الجميلة.
والحدث الأخير في الخبر (آ 38-39) يشبه ما في مرقس (5: 18- 12). أراد المتشيطن القديم أن يتبع يسوع، ولكن يسوع سلّمه مهمّة لدى أهله. لم يتكلّم لوقا عن المتشيطن القديم (رج مر 5: 18)، بل عن الرجل "الذي خرجت منه الشياطين! (آ 38). الفرق بعيد. وأخيراً لم يحتفظ لوقا بما قاله مرقس (5: 20) عن تعجّب الجموع بعدما أخبرهم المتشيطن القديم بما عمل له يسوع. لقد سبق له وأشار مرتين إلى خوف الجموع، وفسّر هذا الخوف كعاطفة إعجاب متواضع. لهذا لم يحسّ بالحاجة إلى العودة إلى هذا الموقف. وهذا الإلغاء أتاح للوقا أن ينهي خبره بفكرة كرستولوجية. كان قد وازى مرقس بين الرب ويسوع. قال يسوع: أخبرهم بكل ما صنع الرب لك وكيف اشفق عليك. فذهب وأخذ يذيع في الدكابوليس كل ما صنعه له يسوع (مر 5: 19-20) (يسوع هو الرب). حسّن لوقا الموازاة بين العبارتين فقال: كل ما صنع الله لك. كل ما صنعه له يسوع. وهكذا شدّد بوضوح أكبر على الرباط بين الله ويسوع. فالمسيح يعيد كعادته كل شيء إلى أبيه. ولكن الخلاص يصل إلينا بواسطة المسيح. ففي الموازاة بين تعبيرَي لوقا، نجد وحدة العمل بين الآب والإبن.
إذن نستطيع أن نجمل خبر لوقا في ثلاث كلمات أساسية: الهاوية، خلّص، المخافة. إختلف لوقا عن مرقس الذي وازى بين انتصار المسيح على الشياطين وفشله الظاهر أمام البشر، فقدّم لنا إنساناً مسكيناً عبر القوى الشيطانية. نجّاه يسوع وخلّصه. إن هذا الخبر يعلن ويقدّم صورة مسبقة عن العمل الفدائي الذي قام به المسيح القدير: سيرمي في الهاوية أرواح الشرّ، سيخلّص البشر بمن فيهم الوثنيون، وسيحرّك عند الجميع هذه المخافة المليئة بالإحترام لله في شخص يسوع.
ب- الخبر في إنجيل متى (8: 28-34)
إن مقطوعة متى لا توازي نصف مقطوعة مرقس. ونصف الألفاظ التي يستعملها نجدها عند مرقس. فما هي العلاقة الأدبية بين الإنجيلين؟ يبدو أن متى لا يرتبط هنا مباشرة بمرقس. وإذا أخذنا بعين الإعتبار فرضية الينبوعين، نستطيع أن نرى في خبر متى نموذجاً عن مقطوعة تنتمي إلى الينبوع الثاني الذي هو إنجيل متى الأرامي (الينبوع الأول هو مرقس). كان لهذا الإنجيل الأرامي ولتقليد مرقس أصل مشترك في الكرازة الأولانية، وهذا ما يفسّر التشابه بين مت 8: 28- 34 ومر 5: 1-20. هل يمكن مع هذه المقطوعة أن نعيد تكوين هذا التقليد الأولاني الذي ينحصر في ما هو مشترك بين متى ومرقس؟ هذه المحاولات لا تقنع أحداً رغم فائدتها، لأن متى لم يعتد أن يبسّط التقاليد التي يتسلّمها، ولا أن يوجزها في رسمة بسيطة.
أجل، متى هو أقصر من مرقس، وأقصر من لوقا أيضاً. ولكن يجب أن لا نتوقف عند نظرة سطحية. فلوقا القريب جداً من التقليد المرقسي أعطى لخبره توجيهاً مختلفاً عن توجيه مرقس. أما متى الذي هو من الناحية المادية بعيد عن التقليد المرقسي، فقد تلاقى مع لوقا في اهتماماته. لا شك في أن متى تألّم من موقف الرفض الذي وقفه البشر (خاصة أبناء وطنه) من آلام المسيح، كما من الكرازة الإنجيلية. لقد لاحظ هنا أن إقناع الشياطين أسهل من إقناع البشر.
لا يورد متّى طلباً وجّهه إلى يسوع المتشيطنُ القديم الذي رغب في أن يكون مع مخلّصه. وهكذا تبسّط خبر متّى فانقسم قسمين واضحين: يسوع والشياطين، يسوع والبشر.
أولاً: يسوع والشياطين (8: 28- 32)
منذ البداية بدا الإختلاف الواضح بين متى والتقليد الذي اتبعه مرقس ولوقا. فهما لا يعرفان إلا متشيطناً واحداً. أما متى فيحدّثنا عن متشيطنين إثنين (كيف نتخيّل حياة مشتركة بين هذين المتشيطنين المتوحّشين). نلاحظ بعض المرات أن متى يقدم شخصين (أعميان قرب اريحا، مت 20: 30) أو حيوانين (في دخول يسوع إلى أورشليم، مت 21: 2، 7، كيف يركب الإثنين معاً؟) حيث لا يقدّم مرقس ولوقا إلا شخصاً واحداً (أو حيواناً واحداً). نحن هنا أمام إهتمام لاهوتي. فالرقم إثنان هو العدد المطلوب لكي تكون الشهادة صحيحة بحسب الشريعة. والعدد إثنان يشير إلى الشعبين (اليهودي والوثني) اللذين جاء يسوع يخلّصهما وينيرهما (اغوسطينس مع أعميي اريحا، مت 20: 30).
إرتبطت القوى الشيطانية (كما عند مرقس ولوقا) بالقبور يعني بالموت. ثم إنها منعت الناس من المرور. وموضوع الطريق متجذّر تجذّراً عميقاً في العقلية السامية. فعلاقات الإنسان مع الله تصوّر بشكل طريق نسير فيه (مت 20: 17 ي وطريق يسوع إلى اورشليم. ولا ننسى صعود يسوع إلى أورشليم، في لو 9: 51 ي). والخلاص يعتبر خروجاً (عبوراً، طريقاً) جديداً. والمسيح يقدّم نفسه على أنه الطريق (يو 14: 16). وأول المؤمنين سمّوا "أهل الطريق" (أع 9: 2؛ 18: 25- 26، أو طريقة حياة).
إذا أخذنا بعين الإعتبار هذه العقلية وهذه الطريقة في التعبير. إذا لاحظنا وجود هذه الصور في كرازة يسوع وإنجيل متى (7: 14). إذا أعطينا قوتها للأداة المفخمة "تلك" (الطريق، آ 28)، سوف نعطي لتصوير متى معنى رمزياً أو روحياً: إن قوى الشرّ التي هي قوى موت تغلق الطريق أمام البشرية. إنها تمنعنا من العبور إلى الله ومشاركته في حياته السعيدة.
والسؤال الذي طرحه المتشطينان يشبه ما نجده في مرقس ولوقا: "ما لنا ولك يا ابن الله؟ أجئت إلى هنا لتعذّبنا قبل الأوان"؟ غير أن العبارة "قبل الأوان" (كايروس) تعطي الجملة والتقسيم كله علامة مميّزة (رج لو 4: 3: إبتعد الشيطان عن يسوع حتى الأوان المحدّد. رج مت 16: 3 وعلامات الأزمنة. مت 26: 18 حيث يعلن يسوع: زماني قد اقترب؛ رج مر 1: 15؛ يو 7: 6-8). بهذا التلميح، يبدو عمل يسوع استباقاً لصراعه وانتصاره في آخر الأزمنة. لا شك في أن مجرّد عودة ابن الإنسان في المجد يضع حدّاً لقوى الشر. غير أن متى يرى (ومعه القارىء المسيحي) أن انتصار الفصح يجعلنا في نهاية الأزمنة. فالمسيح قد دشّن بموته وقيامته الأزمنة الجديدة، وقهر قوى الشرّ. وقبل هذه "الساعة" الحاسمة، ورغم تواضع يسوع في امحائه، فهو يواجه الشياطين وينتصر عليهم لأنه شخصياً سرّ هذا الملكوت الجديد. وهكذا يقوم تواصل عجيب بين عمل يسوع على الأرض، وعمل المسيح القائم من الموت، وعمل الرب في نهاية الأزمنة.
طرد يسوع الشياطين بسهولة. هذا ما يظهر عند متى: حضور يسوع وحده يكفي ليحرّك القلق والتوسّل عند الشياطين. ثم إن كلمة واحدة من يسوع تكفي لكي يذهبوا إلى حتفهم (8: 32).
إن متى يشدّد عبر أخبار حياة يسوع على الأرض، على صورة المسيح الممجّد. ونلاحظ هنا تشديده على سقوط الخنازير في البحر وموتهم في المياه. أما نستطيع أن نرى في ذكر المياه تلميحاً إلى مياه المعمودية التي تبتلع في الموت قوى الشرّ في الإنسان.
ثانياً: يسوع والبشر (8: 33- 34)
كان انتصار يسوع سهلاً (نسبياً) ضد قوى الشر. ولكنه ماذا يستطيع أن يفعل أمام إرادة البشر السيئة؟ اذا كان حرّاس الخنازير قد انطلقوا الى المدينة "ليخبروا بكل شيء وبأمر المتشيطنين"، يجب أن نفهم أن "كل شيء" يتميّز تمييزاً واضحاً في نظرهم عن "أمر المتشطينين". إذن، ما يهمّهم هو فقط مصير قطيعهم. وهكذا تعلّقوا بأموالهم فكانوا صورة مسبقة عن الأغنياء الذين تمتلكهم ممتلكاتهم فيطلبون من يسوع أن "يتحوّل عن تخومهم".
اللفظة المستعملة هنا لتدلّ على طرد يسوع لها معناها. فهي تشكّل كلمة أساسية ثانية بعد "كايروس" في آ 29. نحن نجد هذا الفعل في إطار الساعة الاسكاتولوجية في بداية الآلام حسب القديس يوحنا: "قبل عيد الفصح، عرف يسوع أن ساعته جاءت لكي ينتقل من هذا العالم إلى الآب" (يو 13: 1). إن ذكر الفصح في بداية هذه الآية اليوحناوية، يعني أن الإنجيل الرابع رأى في هذا "العبور" (الإنتقال) تحقيق فصحه الحقيقي (رج خر 12: 27). ودلّ متى على. أن طرد يسوع هو "عبور" "قبل الزمن"، وهذا العبور يعلن عبوره من هذا العالم إلى الآب، ويرسم مسبقاً الفصح الحقيقي.
استبعد متى تفاصيل عديدة من الخبر، وجهل الحدث الأخير في تقليد مرقس ولوقا، فأبرز ما في طرد المخلّص من مأساوية، وأبرز التعارض بين انتصار المسيح على الشياطين وهزيمته أمام البشر الأحرار. طريق الوصول إلى الله مفتوحة، ولكن البشر لا يريدون أن يأخذوها. وإذ ربط متى هذا الخبر بآلام المسيح حاول أن يفهم سامعيه عقوقهم وبلادتهم حين يرذلون المخلّص القدير. إن أفضل شرح لهذا الحدث المتاوي نجده في يو 1: 10- 11: "لقد كان في العالم، والعالم به كوّن، والعالم لم يعرفه. جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله".

خاتمة
طُرد المسيح بأيدي البشر فدلّ على ضعف الله العجيب. سلّم نفسه إلى البشر، فدلّ على حبه اللامحدود. فكيف لا يتعرّف البشر إلى هذا الحب! وأرانا لوقا إنساناً لم يبقَ له شيء يدل على أنه انسان. من أجله (ومن أجل الأمم الوثنية) مارس المسيح عمله التحريري والخلاصي. ومع متى قرأنا عبر هذا الحدث حياة وموت المسيح. إنتصار سهل على قوى الشر، يعارضه بشكل مأساوي هزيمة أمام البشر. إنطلاقاً من هذا التلميح الذي يتوقّف فجأة دون نهاية سعيدة، يتوجّه إلى كل واحد منا سؤال ملحّ: وأنت، أتريد أن تطرد ذاك الذي يحرّرك من الشرّ ويفتح لك الطريق إلى الله؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM