الفصل الثاني والعشرون مثل الزارع

الفصل الثاني والعشرون
مثل الزارع
4: 1- 20

إحتفظت الجماعة الأولى بخطبة يسوع بالامثال. سمّيت أيضاً "خطبة البحيرة"، وتركّزت على "أسرار الملكوت". إن أهمية هذه الخطبة تختلف حسب الانجيليين. فلوقا يقدّم النصّ الأقصر (لو 8: 14-18). ومتّى يقدّم النصّ الأطول الذي يشكّل في كتابه الخطبة الثالثة بين خطبه الخمس (مت 13- 1:-23). أما في مرقس، فالخطبة تمثلّ نهاراً كاملاً (4: 1- 40)، ولكن السامعين يتبدّلون والاماكن تتبدّل. ففي 4: 1، نجد يسوع في مركب صغير تجاه الجموع المحتشدة على الشاطىء. في 4: 10، نجده وسط تلاميذه على انفراد وبعيداً عن الشعب. وتنتهي خطبة الامثال في مر 4: 35، فترينا يسوع مرة ثانية في المركب الصغير.
بعد أن نتوقّف عند المثل في تعليم يسوع، والمثل في الكرازة الرسولية، نعود إلى تفسيره في أقسامه الثلاثة: الزرع والأرض، سرّ في الامثال، الكلمة وثمرتها.

1- المثل في تعليم يسوع
إن مثل الزراع في مر 4: 3-8 هو أقدم من متى ولوقا. ننطلق منه لنعرف ماذا أراد يسوع أن يقول لنا حين رواه. نتحدّث أولاً عن الخبر الامثالي (أي: داخل مثل)، ثم عن هدف الخبر الأساسي، وأخيراً عن التنبيه الذي يوجّهه يسوع إلينا.
أ- الخبر الامثالي
يشرف على بنية الخبر تمييز بين أربعة أنواع من الأرض تلقّت الزرع. ما سقط على جانب الطريق، أكله طير السماء. ما سقط على أرض حجرة لا تراب كثيراً فيها، نما بسرعة كبيرة ولكنه ما عتّم أن يبس. وقسم سقط في الشوك. ولكن نما الشوك بسرعة وما عتّم أن خنق الحنطة. وبعد هذه الانواع الثلاثة من الأرض العقيمة، جاءت الأرض الطيبة. وقد رأى فيها المثل ثلاثة أنواع من الغلال: ثلاثون، ستون، مئة حبة لقاء حبة زُرعت في الأرض.
نرى حالاً أن تعداد أربعة أنواع الأرض يرافق نقيضة تجعل النوع الرابع يعارض الأنواع الثلاثة الأولى. هذه البنية تشبه بنية مثل الاشجار التي بحثت عن ملك (قض 9: 8-15): بعد أن وجّهت سؤالاً إلى ثلاث أشجار مثمرة هي الزيتونة والتينة والكرمة، وجّهت نداءها إلى العليقة. أما مثل يسوع فيعيد بشكل من الأشكال التوازن بين جزئي التعارض فيميّز ثلاث انواع من الغلال.
إن التعارض الذي يشرف على الخبر يرافقه تدرّج في مسيرة النموّ. هناك اولاً الحبة التي يستولي عليها الطير حالاً. ثم تلك التي تفرخ وتعطي نبتة صغيرة لا تعتّم أن تيبس. بعدها الحبة التي ترتفع وتنمو، ولكنها تُخنق قبل أن تعطي ثمراً. أخيراً، الحبة التي يقودها نموّها إلى حصاد رائع. وهكذا ننطلق من الفشل التام إلى أجمل نجاح مع تدرّج صاعد أراده الكاتب. وهذ الحركة تؤمّن للنصّ الذي نقرأه قراءة اجمالية وجه التفاؤل. يبدأ الخبر بشكل سيّء، ولكنه ينتهي حسناً، بل حسناً جداً.
إن الملاحظة حول الطابع التعارضي للمثل وحركته الصاعدة، تقودنا إلى خاتمة عامّة جداً: يجب أن نشدّد على النهاية. هذه هي القاعدة العامة في الامثال التناقضية: فالقسم الثاني من التناقض هو الذي يجب أن يلفت انتباهنا. هذا ما نقوله عن مثل الأشجار التي طلبت ملكاً (قض 9: 8- 15). وعن مثل الوزنات (مت 25: 14- 30) والفريسي والعشّار (لو 18: 9- 14) والرجل الغني ولعازر المسكين (لو 16: 19- 31). عن مثل الابنين (مت 21: 28- 31) والاخوين الشاطر و"البار" (لو 15: 11-32).
من الواضح أن الحركة التصاعدية للخبر تبرز ما يشكّل ذروته. وهذا الشعور تثبته الأرقام التي تجعلنا في جوّ المعجزة: ثلاثون، ستون، مئة لقاء حبة واحدة. لا شكّ في أن اسحق "حصد مئة ضعف" ببركة الرب (تك 26: 12). ولكن فلاح بيت لحم وحبرون يكتفي باثنين أو اربعة أضعاف لقاء حبّة واحدة. وقد يصل فلاّح حوران إلى 6 أو 10. ومع الاساليب الحديثة يصل بعضهم إلى 13 في سهل شفالا. وفي سهل يزرعيل الغنية قد نصل إلى 20. حين يتحدّث يسوع عن حقل فيه أرض صخرة فهو لا يفكر في أرض مميّزة. والارقام التي أعطاها حرّكت مخيلة السامعين وهم العارفون بما تنتجه أرضهم بالحقيقة.
إذا أردنا أن نعطى هذه الملاحظات وجهاً ملموساً، نفترض أن يسوع روى أولاً الفشل المثلّث في الزرع. وتوقّف ليسأل السامعين رأيهم: أترى الزارع عمل فراح تعبه خسارة، ولم يحصل على غلّة ممّا زرع؟ هنا تبرز الخاتمة بكل قوّتها: ما همّ خسارة بعض الحبّ، فالذي سقط في الأرض الجيدة وإن كان واحداً مقابل ثلاثة، فهو سيعطي غلّة مدهشة.
ب- هدف المثل الاساسي
بما أن هدف الخبر هو في الإشارة الأخيرة، ننطلق منها لنكتشف هدف يسوع. فصورة الغلّة أو الحصاد، صورة معروفة في التوراة وفي العالم اليهودي لتدلّ على السعادة في نهاية الأزمنة. وتخيّلت النصوص بعض المرات وبشكل مادي، أن الزمن المسيحاني سيعطي الأرض خصباً عجيباً. "تكثر السنابل في الأرض، تتمايل على رؤوس الجبال، وتثمر كما في لبنان" (مز 72: 16). إن أصحاب النظريات الالفانية (ملك ألف سنة مع المسيح) يستمتعون بأحلام من هذا النوع. ولكن قد تصبح اللغة رمزية فيدلّ الحصاد على شيء آخر: "وأنت يا بيت يهوذا، فإني أعدّ لك حصاداً حين أعيد شعبي من السبي" (هو 6: 11). وفي الأيام الآتية، يمدّ يعقوب جذوره، ويزهر اسرائيل ويثمر ويملأ وجه الأرض ثماراً (أش 27: 6).
إذا عدنا إلى العناصر التقليدية، تدلّ هذه الصورة بشكل طبيعي على وضع سيخلقه الحدث الأخير، حدث ملكوت الله. وإذ أراد يسوع أن يثبت هذا الشعور عند سامعيه متحدثاً عن هذه الغلّة، إستعمل أرقاماً تفوق بكثرة كل الارقام التي اعتاد عليها الناس في غلالهم: فالغلّة التي يتحدّث عنها هي غلّة ملكوت الله.
فينتج عن هذه الملاحظة أن مثل الزراع كان في الأصل مثل الملكوت، شأنه عدد من الأمثال في الإنجيل. ونوضح الأمر فنفترض أن الخبر بدأ بعبارة يبدأ بها هذا النوع من الأمثال: "مثل ملكوت الله مثل زارع خرج ليزرع". في هذا المنظار تساعد طريقة عمل الفلاح الفلسطيني السامعين لكي يفهموا الطريق الذي يسلكه الرب لكي يقيم ملكه. فمجيء الملكوت هو عمل الله وحسب. غير أن هذا لا يعني أن الزارع هو شخص خيالي. فعمله هو عمل فلاّح عادي، وهو يدّل على عمل الله. هكذا دلّ أيضاً على عمل الله صاحبُ الكرم الذي يرسل يطلب الغلّة من العملة (مر 12: 1- 12= مت 20: 1-19). والسيد الذي هيّأ وليمة (مت 22: 1- 14= لو 14: 15- 24). والرجل الذي زرع حبّة خردل (مر 4: 30- 32 وز). والراعي الذي أضاع خروفه (لو 15: 3-7). والمرأة التي فقدت درهمها (لو 15: -10). والأب الذي استقبل ابنه الذي بدّد أمواله (لو 15: 11- 32). والصديق الذي ازعجه صديقه في الليل (لو 11: 5-8). والقاضي الظالم الذي حكم في النهاية من أجل الارملة (لو 18: 1- 5). مثل الزراع هو مثل من أمثاله الملكوت، وهو يتكلّم عن الله.
يبدو هدف المثل في التعارض بين سلسلة الغلاّت الفاشلة والنتيجة النهائية الرائعة. نظنّ أن مظاهر الفشل التي توسّع فيها يسوع مطولاً، توافق الوضع الذي فيه يتكلّم، الوضع الذي يعيش فيه. إنه يتوجّه إلى سامعين خاب أملهم من نجاح رسالته. وقد ترجع خيبة الأمل هذه إلى الطريقة التي بها تصوّر يسوع مهمته: أعلن حدث ملكوت الله. غير أن عنايته الكاملة بالفقراء والمرضى، جعلته لا يعمل على إتمام تطهير إسرائيل الذي يساعد على تدشين هذا الملكوت (مت 3: 10- 12 وز: فأس على أصل الشجرة). من هنا كان سؤال يوحنا المعمدان الذي عيل صبره هو أيضاً: "أأنت الآتي أم ننتظر آخر" (مت 3:11 وز. اذا كنت الآتي ماذا تنتظر لكي تضرب الخطأة!)؟
وقد تنتج خيبة الأمل من نجاح قليل حصلت عليه رسالة يسوع: هو لم ينجح في أن يحرّك لامبالاة الشعب. وبين الذي تعلّقوا به، كم هم الذين تراجعوا! وعداوة الرؤساء الروحيين ما زالت تتزايد. بعد هذا، هل يمكن أن تكون علاقة بين هذا العمل الرسولي ومجيء الملكوت؟ ففي هذه الخدمة المليئة بالفشل كيف نستطيع أن نرى مرحلة تهيّي مجيء ملكوت الله؟
تشكّك السامعون بهذا التعارض بين آمال عجيبة أيقظها تعليم الملكوت وواقع خدمة يسوع مع ما فيه من صغر ووضاعة. فأجاب يسوع بمثل الزارع. أنظروا إليه كيف يرمي حبّه. هناك بعض الحَبّ يضيع، ولكن هذا لا يمنعه من أن ينتظر غلّة تعوّض عليه تعبه. هكذا يكون مجيء الملكوت. فالله الذي ارسل ابنه ليهيئه، عرف كل المعرفة أن مهمته ستلاقي فشلاً كبيراً، وأن مجهوده سيكون عقيماً في قسم منه. غير أن النتيجة الأخيرة هي أكيدة. وحين يأتي ملكوت الله، سنفهم أن خدمة يسوع آتت أفضل الثمار.
حين كشف يسوع بمثل الزارع فكرةَ الله في خدمته، دلّ في الوقت عينه على السبب العميق لتفاؤله المليء بالثقة، وقد عبّر عن هذا التفاؤل بالحركة التصاعدية في المثل: ثلاثون، ستون، مئة. فيه وفيه وحده بدأ الله عمله العظيم وهو تحقيق الملكوت في نهاية الأزمنة. وعمل الله هذا سوف يؤتي ثماره.
وأقام يسوع بين خدمته المتواضعة في ظاهرها ومجيء ملكوت الله المجيد، علاقة هي علاقة العلة بنتيجتها، على مثال العلاقة بين الزرع والحصاد. فمجيء ملكوت الله المنظور والمجيد، يفترض حقبة إعدادية سيكون فيها الملكوت على الأرض بشكل وضيع وخفي. نحن الآن في الحقبة التدشينية. لا شكّ في أن الحقبة المجيدة والنهائية ستأتي بعدها.
حين نفهم مثل الزارع على هذا الشكل نستطيع أن نفهم مكانة خدمة يسوع في مخطط الله الخلاصي.
ج- تنبيه وتحذير
إن الدرس الرئيسي لا يستبعد الدرس الثانوي. وفي كرازة يسوع لا يستبعد اعلانُ مجيء ملكوت الله النتيجة المباشرة التي يعبّر عنها نداء يوجّه إلى السامعين: "توبوا" (مر 1: 15؛ مت 4: 17).
فالمثل لا يكتفي بأن يبيّن أن على الزارع أن لا يحزن لخسارة قسم من الحب. بل هو يمتدّ ليفسّر سبب الفشل. وهكذا يلفت الانتباه إلى الحواجز التي يجدها عمل الله في قلب الإنسان. هذه الصورة هي تنبيه وتحذير. لا يكفي أن نسمع إعلان الخلاص لنشارك مشاركة فعلية في هذا الخلاص. "فالمدعوّون كثيرون، غير أن المختارين قليلون" (مت 22: 14). إن عمل الله يتطلّب جواباً من قبل الإنسان.
هيّأ الله مجيء ملكوته، فأعلنه لنا بواسطة يسوع. ولكن الاستعدادات السيّئة عند العدد الكبير، ستمنع هذا الملكوت من "المجيء"، بل ستحرم هؤلاء الناس من السعادة في الملكوت الآتي. إذن، يجب أن نتوب، أن نتوب حقاً فنثمر ثمراً يقابل توبتنا (لو 3: 8). فتعليم يسوع سيكون بلا فائدة من أجل المهملين الذين لا يرون فيه نداء من الله. ومن أجل "السطحيين" الذين ينسون بسرعة هذا النداء الذي تأثّروا به اولاً. ومن أجل الذين لا يريدون مقاومة شهواتهم واهتماماتهم الأرضية المباشرة. يجب أن نسير إلى النهاية في التجاوب مع متطلّبات الله.
أعلمنا الانجيليون أن يسوع قدّم هذا المثل للجمع. فالمعلومة توافق كل الموافقة الدرس الذي نستخلصه من الخبر. يبدو أن يسوع يتوجّه إلى أناس لم يقرّروا بعد ما يجب عليهم أن يفعلوا بالنسبة إلى الملكوت، قبل أن يتوجّه إلى تلاميذه الذين سبق لهم وتعلّقوا به. فبين الجمع أناس لامبالاون يجب أن نحرّكهم من "نعاسهم". وهناك متعاطفون فاترون يجب أن ندفعهم إلى التزام ثابت فنجعلهم يعون ما يطلبه تعليم الملكوت منهم. أجل، لا يكفي أن نسمع كلمة الله، بل يجب أن نحفظها ونعمل بها (مت 7: 24-27؛ لو 8: 21؛ 11: 28).

2- المثل في الكرازة الرسولية
نقدّم هنا بعض الملاحظات حول تفسير المثل كما نقله مر 4: 14- 20. نتوقّف أولاً عند جذور التفسير. وبعدها نعود إلى طريقة الكنيسة الأولى في تطبيق كلمة يسوع في حياتها.
أ- جذور تفسير المثل
حين نتفحّص هذا التفسير داخل الكرازة الرسولية، قد يظنّ البعض أن يسوع ليس صاحب التفسير. لا شكّ في أن يسوع شرح هذا المثل لتلاميذه، كما يقول الإنجيل. مثل هذا التفسير أمر طبيعي وهو يوافق عادة التعليم عند الرابانيين. لقد لجأ يسوع إلى هذا الأسلوب. ولنا في هذا إشارة واضحة في القول الملغز حول ما ينجّس الإنسان (مر 7: 15-23). والطريقة التي بها طبّق الشرح على الواقع الديني صوراً من الخبر الامثالي، توافق أيضاً العادات اليهودية. ففي كتاب صموئيل (2 صم 12: 1- 4) روى النبي ناتان للملك داود خبر الغني الذي سرق نعجة الفقير. ثم أعلن للملك، "انت هو هذا الرجل". هذا الخبر تحوّل إلى خبر مجازي في اليونانية. وهذا ما سيحدث لمثل الزارع حين يماهي "الكاتب" مختلف تفاصليه مع الواقع الذي يوافقها.
شرحٌ يعود إلى يسوع وقد طبّقته الكنيسة على نفسها. فجاءت لغة المثل في إطار رسالة يسوع العلنية، ولغة الشرح في أسلوب الكنيسة الأولى.
لقد تبدلّ "الهدف" الأساسي وابتعد الشرح عن إطار المثل. وهذا التبدّل يرجع في جزء منه إلى تبدّل السامعين: روي المثل للجمع، واحتفظ بالشرح للتلاميذ. ولكن التبدلّ جاء كبيراً لنكتفي بهذه الإشارة السريعة. لهذا نقول إن التفسير هو تكيّف مسيحي لشرح أعطاه يسوع. قد يعود هذا التدوين إلى مرقس أو إلى مرجع سابق لمرقس. ولكن يبقى أن يسوع أعطى الطريقة التي بها يفسّر المثل. فلم يردّد التلاميذ بشكل آلي ما سمعوه من تفسير. فاستعادوه بالنظر إلى الوضع الجديد الذي هو وضع سامعين مسيحيين. تصرّفوا وهم متيّقنون أن تعليم المسيح تعليم حالي وليس تعليماً من الماضي فقط. حينئذ طبّقوه على أوضاع لم تكن بالضبط أوضاع حياة يسوع الرسولية.
من أجل هذا، يجب أن نقف في منظار الكرازة الرسولية لكي ندرك الوجهة الخاصة لهذا التفسير في الوضع الذي يقدّم لنا.
ب- تحوّل في السياق
حين قرأنا المثل في حدّ ذاته، بدا لنا قبل كل شيء وحياً موضوعه الله والطريقة التي يتّخذها الله لكي يقيم ملكه. تصرّف كالزارع. بدأ بالزرع قبل أن يحصد. وعرف قبل وقت الحصاد أن جزءاً من الحب سيضيع لا محالة. ولكن هذا لم يمنعه من انتظار حصاد وفير. بعد هذا التعليم الرئيسي الذي يعطي معنى للفشل الظاهر الذي عرفه يسوع خلاله رسالته، برز هدف ثانٍ هو نداء إلى السامعين لئلا يتركوا المبادرة الالهية من دون ثمر. وأن يحذروا خطراً يمنعهم من التجاوب مع ما ينتظره الله منهم.
وخضع الدرس الرئيسي لتطبيقات ملموسة. شدّد البعض على البعد الكرستولوجي كما في بداية تفسير مثل الزؤان. "الذي زرع زرعاً جيداً هو ابن الإنسان" (مت 13: 37). واستخلص آخرون تعليماً حول السلوك الذي يجب أن يتبعه أولئك الذين كلّفوا بنشر كلمة الله. هذا هو الخطّ الذي سار فيه القديس يوستينوس: بما أننا نرجو أن هناك في مكان من الامكنة أرضاً طيبة، يجب أن نتكلّم. فحين مجيء ربي القوي القدير، يطلب خيره من الجميع ولا يحكم على وكيله إذا عرف أن هذا الوكيل (تصرّف حسناً): علم أن ربه قدير وأنه سيطالب بما له، فوضعه في جميع المصارف ولم يُخفه لسبب من الاسباب.
في الواقع يركّز الشرح الانتباه حصراً على الامثولة الثانوية في المثل ولا يهتمّ بالاراضي المختلفة، أي بالاستعدادات الفردية التي بها ترتبط "الغلّة" الروحية بعد زراعة كلام الله. ما يهّم في الشرح هو أسباب الفشل أكثر منه اليقين بأن الغلّة ستكون رائعة. وتفسّر هذه الاسباب مطوّلاً. ولا يقال شيء عن سبب النجاح ومختلف درجات النجاح. فالاهتمام المسيطر هو تنبيه المرتدّين الجدد إلى اهمية المثابرة، وحضّهم على الأمانة.
لا شكّ في أننا لا نستطيع أن نعارض الشرح بالمثل. فالدرس الذي يتوسّع فيه الشرح موجود حقا في المثل نفسه، ولكنه يترك جانباً ما بدا أنه التعليم الرئيسي. التبدّل هنا ليس عميقاً كما في مثل الخروف الضال. فحسب لو 15: 2-7 روى يسوع هذا المثل ووجّهه إلى الفريسيين ليفهمهم بمثل الراعي، عناية الله وحنانه تجاه الخطأة، وفرحه حين يعود أحدهم إليه. في مت 18: 2- 14، ورد المثل في تعليم للتلاميذ ليفهمهم بأي عناية عليهم أن يحيطوا هم أصغر إخوتهم. شدّد يسوع على سلوك الله. وشدّدت كرازة متّى على سلوك المسيحيين. وحصل شيء مشابه في الحالة التي ندرس: مالت الكرازة في اهتماماتها المباشرة إلى "ترك" التعليم "اللاهوتي" (الذي يعني الله) في الظلّ، هذا التعليم الذي علّق عليه يسوع أهمية كبرى. تبدّلت النظرة، فدلت على الاهتمام الرعائي الذي فيه كيّف الرسل تعليم يسوع حسب الحاجات الدينية لسامعيهم المسيحيين. ولم يفعلوا ذلك وحدهم. فالروح القدس الذي حلّ عليهم، يتابع العمل الذي بدأه يسوع فيهم.

3- تفسير المثل.
يدخل هذا المثل في سرّ ملكوت الله الذي جاء يسوع يعلنه. بدا يسوع أمام الجموع وأمام أهله وأمام الكتبة، ذاك الذي يطلب خياراً وموقفاً داخلياً. لا يذكر النصّ الرسل، ولكننا نحسّ بهم حاضرين طوال الخبر. فعليهم هم أيضاً أن يسمعوا الآن وينزلوا إلى أعماق قلوبهم ليكتشفوا إن كانوا حقاً "اخوة يسوع"، إن كانوا يعملون بمشيئة الآب الذي في السماوات (مر 3: 35؛ مت 12: 5؛ لو 8: 21)
أ- الزرع والأرض (4: 1- 9)
عاد يسوع إلى جانب البحر وبدأ يعلم الجموع التي احتشدت "حوله" (رج 3: 13). كانوا قد هيّئوا له فيما مضى قارباً (3: 9). وها هو يحتاج إليه الآن. صعد إليه لكي يكلّم الشعب الذي ظلّ "على الأرض" (4: 1. أي: على الشاطىء). ستعود لفظة أرض تسع مرّات خلال تعليم يسوع بالامثال (4: 5، 8، 20...). فالحديث يدور كله عن الطريقة التي بها تتقبّل "الأرض" زرع الكلمة وتجعلها تثمر. ويذكر البحر ثلاث مرات في آ 1- 2. هذا البحر الذي يهدّد شعب الله الواقف على الأرض المنتظر كلمة الله. هذا البحر الذي يهدّد الكنيسة (أي القارب) دون أن يضرّ بها لأن يسوع هو فيها.
وبدأ المثل في آ 2 ب: "قال لهم في تعليمه: إسمعوا". أجل بدأ التعليم بشكل مفاجىء، فدعا الجموع الى الانتباه، إلى الإصغاء (4: 3). يجب أن نصغي إلى ما يقوله يسوع. سوف تتكرر عبارة "قال لهم" خلال كل خطبة الامثال (4: 2، 9، 11، 13....)، وبهذا يتفرّد مرقس عن متّى ولوقا. المهمّ هو ما سيقوله يسوع. المهمّ حبة الحنطة التي يزرعها في"الأرض".
وانطلق المثل بشكل خبر واضح: "خرج الزارع ليزرع". في إطار هذا العمل، أو انطلاقاً من هذا العمل، حصل حدثٌ. ماذا حصل؟ دخل الزرع الأرض أو لم يدخل، فهناك ظروف تعيق نموّ الزرع. إذن، هذا هو الحدث الذي يدعونا إلى التأمل. في الحالات الثلاث الأولى، أنماط من الأرض تمنع عمل الزرع. أرض داسها الناس والبهائم فصارت قاسية، حجرة (كالقلب القاسي). أرض نتأ فيها الصخر فلم يكن فيها عمق تراب (كيف تتجذّر كلمة الله؟). أرض تملأها الاشواك فتنمو أسرع من الحنطة. خنقت الزرع وحرمته من الثمرة. أما الحبة في الأرض الطيبة فنمت نمواً عجيباً واعطت غلالاً لا يحلم بها فلاّح في أرضه الفلسطينية.
قد نفسّر موقف الزارع بأساليب الزراعة في ذلك الوقت، وبطبيعة أرض فلسطين وضيق مساحتها. ولكن لماذا يبدّد الزرع بهذ الطريقة، فتضيع ثلاث حبات وتبقى حبة واحدة؟ ما يريد أن يبرزه مرقس هو اللقاء بين الزرع والأرض. إذن، المهمّ هو أن نعرف ما هي أفضل ظروف "الانتاج". وتدعونا آ 9 أيضاً إلى الاصغاء: "من له أذنان سامعتان فليسمع".
أي سماع يعني النصّ؟ هناك عودة ولا شك إلى آ 3. وهكذا نكون أمام تضمين وعودة أيضاً إلى صلاة اليهودي اليومية "إسمع يا اسرائيل". بهذه الصلاة التي تعود إلى تث 6: 4- 5، يعلن المؤمن إرادته بأن يخضع لنير الله، ويحفظ فرائض شريعته. هذا الاصغاء الطائع قذ ذكّرنا به أشعيا في كلمات قريبة من كلمات مثل الزراع: "أميلوا آذانكم وتعالوا إليّ. إسمعوا فتحيا نفوسكم... الكلمة التي تخرج من فمي لا ترجع فارغة إليّ، بل تعمل ما شئت أن تعمله" (أش 55: 3، 16). إن كلمة الله تدرك الإنسان الذي يصغي إليها. هي تعمل في قلبه فتعلّمه ماذا يختار وكيف يلتزم بما يختار.
ب- سرّ الملكوت في أمثال (4: 10-13)
إن المثل الذي توسّع فيه يسوع يشكّل بطريقة ملموسة زرعاً رُمي في الأرض. منذ الآن قد حدث شيء ما. فالحدث الذي تكّلم عنه المثل (وكان، وحصل في 4: 4) قد حصل في مجموعة الذين يحيطون بالمعلّم مع الاثني عشر (ولمّا حصل، أنه كان وحده وحدهم، معهم، 4: 10).
ذكر مرقس الاثني عشر وحده في هذا الموضع (آ 10؛ قال مت 13: 10 التلاميذ. وقال لو 8: 9 تلاميذه). جاؤوا مع التلاميذ وسألوا يسوع عن الامثال: لماذا يستعمل فجأة هذا الاسلوب؟ يبدو أن الزرع قد وجد أرضاً طيبة. والدليل هو الاسئلة. قال متّى: لماذا تحدّثهم بأمثال؟ وقال مرقس: سألوه من الامثال. وقال لوقا: سألوه عن معنى المثل.
بدأ يسوع جوابه فميّز نوعين من السامعين، كما سبق له وفعل في مثل الزارع (أرض طيبة تثمر 30، 60. 100، أرض لا تحمل ثمراً لأسباب وأسباب): "أنتم قد أوتيتم سرّ ملكوت الله. وأما أولئك الذين في الخارج، فكل شيء لهم بأمثال" (آ 11). قال لو 8: 10: "أوتيتم أن تعرفوا أسرار ملكوت لله". وقال ت 13: 11: "أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات". زاد مت 13: 12 (من يُعطى ويزاد)، فجعلها مر 4: 25 (وتبعه لو 8: 18) في فم يسوع مع مثل السراج والمكيال.
ما هو الخطّ الفاصل الذي يقسم السامعين إلى فئتين؟ هنا نقرّب مر 4: 11 من حدث زيارة أقارب يسوع له: هم أيضاً موجودون في الخارج (إكسو، 3: 31، 32). أما الجمع فهو جالس (مثل التلميذ الذي يسمع) "حوله" (3: 32، 34). ما يدّل على الاختلاف في السماع هو اختلاف في القرب: هناك الذين يكلّمهم يسوع في صيغة المخاطب (أعطي لكم) فيتقبّلون "العطية" التي تصل إليهم عن سرّ ملكوت الله. وهناك الذين يبقون على بعد. إليهم "يصل كل شيء في أمثال". بالنسبة إليهم تبقى الحقيقة مثلاً يجب أن يكشفوه ولغزاً يجب أن يفهموه.
السرّ (في صيغة المفرد. في متّى ولوقا في صيغة الجمع) هو انتشار حضور الله وسط البشر. وفهم السرّ يُعطى للذين هم قريبون من يسوع، بحيث يقع نظرهم على نظره. هذا لا يعني أن الله يخلق حواجز تفصل الناس بشكل اعتباطي. ولكن حريّته الخلاّقة جاءت للقاء حرياتنا البشرية حيث هي. فوحي الله هو مجانية مطلقة. وعمى الانسان يدلّ على هذه المجانية: بما أن الانسان يستطيع أن ينظر (يفتح عينه) دون أن يرى، فهذا يدّل على أن الله يراعي الضمائر، كما يعني أننا لسنا أسياد مخطّطه الخلاصي. فالذين أعطي لهم سر الملكوت، يتحمّلون في الوقت عينه مسؤولية تجاه الكلمة الموحاة.
وإستعاد مرقس هنا كلمة بها أرسل الله أشعيا من أجل مهمة نبوية. استعادها بكل قوتها (لم يحفّف من حدتها): "إذ ينظرون، ينظرون ولا يرون. إذ يسمعون يسمعون ولا يفهمون لئلا يرتدوا فيُغفر لهم" (أش 6: 9-10). تبع لو 8: 10 مرقس، ولكنه أهمل الآية الاخيرة من الاستشهاد (لئلا يرتدّوا). وفعل مت 13: 14- 15 مثل لوقا، ولكنه حوّل "لئلا" بـ "لأن". "لأن قلب هذا الشعب غلظ". هو واقع يراه متّى: شعب أعمى، وتلاميذ يتقبّلون.
لغة الامثال هي في نظر مرقس "وسيلة" تعمية: سرّ الله يتجاوز الإنسان على كل حال. وهو لا يستطيع أن ينكشف له إلا حين يلاقى حريته. فالذي لا "يتحرّك" يبقى في عالم ملغز: كل شيء يصبح له مثلاً غامضاً يطلب من يوضحه. أما من انفتح بما فيه الكفاية يتقبّل في ذاته عمل كلمة الله المحركة، يدرك أن سرّ الله هو النور الوحيد لحياته. وأن كل شيء فيه يتّخذ معناه انطلاقاً من هذا السرّ. دُعي أشعيا، شأنه شأن سائر الأنبياء (إر 1: 9- 10؛ 20: 7- 11؛ حز 3: 7، 27؛ 12: 2) ليحمل كلمة "تعمي"، لأنها طرحت السؤال الجذري، سؤال الله. هو السؤال المحرّر الذي يكشف خطيئة الإنسان ويكشف معها عمق الخلاص الذي يحرّك له حريته. وهكذا وجب على الاثني عشر والذين يحيطون بيسوع. وجب عليهم بواسطة إيمانهم، أن يكشفوا عمى "الذين في الخارج"، ويدفعوهم إلى البحث عن الجواب.
وبانتظار هذا، تحدّى يسوع تلاميذه: "أما تفهمون هذا المثل، إذن، كيف تفهمون سائر الامثال" (4: 13)؟ المثل هو فن استعمل في العهد القديم. يتكوّن من لغة رمزية تشير إلى الوحي (رج تث 28: 37؛ مز 69: 12). يتوّخى أن يطرح سؤالاً أو يكشف معنى خفياً. قد يتخذ المثل شكل قول مأثور (أم 1: 1، 6؛ 25: 1؛ سي 3: 29؛ 6: 35)، أو يكون تفكيراً في مسألة حياتية (أي 27: 1؛ 29: 1) أو تأملاً في معنى التاريخ (مز 78: 2).
تجذّرت أمثال يسوع في هذا الحضارة، فاتخذت وظيفة وحي. فيجب أن نكتشف الهدف أو السؤال الذي يطرح علينا. إذا رحنا إلى العمق، لا تكشف "كل الامثال" معناها إلاّ انطلاقاً من "هذا المثل". إنه مثل الزارع. بل مثل حيّ عن الملكوت ووحيه. مثل عن يسوع.
ج- الكلمة وثمرتها (4: 14- 20)
وانتقل يسوع مباشرة إلى تفسير مثل الزارع: فكلمة الله تشهد لنفسها. سبق وطرحنا السؤال: هل يسوع نفسه هو الذي قدّم التفسير أم هي الجماعات المسيحية؟ في الواقع، قوة التفسير تأتيه من أنه خرج من فم المعلّم: فالكنيسة الأولى وعت مسبقاً أن الكلمة التي تنقلها قد تقبّلتها من ذاك الذين زرعها في أرض البشر وجعلها تحمل ثمراً.
"الزارع يزرع الكلمة" (4: 14). يزرعها في كل مكان: فالوحي يقدّم إلى الجميع من دون استثناء. وتبرز أهميّة عطاء الكلمة المجاني على المستوى الأدبي: تتكّرر لفظة "الكلمة" (لوغوس) ثماني مرات (4: 14، 15، 16...). ويرد فعل "زرع" (سبايراين) سبع مرات (4: 14، 15، 16...). نجد في المثل "ألفاظ" تدلّ على المصير المحفوظ لمختلف الحبّات (4: 4، 5، 7، 8: البعض، غيره، منه ما). أما في تفسير المثل، فنحن أمام صيغة المذكّر الجمع. أمام صيغة تدلّ على أشخاص "شبه محدّدين" (4: 15، 16، 18، 20: الذين على الطريق... الدْين). وجدت في المثل أربع فئات من الأرض يقابلها في المثل أربعة أشكال سماع (أكوو) واستعداد لتقبّل الكلمة حتى تحمل ثماراً (4: 15، 16، 18، 20).
ما الذي يجعل السماع يفشل؟ إبليس الذي ينتزع على الفور الكلمة المزروعة، فيمنعها من الوصول إلى من توجّهت إليهم. وقد يكون السماع سطحياً: تقبل الكلمة بسرعة وفرح. ولكنها تلاقي صخرة المقاومة البشرية. وإذا ما حدثت شدّة أو اضطهاد من أجل الكلمة، نعثر حالاً. لا نؤمن أن الكلمة تستطيع أن تعطي الشجاعة والأمانة اللتين توحي بهما.
وقد يكون السماع حقيقياً، ولكنه يموت خنقاً. يموت موتاً بطيئاً بسبب هموم العالم، وسراب الغنى، وكل أنواع الشهوات (4: 19). كل هذا يعيق عمل الكلمة فتصبح عقيمة: إنهزم الإنجيل أمام صعوبات الإنسان. واجهت الكنيسة صعوبات ملموسة خلال كرازتها بالانجيل، فقرأت حالاً تاريخ حياتها في هذا التفسير. وعرفت أيضاً أن الكلمة تحمل من الثمار بقدر القبول الذي تلقاه: ثلاثون، ستون، مئة مقابل حبّة واحدة.
الكلمة المزروعة في الأرض هي إنجيل ملكوت الله الذي جاء إلى الانسان ليعطيه خصباً سرياً. فمن "تعرّف إلى الامثال" وعى هذا الخصب العجيب الذي جعله يسوع في كنيسته وفي العالم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM