الفصل الثامن عشر سر الملكوت: يسوع وأخصاؤه

الفصل الثامن عشر
سر الملكوت: يسوع وأخصاؤه
7:3-6:6 أ

قدّمت لنا المرحلة الأولى في الإنجيل يسوع: إنه كلمة الله في تاريخ البشر: كلمة قديرة وفاعلة، لأنها تحرّر الإنسان من الشرّ. وهي تعمل في حياتنا الحاضرة، على مرّ اللقاءات، وتثير وسط الجموع حركة أمل، فيزحفون كلهم إليه: "الجميع يطلبونك" (1: 37). هذا ما قاله سمعان ليسوع حين كان غارقاً في صلاته.
هذه الكلمة تكشف نشاط قوى الشرّ وتخرجها من مخابئها. لهذا، فهي تسبّب المعارضة. هذه الكلمة تهاجم الإنسان في معاقله الخفية، فتفضح التباسات تصوّراته، ومكر نواياه، وعمى قلبه. وهي تستطيع أن تشفي الإنسان من خطيئته وتفتحه على ملكوت الله مانحة إياه الغفران. غير أن الإنسان لا يرضى بأن "يتعرّى"! هو يتمرّد على هذا الغفران الآتي من "خارج"، ويقاوم ذاك الذي يقدّمه له. حين نسمح لله بأن يلمسنا، هذا يعني أننا تخلّينا عن اكتفائنا بذاتنا. ومع ذلك، فالخبرة تبيّن أننا حين نترك الله يلمسنا، تجد أجسادُنا شباباً جديداً وتصل قلوبنا إلى الحرية الحقّة. الله كبير جداً فلا يستطيع الإنسان أن يدركه. وحين يصبح قريباً فهو يعكّر "طمأنينة" الإنسان واستقلاليته. حينئذ لا يبقى له إلا أن يطرد "المزعج" ويتشاور من أجل إهلاكه (3: 6).
هل سيتوقّف يسوع لأن هناك مقاومة أو معارضة؟ هو الذي واجه الشيطان في البرية وانتصر عليه، هل يبرهن على أنه ابن الآب الحبيب؟ سوف نراه في هذه المرحلة الثانية منكبّاً على رسالة الوحي التي يحملها: ما زال يصل إلى القلوب والعقول والأجساد. انفتحت دائرة نشاطه فحطّمت الحدود. وولجت كلمته إلى أعماق أولئك الذين كشفوا عن نفوسهم أنهم أهله الحقيقيون. أي أولئك الذين نالوا "آذاناً ليسمعوا" (4: 9، 23) وقبلوا أن يكونوا حقاً "معه" (3: 14). كيف سيشقّ الإيمان طريقه عبر الخوف؟ كيف ستُنتج الكلمة ثمرة في أرضنا المزروعة؟ كيف يتقدّم الخلاص إلى انسان يقاومه؟ تلك هي الأسئلة التي يعالجها مرقس الآن، وهي أسئلة تطرحها علينا كلمة يسوع وعمله: صار الملكوت قريباً، فمن صار قريباً من الملكوت؟ ذاك الذي يدخل في قرابة يسوع الحقة، ويترك كلمته تمتحنه مثل البوتقة.
كان ذاك موقع النص في الإنجيل. فكيف يقدّمه مرقس بالنسبة إلى متّى ولوقا؟
أورد متّى ولوقا مجمل الأحداث وأقوال يسوع المجموعة في هذه القسمة، في هذه المرحلة. ولكن الترتيب اختلف عمّا في مرقس. فنستطيع أن نكتشف للوهلة الأولى مجموعتين مهمتين حاضرتين لدى الإزائيين الثلاثة. من جهة، مجموعة أمثال الملكوت الذي ينمو (4: 1- 34= مت 13: 1-53= لو 8: 4-؛ 18). ومن جهة ثانية، متتالية تضم أعمال قدرة يسوع (4: 35- 5: 43= مت 8: 23-9: 26= لو 8: 22-56).
قد توحّدت هاتان المجموعتان في مرقس ولوقا، وانفصلتا في متّى. وفي أي حال، يرتّب مرقس موادّه بشكل شخصي. فالتقديم الأدبي يدلّ على نيّة لاهوتية سوف نحاول أن نكتشفها.
هناك إجمالة مرقسية (3: 7- 12) تفتتح هذه المرحلة الثانية: نجد يسوع وتلاميذه عند شاطىء البحر وهم يستقبلون الجموع. حينئذ نقلنا مرقس "إلى الجبل" حيث عيّن يسوع الإثني عشر رسولاً (3: 13-19). ثم "إلى البيت" حيث تتزاحم الجموع حول يسوع. أما "أخصّاؤه" فيرون أنه أضاع رشده (3: 20- 21). بعد هذا، نشهد جدالاً جديداً حرّكه الكتبة حول أصل سلطة يسوع كمقسّم على الأرواح النجسة (3: 22- 30). وأخيراً، نشاهد محاولة أهله لكي يزوروه (3: 31- 35).
ويعود بنا الإنجيلي إلى شاطىء البحر حيث نسمع مع الجموع تعليم يسوع بالأمثال، وحيث نحضر أسئلة أخصائه والإثني عشر ليستوضحوا معنى الأمثال (4: 1- 34). أخيراً، هناك سفر في البحر، ورحلة قصيرة في دكابوليس (المدن العشر) وعودة في القارب. كل هذا يشكّل إطاراً لسلسلة من أعمال يسوع التي تدل على قدرته فتثير الخوف والرعدة (4: 35- 5: 43). ويختتم مرقس هذه المرحلة فيورد زيارة يسوع الى بلدته، واللقاء المزري الذي لقيه فيها (6: 1- 6 أ).
عبر التنظيم الأدبي الذي قام به مرقس في هذه المرحلة، نكتشف أن الإثني عشر والتلاميذ اتخذوا مكانة خاصة بالنسبة إلى الشعب. ونرى المعارضة ليسوع تتّخذ أوجهاً متنوّعة. نحن هنا أمام تنظيم موجّه في خطّ كرازة الإيمان. سنأخذ تاريخ هذا النص في تدوينه النهائي، ونعود إلى يسوع الحيّ الذي أنتجه وأعطاه معنا. وهكذا نقتطف التعليم الذي يقدّمه إلينا.
ونبدأ في تكوين النصّ
يرى مجمل الشرّاح في الإجمالة التي تفتتح المرحلة الثانية، تأليفاً خاصاً بمرقس يدلّ على ما فعله إنطلاقاً من معطيات تقليدية. ويرون أيضاً إرتباط هذه الإجمالة بخبر النازفة. تذكّر مرقس تأثير يسوع على الجموع (وعمّمه) مشيراً إلى الأشفية التي تمّت في المرحلة الأولى، وعمّم مسبقاً حدث المرأة التي انفصلت عن الجمع، فقدّم للقارىء معلومتين إثنتين. الأولى هي أن عمل يسوع التاريخي هو حاضر في انطلاقة الجماعات المسيحية الأولى، التي تقبّلت اليهود والوثنيين معاً: ما صنعه يسوع مرة يعيد صنعه دوماً من أجل الذين يتبعونه. والمعلومة الثانية هي المسافة التي يجعلها يسوع بينه وبين الجموع. هذه المسافة تدلّ على صعوبة مسيرة الإيمان، وعلى التمييز الضروري من إجل إعلانه.
بعد هذا نفهم أن يكون مرقس أقحم في هذا الموضع تسمية الإثني عشر (3: 13-19). إستعاد لائحة قديمة لأعضاء الجماعة الرسولية التي عليها أسّس يسوع كنيسته. واستلهم بلا شك "خبر دعوة" فاستعمل عناصر عدّة أخذها من التقليد مثل موضوع "الإثني عشر"، وإعطاء سمعان اسم بطرس، ويعقوب ويوحنا لقب "إبني الرعد"، وهوية الرسل، وقربهم من يسوع ووظيفتهم الرسالية. كل هذه السمات تدلّ على شخصية مرقس ككاتب: على هدفه الدفاعي في إطار الكنيسة الأولى.
إن مقطع الجدال حول بعل زبول الذي تحيط به محاولتا أقارب يسوع (3: 20-35)، يبدو كقطعة مأخوذة من المعين استعملها متّى بحرية (مت 12: 22- 32، 46، 50) ولوقا بشكل دقيق (11: 14-23؛ 12: 10؛ 8: 19- 21). وبدا هنا مرة أخرى نشاط مرقس التدويني. إستعاد الوثيقة التي امتلكها وصاغها من جديد، فحوّل وأوجز وأعاد ترتيب المعطيات وبناها بناء محكماً. ألغى الخبر القصير الذي يتحدّث عن طرد شيطان (مت 12: 22-23؛ لو 1 ب: 14) والذي يسبق الجدال، وأقحم هذا الجدال في إطار يتحدّث عن يسوع وأخصّائه. بدا مرقس هنا صدى لمواجهات ومجادلات حول شخص يسوع داخل الجماعات التي يبشّرها. غير أن هذا لا يعني أنه يشير إلى خلاف بين كنيسة مرقس وكنيسة أورشليم على مستوى التعليم والسلطة، كما رأى بعض الشرّاح. وفي أي حالة، إن تشديد الإنجيلي على القرابة الروحية التي أسّسها يسوع مع "إخوته وأخواته" المسيحيين، يدلّ على حسّ عميق للروح القدس الذي يعمل في الكنيسة ويوقظ الناس إلى الإيمان.
والخطبة الأمثالية (4: 1- 34). ماذا ندرك منها؟ صنع يسوع مثل الرابانيين في عصره، فاستعمل هذا الفن الأدبي ليدعو سامعيه إلى الإلتزام. غير أن تعليمه أشار إلى نقطة جوهرية هي: إن مجيء ملكوت الله في شخصه يتطلّب تجنّداً حاسماً. وفهمت كنيسة القرن الأول سريعاً هذا النداء الآتي والملحّ على ضوء قيامة يسوع. فكل حياته، أقوالاً وأعمالاً، صارت "مثلاً" وقولاً عن الملكوت. في هذا المعنى الدقيق فهمَ مرقس الأمثال التي تصبّ في فنون أدبية مختلفة. إنها تقدّم طريقة بها نسمع كلمة يسوع، فتتيح لهذه الكلمة بأن تتجذَّر وتكبر وتنمو. فيجب على الواعظين أن يوقظوا ملكة الإصغاء ويحرّكوا السامعين سواء كانوا مؤمنين أو لا مؤمنين.
إن مجموعة الأمثال التي نقلها إلينا الإنجيليون، تفترض استعمالاً جارياً لمثل هذه المجموعات في كرازة الكنيسة الأولى. ففي نهاية العهد الرسولي، تشكّك المؤمنون من عدم إيمان إسرائيل، وواجهوا العراقيل ضد إعلان الإنجيل، فطرحوا السؤال. لهذا بيّن مرقس للمؤمنين، مستنداً إلى تعليم يسوع، أن هذه الصعوبات تجد مكانها في مخطّط وحي الله: إن فهم التعليم يرتبط بالإستعدادات الروحية لدى كل إنسان. فالله لا يفرض نفسه على حرّياتنا. والذين يتأثّرون بالنعمة يصبحون بدورهم مسؤولين عن الكلمة.
إنطلق مرقس من المواد التي جمعها التقليد، فشملت مجموعة الأمثال الثلاثة وشرح مثل الزارع. وزاد عليها بعض العناصر لكي ينير المسألة اللاهوتية المطروحة على كنيسة عصره بسبب رفض اليهود أن يروا المسيح في شخص يسوع. وهكذا أقحم قولاً يدل على السامعين وعلى عمى البعض (4: 11-12: الذين ظلوا في الخارج ولم يدخلوا الى الكنيسة). وأقحم مثل السراج والكيل وقولاً عن "الذي له والذي ليس له" (4: 21- 25). كل هذا أخذه من مراجع أخرى، وهذا ما يدلّ عليه نصّ متّى ولوقا. ثم إن إيراد نص أشعيا هو قريب جداً من النسخة الأرامية أو الترجوم المستعمل في فلسطين. وهذا يعني أنه يعود إلى جماعة مسيحية متهوّدة.
أعاد مرقس تنظيم هذه المجموعة بالنظر إلى اهتمامات الكرازة عنده، فدوّن الفصل الرابع في بناء يختلف عن ذاك الذي ألّفه متّى (ف 13). في بناء متين يبرز "لاهوت المثل" الذي هو لاهوت الحرّية والنعمة.
أما أعمال يسوع التي تدلّ على قدرته، والتي اجترحها خلال سفر في البحر وفي الدكابوليس، فقد وصلت إلى مرقس بشكل مجموعة. أوردها لوقا في الترتيب عينه (لو 8: 22-56). وجعلها متّى في جزئين (8: 23- 34 و9: 18- 31) داخل لوحة واحدة حوله عمل يسوع، فرافقت مختلفَ الألقاب الكرستولوجية عشرةُ أعمال تدلّ على قدرة يسوع (مت 8-9).
تختلف هذه المجموعة، مجموعة الأخبار الملوّنة والحية والمفصّلة، عن أحداث الشفاء التي روتها المرحلة الأولى: لم نعد أمام تعليم أو جدال. فمرقس يتبع هنا مرجعاً وجد فيه تقليداً ثابتاً فلم يبدّله. ولكنه طبع هذه المجموعة بطابعه. وهذا ما نكتشفه حين نقابله مع متّى ولوقا: لمسات تدوينية، تكرار بعض الكلمات الخاصة، إشارة إلى المنظار الذي وجّه التدوين. فسفَر يسوع إلى أرض وثنية جُعل لتعليم التلاميذ الذين سيرسلهم قريباً. لقد ذكّر مرقس المسيحيين أن تبشير الوثنيين يجد ينبوعه في نشاط يسوع التاريخي. وأن العواصف ورفض البشر لا تخيف ذاك الذي يؤمن.
وتداخل خبرا شفاء النازفة وإحياء إبنة يائيرس، فجعلا مضمون الكرازة الرسالية يمتدّ وينتشر. إنهما حدّثانا عن الإيمان بالقيامة. فكل التفاصيل الخاصة بمرقس في هذه المتتالية، ترسم مختلف أوقات الإيمان في مسيرته داخل الخبرة المسيحية: فنور الفصح والقيامة الذي أنار مسبقاً طريق يسوع على الأرض، ينير الآن طريق المؤمن الذي بدأ يتميّز سر الملكوت.
وفي النهاية يأتي حدث زيارة يسوع إلى "وطنه" (قريته). إنه تذكّر لحدث مؤلم في رسالة يسوع الجليلية. هذا ما تدلّ عليه أسماء العلم والمعطيات الملموسة في الخبر. إن هذا الحدث يستعيد لا إيمان الشعب اليهودي كما دلّ عليه التعليم بالأمثال والجدال حول بعل زبول. ولكن الإنجيلي يعرف كل المعرفة أن المسيحيين هم أيضاً مهدّدون في إيمانهم حين يتصوّرون المسيح تصوّراً بشرياً مفرطاً. فدهشة يسوع تتوجّه إلى كل أخصائه، لأن عدم الإيمان يجعل عمله مستحيلاً مهما كان المستوى الذي وقف عليه.
ونعود إلى بنية النصّ
نحاول الآن أن نكتشف العناصر التي تدلّ على الخطوط الرئيسية في التدوين المرقسي، فندرك تماسكه ووحدته في العمق. كيف تترابط، على المستوى الأدبي، مختلفُ الأقسام التي تشمل هذه المرحلة الثانية؟
إن الإجمالة حول نشاط يسوع (3: 7- 12) ترينا المعلّم وتلاميذه أمام جمهور كبير يأتي من سبع مناطق (يهودية ووثنية، 7 هو عدد الكمال) فيدل على شمولية الكنيسة. ويتحدّث النصّ عن الأشفية وطرد الشياطين في ألفاظ استعملت في خبرَيْ النازفة ومجنون الجراسيين.
بعد هذا، تجمع متتالية أولى عدداً من المقاطع تعني الذين يجدون نفوسهم قريبين من يسوع (3: 13- 35). هناك تضمين خفي حول "مشيئة": مشيئة يسوع (3: 13: أرادهم). مشيئة الله (من يعمل مشيئة الله، 3: 35). وهناك بناء يبرز التعارض داخل هذا القرب: قرب الشيطان الذي يقهره يسوع بقوّة الروح القدس. في هذا المعنى نلاحظ توالي التكرار: "كانوا يقولون". "كان يقول".

1- المتتالية الأولى (3: 13- 35)
أ (3: 13-19): يسوع يعيّن الإثني عشر، على الجبل: "صنع الإثني عشر" (آ 14، 16). دعا إليه أولئك الذين أرادهم ليكونوا معه. دورهم: الكرازة، طرد الشياطين.
ب (3: 20- 21): يسوع وذووه. جاؤوا إلى البيت. إجتمعت الجموع. حاول ذووه أن يمسكوه. قالوا: فقد رشده.
ج (3: 22): حُكْمُ الكتبة الآتين من أورشليم: قالوا: يمتلكه بعل زبول. إنه ممسوس.
د (3: 23-29): بيت مقسوم على نفسه. تجديف وغفران. دعاهم إليه وقال لهم: كيف يستطيع الشيطان أن يطرد الشيطان؟ للشيطان نهاية: بيت الرجل القوي. ولكن يسوع هو الأقوى. الحق أقول لكم: كل خطيئة تغفر ما عدا التجديف على الروح القدس. هي خطيئة أبدية.
ج ج (3: 30): حكم يتكرّر. كانوا يقولون: إمتلكه روح نجس...
ب ب (3: 31- 32): يسوع وذووه، الذين من الخارج... طلب أمه وإخوته. كان الجمع جالساً حوله كالتلميذ على قدمَيْ معلّمه.
أ أ (3: 33-35): سمّى يسوع قرابته، في البيت. من هي أمي... من يعمل مشيئة الله.
نستطيع أن نوجز هذه المسيرة باختصار. في البداية، قام يسوع بمهمته، فأسّس الإثني عشر، وأعطاهم سلطانه الخاصّ: هو الذي "يصنع" جماعته كما يريد (أ). ولكن هذه الجماعة لا تتجاوب. فحياة يسوع وعمله يحيّرانها: قال بعض ذويه باسم رباط الدم: إنه أضاع رشده (ب). وقال الكتبة الذين ظلّوا سجناء براهينهم: يمتلكه بعد زبول (ج). يجب على يسوع أن يكشف عن القوة التي تحرّكه: الروح القدس، ينبوع كل مغفرة (د).
مثل هذا الكشف ضاعف المعارضة: نزع القناع عن عمى البعض (ج ج) والإلتباس في البحث عند البعض الآخر (ب ب). غير أن يسوع ولد الرجاء في قلب المقاومة البشرية، لأنه رأى في الذين يتبعونه ويصغون إليه أقاربه الحقيقيين. بقدر ما يتقبّلون روحه، "يصنعون" مشيئة الله (أ أ).

2- المتتالية الثانية (4: 1- 34)
تتضمّن المتتالية الثانية يوم الأمثال (4: 1- 34). وهنا يدلّ البناء أيضاً على ما قام به مرقس من تعديلات بالنسبة إلى مرجعه. نلاحظ بشكل خاص تكرار عبارة "وقال (لهم)" ثماني مرات (4: 2، 9، 11، 13، 21، 24، 26، 30). هذا شيء يتفرّد به مرقس. وهكذا نكون أمام تصميم منتظم جداً.
أ (4: 1-2 أ): مقدمة: تعليم على شاطىء البحر. إجتمع الشعب على الأرض بالقرب منه. تعليم بالأمثال.
ب (4: 2 ب- 9): الزرع والأرض. وقال لهم: إسمعوا. الذي يزرع... وحصل... قليل من الأرض/ لا ثمر... أرض طيّبة/ أعطت غلة متصاعدة... أعطت ثمراً. وقال: من له أذنان سامعتان فليسمع.
ج (4: 10- 13): السرّ في أمثال: الذين كانوا حوله مع التلاميذ... وقال لهم: لكم أعطي سو الملكوت. أما الذين في الخارج، فكل شيء يصل إليهم بأمثال (بألغاز) فينظرون... يسمعون... لئلا. وقال لهم: ألا تعلمون هذا المثل؟ كيف تعلمون كل الأمثال؟
د (4: 14- 20) الكلمة وثمرتها. الكلمة (8 مرات) التي نسمع (4 مرات). تكون بدون ثمر... في الأرض الطيبة تحمل ثمراً (سماع الكلمة المزروعة).
ج ج (4: 21- 25): السراج (النور) وكيل السماع. وقال لهم: السراج. ما هو خفي/ ظاهر. من له أذنان سامعتان فليسمع. وقال لهم: أنظروا إلى ما تسمعون: بالكيل الذين تكيلون به يكال لكم. من له يُعطى ويُزاد...
ب ب (4: 26- 32): ثمرة ملكوت الله. وقال: ملكوت الله هو زرع زُرع في الأرض. حملت الأرض ثمراً. بعد الثمر الحصاد. وقال: ملكوت الله هو حبة خردل تُرمى في الأرض. نمت: أغصان، عصافير، ظلّ...
أ أ (4: 26- 32): خاتمة: الأمثال وتفسيرها على انفراد. تكلّم الكلمة بأمثال/ بغير أمثال لم يكن يتكلّم. وعلى انفراد كان يفسّر كل شيء لتلاميذه.
نرى في قلب هذا البناء (د) الأهمية الأولى للكلمة التي هي يسوع: إتخذ المبادرة وتوجّه إلى كل إنسان في حرّيته. وقدّم نفسه على أنه المثل الذي يفسّر أمثال العالم. وكل واحد يقدَّر حسب درجة سماعه للكلمة، لأنها تميّز نوعين من السامعين: إلى البعض يُعطى سر الملكوت، وإلى الآخرين يبقى لغزاً (ج). من قبله صار بدوره مسؤولاً وذلك بقدر استعداداته (ج ج).
هناك أشكال من السماع، كما هناك أنواع من الأرض (ب). ولكن المهم هو التقاء الزرع بالأرض، هو انتقال التعليم: في أي حال، إن بذار الملكوت ينتظره خصب مدهش يهيّأ للجميع (ب ب). هذا هو تعليم يسوع: سلسلة من الأمثال (أ). يجب أن ندرك أنه هو التفسير الحاسم. وان كل حياة تتخذ معناها منه وتنكشف أمام الديان (أ أ).

3- المتتالية الثالثة (4: 35- 5: 43)
إن التمييز بين سامعين وسامعين قد استُغل في متتالية ثالثة: بدأ التلاميذ فرافقوا يسوع في مسيرته وحدهم. ولن تظهر الجموع إلا في العودة. وسيحافظ يسوع على المسافة التي تفصله عنها. هنا نرى تركيب هذه المتتالية مع أربعة أعمال تدلّ على قدرة يسوع.
أ (4: 35- 41): طاعة البحر. جاء البحرَ... إلى الشاطىء المقابل. عاصفة شديدة. كان نائماً... أيقظوه: يا معلّم، لقد هلكنا. وحدث هدوء عظيم. لماذا انتم خائفون، لماذا ليس لكم إيمان. وخافوا خوفاً عظيماً.
ب (5: 1-17): اللقاء الذي يحرّر. رجل فيه روح نجس. ما استطاع أحد أن يقيّده. ركض وسجد أمام يسوع. ما اسمك؟... جاؤوا يرون ما حصل. جاؤوا إلى يسوع... خافوا...
ج (5: 18- 19): توسّل المجنون الذي شُفي من الروح النجس. إذ صعد يسوع إلى السفينة، توسّل إليه المجنون أن يكون معه (أن يكون من الإثني عشر). لم يدعه يسوع، بل قال له: إمضِ إلى بيتك وخبّر ذويك...
د (5: 20): الإعلان في المدن العشر. فأخذ يذيع كل ما صنعه له يسوع. وكان الجميع يتعجّبون.
ج ج (5: 21- 24): توسّل رئيس المجمع. كان يسوع قد عبر إلى الشاطىء المقابل... الجموع... توسّل إليه يائيرس، رئيس المجمع... ذهب يسوع معه.
ب ب (5: 25- 34): اللمس الشافي. إمرأة بها نزف دم. لم تجد مساعدة لدى أي طبيب. جاءت من ورائه، وسط الجمع. من لمسة ثيابي، أجاب التلاميذ. خائفة مرتعدة. عرفت ما حصل لها فجاءت وخرّت أمام يسوع: إيمانك خلّصك.
أ أ (5: 35-43): إستيقاظ الميتة. إبنتك ماتت، فلا تزعج المعلّم. قال يسوع: لا تخف. آمِنْ وكفى. في البيت: لماذا هذا الضجيج. الإبنة لم تمت. إنها نائمة. أخذ معه الوالد والوالدة. أقول لك: قومي، إستيقظي... فاعتراهم في الحال دهش عظيم.
لنوضح هذا العرض. في طرفَيْ المتتالية حدثان مدهشان يثيران الخوف لدى الشهود.
وهكذا يُطرح السؤال: من هو هذا الرجل الذي يستيقظ فيكمّ فمّ العاصفة (أ)؟ الذي يوقظ فتاة من رقاد الموت (أ أ)؟ لكي نتعرّف إليه نلتقيه وجهاً لوجه مثل مجنون الجراسيين، الذي تغرّب ولم يفعل فيه دواء، فحرّره يسوع (ب). ومثل المرأة التي تألمت من نزف دمها، فشُفيت حين لمسته (ب ب).
ولكن يجب أن نحسّ برعدة مقدّسة فيها ندرك حضور الله، برعدة تصل بنا إلى التوسّل والابتهال. فنعمة الرب تحيّرنا: أعاد يسوع إلى بيته "المتشيطن" الذي شُفي فطلب "أن يكون معه" (ج). ولكنه رافق يائيرس في مسيرة بدت وكأنها بلا جدوى (ج ج). بيد أن الذي يقبل أن يحيا مختلف مراحل هذه الخبرة ويخضع لعمل المعلّم (الدرفة الثالثة) كما يقبل تعليمه بالأمثال (الدرفة الثانية) ويصنع مشيئة الله (الدرفة الأولى)، يصل إلى الإيمان الحقيقي وتصبح حياته بالنسبة إلى ذويه "إعلاناً لما صنعه يسوع له".
تتيح لنا هذه الرسمة أن نفهم مرة أخرى التعارض المتواصل بين كلام يسوع وكلام البشر الذين يلتقوه وهم بعيدون عنه: في هذا الوقت يحرّك يسوع الإيمان: بالنسبة إلى مجنون الجراسيين، يتّخذ هذا الإيمان شكل إعلان هو شهادة "وسط ذويه"، وحيث رُفض يسوع و"طُرد". وتتركّز في الوسط عدّة ابتهالات يستجيبها يسوع بشكل محيّر. وحول نقطة الوسط حيث يحدّد يسوع الطريقة التي نكون بها معه، تمتدّ قوة المعلّم الذي ينقل من الموت إلى الحياة، من النجاسة إلى الصحة والخلاص.
وتأتي الخاتمة متجاوبة مع المتتالية الأولى المركّزة على أقارب يسوع (6: 1-6) فتستعيد موضوع التعارض: في هذه المرة، جاء يسوع بنفسه إلى "وطنه"، ولكن قدرته كانت كلا شيء بسبب قلّة الإيمان. وترد لائحة بأقاربه: أمه، إخوته، أخواته. إنها تقابل لائحة الإثني عشر الذين جعلهم يسوع أقاربه الحقيقيين.
وهكذا، وبعد أن تفحّصنا البنية الأدبية في المرحلة الثانية، بدت أمامنا فكرة مسيطرة: إن الكلمة وأعمال يسوع القديرة تتوجّه إلى الإنسان في أعماقه، فتضع فاصلاً بين ناس وناس، بل حدوداً في قلب كل واحد منا بين ما هو خارج عن يسوع وما هو قريب من يسوع. هذه الحدود لا يعبرها إلاّ الإيمان الذي هو انفتاح على سرّ الملكوت.

والتحليل البنيوي للنصّ يصل بنا إلى خلاصات مماثلة.

1- الإشارات الزمنية
الإشارات الزمنية نادرة. يجب أن ننتظر نهاية التعليم بالأمثال لكي ندرك أن مرقس أفهمنا أننا أمام نهار كامل. "وفي ذلك اليوم، عند المساء، قالت لهم" (4: 35). هنا نتذكّر التعليم التدشيني في مجمع كفرناحوم وفي بيت سمعان (1: 32). ليلي يوم يوماً آخر، فيفتحنا على الجديد.
إن عبور البحيرة، والإقامة في المدن العشر، والعودة إلى الشاطىء الذي انطلق منه، كل هذا لا تتوزّعه عودة إلى الزمن. فالأعمال تجري الواحد بعد الآخر. كل ما نجده، ملاحظة حول مدة مرض النازفة، وهي تقابل عمر إبنة يائيرس: 12 سنة (5: 25؛ 5: 42). هذا العمر هو عمر النضوج الديني عند اليهود، عمر العبور إلى جديد الإلتزام في ممارسة إيمان اسرائيل والتعلّق بجماعة العهد.
وسنعرف فيما بعد أن زيارة يسوع إلى بلدته تمّت يوم السبت. تلك ملاحظة غائبة في متى (مت 13: 54). أما لوقا فاستغلّها استغلالاً وافراً (لو 4: 16- 21). نحن هنا أمام تذكير بالسبت الأول في كفرناحوم (1: 21)، وبذلك الذي أتمّ المرحلة الأولى، ساعة كان "رب السبت" موضوع جدال (2: 28).
كل هذا يجري في خلفية حياة بشرية يتوالى فيها النهار والليل (4: 27؛ 5: 5)، الرقاد واليقظة (4: 27، 38، 39؛ 5: 39، 41). أيام عمل ويوم السبت (6: 2). فعمل يسوع يدخل إلى واقع البشر اليومي. وتدخّل الله هو حدث يتجسّد في كثافة التاريخ البشري وتواصله.

2- الإشارات المكانية
أما الإشارات المكانية فهي وفيرة. في بداية المرحلة الثانية نجد تراكض الناس قرب البحر الذي هو موضع انطبع بدعوة الرفاق الأولين (1: 16؛ 2: 13). تراكضوا لا من الجليل فحسب، بل من العالم كله (3: 7-8: هذا ما يرمز إليه رقم 7 الذي يعدّد المناطق التي جاء منها الناس). ثم ننتقل من الجبل (3: 12) إلى البيت (3: 20) لنعود إلى شاطىء البحر (4: 1) من أجل تعليم بالأمثال يتضمّن أوقات انفراد مع الإثني عشر (4: 10، 34).
وُضعت السفينة بتصرّف المعلّم (3: 9)، فكانت له منبر وعظ (4: 1) وأمّنت في الوقت عينه المسافة بينه وبين الجموع التي بقيت على الشاطىء (لا يريد لها أن تعرف الخطر المتمثّل بالبحر)، بقيت على الأرض (4: 1، 35؛ 5: 18). بعد السفر على البحر مع التلاميذ وحدهم (4: 35- 5: 21)، نعود إلى البيت، بيت رئيس المجمع الذي أحيا يسوع ابنته. أخيراً، عاد يسوع إلى "وطنه" وإلى المجمع في يوم السبت.
بدت كل هذه الرحلة الطويلة وكأنها تعيدنا إلى نقطة إنطلاق نشاط يسوع العلني: "جاء يسوع من ناصرة الجليل" (1: 9؛ رج 1: 14). ولكن لفظة "وطنه" تفتح الناصرة والجليل على أبعاد الكون. ففي النهاية، كل انسان صار قريباً من يسوع لأن ملكوت الله قد اقترب. ورفضُ استقبال الناصرة ليسوع يدلّ على موقف عام يصيب التلاميذ كما أصاب معلّمهم (6: 10- 11): "أي موضع لا يقبلونكم فيه"...
إذن، يجري كل شيء وكأن الجموع ظلّت على الأرض، تنتظر أن يثمر زرع الكلمة عند شاطىء البحر، أي على شاطىء الإلتزام بالمكافحة ضد القوى المعادية. أي على شاطىء المواجهة مع العالم الوثني الذي تمثّله النجاسة. أما على البحر، فيجب أن نقاسي هجمات جامحة من العاصفة والأمواج، وأن نختبر كيف يخضعها يسوع.
في الأرض الوثنية، نلتقي تيهان إنسان، وقبوراً في الجبال. ونشهد اندحار الأرواح النجسة، لأن ابن الله العلي قد رسم خطاً عمودياً يثبّت مسيرة البشر وإعلان المجنون الذي تحرّر من الشيطان. فالذين مرّوا من هنا (5: 37) مع يسوع، يستطيعون أن يكتشفوا إلى أين تصل قدرة هذا الرجل. فيده ذهبت إلى أعماق الموت تطلب إبنة يائيرس، لكي تقيمها وتجعلها تمشي بقوة عمرها (12 عاماً).

3- الأشخاص: دورهم ووظيفتهم
نلاحظ أن يسوع وتلاميذه (الإثنا عشر الذين دعوا ليكونوا معه، 3: 13-14؛ 5: 40) ينفصلون عن الجمع شيئاً فشيئاً. نجد تجاههم الخصوم: أولئك الذين عارضوا يسوع خلال المرحلة الأولى (2: 1- 3: 6). وهناك الكتبة الذين جاؤوا من أورشليم (3: 22). وهناك أقرباء يسوع الذين جهلوا سرّه (3: 20- 21)، فظلّوا في الخارج (3: 31- 32) أو انغلقوا على ذواتهم (6: 3- 6). ونجد ايضاً الجموع التي بقيت متحيّرة: تارة تسمع كلمة يسوع (4: 1، 11، 33؛ 5: 21) فتصبح قرابته الحقيقية (3: 34-35)، وطوراً تزحم المعلّم في تسارع يمرّ قرب السرّ (3: 9؛ 5: 24، 31).
إن الذين دعاهم يسوع في بداية خدمته كوّنوا مجموعة ترافقه في كل تنقّلاته، فهاجمها خصومه (2: 16، 18. 23؛ 3: 7). والآن، جعل من هذه المجموعة "رسلاً"، أي مسؤولين معه عن إعلان الكلمة وطرد الشياطين. مثّلوا الجماعة النموذجية التي تشير إلى تجمّع الأسباط الإثني عشر، فارتدوا سلطة يسوع نفسه ليصنعوا ما صنع، ليكونوا امتداداً لرسالته في إعلان كلمة تدعو الى التوبة والإيمان، وتحرّر الناس من أمراضهم والأرواح النجسة التي فيهم.
هؤلاء التلاميذ بدأ يسوع يكوّنهم. هيّأهم إلى رسالة عامة، شاملة (3: 7-8)، وأراهم عمله الخيّر من أجل الناس، وجعلهم يدركون في الوقت عينه المسافة التي تفصله عنهم. وقد رمز إلى هذه المسافة القاربُ الذي وضع في تصرّفه (3: 9). علّمهم أن يتمّيزوا في هذه الجموع التي تتبعه، التي تلتئم حوله، التي تسمعه وتزحمه (3: 7، 20، 32؛ 4: 1؛ 5: 21، 24، 31)، الخصوم الحقيقيين (كتبة أورشليم، أهل بيته وعشيرته، أهل بلدته) (3: 27، 35؛ 6: 4). هؤلاء الخصوم يدلّون على تجربة حاضرة في كل واحد منا، وهي تدفعنا لأن نسجن يسوع في أبعاد بشرية ونجرّده من رسالته. فمن منا لا يريده رفيقاً له في هذا العالم الملتبس حيث يسود حقّ القويّ على الضعيف؟ من لا يرغب في أن يرى يسوع في الصف، شأنه شأن غيره، وكأن لا فرق بينه وبين الآخرين، وكأن لا خلاف بين الشر والخير؟ ولكن يسوع يكشف القناع عن التجديف على الروح القدس. والتلاميذ الذين أحسّوا بالمسافة التي اتخذها المعلّم تجاه الناس، دُعوا لكي يدخلوا الى عائلته حيث يعمل "أخصاؤه" مشيئة الله (3: 34-35).
شهدوا مع الجمع مثلاً عظيماً لا بدّ من إدراك معناه: يسوع نفسه زارع الكلمة في أرض بشر يستمعون إليه. يصبح هذا المثل نيّراً أو مظلماً، يملأ أو يفرغ، يحمل الهدوء إو القلق، وذلك حسب استعدادات كل واحد منّا. فسرّ الملكوت ليس خارجاً عن يسوع: إنه هو نفسه "الموقد" الذي يشع منه وحي يعلنه فيصبح معيار التمييز الوحيد بين الذين يحيطونه فيحملون ثمراً، وبين الذين في الخارج الذين يبقى كل شيء لهم لغزاً. إنّ الكلمة تدين كل إنسان فتلامس حريته في وضع يعي فيه مسؤوليته ومتطلّبات خيار يتّخذه (4: 33-؛ 34). إن التلميذ هو ذاك الذي تجعله هذه الخبرة يخرج من بين الجموع المتردّدة والمتحيّرة. ومع ذلك، يلبث بلا فهم (4: 13)، فلا يستطيع أن يجعل حياته على مستوى ما أدرك من تعليم.
وشهد التلاميذ في وقت قصير أربعة أعمال قدرة اجترحها يسوع في إطار ذهاب إلى المدن العشر وعودة منها. صارت المسافة بين يسوع والجموع واضحة (4: 36). ومسافة مع التلاميذ حين سيطر على البحر الهائج الذي أخافهم. حينئذ كشف لهم قلة إيمانهم، ودعاهم إلى الدخول في مخافة قد تولّد الإيمان. حدث شفاء "المتشيطن" بعيداً عن الشعب. ولكن التلاميذ هم هنا: يشاهدون مسيرة النعمة المحرّرة في هذا الإنسان. وعليهم أن يختبروا هذه المسيرة في نفوسهم لكي يستطيعوا أن يساعدوا الآخرين (بمن فيهم الوثنيون) على الخروج من نجاسة تجعلهم على حدود الموت. وحين جاء الجراسيون، خافوا بدورهم. وحرَّكتهم أسباب اقتصادية فأبعدوا يسوع عن تخومهم. وأخيراً رأى التلاميذ كيف صار المتشيطن الذي شُفي، منادياً بالكلمة لا حيث شاء هو بل حيث أرسله يسوع.
ولما عاد يسوع من المدن العشر، استقبله جمع يزحمه حتى يكاد يسحقه: قرب على مستوى الجسد، قد يُضيع اقتراباً حميماً اكتشفته إمرأة: تجرّأت فلمسته، فشاركته في قدرته الداخلية. وتدخّلَ التلاميذ وهم لا يفهمون (5: 31)، فظلّوا كأنهم "في الخارج". أبعد يسوع الجموع (5: 37) وأبعد البكّاءات (5: 38- 39)، فدلّ التلاميذ المميزين (بطرس، يعقوب، يوحنا، والدَي الصبية (5: 40) على موقع القرب الحقيقي من الملكوت: في إيمان بالله الذي يقيم الموتى.
وفي النهاية، رافق التلاميذ يسوع "إلى وطنه"، فلمسوا لمس اليد كيف أن العلاقات البشرية قد تكون حاجزاً بوجه الإتصال الحقيقي بالمسيح. حيث يصبح العالم لغزاً، يجب أن يكون لنا آذان لنسمع صوت الكلمة النبوي. "هناك" (6: 15) ينتظرهم يسوع، حيث يكونون مع البشر، فقراء ومتجرّدين، ومستعدّين أن يتركوا "الأقوى" يوجّه حياتهم.

ما هو تعليم النص؟
بدت كل هذه المرحلة الثانية موجّهة لكي تزيل الإلتباس الذي فيه يتحرّك التاريخ البشري، تاريخنا. ففي خطبنا وعلاقاتنا واهتمامنا بالحياة ومواجهتنا للموت، يسوع حاضر من أجل تمييز جذري. كانت الأرواح النجسة وحدها واعية: طُرحت لدى قدَميْ يسوع وخضعت لقدرة قادتها إلى نهايتها. وإذا كان يسوع قد فرض عليها الصمت فلأنها تضلّل الجمع الذي يميل إلى أن يرى فيه مجرّد مجترح معجزات. والنجاسة التي يمثّلها الشياطين تتفجّر من كل مكان وبأشكال متنوّعة: خصوم يسوع ونواياهم السيئة. ذووه، سجناء رباطات اللحم والدم، ظنّوه مجنوناً. الجراسيون المهتمون بخيراتهم، طلبوا منه أن يبتعد عن تخومهم، لأنه شخص غير مرغوب فيه. والجموع تزحمه بفضول في غير محلّه.
ووسط كل هؤلاء الناس، تأسّس التلاميذ فصاروا رسلاً، ودُعوا إلى حياة حميمة معه. إن الرسل والذين معهم سيفهمون إختيار الله لهم تجاه معارضة ولا فهم من قبل الآخرين، بل من قِبَل أنفسهم.
كوّنتهم إرادة يسوع ليشكّلوا عائلته الحقيقية، فاكتشفوا شيئاً فشيئاً أن رباطات اللحم والدم لا تحدّد الإنتماء إلى الملكوت، بل الإتحاد بمشيئة الله. وعليهم أيضاً أن يعوا البعد المتعالي لهذا الملكوت. فالجدال حول بعل زبول كشف لهم إلى أين يصل عمى الذين يرفضون طوعاً أن يروا الروح في عمل يسوع. فمن أنكر حضور الله، ونسب إلى روح الشر كل ظهور لهذا الحضور، يكون قد رذل الغفران وجعل نفسه خارج الخلاص. والموقف الروحي لدى الكتبة يترجم عملياً في تصرّف أهل الناصرة الذين حاولوا أن يستولوا على يسوع ليمنعوه أن يغشّ نفسه ويسيء إلى الآخرين. ولكنه يرفض أن يُحصر في رباطات أرضية يقرّ بها. منذ الآن، تتحدّد العلاقات البشرية بالنسبة إليه، ولا يتحدّد بالنسبة إليها: "فذووه" هم الذين يعيشون حوله، يسمعون ويعملون تحت نظره. ذووه هم المختارون مجاناً لكي يعملوا معه مشيئة الله.
هذه الدعوة تتطلّب تمرّساً طويلاً: نلج شيئاً فشيئاً إلى سر الملكوت الذي ينير "مثَل" العالم، ونشعر بقوة النعمة التي يدلّ عليها هذا الوحي: هاتان هما المسيرتان اللتان نسير فيهما في رفقة حميمة مع المعلّم.
إكتشفنا الأهمية التي يعلّقها مرقس على سماع (الإصغاء، الطاعة. يرد الفعل 14 مرة في المرحلة الثانية، 10 مرات في فصل الأمثال، 43 مرة في كل إنجيل مرقس) الكلمة. من هنا ضرورة "الآذان" (4: 9، 23؛ رج 7: 16، 33؛ 8: 18) الجاهزة. هذه الكلمة هي أكثر من خطبة تصل إلى طبلة الأذن: إنها إعلان الإنجيل الذي هو يسوع. فمن سمع أعلن أنه معنيّ، فهم أن الكلمة تتوجّه إليه وتدعوه إلى طاعة القلب.
إن المثل الذي يفسّره ذاك الذي هو سرّ الملكوت، يحرّك فينا هذا السماع. فهو يدلّ على حضور لا يعبّر عنه. يدلّ على اسكاتولوجيا لا نستطيع أن نرسلها إلى نهاية الأزمنة. يدلّ على مجيء يسوع مع الحدث الحاسم الذي يتمّ بموته وقيامته. سرّ الملكوت ليس واقعاً نعرفه من الخارج. وهو لا يعطي ذاته إلا اذا عشنا مع يسوع المسيح إتحاداً وثيقاً يحقّق مخطّط الله. فيه يتمّ اللقاء بين السماء والأرض، بين الحقل والبذار، لأنه الكلمة الآتية من عند الله وأرض البشر التي تثمر. غير أن هذا اللقاء يبقى سرّياً، لأن حدث الصليب الذي لم يكشف بعد عنه يسوع كشفاً واضحاً، لا يسيطر عليه روح الإنسان. أعطي لنا في يسوع كل شيء، ولا شيء يستطيع أن يوقف حبه الذي لا يقاوَم للإنسان، حبه الذي ظهر عبر الأشفية التي اجترحها لكي يحرّر البشر.
وهكذا يتمّ كل شيء في لقاء الحرّيات عبر تقبّل الكلمة. فالسرّ هو أن النعمة تستطيع أن تردّ قلب الإنسان إلى الله وتجعله يثمر ثمر الإيمان. ولكن ليس من واقع واضح مثل هذا السرّ الذي تعطيه القيامة كل ثقله دون أن تلغيه. فمن فهم ذلك بنعمة الإختيار والدعوة، صار مع المسيح جزءاً من هذا السرّ وقبل بأن يسحقه هذا السرّ: هذا هو مصير الرسل، والكنيسة بعدهم. غير أن هذه الخبرة تتطلّب وقتاً طويلاً، لأن يسوع لا يُكره أحداً: ما يحرّك هذا السرّ هو صبرُ الله وطول أناته. وحبّ الله للإنسان هو حياة وتفتّح وتحرّر.
إن هذا المثَل السري الذي يتحدّث عن تحرّر الناس تجاه مصيرهم، تجاه كل تهديدات الموت، قد ربطه مرقس فيما بعد بأربعة أعمال تدلّ على قدرة يسوع. فكلمته تواجهنا عبر الواقع اليومي، خصوصاً حين يتجاوز هذا الواقعُ الإنسانَ الذي يحسّ نفسه أمامه ضعيفاً. حينئذٍ نستطيع أن نرى ما يعنيه لمس يسوع، أي لقاء الحبّة بالأرض. فالأوضاع التي يلتقي فيها يسوع في المدن العشر هي كلها أوضاع يائسة يحسّ فيها الناس أنهم مهدّدون في قواهم الحية وعواطفهم العزيزة: عاصفة، تغرّب، مرض لا شفاء منه، إبنة وصلت إلى حافة الموت. ولكن جاء تدخّل يسوع فهزّ بصورة أقوى هؤلاء الناس الذين جاؤوا إليه. فما الذي حدث؟
حين نندهش مما في الأخبار من أمر "عجيب"، نجعل نفسنا خارج السرّ، نسمع الكلمة ولا نفهمها، ننظر ولا نبصر. ذاك كان موقف أهل الناصرة وذوي يسوع الذين انحصروا في أفقهم الخاص. علينا بالأحرى أن نصغي إلى ما يحدث بين يسوع والشهود، بين يسوع والذين نعموا بقدرته. إنهم يواجهوننا عبر العصور مثل مجنون الجراسيين الذي أعلن بين ذويه ما صنعه يسوع له (5: 20). كان يسوع يستجيب الطلبات الموجّهة إليه وما زال يفعل بقدر ما يجد آذاناً تسمع وقلوباً تؤمن.
الإنسان الضعيف هو في قبضة الخوف، وهذا الخوف يجعله عنيفاً، عدوانياً، متهوّراً، منغلقاً على ذاته. فإن أحسّ في أعماقه بتدخّل المعلّم، ينتزعه من خوفه ويجعله لا أمام واقع الموت، بل أمام واقع الحياة، حينئذ يتجرّد من ذاته ويذهب إلى لقاء ربّه ولقاء الآخرين. هذا ما حدث في هذه الأخبار الإنجيلية الأربعة.
لا حقَّ للتلاميذ بأن يرتعدوا أمام العاصفة، لأن يسوع سكّنها. ومجنون الجراسيين الذي نجا من الأرواح النجسة قد أرسل ليعلن ما اختبره على ذويه. إنتقل خوفه إلى قلب الناس الذين تخلّصوا من هذا الخوف يلج قلوبهم فتخلّصوا من يسوع. ما أرادوا أن يواجهوا الخوف ويتجاوزوه، فعاشوا رفض الإيمان. وذهبت النازفة بثقة إلى يسوع. جعلها شفاؤها خائفة مرتعدة. ولما أجبرت على قول الحقيقية، تجاوزت وهلتها فأتاحت ليسوع أن يكشف لها سر شخصها وحقيقة إيمانها. ولما هدأت تقبّلت خلاصاً أعطي لها فيه سرّ الملكوت. وطلب يسوع من يائيرس الذي حضر شفاء النازفة، أن لا يخف، بل أن يؤمن. وسار معه عبر خوفه، وأزال الحواجز التي تكدّست في طريق الأب اليائس: حاملو الأخبار السيئة، شعب يملأ المكان، ضجيج البكاءات، واقع الموت. أعيدت إليه ابنته فانتقل الخوف إلى الحاضرين، فخرق القلوب وسلّمها إلى السرّ. لم نصل بعد إلى السلام، ولكن كان "تزلزل" عميق قد يفتح الطريق أمام وحي لاحق.
وهكذا تقود النعمة كل واحد منا، في حقيقة كياننا، في ما نستطيع أن نقوم به. وضعفُ يسوع أمام عدم إيمان أهل بلدته هو أكبر برهان على أنه يحترم كل الإحترام حرية البشر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM