الفصل السادس عشر صوم أهل العرس

الفصل السادس عشر
صوم أهل العرس
2: 18- 22

كان جدال أول حول غفران الخطايا للمخلّع، وجدال ثانٍ حول مشاركة الخطأة في الطعام والشراب. وها نحن أمام جدال ثالث حول الصوم. متّى كان هذا الجدال وأين حدث؟ هذا ما لا نعرفه. كل ما يذكر هو ظرف صام فيه تلاميذ يوحنا والفريسيون. أوقف يوحنا المعمدان وقُتل، فصام تلاميذه حزناً. وصام الفريسيون أيضاً. فلماذا رفض تلاميذ يسوع أن يصوموا. أين شريعة التضامن؟ هذا هو موقف بعض الشرّاح. ولكن يبدو أننا أمام حديث عام عن الصوم. وسيرفعنا يسوع من ممارسة عملية إلى مستوى موته وقيامته. ليست الإستعدادات البشرية هي التي تحدّد الصوم وأيامه، بل حضور العريس أو غيابه.

1- إطار النص الإنجيلي
أ- الإطار الأدبي
رأى الشرّاح في هذا المقطع الإنجيلي حول الصوم، مجادلة من خمس مجادلات بين يسوع وخصومه خلال رسالته في الجليل (2: 1-3: 6). أما السلسلة الثانية من المجادلات فتقع في أورشليم، وفي نهاية حياة يسوع العلنية (11: 27- 12: 40). هذا القول صحيح شرط أن لا نجعل من هذا التقسيم إطاراً قاسياً يستبعد كل إطار آخر: يجب أن نزيد على هذه المجادلات تلك التي تجعل من يسوع بعل زبول (3: 22- 30) وتلك التي تتحدّث عن عوائد اليهود (7: 1- 23).
إستطاع التقليد أن يجمع المجادلات الخمس الأولى قبل تدوين الأناجيل. فالإزائيون الثلاثة عرفوا هذه المتتالية المؤلفة من خمسة مقاطع: شفاء المخلّع (2: 1- 12). دعوة لاوي (2: 13-17). الصوم (2: 18- 22). السنابل يوم السبت (2: 23- 28). رجل يده يابسة (3: 1- 6). تبع لوقا مرقس في المتتالية كلها. أما متّى ففصل الجدالات الثلاثة الأولى (9: 1- 17) عن الجدالين الأخيرين (12: 1- 14). إذا أخذنا بعين الإعتبار واقع متّى ومرقس اللذين وضعا جانباً الجدال حول تقاليد الفريسيين (أطعمة، غسل أيدي) (7: 1- 23؛ مت 15: 1- 20)، نستطيع القول بوجود مجموعة من المجادلات استقى منها الأنجيليون ما شاؤوا. إختار مرقس بين هذه المجادلات، واهتم بتنشئة المؤمنين بطريقة تدريجية للتعرّف إلى يسوع من خلال أقواله وأعماله كما كشفها لنا.
مجادلات سبع حول سلطة يسوع. سلطته على الخطيئة والمرضى. سلطته على الخطأ ليصالحهم مع الله. سلطته على النظم اليهودية من ممارسة الصوم واحترام السبت والتعامل مع الطاهر والنجس (7: 1-23). كل هذا يصل بنا إلى السؤال حول أساس سلطان يسوع (3: 22-30): هل هو من الشيطان، هل هو من الله؟ قال خصومه: "من الشيطان"، فجدّفوا على الروح القدس. ظلّت خطيئتهم فيهم فحرموا من الغفران لأنهم أعموا عيونهم وأغلقوا قلوبهم.
ب- الإطار التاريخي
هل نستطيع أن نلقي الضوء على كلمات يسوع فنكتشف الظروف التاريخية التي قالها فيها؟ يتوافق الإزائيون على ربط الجدال حول الصوم بدعوة لاوي ثم بالوليمة التي شارك فيها يسوع العشّارين والخطأة في بيت لاوي. هذا الاتفاق يدلّ على تقليد مشترك سابق لتدوين الأناجيل. وهكذا يبدو التسلسل طبيعياً. ولكن في الواقع هناك تحوّل ظاهر: في أخبار الوليمة التي تلت دعوة لاوي، شدّد النص على أن يسوع أكل مع الخطأة (2: 16 ب). أما في المقطع اللاحق، فهو يشدّد على أن يسوع وتلاميذه لا يصومون. إذن، يبدو الرباط مصطنعاً. وهو لا يستطيع أن يكشف لنا الظروف التاريخية للحوار. ويظنّ معظم الشرّاح أن التقارب بين النصين يعود إلى التقليد، مع العلم أن تلاميذ يوحنا غابوا عن الجدال عند لاوي، وكانوا في المقدّمة خلال الجدال عن الصوم.
ويقدّم لنا مرقس طريقاً أخرى: "كان تلاميذ يوحنا والفريسيون يصومون" (حرفياً: كانوا صائمين في ذلك اليوم). ولكن أي صوم يعني؟ هذا ما لا يوضحه الإنجيلي. نحن لا نعرف صوماً خاصاً بالفريسيين وبتلاميذ يوحنا. وقدّم بعضهم تفسيراً يلفت النظر: زيد "الفريسيون" بقلم مرقس، لأنه اعتاد أن يجمعهم مع سائر خصوم يسوع: الهيرودسيين (3: 6؛ رج 12: 13). الكتبة (7: 1، 5). اليهود (7: 3). هيرودس (8: 15). قد يكون صام تلاميذ يوحنا حزناً على موت معلمهم (رج 6: 29). ولكن هذه مجرّد فرضية وهي لا تلقي الضوء على كلمات يسوع.
ولكن أهمّ من ذلك هو أن نعرف هوية "الشخص" (أو الأشخاص) الذي سأل يسوع. هذا ما ليس بواضح في مرقس. "كان تلاميذ يوحنا والفريسيون صائمين، فجاؤوا وقالوا له: لماذا تلاميذ يوحنا...". يبدو أن محاوري يسوع هم تلاميذ يوحنا والفريسيون الذين يتحدّثون عن نفوسهم في صيغة الغائب. على هذا الأساس، ظن بعض الشرّاح أننا في صيغة المجهول: قيل له، جاء من قال له. فكأني بالجمع هو الذي يطرح السؤال على يسوع.
أما في متى، فتلاميذ يوحنا هم الذين يطرحون السؤال (مت 9: 14). وفي لوقا، السائلون هم الفريسيون والكتبة (لو 5: 30، 33). وحاول الشرّاح بواسطة البراهين الفيلولوجية أن يبيّنوا أن متى يمثّل التقليد الأقدم والأصح تاريخياً. ولكننا ظللنا على مستوى الفرضيات. سوف نرى أن جواب يسوع لا يُفهم إلا بالرجوع الى تلاميذ يوحنا المعمدان، وبالرجوع إلى مجموعة سيتحوّل عداؤها إلى بغض قاتل. وهذه المجموعة تتألف حسب مرقس من الكتبة (2: 6) والفريسيين والهيرودسيين (3: 6).
لا يجعل الإنجيليون تلاميذ يوحنا بين خصوم يسوع. فحين يقتربون منه ليسألوه، فهو يعطيهم جواباًَ إيجابياً (مت 11: 1-6؛ مر 2: 18 ي). ولقد كانوا موضوع "عداءه من قبل الفريسيين، شأنهم شأن تلاميذ يسوع (يو 1: 19-25؛ مت 11: 16-19؛ لو 20: 3-6). ولا ننسى أن يسوع اختار بعض تلاميذه من بين تلاميذ يوحنا. وإذا كان الآخرون ظلّوا مع يوحنا ولم يتبعوا يسوع فلأن يسوع تركهم في طريقهم: هذا هو سرّ الله وخياره. على كل حال، سوف نرى بعضاً منهم يتقبّلون معمودية الروح القدس بعد أن قبلوا معمودية يوحنا، وذلك في أفسس (أع 19: 1-7).
ومهما يكن من أمر الناس الذين سألوا يسوع، من الواضح أن يسوع قدّم الجواب إلى الفريسيين والكتبة كما قدّمه إلى تلاميذ يوحنا. في هذه الظروف نستطيع القول إن الحدث قد يكون حصل بعد اعتراف قيصرية فيلبس (رج مت 21:16).
ج- تأليف النص
يتّفق الشرّاح على القول بأن المثلين الصغيرين حول الثوب العتيق والمرقّع (آ 21)، وحول الخمر الجديدة (آ 22) قد جُعلا قرب الجدال حول الصوم بواسطة مرقس أو بواسطة التقليد السابق له. فبُعد هذين المثلين يتجاوز مسألة بسيطة حول الصوم. نجدهما وقد وُضعا قرب المقطوعة السابقة وهما يفسّران آ 19 لا آ 20. إذن، ليس التسلسل طبيعياً. ولكن ليس المهمّ هنا. فنحن أمام تأمّل كنيسة رومة حول بطرس كما دوّنه مرقس فقدّم أول إنجيل للكنيسة.
وتساءل الشرّاح حول موضوع الصوم وإعلان "اختطاف" يسوع. لا شك في السؤال الذي طُرح على يسوع (آ 18 ب). فنحن في عالم سامي، لا يوناني. لم يقل متّى ومرقس: "لماذا تلاميذك لا يصومون بينما تلاميذ يوحنا...". بل قالا: "لماذا تلاميذ يوحنا (وتلاميذ) الفريسيين يصومون، ولكن تلاميذك لا يصومون"؟
أكّد أصحاب المدرسة التكوينية أن "الكنيسة" ألّفت الحوار كله لتبرّر ممارستها للصوم. وقدّموا براهينهم. ولكننا لا نعرف ممارسة الكنيسة لشعائر التوبة (ومنها الصوم) في أيام تدوين إنجيل مرقس. ثم إن الكنيسة لم تظهر كجماعة "حداد وبكاء". إنها حاملة بشرى وإنجيل. إنها حاملة فرح المسيح. لا شكّ في أن سفر الأعمال يتحدّث عن بعض أصوام، ولكنها كانت ظرفية. وقد دُفع إليها الرسل بسبب حالة خاصة. مثلاً، الإستعداد لحدث كبير هو اختيار المرسلين وانطلاقهم إلى العمل (أع 13: 2-3). وهكذا نجد أن الكنيسة لم تحتج إلى تبرير ممارسة لا شيء يشهد على وجودها كممارسة عادية.
واتخذ يسوع استعارة فسمّى نفسه "العريس". هذه اللفظة كانت خاصة بيهوه (الرب) في العهد القديم. "هل يستطيع أصحاب (أهل) العريس أن يصوموا ما دام العريس معهم" (آ 19 أ)؟ سمّى يسوع نفسه العريس ليدعو تلاميذه إلى الفرح. ثم إن لفظة العريس قد اعطيت معنى مسيحانياً في العصور الأخيرة للعالم اليهودي. هذا ما نجده في ترجوم المزامير ولا سيّما مز 45. ويسوع نفسه اتخذ اسم العريس في مثل العذارى (مت 25: 1 ي). وهو العريس الحقيقي في عرس قانا الجليل، يدعو الكنيسة إلى أفراح لا تنتهي فيسقيها من خمرة مسيحانية فاضت ولم تزل تفيض حتى نهاية العالم (يو 2: 1- 12). ونقرأ في فم يوحنا المعمدان هذا القول عن يسوع: "من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس، القائم بقربه، فإنه يهتزّ فرحاً لصوت العريس. فذلك هو فرحي وقد اكتمل" (يو 3: 29). ويستغلّ بولس الرسول رمزية العرس هذه في الرسالة الى افسس (5: 21- 32: هو عريس الكنيسة) وإلى كورنتودس (2 كور 11: 2). ولا ننسى أن سفر الرؤيا يتحدّث عن عرس الحمل (رؤ 19: 7- 9؛ 21: 2، 9). إنه العريس الذي تدعوه العروس (أي الكنيسة) والروح ويقولان له: تعال (رؤ 22: 17). يهوه هو العريس. ويسوع هو العريس. وهذا يدلّ على الوهية يسوع المساوي لله الآب كما عرفه العهد القديم.
أما آ 19 ب-20 (يجيء وقت يُرفع، يُختطف العريس) فهما تأمل الكنيسة في ما قاله يسوع وتطبيق على وضعها كجماعة مضطهدة في رومة حوالي سنة 70. ستأتي أيام يُرفع فيها العريس (آ 20 أ). تلك الأيام هي أيام آلام يسوع وقيامته. يُرفع يسوع على الصليب، ويُرفع في مجد الصعود. وهكذا تُرفع الكنيسة في "الإضطهاد" ولكنها ستعرف مجد يسوع وقيامته.

2- موضوع الصوم (آ 18- 20)
أ- معنى الصوم في العهد القديم والعالم اليهودي
لم تكن ممارسة الصوم خاصة بشعب إسرائيل. فنحن نجدها في ديانات عديدة، حديثة وقديمة. قد نفسّر هذه الممارسة في نظرتنا الحديثة على أنها "نسك" ينمّي السيادة على النفس والاستقلالية عن الخيور المادية. أو: عمل "إمانة" وتضحية. ليس هذا هو المدلول الديني الأول للصوم.
إذا عدنا إلى العهد القديم وجدنا ظرفين رئيسيين يُطلب فيهما الصوم: حصلت مصيبة كبيرة فنصوم توبة وحداداً. هناك حدث مهمّ، نستعدّ له بالصوم. يموت عندنا شخص فنصوم ونمارس الحداد. وهكذا صار فعل "عنا" في الارامية يعني الصوم والحداد. وقد يكون مت 9: 15 استعمل. فعل "بنتاين" الذي يعني مارس الحداد في معنى "صام".
بعد معركة الجلبوع، صام أهل يابيش سبعة أيام، هي أيام الحداد العادية (1 صم 31: 13). وحين علم داود بموت شاول ويوناتان، مزّق ثيابه وبكى وصام حتى المساء (2 صم 1: 12). وصام أيضاً حتى المساء بعد موت ابنير، قائد جيش شاول (2 صم 3: 35). أما يهوديت فستفعل أكثر من ذلك: ستصوم "كل أيام ترمّلها" (يه 8: 5-6). وسارت حنة النبية على خطاها (لو 2: 37). وصام اليهود أيضاً ليتذكّروا أحزانهم الوطنية (زك 8: 19؛ رج 2 مل 25: 1- 4).
ويصوم المؤمن أيضاً استعداداً للقاء بالرب (أش 58: 2- 3). فالحرمان يخلق الجوع والعطش إلى أكثر من الطعام أو الشراب. ويحرّك الانتظار. هكذا كان موسى في سيناء، ثم إيليا. والصوم قبل المعركة يدلّ على التوسّل، بل على الإستعداد: الله سيقاتل مع شعبه ويكون في المقدمة (1 صم 14: 24؛ 1 مك 3: 47). وصام دانيال ليستعد للإقتراب من الله، لينال أنواره (دا 10: 1- 3). وإذا كان يوم التكفير (يوم كيبور) يوم صوم، وهو الصوم الوحيد الذي تفرضه الشريعة، فليس لأن الصوم يكفّر عن الخطايا، بل لأنه يهيّىء المؤمنين للإقتراب من الرب الذي وحده يغفر الخطايا (لا 16: 29؛ عد 29: 7). وهكذا نفهم لماذا جُمع الصوم مع الصلاة (مت 6: 5- 18؛ لو 2: 37؛ أع 13: 2- 3).
ولكن قد يصبح الصوم في بعض المرات ممارسة خارجية محضة: لا نصوم حباً بالله (زك 7: 5) بل لنجعل ضميرنا "مرتاحاً" بدون تعب (أش 58؛ إر 14: 12). أو لنستجلب إعجاب الناس بنا. لهذا وبّخ يسوع الفريسيين لأنهم يتباهون بصيامهم (مت 6: 16؛ لو 18: 12).
وكان يوحنا المعمدان قد فرض على نفسه الأصوام القاسية (رج مت 3: 24)، وعلّم تلاميذه هذه الممارسة، ليجعل نفسه في خطّ الإستعداد الاسكاتولوجي والمسيحاني (وهكذا يكون منطقياً مع كرازته). في هذا المنظار نفهم جواب يسوع عن الصوم. فالذين تشكّكوا لأنهم رأوا أن تلاميذ يسوع لا يصومون، لم يفهموا المعنى الحقيقي للصوم. لقد نسبوا إليه قيمة مطلقة ومستمرة. أصاب سؤالهم التلاميذ. ولكنهم أرادوه أن يصل إلى المعلّم نفسه. فهناك مقطع آخر يخبرنا على أن عدداً من الناس تشكّكوا حين رأوا أن يسوع ليس ذاك الناسك الذي عرفوه في يوحنا المعمدان: يقبل الدعوات المتواترة إلى ولائكم كبيرة: عرس قانا، وليمة عند لاوي... (2: 16؛ لو 15: 2). بل دعا نفسه في يوم من الأيام عند زكا، رئيس العشّارين (أي: السارقين، كما يقولون) في أريحا، فسمّي "أكولاً وسكيراً" (مت 11: 19).
ولكن طريقة تصرّف يسوع هي علامة. علامة مشاركة مع الآخرين. علامة مصالحة مع الخطأة باسم الله: إفرحوا معي (لو 15: 6، 9. هناك وليمة ولا شك). لنأكل ونفرح (لو 15: 23- 24: ذبح العجل المسمّن). إنها علامة أنبأ بها الأنبياء وتحدّث عنها الحكماء: إن الوليمة المسيحانية مفتوحة للجميع (رج أش 25: 6؛ 55: 1- 2؛ أم 9: 1-6). لهذا كان يسوع يفرح عندما يأكل على عيون الجميع مع العشّارين والخطأة. فهم أيضاً مدعوون إلى وليمة الله.
كان الصوم في مكانه في زمن الإستعداد لمجيء المخلّص. "لقد بقي الناموس والأنبياء إلى يوحنا. ومنذئذ يبشَّر بملكوت الله" (لو 16: 16). أما والمسيح هو الآن هنا، فلم يعد الوقت وقت الصيام. فالذين ما زالوا يتعلّقون بالصيام بهذه الروح، لم يتعرّفوا بعد إلى "علامات الأزمنة" (مت 3:16).
إن المعجزات التي أتمّها يسوع (شفاء الأبرص: مر 1: 40-45؛ المخلّع: 2: 1-12) هي علامة عن الملكوت. وأكلُ يسوع مع الخطأة ووضعُ تلاميذه الذين لا يصومون، يصبحان علامة للذي يعرف أن يقرأها ويفهمها. فيسوع لا يعلّم فقط بأقواله: فسلوكه نفسه هو تعليم. إن أعماله هي فعلات رمزية، على مثال الأنبياء القدماء. لهذا يبدو وكأنّه يشكّك الناس على مثال هؤلاء الأنبياء. مثلاً، مشى أشعيا حافيا عارياً في شوارع أورشليم ليدلّ على وضع البلاد بعد زحف الأشوريين (أش 20: 1- 6؛ رج حز 4: 1 ي). ويسوع شكّك الناس حين ذهب إلى بيت زكا العشّار الخاطىء. أين أهل التقى والورع في إريحا؟ وعلى خطاه سار التلاميذ: مثله ذهبوا إلى الولائم. بل اقتلعوا السنابل وفركوها يوم السبت (2: 23- 24). وأكلوا طعاماً دون أن يغسلوا ايديهم (7: 1- 5).
ب- العريس
الوليمة المسيحانية هي وليمة أعراس. لهذا لم يخف يسوع من أن يسمّي نفسه العريس. وتلاميذه هم أصحاب العريس. سمّى يوحنا المعمدان نفسه صديق العريس الذي يترك المكان حالما ينتهي العرس. وعرس يسوع قد احتفل به في قانا الجليل. فيسوع مع تلاميذه هو علامة عن اتحاد يسوع مع الجماعة المسيحانية (شعب الله) التي هيّأها يوحنا.
وسيقول متّى في هذا المجال: "يشبّه ملكوت السماوات بملك صنع عرساً لإبنه". هو الرب يدعو شعبه، يدعو البشرية إلى أعراس ابنه، ولكن المدعوين اعتذروا (مت 22: 1- 10). وهكذا صارت المأدبة العادية وليمة في ملكوت الله (لو 14: 15)، وليمة المسيح ويسوع المسيح.
قابل يسوع الوضع الذي يعيش فيه مع عرس، فبرّر عدم صوم تلاميذه. ولكنه لم يرد أن يبرّر نفسه. فهو ليس بحاجة إلى ذلك. ففي حديثه عن العرس، أراد أن يعلن بشارة الملكوت. ليس جوابه دفاعاً يتأسّس على براهين كتابية كما في عالم الفتاوى. إنه كرازة تفوّه بها بسلطان كما يفعل الأنبياء. واستعمل لغة مليئة بالصور حسب فن أدبي عرفه الأنبياء والرابانيون، هو المثل.
ج-" إختطاف" العريس
إستعمل يسوع فعلاً لم نعتد عليه. "رُفع، أُخِذ، اختُطِف".
هنا نتذكّر ما في نشيد عبد الله في أش 53: 8: "إختطفت، انتُزعت حياته من الأرض" (حسب الترجمة السبعينية). في اللغة البيبلية، الخطف أو الإختطاف يعني الموت المأساوي. قال خصوم أرميا: "ننتزعه من أرض الأحياء" (إر 11: 19). ونقرأ في مت 24: 40: "يكون إثنان في حقل، فيؤخذ الواحد ويُترَك الآخر". ثم إن الجموع طلبت من بيلاطس موت يسوع فقالت: "إرفعه" (لو 23: 18؛ يو 19: 15). وسيطلق اليهود الصراخ عينه ضد بولس (أع 21: 36؛ 22: 22). إذا رُفع يسوع أو اختطف، هذا يدلّ على موته. ولكن حياة يسوع لا تنتهي بالموت.
لهذا لا نستطيع أن ننسى فعل "أخذ" أو "رفع" أو "اختطف" فيما يتعلّق بأخنوخ (تك 5: 24: سلك اختوخ مع الله، سار بحسب وصاياه، فأخذه الله إليه عبر موت في حياة سعيدة)، وإيليا (2 مل 2: 3 ي). وسيقول مز 49: 16: "الله يفتدي حياتي من الموت حين يأخذني (إليه)". ومز 73: 24: "بمشورتك تهديني، وإلى المجد تأخذني من بعد".
في المعنى الأول نجد تشديداً على الموت، وفي المعنى الثاني تشديداً على المجد. ولكن في الحالتين نجد الموت العنيف الذي ينتظر يسوع. ثم إننا لا نستطيع أن نفصل المجد عن الموت حين نذكر سرّ الفصح. هذا ما نفهمه من لو 9: 51: زمن اختطاف يسوع وارتفاعه يدل على موته في أورشليم وصعوده إلى السماء (رؤ 12: 5).
إن كلمة يسوع في الصوم هي إعلان خفي عن انفصاله عن التلاميذ. انفصال بموت مأساوي لا بموت طبيعي. سيخطفون له حياته وهذا الإعلان هو في مكانه، لأن يسوع يلاقي المعارضة العنيفة، لا سيما وأن الفريسيين هم من الذين يطرحون عليه السؤال لكي "يحرجوه".
د- في ذلك اليوم يصومون
إن الصوم الذي يليق بالمؤمن إستعداداً لمجيء المسيح، لم يعد في مكانه بعد أن يأتي المسيح. ولكن سنعود إلى الصوم فيما بعد كعلامة للحداد. هل نحن أمام صوم بالمعنى الحرفي للكلمة أم أمام استعارة تدلّ على حزن التلاميذ وجهادهم بعد ذهاب معلّمهم؟ المعنيان موجودان.
هناك أولاً المعنى الحرفي. فيسوع لم يُلغِ الصوم. ولو أراد لما أعطى قواعد حول طريقة ممارسته (مت 6: 16-18: متّى صمتم). بل هو نصح به للحصول على نعم خاصة: "هذا الجنس (من الشياطين) لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" (9: 29. قد تكون لفظة "الصوم" حاشية زيدت فيما بعد، هذا حسب عدد من المخطوطات). ويشهد سفر الأعمال أن الكنيسة الرسولية مارست الصوم في مناسبات خاصة (أع 13: 2؛ 14: 23؛ رج 2 كور 6: 5؛ 11: 27).
وهناك ثانياً المعنى المجازي. وهكذا نلتقي بصور موازية استعملها يسوع حين تحدّث عن الاضطهادات التي سيتحمّلها التلاميذ بعد ذهابه (يو 15: 20): دموع وآلام الولادة (يو 16: 20- 21)، سيف نشتريه (لو 22: 36-38).
"في ذلك اليوم". هذه صيغة المفرد وهي تتعارض مع صيغة الجمع في الجملة السابقة: "ستأتي أيام" (صحّح متى ولوقا ما اعتبراه "إهمالاً" في نص مرقس). ما أراده مرقس هو أن يشدّد على البعد النبوي لكلمة يسوع: ذلك اليوم هو يوم الرب كما تحدّث عنه عاموس (5: 18- 20) وزكريا وسائر الأنبياء.

3- ثوب عتيق وزقاق عتيقة (آ 21- 22)
مثلان متوازيان توازياً دقيقاً. فلا نفصل الواحد عن الآخر. هما معاً في التقليد الإزائي، بل حتى في إنجيل توما المنحول حيث الزقاق العتيقة تأتي قبل الثوب العتيق. ولكن ما اختاره يسوع من رموز يتكامل. يشدّد المثل الأول على الثوب العتيق، ويبرز المثل الثاني الخمرة الجديدة.
إن صورة الثوب العتيق تبدو شفافة في إطار الأناجيل الإزائية: إنها تدلّ على كل عناصر التدبير القديم (العهد القديم) التي هيّأت مجيء المخلّص. حين نقرأ مز 102 نجد أنه يُقابل بين العالم وثوب بالٍ سيحلّ محلّه ثوب جديد: "من قديم أسّست الأرض، والسماوات من صنع يديك. فهي تبيد وأنت تبقى، وكلها كالثوب تبلى، وكاللباس تغيّرها فتتغيّر. أما أنمت فلا تتغيّر، وسنوك يا رب لا تفنى" (آ 26-28).
هذا هو موضوع الخليقة الجديدة في أشعيا (51: 6؛ 65: 17؛ 66: 22). ونجد الصورة عينها في رؤية بطرس قبل ذهابه إلى كورنيليوس، القائد الروماني (أع 10: 11- 12؛ 11: 5- 10).
إذا رقّعنا ثوباً عتيقاً بقطعة قماش جديدة، يتمزّق الثوب من جديد. هذه هي الخبرة اليومية. ويطبّقها يسوع. لا فائدة من استعادة ممارسات من التدبير القديم ووضعها في التدبير الجديد. وسيعود بولس إلى هذا الموضوع، خصوصاً حين يتحدّث عن الختان (غل 5).
ومثل الزقاق يرتبط برمز الخمر الذي له تاريخ طويل في الكتاب المقدس. فالخمر (مع الحنطة) هو موضوع بركات منحها اسحق لابنه يعقوب (تك 27: 28، 37)، وموسى لأشير (تث 33: 28). والرب لإسرائيل (تث 11: 14؛ 28: 5) شرط أن يكون أميناً للعهد. ومقابل هذا، العقاب الكبير الذي يصيب الخطأة هو أن لا يشربوا من خمر كرمتهم ومعصرتهم، أن لا يقطفوا الحنطة التي زرعوها (تث 28: 39، 51؛ عا 5: 11؛ هو 2: 10- 11؛ مي 6: 15). من امتلك الخمر كان سعيداً، لأن الخمر يفرح قلب الإنسان (مز 104: 15، جا 10: 19؛ سي 31: 27-28). يرتبط وجود الخمر بالفرح (إر 31: 12)، وغيابه بالحزن (أش 16: 10؛ إر 48: 33). ووفرة الخمر هي جزء من المواعيد الاسكاتولوجية (عا 9: 14؛ هو 2: 24؛ 4: 8؛ إر 31: 12) والمواعيد المسيحانية (تك 49: 10- 11: رج مر 14: 25 حيث يتحدّث يسوع عن الخمر الجديد الذي يشربه في ملكوت الله).
وقد يتّخذ الخمر مدلولاً مجازياً: هو الخمر الروحي الذي تقدّمه الحكمة في الوليمة الاسكاتولوجية (أم 9: 25؛ سي 24: 17- 18). هو خمر عطايا الله الذي يقدّم مجاناً للجائعين إلى الخيرات الروحية الحقيقية (أش 55: 1). هو رمز العرس، وبه ينشد الكتاب حبّ الله لشعبه في الأزمنة الاسكاتولوجية (نش 1: 2، 4؛ 4: 10).
ومعنى نصّ مرقس (آ 22) واضح: لا حاجة إلى إعطاء نظم العهد القديم كإطار لتفجّر العهد الجديد. حينئذ سنخسر العتيق والجديد. نقرأ في مت 25: 29: "من ليس له (خيرات العهد الجديد) يؤخذ منه ما له (خيرات العهد القديم)".
ونجد التعليم عينه في خبر عرس قانا. تحوّلت مياه تطهير اليهود إلى خمر جيّد من أجل النهاية. وخبر السنابل المقتلعة والرجل اليابس اليد يعلن تبديلاً على مستوى السبت: انتقال من القديم إلى الجديد.

الخاتمة
نجد في هذا المقطع الإنجيلي لوحة متوازنة فيها الفرح والمحنة، القديم والجديد: فرح يرمز إليه العرس، ومحنة يدلّ عليها الصوم. الحرف يقتل (2 كور 3: 6). والممارسات القديمة التي نقوم بها بروح شريعانية تثق بالأعمال هي زقاق بالية وأثواب عتيقة. ولكن الروح يحيي. فيدلّ الكنيسة كيف تعيش الإنجيل في الزمن الحاضر، كيف تعلن الإنجيل فتشهد لموت الرب وقيامته بالكلمة وبكل حياتها، تعلنه بفرح يشعّ وتفاؤل أقوى من الموت

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM