الفصل السابع عشر السبت للإنسان

الفصل السابع عشر
السبت للإنسان
2: 23- 3: 6

إن حدث السنابل المقطوفة (23:2- 28) وحدث شفاء رجل يده يابسة (3: 1- 6) يحصلان كلاهما يوم السبت. ما معنى كل من هذين الخبرين؟ هل يقدّمان جواباً على أسئلة محدّدة طرحتها جماعة مرقس؟ إذا أردنا أن نكشف نظرة الإنجيلي، نبدأ فنضع هذين النصين في إطارهما! ثم نحاول أن نتبع تاريخ كل من هذين الخبرين؛ وهكذا نكتشف بعض المواضيع الهامة في إنجيل مرقس.

1- السياق الإنجيلي
إستعاد مرقس تقاليد قديمة، فدوّنها بطريقته الخاصة، لا سيّما في بداية إنجيله. ففي العنوان أعطانا جوهر إنجيله: إنجيل (بشرى) يتحدّث عن يسوع المسيح وابن الله (1: 1). ثم يقدّم لنا شخص يسوع عبر ثلاثة أشخاص: بواسطة أشعيا النبي: هو الرب الذي نعد له الطريق (1: 2- 3). بواسطة يوحنا المعمدان: هو الذي يعمّدنا بالروح القدس (آ 6- 8، اختلف مرقس عن متّى ولوقا فقال إن المعمدان هو رسول أمام وجه الرب. إنه لا يعلن إنجيل الملكوت). بواسطة الروح القدس: هو يمثّل شعب الله (هذا هو معنى الحمامة) الذي يحلّ عليه الروح ويرسله إلى البرية لكي يحارب إبليس (آ 8- 21). وتأتي إجمالة تلخّص إنجيل الملكوت الذي أعلنه يسوع المسيح (آ 14- 15): "تمّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل". وأخيراً نجد نداء التلاميذ الأربعة، فيعطينا صورة عن قدرة يسوع وفاعلية هذه البشرى التي يحملها (آ 14- 20).
وبالإيجاز عينه جمع مرقس في إطار يوم في كفرناحوم (1: 21- 39) سلسلة من "التعاليم" حسب المعنى الذي يعطيه مرقس لهذه اللفظة. التعاليم هي أقوال وأعمال تدلّ على يسوع العامل بقدرته وسلطانه. فإذا جعلنا جانباً صياح الشياطين المقهورين، نرى أن يسوع أثار إعجاب سامعيه. علَّم فتعجَّبوا من تعليمه (آ 22). أخرج شيطاناً فذاع صيته في البلاد (آ 28). شفى حماة بطرس فتوافد إليه جميع المرضى (آ 32)، بل تراكض الناس وراءه يطلبونه (آ 37). وشفى الأبرص، فأخذ هذا يذيع الخبر في كل مكان (آ 39).
ولكن هذا الوضع لا يدوم. فجاءت خمس مجادلات (2: 1- 6:3) تكشف أولى المعارضات. والمقطع الذي ندرس (2: 23- 3: 6) يروي المشهدين الآخرين في هذه السلسلة من المجادلات. المقطوعات المركزية (أكل مع الخاطئين، 2: 15؛ جدال حول الصوم، 2: 18؛ السنابل المقطوفة، 2: 23) تشكّل وحدة قديمة: بُنيت حسب الرسمة الواحدة (ترد كلمة "لماذا" ثلاث مرّات: آ 16، 18، 24)، فتطرّقت إلى مسائل الطعام وتصرّف يسوع أو تلاميذه في المجتمع. وجُعلت قبل هذه المقطوعات رواية شفاء المخلّع (2: 1- 12)، وبعدها شفاء رجل يده يابسة (3: 1-6)، وتوسّع فيهما مرقس بشكل جدال بين يسوع وخصومه. من يغفر الخطايا إلاّ الله وحده؟ هل يشفي "رجل الله" مريضاً يوم السبت؟
وطبع مرقس هذه السلسلة القديمة بطابعه، فأقحم دعوة لاوي ليعطي صورة عن موقف يسوع الذي جاء يدعو الخطأة لا الأبرار: إنه يفكّر في جماعة من أصل وثني. إختلف مرقس عن متّى (فجّر وحدة هذه المتتالية وقسّمها قسمين: 9: 1- 13 ثم 12: 1- 14) ولوقا (ترك لفظة "لماذا" التي ترد ثلاث مرّات عند مرقس)، فحافظ على هذه الوحدة وقوّاها حول محور تشكّله أقوال يسوع حول العريس الذي يُرفع (18:2- 22).
وتتّخذ هذه السلسلة أهمية خاصة في إنجيل مرقس، لأنها تحتلّ بداية رسالة يسوع العلنية. ولكن سيتمّ الانقطاع سريعاً بين يسوع والسلطات اليهودية (3: 6). وقبل الآلام حالاً، ستنتهي رسالة يسوع العلنية بسلسلة أخرى من خمس مجادلات (11: 27- 12: 37). كل رسالة يسوع تتمّ داخل مشاهد تكون فيها المواجهة قاسية بينه وبين خصومه.
نحن هنا حقاً في مناخ "قتال". سنجد الخصوم مندفعين كما سيكونون في خبر الآلام. كلهم يراقبون يسوع، والواحد بعد الآخر. هناك الكتبة (6:2)، ثم الكتبة من حزب الفريسيين (16:2). ثم الفريسيون (2: 23) وأخيراً الفريسيون والهيرودوسيون (3: 6).
يسوع هو محور هذا القسم. يواجه ببعض عبارات قاطعة أسئلة خصومه وما فيها من سقم: "إن لإبن الإنسان سلطاناً به يغفر الخطايا" (2: 10). "ما جئت أدعو الصديقين". "لا يضع أحد خمرة جديدة". "جُعل السبت للإنسان". "هل يحل فعل الخير أم فعل الشّر يوم السبت"؟ هذه الأجوبة تدلّ على شخصه ورسالته، فتكوّن نواة كل جدال.
وهناك مجموعتان تبدوان حكَماً في هذا الصراع: الجمع والتلاميذ. فالجمع "معجب" (2: 12) وهو يأخذ جانب يسوع. والتلاميذ يتصرفون بحرية وعدم اهتمام، يقومون بفعلات مشكّكة: لا يتدخلون في المجادلات. وفي النهاية يتركون "المسرح".
إذن، الإطار العام هو إطار مواجهة عنيفة بين يسوع وخصومه. والكلمة الأخيرة هي ليسوع. أقلّه في الوقت الحاضر.

2- تاريخ الخبرين
أ- السنابل المقطوفة
أولاً: اختلافات في النصوص الإزائية
هناك اختلاف بين نص وآخر، يتيح لنا أن نتتبع تاريخ الخبر.
* لا نجد آ 27 (الله جعل السبت للإنسان) إلاّ في مرقس. يعتبر الشرّاح أن مرقس زادها على النصّ الذي جاءه من التقليد. لا شك في أن يسوع احترم الشريعة اليهودية (مت 5: 17). ولكن الانسان أعظم من السبت. وقد تدلّ هذه الآية على صراع بين اليهود واليونان داخل كنيسة رومة.
* ولوم التلاميذ عند متّى ولوقا يفترق عمّا نجد في مرقس. عند متّى ولوقا اقتلع التلاميذ السنابل ليأكلوا: إنهم جائعون. ولقد سمح تث 23: 26 للإنسان أن يقتلع سنابل بيده، لا أن يستعمل المنجل. ولكن يبدو أن هذا التسامح زال مع الأيام. أما عند مرقس، فالتلاميذ يقتلعون السنابل ليفتحوا لهم طريقاً في الحقل. عملهم عمل "تخريب". في هذا المجال، يمثّل جواب متّى ولوقا تقليداً قديماً. فجواب يسوع يستند إلى ما فعله داود ورفاقه: أكلوا خبز التقدمة، أكلوا طعاماً لا يسمح لهم بأكله.
* ولكن ما يجعل الأمر خطيراً ويبرّر اللوم، هو أن ما عمله التلاميذ عملوه يوم السبت. في الوضع الحالي للنص، هذا العمل يحدّد ما فعله خصوم يسوع، ويربط بين هذا المشهد والذي سبقه. ولكن لا يبدو أن ذكر السبت وُجد في أول تدوين. هذا هو الوضع بالنسبة إلى خبر المخلّع عند يوحنا (ف 5). ولكن كيف نفسّر وجود الفريسيين يوم السبت. فالمسافة المسموح بقطعها يوم السبت هي قصيرة. هل نحن أمام فريسيين يعيشون في الريف؟ ثم إن جواب يسوع الذي يورد الكتاب لا يشير إلى السبت حين يتحدّث عن تجاوز داود للشريعة.
ثانياً: مراحل الخبر
إنطلاقاً من هذه الملاحظات الثلاث، نستطيع أن نرسم مختلف مراحل الخبر.
* في المرحلة الأولى. إقتلع التلاميذ سنابل لأنهم كانوا جائعين. ولما فعلوا هذا، إستاء الفريسيون. أجابهم يسوع مقدّماً مثال داود: لا تقف شريعة أمام ضرورة حياتية. وتجاه قساوة ضيقة تعطي الأولوية للشريعة، أظهر يسوع وسع تفكير مدهش، وأعطى الأولوية لحاجات الإنسان الأساسية. بعد هذا، أقامت الجماعة المسيحية الأولى توازياً ضمنياً بين داود ويسوع: إذ كان داود قد تجاوز الشريعة وسمح لرفاقه بأن يتجاوزها، فلماذا لا يستطيع تلاميذ يسوع أن يقتلعوا سنبلاً يوم السبت؟ فمعلّمهم أعظم من داود وهو يحميهم بسلطانه وحضوره.
* في مرحلة ثانية، ولكن سابقة لتدوين الأناجيل، تحدّد زمن هذا الحدث في يوم سبت. وهكذا صار الذنب خطيراً. فالسبت في نظر اليهودي يدلّ على دخول زمن الله في زمن البشر. فمن احتفل بالسبت شارك الله في عمله الخلاّق. ومن احتقر السبت احتقر هذا العمل. وكل تعدٍّ على السبت يعتبر ذنباً خطيراً.
في هذا الإطار يصبح لجواب آ 28 (ابن الانسان هو سيد السبت) معنى عميق جداً: فالجماعة الأولى رأت في يسوع ابن الإنسان (حسب دانيال) وأقرّت ان له سلطاناً يغفر به الخطايا في المجادلة الأولى (2: 10). ويتبدّل بُعدُ المشهد: لم نعد أمام إعجاب واقتداء باتساع نظرة يسوع. يسوع هو ابن الانسان، هذا الشخص السري والسماوي، الذي يدشن دينونة نهاية الأزمنة حسب دا 13:7- 14 والتقليد اليهودي. بما أن الله وحده هو سيد السبت، هذا يعني أننا نرى في شخص يسوع كرامة إلهية.
* خبر متّى. توسّع متّى في موضوع ابن الانسان، سيّد السبت (قط 12: 5- 7): إذا كان يحق للكهنة أن يتعدّوا شريعة السبت، لأن خدمة الرب في الهيكل أهمّ من شريعة السبت، فكم بالأحرى يستطيع يسوع أن يتجاوز هذه الشريعة لأنه "أعظم من الهيكل". وهكذا يشير متّى إلى مسيحانية يسوع الفريدة.
وحين زاد متّى قول هو 6:6 (أريد رحمة لا ذبيحة)، جدّد موقع يسوع في التقليد النبوي العظيم، تقليد العبادة بالروح والحق: فعبادة يهوه الحقيقية لا تقوم أولاً بممارسة شكلية للفرائض، بل بتقدمة القلب ومحبّة الآخرين. هذا المستوى الأخير يعكس جماعة مسيحية من أصل يهودي تصارع الفريسيين حول ممارسة الشريعة اليهودية ولا سيّما في ما يتعلّق بالمحافظة على السبت.
وهذا واضح، لأن البراهين التي جاء بها النصّ عن داود وممارسة الكهنة، هي صدى لجدالات تفسيرية بين الصادوقيين والفريسيين: كان الصادوقيون قساة على الآخرين، ولكنهم سمحوا لنفوسهم بتجاوز شريعة السبت في الهيكل (مت 12: 5). أما الفريسيون فاستندوا إلى ما فعله داود فأكّدوا أنهم يستطيعون تخليص حياة من الموت يوم السبت. وهكذا يردّ متّى على الفريسيين بلباقة، فيستعمل براهينهم ضدّ الصادوقيين.
إن الجماعة المسيحية المتهودة التي إليها يتوجّه يسوع، ظلّت في البداية أمينة للممارسة اليهودية الدينية كالختان والسبت. ولما اكتشفت تدريجياً الجديد الحقيقي الذي أدخله يسوع المسيح، وعت أصالتها وجديد عبادتها. وما كانت لتستطيع أدن تخطو هذه الخطوة لو لم تجد في حياة يسوع نفسها أساساً يسند هذا الاكتشاف.
وجاء عرض مرقس موازياً لعرض متّى. أخذ خبره من المرحلة الثانية في التقليد وحوّله في خطين.
توجّه مرقس إلى مجتمع وثني لا يفهم إلاّ بصعوبة الفرائض المتعلّقة بالسبت. فاختار ذنباً يلفت النظر وهو المرور في حقل وتخريب مزروعاته. ولكن تأثّر منطقُ الخبر بهذا التبديل وما عاد يفيد مثل داود وما فعله في أيام أبياتر، عظيم الكهنة.
وزاد مرقس آ 27: "جعل السبت للإنسان، لا الإنسان للسبت". "وهكذا أعطى المشهد بعداً جديداً، وأبعده عن مواقف الرابانيين حتى المتطوّرة منها. لا شك في أن بعض الرابانيين أعلنوا مبادىء واسعة: "سلّم السبت إليكم، وما سلّمتم إلى السبت". ونصح معلّم آخر بأن "ينجّس الإنسان سبتاً واحداً ليستطيع أن يحفظ سبوتاً عديدة". ولكن مثل هذه المواقف كانت نادرة لا سيما في زمن يسوع حيث كان الإتجاه العام تصليب الفرائض المتعلّقة بالسبت. كما أنها لم تضع يوماً على المحك الطابع المميّز لاختيار اسرائيل. فالاختيار وأن طُبع بالسبت، يبقى الأول، يبقى سابقاً للسبت: وباسم هذا الامتياز العرقي يكون بعض التنازل في قاعدة السبت.
إن يسوع كما يقدّمه لنا مرقس، يعلن مبدأ انفتاح وشمول شكّك اليهود. لم نعد أمام شواذ خاص تبرّره أمثلة بيبلية، ولا أمام امتيازات لشعب محدّد. نحن أمام الانسان، كل إنسان: منذ اليوم، السبت (ومن خلال السبت الشريعة الآتية من الله أو من البشر) هو في خدمة الإنسان وليس العكس. وهذا يشكّل للعالم اليهودي في ذاك الوقت، ثورة حقيقية، ثورة جذرية.
مثل هذا القول نفهمه في جماعة تحرّرت من مسائل الممارسة اليهودية، وانفتحت على كل إنسان مهما كان عرقه. وهذا ما يقابل الجماعة المسيحية في رومة. فإليها وجّه مرقس إنجيله.
نورد هنا قولاً يتجادل الشرّاح في صحته لأن المخطوط البازي وحده يذكره. نقرأ في لو 6: 5: في اليوم عينه، رأى إنساناً يقوم بعمل في يوم السبت. فقال له: "أيها الرجل، إن كنت تعلم ما تصنع فطوباك. ولكن إن كنت لا تعلم فأنت ملعون ومتجاوز للوصية".
ب- شفاء رجل يده يابسة (3: 1- 6)
أولاً: مراحل الخبر
إن هذا الخبر الثاني (3: 1- 6) تبع تطوّراً شبيهاً بما في الخبر الأول (23:2- 28).
* في الأصل، خبر شفاء. هناك إشارات تجعلنا نفترض أن الطبقة القديمة لم تتضمّن ذكر السبت. لا يُذكر السبت في آ 1. ثم إن الأقسام التي يتوازى فيها متّى ومرقس، لا تذكر السبت ولا تكوّن خبراً متماسكاً جداً. "ودخل في المجمع. وكان هناك رجل يده يابسة. فقال للرجل، مدّ يدك. فمدّها فشفيت".
ونستطيع أن نلخّص الخبر: دخل يسوع إلى المجمع. يد يابسة. مراقبة يسوع. سؤال. عمل الخير. عمل الشر. خلّص. قتل. صمت. نظر حوله. يد شُفيت. خرج الفريسيون من المجمع.
* قبل مرقس. توسّع التقليد في خبر الشفاء هذا في إطار السبت وجُعل بشكل جدال. وفي النص الحالي احتلّ خبر الشفاء حيّزاً صغيراً. وتركّز كل شيء على المواجهة بين يسوع وخصومه: تمّ الشفاء في قلب المجمع (الفريسيون هم هنا في بيتهم، في بيت الشريعة). وتمّ يوم السبت (ربّما) خلال إجتماع ليتورجي. إطار هذه المواجهة إطار مقدّس. وقد تمّ في الجليل. إنه يعطي صورة مسبقة عن المواجهات الأخيرة في أورشليم، في الهيكل، حالاً قبل الآلام.
* نص مرقس. أبرز مرقس عنف هذه المواجهة. وقد بُني خبره على سلسلة من التعارضات. أزيل الأشخاص الثانويون (الشعب، التلاميذ). فظلّ يسوع وحده تجاه خصومه الذين سنتعرّف إليهم في نهاية الخبر. كانوا يراقبونه بصمت. لا يهمّهم أمر المريض، بل ينتظرون شفاء ليمكنهم اتهامه. صمتوا خلال المقابلة كلها. أما يسوع فعمل وتكلّم في وضح انهـار، وتجنّب كل التباس في تصرّفه. هو الذي اتخذ المبادرة، وهذا ما لم يفعله في المشهد السابق حيث لم يهاجمه الخصوم بل هاجموا تلاميذه. إتخذ المبادرة فبدا موقفه تحدّياً.
طالب يسوع بمسؤولية ما سيتبع (هو المسؤول). جاء بالمريض إلى وسط القاعة. ثم طرح سؤالاً علي خصومه، كما اعتادت "المدارس" أن تفعل: "هل يحقّ..."؟ سؤال طُرح بفنّ مع بعض التباس: لا شك، يحقّ للإنسان أن يتجاوز السبت ليخلّص حياة (طرح يسوع سؤالاً ينتظر أن يكون الجواب الإيجاب). ولكن هذا التجاوز لا يسري حسب الرابانيين إلاّ في حالة الموت القريبة. ولكن الوضع هنا ليس كذلك.
لم يترك يسوع خصومه يسجنونه في براهين الفتاوى. بالنسبة إليه، السبت هو الساعة التي فيها الله يخلّص. هو وقت التحرير. فمن لم يشفِ مريضاً كان وكأنه قد قتله. لقد بدّل يسوع تبديلاً كاملاً الطريقة العادية للمجادلات في هذا الموضوع: إن هذه المقابلة مع أحداث أخرى جرت يوم السبت، تبرز أصالة هذا المقطع الذي ندرس (رج لو 13: 10- 17؛ 14: 1- 6؛ يو 5: 1- 19؛ 9: 1- 41). ويشكّل جواب يسوع إنتقالة بين سائر الأخبار الإزائية والأخبار اليوحناوية.
في الأخبار الإزائية (بما فيها نسخة متّى التي تجمع خبر مرقس مع لو 14: 5)، نجد رسمة عن سؤال يسوع في مثل ملموس: "من لا يحلّ ثوره أو حماره...." (لو 12:13)؟ "من منكم سقط أحد خرافه في حفرة" (مت 9:12)؟ "من منكم يقع ابنه أو ثوره في بئر" (لو 14: 5)؟ في هذه السلسلة الأولى ظلّت البراهين المذكورة تلك التي يوردها الرابانيون. وجواب يسوع ليس "ثورياً" في حدّ ذاته. فقد يلتقي مع تفاسير مدارس منفتحة وباقية على إستقامة الإيمان. ولكن ليس هذا وضع الخبر الذي ندرس: فمرقس يتجنّب أن يعطي مثلاً ملموساً. ليست القضية أن نختار بين مختلف الآراء اللاهوتية الممكنة. بل نحن أمام خيار جذري: عمل الخير أو عمل الشر. خلاص نفس أو هلاكها. كل هذا يرتبط بوصيّة أساسية: "لا تقتل".
وتفرّد مرقس في التشديد على موقف الخصوم: سكتوا ساعة طلب يسوع منهم جواباً واضحاً. "أجال يسوع نظره وهو غاضب حزين لقساوة قلوبهم". كم يحبّ مرقس أن يلاحظ ردّات الفعل عند يسوع (1: 41، 43؛ 34:7؛ 12:8...). ولكن هذه النظرة عنيفة جداً. وهي تتألّف من الغضب والحزن لأن قلب الخصوم قاس. هذه اللفظة النادرة في العهد الجديد (ما عدا بولس) تبدو في معناها القوي. إنها تدلّ على عمى التلاميذ (6: 25؛ 8: 17) وعمى اليهود (يو 12: 40؛ 2 كور 3: 14؛ روم 11: 7، 25) وعمى الوثنيين (أف 18:4). إنها تدلّ على استحالة جذرية بأن ندرك واقع الله: فالانسان المتروك لذاته، والإنسان الذي يختار الظلام، لا يستطيع أن يعرف ما فعله الله من أجل شعبه. منذ فرعون، صارت قساوة القلب أصل كل رفض للإيمان.
وتأتي "الجوقة" (أي الشعب) فتختم الخبر بنشيد الإعجاب، ولكنها تتحوّل هنا إلى تشاور من أجل الموت، تشاور يقرّر إلغاء يسوع. وتفرّد مرقس فأوضح هذا الجمع الغريب بين الفريسيين والهيرودسيين. نحن نعجب لذلك "الحلف" حين نعرف العداوة التي تفصل بين هاتين الفئتين: فالفريسيون يعارضون الرومان. والهيرودسيون هم حلفاء الرومان. لقد تحالفت القوى السياسية والقوى الدينية على يسوع. هكذا ميّز مرقس بين هاتين الفئتين، وهكذا فعل متى.
وترك الفريسيون المجمع. هذه الحركة المعارضة لدخول يسوع إلى المجمع، تحمل معنى رمزياً. فيسوع ظلّ في المجمع بعد أن كشف القناع عن الذين بدوا المدافعين الأمناء للشريعة. ولكنهم في الواقع أولئك الذين يتجاوزونها.
وبدا قرار قتل يسوع في بداية الإنجيل سابقاً لوقته. وذلك لدى أول ظهور للفريسيين. قد يتعارض هذا القول والواقع التاريخي. مثل هذا القرار يبرّر وجوده في 18:11 بعد دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم. كان ذلك بعد طرد الباعة من الهيكل. "تشاوروا كيف يقتلونه. ولكنهم خافوا من الشعب". نحن هنا بالأحرى أمام نظرة لاهوتية، وأسلوب أدبي يجعل التشاور على قتل يسوع يتوزّع في أنحاء الكتاب فيعطيه طابعاً دارماتيكياً. والذين وجدناهم في 18:11 سنجدهم في 15: 1: تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ... وسلّموه إلى بيلاطس.
أجل، إن الموازاة بين سلسلَتَيْ الجدال اللتين أشرنا إليهما، واحدة في بداية رسالة يسوع، والأخرى في نهايتها، هذه الموازاة تدلّ بوضوح على أن مرقس لا يقدّم أولاً ردّة فعل محدّدة في الزمن (مثل تقرير صحافي). بل يرسم أول مواجهة جذرية تجعل يسوع منذ البداية وجهاً لوجه أمام رؤساء الأمة. لا مكان للخمرة الجديدة في الزقاق البالية. وسيكون الفصل الأخير في هذه المواجهة موت يسوع وقيامته. كم نحن بعيدون عن جدال بسيط في "مدارس لاهوتية"!

3- المواضيع الرئيسية
حين نقرأ عرض مرقس لهذين الحدثين (قطف السنابل، شفاء اليد اليابسة يوم السبت) نكتشف خطوطاً هامة. فمرقس لا يهتمّ أولاً بعرض مجادلات بين رابانيين، ولا يريد أولاً أن يقدّم خبر معجزة بسيط. إن اهتمامه الأول في هذين المشهدين هو اهتمام كرستولوجي.
أ- شخص يسوع وعمله
بدا يسوع رجلاً يتمتعّ بحرّية كاملة وسيادة على النفس تامة. هو حرّ حين يلاحقه خصومه: فمراقبتهم له لا تجعله يزيح قيد أنملة عن طريقه. وهو حرّ بالنسبة إلى النظم والمؤسّسات المقدّسة مثل السبت.
ويسوع هو رجل تحمل قدرته الخلاص والتحرير. هو يحرّر من المرض والموت. في ذلك الزمان، كان المريض يعتبر "ميتاً" ينتظر "تنفيذ الحكم": إن كلمة الله أعادت خلق الانسان في كل أبعاده. فمن أجل هذا العمل، عمل الشفاء والخلاص، "خرج" يسوع (38:1) من عند الآب. وهو يحرّر بصورة خاصة من الشريعة التي تقتل، لا سيّما شريعة السبت. وهو يعيد الشريعة كلّها إلى مكانها الحقيقي، أي خدمة الإنسان.
ب- الشريعة علامة حياة لا موت
"جُعل السبت للانسان، لا الإنسان للسبت". لم يقل أحد في تاريخ البشرية عبارة محرّرة من الشريعة مثل هذه العبارة. عبارة جذريّة في بساطتها، لأن كل إنسان يستطيع أن يفهمها، أكان يهودياً أم وثنياً. وحين قالها يسوع، لم يرد أن يدمّر الشريعة، بل أن يعيد لها مدلولها الكامل: لا تقوم العبادة الحقة بأن نمنع نفوسنا من بعض النشاطات، بل أن نعمل الخير لا الشر، بل أن نخلّص نفساً بدلاً من أن نهلكها. السبت الذي هو علامة حبّ الله لشعبه هو بالضرورة في خدمة الإنسان، ولم يكن الإنسان يوماً في خدمته. جاء يسوع من الله، إنّه "إله الأحياء لا إله الموتى" (27:12)، فلا يمكن أن يكون عمله إلاّ من أجل الحياة.
وسيحدّد مرقس بفم أحد الكتبة أن محبة الله "من كل القلب وكل العقل وكل القدرة، ومحبة القريب كالنفس، أفضل من كل المحرقات وكل الذبائح" (33:12). وهكذا أدخل يسوع الشعب في العبادة الحقّة التي تتوجّه إلى كل إنسان. لهذا هو ابن الانسان (هو أسمى من داود)، وسيّد السبت بعد أن أعاد إليه وجهته الحقيقية: أن يكون علامة حب الله الخلاّق للبشر.
ج- دينونة مسبقة
إن حرية يسوع تخلّص الانسان. وهي في الوقت عينه تكشف القناع عن قساوة قلب خصومه. "فحريته المحرّرة" تثير البغض كما نرى في المشهد الثاني. شفى يسوع الرجل فأبان له حبّ الله الخلاّق. أما الرؤساء فقادهم بغضهم إلى بداية القتل.
أجل، إختار الفريسيون والهيرودسيون طريق الموت لهم. وهم في يوم السبت يتجاوزون إحدى الشرائع الأساسية: لا تقتل. فضّلوا أن يتركوا مريضاً من دون شفاء، فضّلوا أن يتركوه يموت ولا يتعدّوا ممارسة من ممارسات الآباء. بل زادوا على هذا حين تشاوروا على قتل يسوع.
أرادوا أن يدينوا ابن الإنسان. ولكن ولْي إنجيل مرقس سيدلّ على أنهم هم الذين دينوا. فهذا المشهد يكشف أول فصل في الدينونة الاسكاتولوجية التي يقوم بها ابن الانسان. نحن أمام استباق لدراما موت يسوع وانتصاره بالقيامة. حينئذ يُرفع السر المسيحاني، ويَفتح يسوع أمام الوثنية طريق العبادة التي تعطي الحياة.

خاتمة
في خلفيّة هذين الخبرين نجد ولا شكّ مجادلات بين الجماعة المسيحية الأولى واليهود حول السبت. وهذا واضح بشكل خاص من خلال نصّ متى. ولكننا نخطىء إن حوّلنا هذه النصوص إلى مجرّد جدالات حول الشريعة، إلى مجرّد محاولات لكي نحلّ يوم الأحد محل يوم السبت. فجماعة مرقس التي كانت من أصل وثني، لم تهتمّ كثيراً بما يقوله اليهود في هذا الشأن. ومرقس يعلن بشارة (إنجيل) يسوع المسيح ابن الله، ذاك الذي جاء يُدخل في تاريخ البشر جديدَ الله الحالي والأزلي. ذاك الذي جاء يحقّق الهدف الحقيقي للسبت: "لم يأتِ ابن الإنسان لكي يشجب، بل ليخلّص ما قد هلك".
حين تسمع الجماعة المسيحية هذا الإنجيل، تعود إلى ينابيع إيمانها بيسوع المسيح ابن الله وابن الإنسان والمخلّص الوحيد للإنسان. تكتشف من جديد من هو الإنسان ومن هو الله. وتتساءل عن نوعية عبادتها: تقدّس "يوم الرب" فتدخل بشكل ملموس في هذه الحرّية المُحبة، حرّية يسوع الذي يخلّص البشر اخوته فيمجّد الآب الذي في السماء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM