الفصل الثالث عشر شفاء أبرص

الفصل الثالث عشر
شفاء أبرص
1: 40- 45

ما زال يسوع يلتقي بالبشر. إلتقى برجل فيه روح نجس فشفاه. زار حماة بطرس فأزال عنها الحمّى. وها هو يسمع توسّل أبرص: إن شئت فأنت قادر على أن تطهّرني. شفاه يسوع وأمره بأن يسكت، أما الأبرص فنشر الخبر في كل مكان بحيث تعذّر على يسوع أن يدخل علانية إلى أية مدينة.

1- إطار المعجزة
أ- البرص
لا نفهم ما تعني كلمة برص لليهودي إلا إذا قرأنا نصوص العهد القديم التي تتحدّث عن هذا المرض المرعب. كُرِّس له فصلان كاملان في الشريعة، في سفر اللاويين الذي هو كتاب كهنوتي في الدرجة الأولى (لا 13-14).
ويعلمنا تعداد أنواع البرص أن اللفظة لا تدل فقط على المرض كما نسميه اليوم، بل على مختلف أمراض الجلد. مثلاً بعض آثار "الفطر". وعلى طريق القياس، جعلوا مع البرص الذي يصيب البشر، العفن الذي يظهر على جدران البيت. إن هذا التوسّع في الحديث عن هذا المرض يدلّ على الخوف الذي يثيره في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، اعتُبر البرص معدياً، فاهتموا بتجنّب كل شيء يساعد على انتقاله. لهذا، وجب عزل المرضى مهما كلّفهم ذلك. ولم يكتفوا بمنع بسيط، بل زادوا تحريماً فربطوا البرص بنجاسة طقسية.
نقرأ في لا 13: 45-46: "والأبرص الذي به البلوى يلبس ثيابه مشقوقة، ويكشف رأسه، ويغطّي شاربه وينادي: نجس، نجس. ما دامت به هذه البلوى يبقى نجساً، ويسكن منفرداً وفي خارج المحلة (أو: المدينة)". وفي عد 5: 2-3: "وكلّم الرب موسى فقال: توصي بني اسرائيل أن ينفوا من المحلّة كل أبرص... ذكراً أو أنثى ينفونهم إلى خارج المحلة لئلا ينجّسوا المحلة حيث أنا مقيم فيما بينهم". لا يتنجّس المجتمع وحسب، بل والله أيضاً. ولكن سنرى في الإنجيل عكس ذلك. فالأبرص لم يؤثّر على يسوع، بل يسوع أثّر على الأبرص. ليس الأبرص هو الذي نجّس يسوع، بل يسوع هو الذي طهّر الأبرص وأعاده إلى حياة الجماعة بعد أن فرضت عليه حياة العزلة.
وفي إطار لاهوت المجازاة على الأرض كما عرفه العالم اليهودي، أي إن الأبرار يجازون خيراً والأشرار يعاقبون، إعتبر هذا المرض عقاباً عن خطيئة، فهو شر الأمراض وأخطرها. وهكذا بدل أن يقولوا "شُفي" من البرص، كانوا يقولون: "طهر". هذا ما يدلّ عليه التلاعب على الكلام حيث "نجع" في العبرية تعني: ضرب، ضربة، كما تعني لطخة البرص أو إنساناً مصاباً بالبرص. هذا ما نعرفه مثلاً عن الملك عزريا. "رمى الرب الملك بالبرص (عقاباً على تعدّيه على شعائر العبادة) فعاش معزولاً إلى يوم وفاته" (2 مل 15: 5؛ 2 أخ 26: 19- 20).
ويصوَّر عبد يهوه (عبد الله) كأبرص. رأه الناس فظنّوه خاطئاً. "حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومنكوباً" (أش 53: 4). لا ينكر النبي أن سبب هذا المرض هو الخطيئة، ولكن عبد الله يكفّر لا عن خطيئته بل عن خطايا شعبه. "هو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا" (أش 53: 5). وهكذا يتصوّر أصدقاء أيوب مرض صديقهم. سأل أليفاز: "أتذكر واحداً بريئاً (من الخطيئة) هلك أو رجلاً مستقيماً أبيد؟ أما رأيت أن من يفلح الاثم ويزرع الشقاء إياهما يحصد" (أي 4: 7- 8)؟ ويقول بلدد: "هكذا يكون مصير من نسي الله" (أي 8: 13). يُقطع كما تقطع الشجرة.
حينذاك نفهم لمذا جعل تمييز مرض البرص في أيدي الكهنة. لا بدّ من إخصائي متمرّس. ثم إن النجاسة التي ترتبط بهذا المرض، تتطلّب تطهيراً. إذا شُفي المريض تُقدّم ذبيحة يقوم بها الكاهن. فهو من يصدر الحكم في حالات البرص أو الشفاء منه: "إحرصوا في داء البرص أن تعموا بكل ما يعلّمكم الكهنة" (تث 24: 8). فحين يُشفى الأبرص، عليه أن يذهب إلى الكاهن الذي يتحقّق من وضعه ويعطي شهادة (قد تكون مكتوبة). وبعد هذا تتمّ طقوس التطهير التي هي ذبيحة عن الخطيئة ومحرقة (لا 14: 19).
غير أن البرص الحقيقي اعتبر مرضاً عضالاً لا شفاء منه. الله وحده هو الذي يشفيه. وقد أعطى سلطته للأنبياء. أعطاها لموسى فشفى اخته مريم (عد 12: 9- 14)، أعطاها لاليشاع فشفى نعمان السوري (2 مل 5: 9-14). وفي المستقبل، إنتظر الناس شفاءهم من البرص على يد المسيح. بواسطته "العميان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهّرون..." (مت 11: 5؛ رج أش 35: 5-6).
ب- الإطار التاريخي
أين هو موقع شفاء الأبرص في حياة يسوع؟ وفي أي مكان تمّ هذا الشفاء؟ إذا قابلنا نص مرقس مع نص متّى ولوقا، وجدنا بعض الإختلافات في هذا المجال.
لا يربط مرقس الحدث بما سبق إلا بشكل غامض ومصطنع. يربطه بيوم كفرناحوم، ذاك اليوم النموذجي في رسالة يسوع. كما لا يربطه بما يلي، أي بشفاء مخلّع كفرناحوم، إلا بشكل مفكّك. نقرأ في 2: 1: "وبعد أيام دخل إلى كفرناحوم". ولكن في آ 39، حدّد مرقس موقع المعجزة خلاله عمل يسوع في الجليل.
إذا عدنا إلى لوقا، عرفنا أن المعجزة تصّت "في إحدى المدن" (5: 12). لا تحديد بل إشارة إلا ما في لو 4: 43 (أبشّر سائر المدن) الموازي لمرقس 1: 38-39. نحن إذن في إحدى مدن الجليل. أن تكون المدينة مسرح هذه المعجزة، هذا ما استقاه لوقا من نهاية خبر مرقس: فيسوع بعد أن شفى الأبرص طرده (آ 43) فخرج (آ 45). إذن نستطيع أن نستنتج أن المعجزة تمّت في أحد البيوت المعزولة عن القرى، وإلا لما استطاع الأبرص أن يأتي إلى هناك (2 مل 7: 3).
أما متّى فبدا دقيقاً. بعد خطبة الجبل، نزل يسوع من الجبل يتبعه جمع غفير. في هذا الوقت، إقترب الأبرص منه. يلاحظ الشرّاح أننا أمام إطار مصطنع. فلو كانت الجموع الكبيرة تحيط بيسوع لما استطاع الأبرص أن يقترب منه. ولكن قد يكون يسوع سائراً في المقدمة، وبعيداً بعض الشيء عن الناس. ثم، يجب أن لا نتوقّف عند هذا المعنى المادي، فما يريد أن يقوله متّى هو أن عدداً كبيراً من الناس شهد هذا العمل المسيحاني.
وهناك تفصيل آخر. طلب يسوع من الأبرص أن لا يخبر أحداً. ما معنى هذا المنع اذا كانت المعجزة قد تمّت أمام الجموع؟ هناك ارتباط لاهوتي بين خطبة الجبل وشفاء الأبرص سنعود إليه.
في النهاية، يبدو خبر شفاء الأبرص في التقليد الإزائي، مقطوعة منفصلة عن الإطار الزماني والمكاني. إستعادها كل انجيلي وأعاد كتابتها في خط اهتماماته اللاهوتية.

2- الخبر في إنجيل مرقس
"وجاء أبرص يتوسّل إليه...". لا مقدّمة، لا إشارة إلى زمان أو مكان. دخل مرقس في الموضوع وأعطى حالاً للخبر وجهته. يكفي أن نلقي نظرة سريعة إلى إزائية لكي نلاحظ أربع جمل خاصة بمرقس ومرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً حميماً: توسّل الأبرص إلى يسوع (آ 40). أشفق عليه يسوع (آ 41). وما إن منح البائسَ الشفاءَ المطلوب حتى بدا وكأنه ندم على ما فعل. إنتهر الرجل المسكين وطرده (آ 43)، ومنعه أن يقول شيئاً ممّا حدث. ومع هذا، ما إن خرج الأبرص حتى أذاع الخبر في كل مكان (آ 45 أ).
للوهلة الأولى تبدو ردة فعل يسوع الثانية معارضة للأولى. ولكن لا. فإذا أردنا أن نفهم المنطق الخاص بمرقس نتذكّر السر المسيحاني الذي هو أحد مواضيعه المفضّلة. فإذا جعلنا جانباً صوت الآب الذي سُمع في العماد، فالروح النجس هو أول من هتف (حسب مرقس): "أعرف من أنت، أنت قدوس الله" (1: 24). في نظر يسوع، إن ترك أحد يعلنه المسيح قبل أن يكشف موتُه الطبيعةَ الحقة لرسالته، كان وكأنه يدخل في لعبة الشيطان. فالشيطان يدفع اليهود لأن يخلطوا بين ملكوت الله ومملكة أرضية. بين مسيح يحمل أوجاعنا وآلامنا ويتألم ويموت قبل أن يمجّد، وبين مسيح أرضي يحمل السيف ويقاتل الرومان، أعداء شعبه. لهذا قرّر يسوع أن يفرض الصمت على الأبرص كما سيفرضه على الأعمى...
ولكن حدث للأبرص ما حدث للكنعانية أو لقائد المئة. جاء طلب الرجل خاشعاً ومليئاً بالإيمان فتأثّر يسوع، ونكاد نقول "رغماً عنه". لا يليق بأن نبهر الجموع بمعجزات قد لا يفهمونها. ولكن كيف نقاوم حين نرى مثل هذا الضيق وهذا الألم؟ فأمام ضرورة ملحّة مثل هذه، لن يبقى قصد من المقاصد واقفاً. ونقول الشيء عينه أمام إيمان عميق مثل إيمان قائد المئة: آمن أن كلمة واحدة من يسوع تكفي ليُشفى عبده عن بُعد. فكيف يستطيع يسوع أن يرفض طلبه (مت 8: 8-13)؟ وكيف يقاوم أمام إيمان وضيع، إيمان الكنعانية الوثنية التي تقبل بأن تسمّى "كلبة صغيرة" (مر 7: 26-29)؟ أجل، لقد انتصرت الرحمة على مخطّط عمل وُضع مسبقاً (آ 24). لقد كلّف يسوع بأن يبشّر أولاً الشعب المختار: "لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالّة في إسرائيل" (مت 15: 24). إذا كان الإيمان القليل (أو اللاإيمان) يجعل يسوع عاجزاً أمام الخطيئة (الألم الجسدي (6: 5- 6)، فالإيمان الحقيقي ينتزع منه المعجزات. قال للكنعانية التي "انتصرت" عليه: "إيمانك عظيم أيتها المرأة. فليكن لك ما تريدين" (مت 15: 28).
في وضع قائد المئة وفي وضع المرأة الكنعانية، تتمّ المعجزة عن بُعد مع الخادم المريض والفتاة التي "يمتلكها" الشيطان. لهذا على الطالبين أن يبتعدا عن يسوع ليتحقّقا من الشفاء. ولكن الأمر يختلف مع الأبرص: تمت المعجزة بشكل متحفّظ ودون علم الجموع. فقد يكون من الممكن أن نمنع الخبر من الإنتشار. حين انتهر يسوع الأبرص، أفهمه أنه تجاوز القرار الذي اتخذه (آ 43. لا يريد أن يعرف به أحد). وحالاً، طلب منه بحدّة أن يبتعد لئلا يعرفه الجمع فيحتشد حوله (آ 44: ق يو 9: 8 ي؛ أع 3: 9- 11). لهذا السبب عينه، طلب من أعمى بيت صيدا وفي ظروف مماثلة أن يعود إلى القرية (8: 26).
أمر يسوع. ولكن الأبرص لم يمتثل. هو لا يستطيع أن يحتفظ بفرحته لنفسه (آ 45). فجاءت الجموع. حينئذ ذهب يسوع إلى الأماكن المقفرة.
من الواضح أن مرقس لا يريد أن يلفت انتباهنا إلى الآية المسيحانية التي تمّت في هذه المناسبة، بل إلى الرحمة التي أظهرها يسوع تجاه إنسان بائس أصيب بالبرص. إن أعمال الخير هذه لا تشكّل الموضوع الأساسي في رسالته. الموضوع الأساسي هو روحي: لقد جاء يسوع يعلن بشارة ملكوت الله. جاء يدعونا لكي نحمل صليبنا. ولكن الخلاص الذي يعرضه ليس فوق طاقة الإنسان. إنه يتوجّه إلى كل واحد منا. فليسوع قلب وقلب يعرف الشفقة والحنان. في هذا المنظار، تبدو الفعلة التي بها لمس الأبرص بيده، فعلة حنان قبل كل شيء.
وتشدّد هذه الفعلة أيضاً على دور بشريّة يسوع (يسوع هو إنسان حقيقي). حين يتّصل المؤمن بجسد يسوع فهو يتصل باللاهوت وينال نعمة الله. لقد شدّد مرقس ولوقا على فاعلية هذا اللمس من أجل شفاء المرضى. يقول مر 3: 10: "كان كل مريض يشقّ طريقه إلى يسوع ليلمسه". وقال لو 6: 19: "وحاول جميع الناس أن يلمسوه، لأن قوة كانت تخرج منه وتشفيهم كلهم". فيسوع يشفي المرضى فيضع يده عليهم، ويبارك الأطفال (6: 5؛ 7: 32- 33؛ 8: 22- 25؛ 10: 13-16؛ رج 16: 18). تلمس النازفة طرف ثوبه (5: 28-29) بل المرضى في الساحات (6: 56: أن يلمسوا طرف ثوبه). أمسك ابنة يائيرس بيدها (5: 41)، ووضع أصابعه في أذن الأصم الأخرس (7: 33).
غير أن سلطان يسوع ليس مشروطاً بحضوره الجسدي: فكلمته وحدها تكفي لتشفي المريض عن بعد (مت 8: 5-13 وز). ومقابل هذا، قد يكفي الإتصال بدون حاجة إلى كلمة (5: 25-29). ولكن اعتاد يسوع أن يضمّ الإثنين في فعلة واحدة لكي تكون الآية كاملة، ويكون اللقاء مطبوعاً بالطابع الإنساني.
وهذا ما حدث هنا. قال يسوع: "شئت، فكن طاهراً" (آ 41). هناك مقابلة مباشرة. "إن شئتَ". "شئتُ". يشدّد النص على موافقة يسوع على طلب الأبرص. أما الشيء المطلوب فيتوضّح في الشقّ الثاني من الجملة: "كن طاهراً".
"فزالت عنه البرص في الحال وطهر" (آ 42). جملة متعثّرة. كان يمكن أن تُكتب: طهر حالاً من برصه. لهذا حاول متّى ولوقا أن يكتبها كل بطريقته. قال مت 8: 3: "فطهر من برصه في الحال". وقال لو 5: 13: "فزال عنه البرص في الحال".
حصل الأبرص على الشفاء. ولكنّ يسوع فرض عليه الصمت: "لا تخبر أحداً بشيء. ولكن إذهب إلى الكاهن وأره نفسك، ثم قدّم عن شفائك ما أمر به موسى شهادة عندهم" (آ 44). طلب يسوع من الأبرص أن يكون شاهداً له في "الهيكل" وبين الكهنة. ليس له أن يشهد في هذا الجمع الذي لن يفهم الآية إلا في إطار مسيحانية زمنية. شأنه شأن متشيطن الجراسيين. أراد أن يكون مع يسوع (5: 18). ولكن مخطّط يسوع غير مخطّط "لجيون". أرسله شاهداً إلى بيته وأهله: "أخبرهم بما عمل الرب لك وكيف رحمك" (5: 19).
ماذا تعني عبارة "شهادة عندهم"؟ قد نفهمها على الشكل التالي: أمر يسوع الأبرص بأن لا ينسى أن يحضر أمام الكاهن، فيقدّم الذبيحة المطلوبة في الشريعة من أجل تطهير الأبرص، ويطلب من الكاهن شهادة (مكتوبة) ستكون له ضرورية ليعود فيعيش بين البشر. في هذا الوضع يكون يسوع طائعاً للشريعة، وقد أمر الأبرص بأن يخضع لها. يذهب المريض فيحمل شهادة ويريها للشعب فيدلّ على أنه شُفِيَ حقاً. ولكن هل يحتاج الإنسان إلى شهادة ليعلن فرحته؟ هذا ما حدث، للبرص العشرة (لو 12:17-18).
لا شك في أن يسوع أرسل الأبرص إلى الكاهن وذكّره أن عليه أن يقدّم ذبيحة بحسب لا 14: 1-32. وهكذا تكون الشهادة عند الكهنة لا عند الشعب. وهذا العبور من المفرد (الكاهن) إلى الجمع (لهم، أي الكهنة) يدلّ على أن الشهادة تتجاوز الفرد لتصل إلى الحلقة الكهنوتية كلّها. هم لم يأتوا إلى يسوع. فأرسل إليهم يسوع شاهداً في هذا الأبرص. هل سوف يؤمنون؟
كلّف يسوع الأبرص بمهمة لدى الكهنة، كما كلّف متشيطن الجراسيين بمهمة لدى أهله. سيشهد الأبرص أمام الكهنة، والشفاء من البرص هو إحدى العلامات التي تدلّ على المسيح. لقد استفاد يسوع من فريضة سفر اللاويين ليقوم بمحاولة لدى الكهنة. طبّق قرار الصمت على الجميع (لا تقل لأحد). ولكن استثنى منه الكهنة. إنهم المسؤولون الرئيسيون في إسرائيل، فيجب أن يتنبّهوا إلى ظهور الآيات المسيحانية. وهكذا يكونون بلا عذر إن ظلّوا على عماهم. يكونون بلا عذر حين يقسّون قلوبهم ويتآمرون على يسوع. نقرأ كلام يسوع في يو 15: 22: "لو لم أكن جئت وكلّمتهم، لما كانت عليهم خطيئة. أما الآن، فلا عذر لهم في خطيئتهم".
لم يسمع المخلَّص لتوصية يسوع، فنشر خبر الشفاء في كل مكان (حرفياً: أذاع الكلمة. بشّر). بعد هذا، ما إن يدخل يسوع إلى مدينة حتى تتراكض الجموع إليه وهي ترجو أن يحمل إليها الخير المادي (يو 4: 15؛ 6: 26) والحرية السياسية (ق يو 6: 15؛ ا صم 8: 15). ولكن يسوع لم يأتِ من أجل هذا الهدف. إذن سيتحاشى التجمّعات ولن يدخل علانية إلى أية مدينة. بعد الآن، سيقيم "في الأماكن المقفرة" (آ 45). ولكن انجذاب الشعب إليه هو من القوّة، بحيث يلاحقونه في كل مكان.
إن عبارة "في الأماكن المقفرة" قد استعملت فيما قبل وتلتها عبارة أخرى: "وكان يصلّي هناك" (1: 35). إذا كان يسوع قد ذهب إلى القفر بعد شفاء الأبرص، فلم يكن هدفه فقط بأن يعتزل الجمع والضجة، بل ليجد الصمت الضروري للصلاة والحوار مع أبيه السماوي.

3- الأخبار الموازية
أ- خبر متى
وجّه متى (8: 1- 4) خبر شفاء الأبرص توجيهاً مختلفاً عمّا في مرقس. فربط الحدث بخطبة يسوع الأولى. جعل بين الخطبة والمعجزة رباطاً لاهوتياً لا كرونولوجياً.
ففي العظة على الجبل (مت 5- 7) أكّد يسوع أنه ما جاء يلغي الشريعة وكتب الأنبياء بل يتمّها. وها هو يقدّم براهينه: أمر الأبرص أن يذهب إلى الكاهن ويريه نفسه، ثم يقدّم القربان الذي أمر به موسى (مت 8: 4). إن يسوع يشفي المرضى فيتمّ أقوال الأنبياء: "أخذ أوجاعنا وحمل أمراضنا" (مت 8: 17؛ رج أش 53: 4). وإذ أراد متى أن يبرز خضوع يسوع للشريعة، أغفل ما فعله الأبرص بعدما وجّه إليه يسوع ما وجّهه من كلام (آ 45). وكان هدف متى هو هو حين ترك جانباً سلسلة القطع التي جعلت رواية مرقس تعجّ بالحياة: توسّل الأبرص. شفقة يسوع. وغضبه حين انتهر الأبرص.
غير أن يسوع ليس فقط ذاك الذي يخضع للشريعة. إنه سيد الشريعة. فكما أنه سيد السبت (مت 12: 8)، فهو سيد الشريعة التي تمنع الإنسان من أن يلمس أبرص. هو لا يخاف من أن يتنجّس إن لمسه. فالأبرص هو الذي طهر. ولن يخاف أيضاً أن تنجّسه إمرأة لمست طرف ثوبه. لن يخاف أن تنجّسه إمرأة خاطئة تغسل له قدميه في بيت سمعان الفريسي: فالمرأة هي التي طهرت من خطاياها (لو 7: 39- 49). حين تصرّف يسوع بهذه الطريقة، "أتمّ" الشريعة أيضاً. أي قادها إلى كمالها. جعلها تتجاوز نفسها (مت 5: 21، 27، 31)، فتوصل الإنسان إلى أخيه الإنسان، وتوصله حقاً إلى الله.
أغفل متى الباعث الأساسي على شفاء الأبرص: أن يخفّف يسوع من شقاء هذا البائس. بل شدّد على مدلول المعجزة. جعلها في رأس سلسلة من عشر معجزات، فجاءت تثبت السلطان الذي به يتوجّه يسوع إلى الجموع، واتخذت بعداً مسيحانياً واضحاً. ثم إن هذه المعجزة هيّأت وعداً سيُعطى للتلاميذ بأن يحقّقوا الآيات التي حقّقها معلّمهم: هذه الآيات تدلّ على صدق الرسالة (مت 10: 8؛ رج يو 14: 12). وإن يسوع سيلمّح إلى هذه المعجزة في جوابه إلى من أرسلهم يوحنا يسألونه: أأنت (المسيح) الآتي أم ننتظر آخر؟ جعلها بين الآيات المسيحانية فقال: "العرج يمشون، والبرص يطهَّرون..." (مت 11: 3- 5).
ويذهب متّى أبعد من ذلك فيرينا في إيمان الأبرص باكورة إيمان المسيحيين الذين يرون ابن الله في شخص يسوع. صوّر مرقس البائس على الشكل التالي: سجد أمام يسوع في وقفة توسّل، وقال: "إن شئت فأنت قادر على أن تطهّرني". إذن، يشدّد مرقس على الطلب من "شخص عظيم"، وإن عبّرت لفظة "سجد" في الإطار المسيحي على أن يسوع هو أكثر من "الملك المسيح" الذي يحمل الخير إلى شعبه. أما متّى فسيشدّد على السجود والعبادة كما أمام الله. توجّه الأبرص إلى يسوع وأعطاه لقب القائم من الموت. قال: "يا رب، إن أردت...".
هنا نتعرّف إلى اهتمامات متّى الكنسيّة. حين سمعت الجماعة المسيحية هذا الخبر، قرأته في حاضرها، أوّنته بشكل صلاة تتوجّه إلى الرب يسوع: إن شئت يا رب، فأنت قادر أن تجعلني طاهراً. "قلباً نقياً أخلق في يا الله".
ب- أبعد من الإزائيين
الموازاة بين الأناجيل الإزائية وثيقة جداً، وهذا ما يمنعنا أن نتحدّث عن ثلاثة أخبار مستقلة أوردها كل من مرقس (1: 40-45)، متّى (8: 1-4)، لوقا (5: 12-16). بل نحن أمام خبر واحد طبعه كل إنجيلي بطابعه. المرجع الأساسي هو مرقس أو ينبوع قريب من مرقس استقى منه متّى ولوقا. والبرهان الواضح هو الطريقة التي كتبا فيها آ 42 فجاءت في شكل أدبي واضح. ثم يبدو أن لوقا يتبع متّى.
ومهما يكن من أمر، فقبل تدوين الأناجيل الإزائية الثلاثة، حمل التقليد خبر شفاء الأبرص، وما تبع هذا الخبر من ردّة فعل لدى يسوع. فالإشارات التي أوردها مرقس لم تكن وليدة استنباط الجماعة، بل هي جاءت تبرز الوجه البشري في يسوع المسيح. وتاريخية هذه التفاصيل تكفل نقاطاً أخرى مشتركة بين الأناجيل الثلاثة: واقع الشفاء، الإرسال الى الكاهن مع هدف محدّد، شهادة الأبرص. فإذا تركنا جانباً هذه النقاط الأساسية، صارت التفاصيل الخاصة بمرقس من دون سند.
أما الفكرة الأساسية التي نستخرجها من النواة الأولى، فهي أولاً العلامة المسيحانية. ثم جاءت تعاليم أخرى، شدّد كل من الإنجيليين عليها بطريقته الخاصة.
* أبرز متّى سلطة يسوع. وأبرز التعارض بين الكهنة الذين رفضوا الشهادة التي أرسلت إليهم، وبين الأبرص البائس الذي آمن فكان مثالاً للمسيحيين.
* وشدّد مرقس على خطر كبير: أن لا يفهم الناس مسيحانية يسوع والخلاص الذي يحمله. ثم بيّن الوجه البشري عند ذاك الذي هو الرب الذي تجثو له كل ركبة في السماء وعلى الأرض.
* وحاول لوقا أن يقدّم إلى الوثنيين صورة مخلّص يستطيع أن يخلّصهم من خطاياهم. فيبقى عليهم أن يذهبوا إليه ليسمعوه ويُشفوا من أمراضهم (لو 5: 15).

خاتمة
لم يروِ الأبرص ما حصل له. بل أخذ "يعلن مطوّلاً"، "يذيع الكلمة في كل مكان". هذا الإعلان يدلّ على أمانة الإنسان لكلمة دخلت إلى أعماقه فأتاحت. له أن يعيش، حرّرته، وحّدته، أعادته إلى جماعة الحياة والصلاة. صار هذا الأبرص نبياً فأعلن الكلمة التي يحملها لا على لسانه فقط وفي شفتيه، بل في كل جسده. أعلن ما اختبره.
ولكن هذا الإعلان (الذي يريده يسوع ولكن لا قبل وقته) يبقى ملتبساً. فقد يخلق تياراً شعبياً بدا يسوع متحفّظاً بالنسبة إليه. لهذا، إبتعد عن الدعايات، عن حماس الجماهير. هو "قدوس الله". لهذا لا يستطيع أن يقدّم نفسه فقط كذاك المحسن الذي يجعل الناس أشخاصاً قاصرين يحتاجون كالأطفال إلى من يطعمهم ويسقيهم ويشفيهم. يجب أن نبحث عن يسوع حيث نكتشف قدرة الله بالذات. هكذا "جاء إليه" الأبرص (آ 40). هكذا كان الناس "يجيئون إليه من كل مكان" (آ 45). وهكذا نجيء إليه. هو يطهّرنا ويغمرنا بنعمه. ولكنه يختفي فيجتذبنا إلى القفر حيث ندركه في عمق علاقته مع الآب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM