الفصل الثاني عشر من الإعجاب إلى الإيمان

الفصل الثاني عشر
من الإعجاب إلى الإيمان
1: 29-39

يتضمّن هذا النص الذي ندرس ثلاث مقطوعات متمايزة: خبر شفاء حماة بطرس (آ 29- 31)، إجمالة حول الأشفية (آ 32- 34)، خطوة جديدة في رسالة يسوع (آ 35- 39). إن تحليل هذه المقطوعات سيأخذ بعين الإعتبار الفنّ الأدبي الخاص بكل واحدة.
إن حماة بطرس تجسّد وضع كل مريض. والجموع التي تطلب يسوع (آ 32، 33، 37) تجعلنا نرى بشكل ملموس ردّة فعل الإنسان أمام الذي يستطيع أن يشفيه. ونطرح السؤال: هل تحرّرنا حقاً من أمراضنا؟ هل تجاوزنا ردّة فعل معاصري يسوع؟ هل انتقلنا من الإعجاب بمعجزات يسوع إلى الإيمان بشخص يسوع؟

1- من المجمع إلى بيت سمعان (آ 29)
إن خبر شفاء المتشيطن (إنسان فيه شيطان) جعلنا في مجمع كفرناحوم (1: 23-28). لهذا تابع مرقس كلامه فقال: "ولما خرج من المجمع". ومع ذلك فالإنجيلي يفترض فسحة طويلة من الوقت بين المعجزتين لكي تنتشر شهرة يسوع في الجليل. من الواضح أن مرقس يقدّم رسمة سريعة. نحن نعرف أنه يستعمل مراراً لفظة "حالاً" دون أن يحمّلها معنى محدّداً (11 مرة في ف 1 وحده: آ 10، 12، 18، 20، 21، 23، 28، 29، 30، 42، 43). لم يهتمّ مرقس بالتسلسل المنطقي، فأراد أن يقدّم لنا هنا (آ 21- 39) يوماً نموذجياً في رسالة يسوع: "يوم كفرناحوم".
ثخلّى متّى ولوقا عن هذا الإطار، وتركا لفظة "حالاً". كيف يبدو التسلسل الزمني الحقيقي؟ هذا ما لا نعرفه. غير أننا نستطيع أن نؤكّد أن المتتالية التي تتضمّن شفاء حماة بطرس والأشفية في المساء، تعود إلى تقليد سابق لتدوين الأناجيل. فعبارة "جاء مساء" (اليوم نفسه) نجدها عند مرقس وعند متّى. ألغى لوقا الظرف "حالاً"، ولكنه احتفظ بذكر المجمع، وسيتوسّع في مدلوله ليصبح موضوعاً لاهوتياً ونبوياً يستعيده مراراً في سفر الأعمال: حين يكرز يسوع في مدينة أو في قرية، فهو يبدأ تعليمه في المجمع. وهذا ما سيفعله بولس الرسول.
"خرج يسوع من المجمع" لا لأن ساعة إقفال الأبواب قد دقّت، ولكن لأن سامعيه لم يفهموه بعد. فهم يشبهون التلاميذ الذين شهدوا تهدئة العاصفة، وطرحوا السؤال حول شخص يسوع: "ما هذا" (1: 27)؟ "من هو هذا" (4: 14)؟ ولكنهم لم ينالوا بعد جواباً. نحن هنا أمام رمز وصورة. إذا بقينا في المجمع لا نستطيع أن نكون تلاميذ يسوع. يجب أن نخرج. أن نقوم بخروج جديد. وسيكتب مرقس في آ 39: "مجامعهم" (هم، أي اليهود).
وبعد هذا بقليل، وبعد معجزة صنعها يسوع في المجمع، أشار مرقس إلى تشاور الفريسيين مع الهيرودسيين. لهذا، ذهب إلى شاطىء البحيرة واعتزل هناك. ثم خرج فتبعه كثيرون (3: 7). وسيبتعد يسوع أيضاً بعد تكثير الأرغفة، فتأتي الجموع إليه (6: 32- 33). وسيخرج أيضاً من الهيكل (11: 11) ومن أورشليم (11: 19؛ 13: 1). في هذا المجال، بدا لوقا أكثر إيجازاً من مرقس: فقد صوّر يسوع وهو يقوم بأول كرازة له في مجمع الناصرة. وبعد هذه الكرازة، لن يفهمه الناس، فيجبر على ترك المجمع. بل عليه أن يهرب لئلا يُقتل (4: 16-30): "مرّ من بينهم ومضى".
جعل مرقس هذا الموضوع أمامه. بل عارض بين المجمع وبيت سمعان بطرس الذي يرمز إلى الكنيسة. لا شك في أن هذا البيت يحتلّ مكانة هامّة في الإنجيل الثاني. غير أن مرقس يذكره هنا بشكل عابر: "جاء مع يعقوب ويوحنا إلى بيت سمعان". أما متّى ولوقا فلا يذكران إلا بطرس فقط. إن التلاميذ الأربعة الذين كانوا أوّل المدعوين (1: 16- 20) والذين ظلّوا أقرب الناس إلى يسوع، قد شهدوا المعجزة. هنا لا ننسى أن تأسيس الإثني عشر تمّ فيما بعد في 13:3 ي؛ 7:6 ي.

2- شفاء حماة سمعان (آ 30-31)
أ- الحدث
هناك من يميّز في معجزات يسوع، معجزات "الحرب" ومعجزات "الحنان". فطرد الشياطين هو معجزة حرب. وهذا ما يشدّد عليه مرقس (1: 23، 28، 39): "أجئت لتهلكنا"؟ أما شفاء حماة بطرس فهو معجزة حنان. توسّلوا إلى يسوع من أجلها (آ 30). ولكن مرقس يرى في كل معجزة، في كل شفاء، انتصاراً على إبليس، على الشّر. فلا تمييز قاطعاً بين طرد الشياطين والشفاء (1: 39؛ 3: 15؛ 6: 7، 13). أما لوقا فيصوّر شفاء حماة بطرس وكأنه طرد شياطين. "هدّد" يسوع الحمّى (لو 4: 39).
نعرف من خلاله مرقس أن المريضة طريحة الفراش بالحمّى. ولكن ما هو مرضها، وما هي درجة خطورته؟ هذا ما لا نستطيع أن نحدّده. حين نقرأ أخبار مرقس، نجد ما قاله بطرس نفسه الذي كان شاهداً مباشراً. قد نستطيع أن نضع صيغة المتكلّم الجمع موضع صيغة الغائب. قد نقوله: أخبرناه، بدل: أخبروه. قد نجد أيضاً أسلوباً تنقصه السلاسة. مثلاً، يُذكر يعقوب ويوحنا كما بين قوسين، وكأن الكاتب نساهما.
إن المقابلة مع نصّ متّى الموازي تساعدنا على التعرّف إلى غنى مرقس في تصويره للمشهد. لا يذكر متّى التلاميذ الذين يبدون وكأنهم غائبون: دخل يسوع، رأى المريضة، أمسك بيدها، لمس يدها فأحست بهذه اللمسة (مت 8: 15). هذه المواجهة تجعل التعليم الفقاهي أكثر وضوحاً وعمقاً. ثم إن الشخص هو وحده أمام يسوع، فعليه أن يتّخذ موقفاً، ولا مهرب له. ولكن أيعقل أن يسوع كان وحده؟ بدا مرقس أقرب إلى الواقع، ومع ذلك ظل نصه موجزاً، وهذا ما نكتشفه حين نقابله مع أخبار الأشفية لدى الوثنيين.
ب- مدلول المعجزة
لا تتيح لنا الأخبار الإنجيلية عن شفاء حماة بطرس، أن نحدّد قصة يسوع حين صنع هذا العمل، ولا المعنى الدقيق الذي رآه الشهود الأولون. غير أننا نعرف أن اليهود كانوا يعتبرون الحمّى عقاباً من الله. وهي ترافق السلّ والوباء (تث 28: 22؛ 32: 24؛ لا 26: 16؛ حب 3: 5). وفي فترة متأخرة، نسبوا الحمّى إلى إبليس. في هذا المنظار، دلّت معجزة كفرناحوم بالنسبة إلى الناس، على أن يسوع هو مرسل الله كما وُعد به في أشعيا: سيخلّص الناس من ضيقاتهم التي هي نتيجة الشّر والخطيئة. "نداك ندى النور يا رب. ليسقط على أرض الأشباح" (أش 26: 19). "في ذلك اليوم، يسمع الصم أقوال الكتاب، وتبصر عيون العمي بعد انغلاق على السواد والظلام" (أش 29: 18). "عيون العمي تنفتح، وكذلك آذان الصم. ويقفز الأعرج كالغزالي ويترنّم لسان الأبكم" (أش 35: 5- 6).
قد جعل مرقس من شفاء حماة بطرس أحد عناصر "يوم كفرناحوم"، وهو يوم نموذجي في الحقبة الأولى من رسالة يسوع العلنية. وهو يقدّم صورة عن الإجمالات حول الأشفية التي اجترحها يسوع. وهكذا تصبح المعجزة علامة عن مجيء الزمن الاسكاتولوجي أو الزمن المسيحاني في شخص يسوع: إنه يعمل بقدرة الله نفسها. ولكنها ليست إلا علامة. فيحتاج الإنسان كثيراً ليكتشف مدلولها ويتقبّله (رج مت 11: 4- 6). غير أن المقصد الخاص بمرقس سيظهر بشكل أوضح حين نتفحّص في العمق آ 31 وما يوازيها في مت 8: 15.
ج- يسوع يقيم الإنسان
هناك شيء غير عادي في بناء آ 31. نقرأ حرفياً: "إقترب يسوع فجعلها تقوم حين أخذ بيدها، فتركتها الحمّى". كان من الطبيعي أن نجد: "أخذها يسوع بيدها، فتركتها الحمّى، فقامت...". لا يهتم مرقس بالمنطق، بل بالمعنى اللاهوتي. ففعل "اغايرو" الذي استعمله مرقس هنا صار لفظة تقنية تدلّ على القيامة.
إن عبارة "جعلها تقوم" قد أقحمها الإنجيلي لا خبر بطرس. فالبناء خاص بمرقس (قال متّى ولوقا: قامت). وهكذا أقحم مرقس هذه العبارة من أجل الكرازة. واختيار فعل "اغايرو" يدل على معنى رمزي. كما أن المسيح أنهض حماة بطرس من حمّى تسمّرها على الفراش كالميتة، هكذا ينهضنا، يقيمنا، لكي نخدم الكنيسة، نخدم الآخرين.
ونجد أيضاً "فعل "اغايرو" في خبر شفاء الولد المتشيطن (9: 26- 27) حيث الرمز أكثر وضوحاً. صرخ الروح وصرع الصبي صرعة عظيمة وخرج منه. فصار الصبي كالميت، حتى قال كثير من الناس إنه مات. فأخذه يسوع بيده وأنهضه فقام. يستعمل مرقس هنا لفظة "اغايرو" (أقام) و"انإستامي" (قام) ليجعلنا في جوّ القيامة التي نستعدّ لها عبر الإنجيل كله (1: 31؛ 8: 31؛ 9: 2، 7، 9- 10؛ 10: 34).
د- قامت للخدمة
في إطار المعجزة، أو بالأحرى في إطار الضيافة التي تلقّاها يسوع في بيت بطرس، "خدم" يعني قدّم الطعام. في هذا المعنى عينه، وفي نهاية تجارب البرية نقرأ أن الملائكة خدموا يسوع (1: 13). أي: قدّموا له طعاماً. وفي لو 8: 55 نرى أن يسوع أمر بأن يُعطى الطعام لابنة يائيرس. إن يسوع لا يهمل الواقع البشري البسيط. ولكنه يذهب أبعد منه. وقد يكون مرقس تذكّر كلمة الرب، "فابن الإنسان نفسه لم يأتِ ليُخدم، بل ليَخدُم" (دياكوناساي) (10: 45). فالخدمة لا تعني فقط خدمة المائدة. بل بذل الذات من أجل الكثيرين، إذا طُلب منا. هذا هو المثال الذي يعرضه يسوع على الذين يقيمهم من موت الخطيئة.
في نسخة متّى القصيرة والتي تشدّد على التعليم، يظهر يسوع وحده. لهذا نقرأ: "وكانت تخدمه" (هو). لم نعد أمام تقديم الطعام للمعلّم ولتلاميذه الذين تعبوا من عمل رسولي منعهم من الراحة، بل أمام إشارة عامة. فوضع المريضة السابق يرمز إلى الإنسان الخاطىء الذي لم يخلّصه المسيح بعد. والشفاء الجسدي يدل على العمل الروحي الذي قام به يسوع. وسيتوسّع الإنجيل الرابع في الرمز عينه حين يتحدّث عن مقعد بركة بيت زاتا (أو: بيت حسدا).

3- الإجمالة (آ 32- 34)
أ- طابع الإجمالة
نستطيع القول إن ما يمتز الفن الأدبي للإجمالة هو أنها تبسّط الأمور وتظهرها في شكل عام، فتنزع التفاصيل.
من الواضح أننا لا نقرأ هذه التأكيدات المطلقة على حرفيتها: "وجاؤوه بجميع المرضى والممسوسين" (آ 32). وقال مت 8: 16: "شفى جميع المرضى" (رج لو 4: 40: وضع يده على كل واحد منهم فشفاه). نحن نعرف كل المعرفة أن يسوع لم يشفِ جميع المرضى. وأنه كان يطلب الإيمان ويفرضه. لهذا سيقول مرقس في آ 34: "شفى كثيراً من المرضى".
هناك تضخيم في التعبير: "تجمّع أهل المدينة كلهم على الباب" (آ 33). نحن هنا أمام تعميم لواقع حصل أكثر من مرة فلفت الإنتباه: فالتقليد يتحدّث مراراً عن الناس الذين لم يكونوا يستطيعون الدخول إلى البيت بسبب الجمع. لهذا وجب على الناس أن يوصلوا الخبر إلى الداخل (3: 32: أمك وإخوتك) أو ينزلوا المريض في فتحة السقف (2: 1- 4: نقبوا السقف).
ب- الشياطين
نقرأ كلمة "شياطين" ثلاث مرات في هذا النصّ (آ 32-34، 39)، فنتعرّف إلى اهتمام خاص بمرقس. لقد جاء يسوع يحارب إبليس ويخلّص الناس من سلطته. منذ البداية تحدّث المعمدان عن المسيح على أنه "الأقوى" (1: 7)، وبدأ يسوع رسالته بهجوم مباشر على الشيطان فقهره (1: 12- 13). وما إن بدأ يسوع كرازته حتى حاول ممسوس أن يستوقفه. ولكن طُرد الشيطان: "أخرس وأخرج" (1: 23- 27). وفي نهاية انجيل مرقس، أول آية خاصة يقوم بها التلاميذ هي "طرد الشياطين" (16: 17). في هذا المنظار، يرجع كل مرض إلى الشيطان، ويتمّ الشفاء بالتقسيم الذي هو انتصار على إبليس.
ج- السرّ المسيحاني (آ 34 ب)
تعتبر خاتمة الإجمالة من تدوين مرقس. فهو لا يترك مناسبة إلا ويتحدّث عن موضوعه المفضّل: نحافظ على السر، السر المسيحاني. لا نعلن أن يسوع هو المسيح.
كنا نفهم الجملة فهماً أفضل لو جاءت في نهاية التقسيم في المجمع. صاح الممسوس: ما لنا ولك؟ أنا أعرف من أنت: "قدوس الله" (مر 1: 24). حينذاك كنا نستطيع أن نتحدّث عن السّر. ولكن مرقس قال فقط في آ 34: "منع الشياطين أن تتكلّم". وزاد ليكون واضحاً: "لأن الشياطين عرفته". ولكن لوقا كان أوضح فكرّر كلمات الشياطين: "هي تصرخ: أنت ابن الله. فكان يسوع ينتهرها ويمنعها من الكلام، لأنها عرفت أنه المسيح".
كان الشياطين أكثر نباهة من البشر، فعرفوا حالاً عدوّهم، وأعلنوا الحرب وهم يصيحون (1: 24؛ 5: 7). لا يمثّل صراخهم فعل إيمان بيسوع، بل تعبيراً عن الخوف والهزيمة أمام ذاك الذي رأوا فيه مرسل الله والحامل قدرة إلهية لا يستطيعون أن يقاوموها (3: 22- 27). هنا نتذكّر يع 2: 19: "الشياطين تؤمن وترتعد".
كشف يسوع للبشر عن ذاته بشكل تدريجي، فأعطى علامات عن سلطته على الأمراض التي لا شفاء منها (كما يقول)، وعلى الخطيئة التي يستطيع الله وحده أن يغفرها (2: 5- 12)، عن يوم الرب (2: 28= السبت)، عن الحياة.
حين نطرح السؤال: "من هو يسوع"؟ نكون قد خطونا خطوة في الطريق الذي يقود إلى معرفة شخصه معرفة تامة، إلى الإيمان. ومرقس يريد أن يقود قارئه خطوة خطوة ليكتشف يسوع المسيح. حين رأى الناس المعجزات التي أتمّها (ومنها شفاء حماة بطرس)، لم يفكّروا إلا بالخيرات المادية المباشرة التي ينتظرونها لنفوسهم أو لأقربائهم. هذا هو وضع أهل الناصرة (لو 4: 23). لهذا توارى يسوع ومضى.
لا نستطيع أن نستعيد هنا كل ما قيل عن السّر المسيحاني. فيكفي إن نشدّد على الوجهة التربويّة في هذا الموضوع: لن يكون فعل الإيمان بيسوع كافياً إلا إذا تضمّن معرفة لرسالته وعمله، معرفة بأن عليه أن يموت ويقوم ليتمّ هذا العمل. هذا ما قاله الإنجيل الرابع بطريقته الخاصة: "كثيرون آمنوا باسمه حين رأوا الآيات التي كان يصنعها، ولكن يسوع لم يكن يثق بهم" (يو 2: 23-24). من أعلن أن يسوع هو المسيح دون أن يؤمن بموته وقيامته، تكلّم بما لا يعرف بانتظار أن ينكر المسيح حين يكتشف الواقع.

4- في كل الجليل (آ 35-39)
يشكّل الخبر في آ 35-38 نقطة وصل: حتى الآن بدا يسوع وكأنه يحصر أفقه وخيراته لا أهل كفرناحوم. بعد الآن ستمتدّ رسالته إلى كل الجليل (آ 39).
تعب التلاميذ من يوم رسولي طويل فكانوا نائمين، أما يسوع فقام قبل شروق الشمس. لا يكفيه أن يكون مع البشر، لا يكفيه شفاء بعض الناس. لهذا اعتزل في البرية ليصليّ. أي ليطلب حياة حميمة مع أبيه. هذا ما يشدّد لوقا عليه مراراً.
لم يفهم سمعان بعد معنى رسالة يسوع: لقد أراد أن يستغلّ نجاح المعلّم. لم يرَ إلا معجزات، وظنّ أن معجزات أخرى ستتبع من أجل أهل كفرناحوم. وهو يرجو أن يعيد يسوع إلى البيت. فالجموع التي شتّتها الليل عادت يدفعها الأمل بأن تعاين معجزات جديدة: هي تنتظر أشفية. أما يسوع فيعتبر هذه الخيرات تهيئة لتقبّل الإنجيل ولوَحي سّره الشخصي.
لا يقول لنا مرقس شيئاً عن موضوع صلاة يسوع ولا عن مضمونها، ولكن الحوار الذي يتبعها يجعلنا نستشفّ الخط الذي توجّهت فيه. هو لا يطلب نعماً، بل يتحاور مع من أرسله في شأن مهمته على الأرض. فعند عماده سمع صوت أبيه (1: 11؛ رج لو 3: 21) ونال الروح القدس الذي دفعه إلى قتال إبليس (1: 12-13).
ما معنى هذه العبارة: "لأني لهذا خرجت"؟ هل يعني أنه خرج من كفرناحوم (المعنى الأول)؟ أم خرج من الآب ليأتي إلى العالم (المعنى اليوحناوي، يو 16: 28)؟ التفسيران مقبولان. لقد فهو لوقا كلمة يسوع في هذا المعنى الثاني لأنه جعل محل هذه العبارة "لأني لهذا أرسلت" (4: 43)، وهذا ما يحيلنا إلى الآب. ولكن قد نرى في هذا الكلام ثمرة تأمّل لوقا في رسالة يسوع، وقصداً في إلقاء الضوء على مهمة الكنيسة والتلاميذ: عليهم أن ينتقلوا من مرحلة إلى مرحلة فيتجاوزوا كل الحدود ويحملوا الإنجيل إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8). لم يصل لوقا إلى هذا التفكير في رسالة الكنيسة، فظلّ قريباً من الواقع كما حدث: إن يسوع لا يريد أن "يسكر" بمثل هذا النجاح. وسيفعل الشيء عينه بعد تكثير الأرغفة: إعتزل في البرية ليفلت من التحرّك الشعبي ويجعل نفسه في مخطّط الآب (6: 46؛ مت 14: 23؛ يو 6: 15 ب). ونستطيع أن نقرّب نزاع جتسيماني من هذين الحدثين. فيسوع يعتزل في الليل للصلاة. والتلاميذ (وبطرس بشكل خاص) سيبدون متحيرّين لأنهم لم يفهموا بعد رسالة معلّمهم.
أ- إلتزام الإيمان
قالوا إن الإنجيل الثاني هو كرازة والإنجيل الرابع فقاهة وتعليماً. هذا لا يعني أننا لا نحتاج إلا إلى قليل من الإيمان لكي نتبع مرقس. بعد هذا نتعمّق في تعليم متّى. ثم نعود إلى تعليم بولس أو يوحنا.
مرقس هو متطلّب جداً. وهو لا يرضى بالتزام يبقى على مستوى الكلام. لهذا فهو لا يطرح حالاً السؤال الحاسم. هذا هو معنى السر المسيحاني: نحن هنا أمام تربية عجيبة. فالكارز بالإنجيل يتحدّث عن المسيح ولكنه يتحفظ في الكشف عن شخصه وسره إلا بطريقة تدريجية وذلك بآيات وعلامات وأقوال خفية. ومن وقت إلى آخر يلقي بعض الضوء على السر ثم يخفيه، كما فعل يسوع مع الجموع أو بعد التجلّي حين كشف عن مجده لحظة واحدة. إن سر المسيح هو أعظم من أن نكتشفه في يوم واحد.
واحتاج الإثنا عشر إلى وقت كثير ليؤمنوا حقاً بيسوع، ليعرفوه على حقيقته. لا شك في أنهم تعلّقوا به باكراً، ولكنهم لم يدركوا ملء الإيمان إلا بعد الموت والقيامة والعنصرة. حتى ذلك الوقت ظلّ إيمانهم ناقصاً وضعيفاً، وهذا ما بدا واضحاً حين أوقف يسوع وحُكم عليه بالموت.
لماذا هذه المتطلّبة عند مرقس، هذا التدرّج البطيء؟ لأنه فهم أن الإيمان يُلزم الإنسان في أعمق أعماقه. إستنار بطرس بخبرته الشخصية (إنكاره ليسوع) فشدّد على هذه الفكرة. والظروفُ التي عاشت فيها كنيسة رومة حين دوّن الإنجيل الثاني فرضَتْ مثل هذه المتطلّبة: ففي وقت الإضطهاد لا نستطيع أن نقبل في الكنيسة إلا موعوظين استعدوا الإستعداد الوافي، وعزموا على التعلّق بيسوع المسيح حتى الموت إذا لزم الأمر.
ب- النداء الإرسالي
إن يسوع كان مثلنا، فأحب قريته (الناصرة) ومدينته (كفرناحوم). هناك بدأ رسالته، ولكن الآب دعاه إلى أبعد. ويبيّن لنا لوقا بإيجاز كيف ترك يسوع الناصرة. أما مرقس فيخبرنا كيف ترك كفرناحوم. يشدّد الناس اليوم على دور الرسالة في محيطنا المسيحي، ولكنهم ينسون وجهة أساسية من رسالة الكنيسة: أن تصل إلى أقاصي الأرض. هذا ما يقوله لنا الإنجيل الذي نتأمّل فيه.
وهناك نظرة أخرى لدى "أهل كفرناحوم" الذين نمثّلهم نحن. هم لا يطلبون من يسوع (ومن الكنيسة) إلا خيرات الأرض. ويحكمون عليه انطلاقاً من هذا المعيار. وتجاه هذا الوضع تحاول الكنيسة أن تحصر عملها في المجال الروحي، فتنتقل من نقيض إلى آخر.
تهرّب يسوع عندما كان الإنتظار ملتبساً. ولكنه "مرّ وهو يعمل الخير ويشفي كل الذين سقطوا في قبضة إبليس" (أع 10: 38). وقد طلب من تلاميذه أن يعملوا مثله فيتكيّفون مع حاجات عصرهم الحقيقية. هم في العالم فلا يتهرّبون منه. ليسوا من العالم فلا يغرقون فيه.

خاتمة
إن هذه الصفحة الإنجيلية تتوجّه إلينا اليوم، لا في ما تخبرنا عن طرد الشياطين وشفاء المرضى، بل في أنها تتجاوب مع اهتماماتنا في تربية الإيمان وعمل الرسالة إلى أقاصي الأرض. لهذا نحتاج اليوم أن نسمع أيضاً كلام القديس مرقس بفم يسوع الذي خرج من الآب وأتى إلى العالم. ولكن عليه أن لا يبقى في الناصرة أو في كفرناحوم. بل عليه أن يطوف في الجليل، الذي يرتبط بالعالم الوثني، الذي منه انطلق الرسل ليصلوا إلى العالم كله ويحملوا البشارة إلى الخلق أجمعين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM