الفصل الحادي عشر صيحة الإنسان وسرّ الله

الفصل الحادي عشر
صيحة الإنسان وسرّ الله
1: 21-28

مسرحية في فصلين، تحتلّ يوم السبت في مجمع كفرناحوم. مشهد يُطرَد فيه الشيطان من قلب رجل مريض. يشير النص إلى شيطان "يمتلك إنساناً" (هو ممسوس)، وإلى ممارسة طرد الشياطين، إلى حوار يسوع مع الشيطان. "أنا أعرف من أنت". قال يسوع: "أسكت". كل هذه أمور غريبة بالنسبة إلينا.
ويبدأ الخبر بمقدّمة في آيتين سريعتين. يقول لنا مرقس إن يسوع كان يعلّم. ويلاحظ سلطان هذا التعليم وتأثيره على الجموع، ولكن لا يقول لنا شيئاً عن مضمون هذا التعليم. وظهر الرجل الممسوس وبدأ مشهد طرد الشيطان. حين رأت الجموع هذا المشهد، أخذ منها العجب كل مأخذ. والأسئلة التي طرحتها قد تدخلنا في قراءة أعمق للنصّ. إذا عدنا إلى المنطق، كان على الجموع أن تندهش من سلطان يسوع على الشياطين. فإذا بها تعبّر عن إعجابها بتعليم يوصف أنه "جديد". ثم تعجب بطرد الشيطان.
تشير مقدّمة الخبر وخاتمته إلى تعليم يُعطى بسلطان، فنجد نفوسنا أمام تضمين (واحتواء) يحيط بطرد الشيطان. هذه الطريقة (مع إشارات أخرى) تدلّ على يد مرقس في تدوين خبر تسلّمه من التقليد. فنحن أمام مستويين، أمام مرحلتين. وهذا ما يتيح لنا أن نقوم بقراءتين متواليتين لهذه الصفحة الإنجيلية فنستجمع كل غناها.

1- يسوع يطرد روحاً نجساً (آ 23-27)
أ- قراءة النص
يبدأ هذا الخبر كما يبدأ خبر معجزة. فيقدم لنا "الوضع": "وكان هناك رجل". نستطيع أن نقابل مع الحدث التالي: "وكانت حماة سمعان طريحة الفراش بالحمّى" (1: 30). أو في 1: 40: "واقترب أبرص". وفي 2: 3: "جاؤوه بمخلّع".
بعد هذا، تتبدّل الأمور حالاً. نجد حالاً مبادرة (أو: تصّرف) تدلّ على إيمان المريض أو الحاضرين. أما هنا، فلا يتدخّل أحد. ويسوع لا يتحرّك. وفجأة يحدث "إنفجار". فوجود الشيطان أمام يسوع جعل الرجل "يصيح"، ومن خلاله الروح النجس. وهذا ما نلاحظه بوضوح أكبر في خبر آخر من طرد الشياطين، هو شفاء الولد الذي يقع في الصرع: "فلما رأى الروح النجس يسوع، صرع الصبي فوقع على الارض يتلوّى ويزبد" (9: 20). من الواضح أن اللقاء مع يسوع يحدث صدمة. لا يستطيع الشيطان أن يظلّ لامبالياً. وهو يفسّر سبب تصّرفه في عبارتين لا شكّ فيهما. أولاً: "ما لنا ولك"؟ ماذا تريد منا؟ أو: لماذا تتدخّل هنا؟ هذه العبارة التي نجدها في حدث قانا الجليل، ترد مراراً في العهد القديم. نستطيع أن نرتّب النصوص في فئتين. الأولى: ما الذي صنعته لك؟ ما الذي حدث لكي تتصّرف بهذا الشكل؟ ما الذي حدث لكي تفعل بي ما تفعل؟ قض 11: 12؛ 2 أخ 35: 21؛ 2 صم 16: 10؛ 19: 23؛ 1 مل 17: 18. والفئة الثانية: أية علاقة بيني وبينك؟ أما يجب عليك أن تهتم بأمورك؟ يش 22: 24؛ 2 مل 3: 13؛ هو 14: 9.
في كلا الحالين، هي تدل على مسافة موضوعة بين شخصين. هناك سوء تفاهم وعدم توافق بين شخصين كانا مرتبطين الواحد بالآخر. أو هناك رفض لكل علاقة، لكل مساومة بين عدوّين إثنين. هنا يفرض المعنى الثاني نفسه. نحن أمام إعلان حرب. أو بالأحرى أمام إعلان عداء ورفض لحرب يعرف الضعيف مسبقاً نهايتها. لهذا قال الشيطان: "أجئت لتهلكنا"؟ ونجد التسلسل عينه في مشهد آخر شهير رواه مرقس: متشيطن الجراسيين. بدأ الشيطان بعبارة الرفض. ثم أخذ يتوسّل لأنه خاف مسبقاً من هزيمة أكيدة. "ما لي ولك" أي: في ماذا تتدخّل؟ ثم: "أستحلفك بالله، لا تعذّبني" (7:5).
في هذه الحوارات المدهشة، يعطي الشيطان لقباً ليسوع. هنا: "قدوس الله" (1: 24). في 5: 7: "ابن الله العلي". إن عبارة "قدوس الله" نادرة في العهد الجديد. نجد في سفر الأعمال عبارة "القدوس والبار" (أع 3: 4). أو: "فتاك القدولس" (أع 4: 27- 30). وكل هذه عبارات كرستولوجية قديمة. في لو 1: 35 يرتبط "القدوس" مع "ابن الله". ولكننا نجد عبارة "قدوس الله" في يو 6: 69، في اعتراف إيماني يعلنه بطرس فيقابل ما نجده من اعتراف في متّى، في قيصرية فيلبس (مت 16: 16). إن هذا النص يدلّ على أن يسوع هو ذاك الذي يأتي من الله ويعود إلى الله (يو 13: 3؛ 16: 30). الله أرسله وكرّسه (وقدّسه) (يو 10: 36).
إن لقب "قدوس الله" لا يدلّ على لقب مسيحاني في العالم اليهودي. هو يتحدّث عن يسوع ككائن ينتمي إلى حلقة القداسة الإلهية، يرتبط إرتباطاً خاصاً بالله. وهكذا يدلّ هذا اللقب على التعارض، على عدم توافق تامّ بين يسوع والشيطان الذي يسمّيه مرقس "الروح النجس" (في إطار طقسي أو ديني. ما يعارض كل ما هو مقدّس. هو القوة المعادية لعالم الله، لعالم القداسة).
حين رأى الروح النجس يسوع أحسّ بالعدوان، ولهذا كان الإنفجار. وسيؤكّد وليْ الخبر مخاوف الشيطان. هدّده يسوع. هذا الفعل يستعمله مرقس مراراً. وهو يدلّ في العهد القديم على أمر إلهي لا يقاوَم. أعطى يسوع هنا أمرين. الأول: اخرس، اصمت. حرفياً: ضع الكمامة على فمك (هذا ما قاله يسوع أيضاً للبحر: 4: 38). يبدو الشيطان وكأنه وحش لا بدّ من ترويضه لئلا يؤذي أحداً فيما بعد. وجاء الأمر الثاني قاطعاً: "أخرج". نجد هذه الكلمة عينها في 5: 8: "أخرج من هذا الرجل". وفي 9: 25: "أخرج من الصبي ولا ترجع إليه". خروج نهائي.
وكانت النهاية السعيدة. فالتلوّي والصراخ العظيم يدلاّن على أن يسوع حصل على النتيجة التي أرادها (كما في 9: 26) دون حرب. ولكن هذا لم يحدث في تعزيمات أخرى (مجنون الجراسيين، الولد المصاب بداء الصرع) حيث سيلقى يسوع بعض المقاومة. أما هنا، فالنصر كان سريعاً. وهذا ما جعل الحاضرين يتعجّبون، لأن الأمر ليس بعادي: إن الأرواح النجسة تخضع لكلمة واحدة قالها يسوع.
ب- مقسّم ليس كالآخرين
كانت ردّة الفعل سريعة تجاه أسلوب يسوع وما يعنيه بالنسبة إليهم. لقد شاهدوا تقسيمات (أي: صلوات تُتلى على شخص فيه شيطان) عديدة. فقد انتشرت هذه الممارسة في العالم الديني القديم، في العالم اليهودي كما في العالم اليوناني. وكان لها طقوس يتبعها المقسّمون. وقد بقي لنا بعض نصوصها مع اختلافات ترتبط بالمحيط الذي وُلدت فيه. نستطيع أن نتحدّث عن رسمة مشتركة تتبعها الأخبار الإنجيلية خصوصاً شفاء مجنون الجراسيين والولد الذي يقع في الصرع.
ماذا نجد؟
- تقديم الحالة مع وفرة التفاصيل حول خطورة الوضع (كما في تصوير مرض لا شفاء له).
- يتعرّف الشيطان إلى الذي جاء يقسِّم عليه.
- حوار بين المقسّم والشيطان.
- يطرد الشيطان بأمر: أخرج. أو بعبارة تقنية: كمّ فاه.
- براهين لا شك فيها تدلّ على النتيجة.
- وأخيراً، دهشة الحاضرين أو السامعين.
كان السحر يحتلّ مكانة كبيرة في مشاهد التقسيم هذه، وكان لذكر الإسم أهمية كبرى. فالمقسّم لا يستطيع أن يسيطر على الشيطان إن لم يعرف إسمه. ويقوم فنّه كله بأن يحصل على هذا الإسم. ولكن الصعوبة تزداد إذا كان أمام روح أصمّ وأخرس: فالنجاح في هذه الحالة يدلّ على أننا أمام مقسّم عظيم. ومقابل هذا، إن عرف الشيطان اسم المقسّم وتلفّظ به، تخفّ فاعلية عمل المقسّم. لهذا على المقسّم أن يكتم فاه الشيطان ويسكته.
كل هذه التفاصيل تدلّ على الحدّ الذي اتخذته الأخبار الإنجيلية لتكون قريبة من الرسمة المعروفة، كما تدلّ على أنها تفترق عنها افتراقاً كبيراً. فنحن لا نلاحظ في "تقنية" يسوع عبارات سحريّة ولا إشارات خارقة تدلّ على الحصول على نتيجة. كل ما نجده هو المقاومة مع شيطان الجراسيين. ما نلاحظه هو فاعلية كلمة يسوع وتأكيد بسيط للنتيجة التي حصلت.
وهذه التقسيمات لا تبدو كحوادث متفرّقة تتكرّر ولا تبدّل شيئاً في حياة الإنسان (يُطرَد الشيطان اليوم فيعود غداً). بل هي تشكّل (وهذا ما اعترف به الشيطان نفسه) واقعاً "جديداً" في تاريخ الخلاص. لقد بدأ عهد جديد. وترك العالم سيّده القديم. إنتهى سلطان الأرواح النجسة. لقد هلكوا وبادوا. لقد تهدّدت سلطتهم على العالم كما قال لجيون (5: 10). بدأ عذابهم (وحرمانهم من سلطتهم) قبل الأوان (مت 8: 29).
إذن، هذا يبيّن أن "يسوع الناصري" ليس مقسّماً صغيراً في قرية من القرى. إنه مرسل الله. إنه "القدّوس" الذي يدلّ بحضوره وعمله على أن الله قد أقام ملكه. ويسوع نفسه يفسّر أعماله بهذا الشكل في مقطع شهير (3: 22- 30) يردّ فيه على الكتبة الذي يتّهمونه بأنه يطرد الشياطين برئيس الشياطين. قال: ظنّ الشيطان نفسه قوياً. لقد وجد الآن سيّده. وانتهت سلطته. ولقد احتفظ لنا متّى ولوقا بقول ثمين حول الوجهة الإيجابية للتقسيمات: "إذا كنت بروح الله أطرد الشياطين، فملكوت الله حلّ بينكم" (مت 12: 28؛ رج لو 11: 20). إذن، لتقسيمات يسوع بُعد اسكاتولوجي.
ج- تحرّر المؤمن فاعترف بيسوع المخلّص
إن المقابلة بين الأخبار الإنجيلية والتقسيمات عند اليهود أو الوثنيين، نطبّقها على المشهدين في ف 5 (مجنون الجراسيين) وف 9 (المصاب بداء الصرع) حيث الطابع الشعبي واضح جداً: أخبار موسّعة، قوة دراماتيكية. أما التقسيم في ف 1 فيلفت نظرنا بإيجازه: إنه يخفّف من وجهة المقاومة، ويزيل كل تفصيل يجعلنا في عالم الأخبار المتفرّقة. في خبر مجنون الجراسيين والمصاب بداء الصرع، نحسّ أننا نعرف بعض الشيء عن المتشيطن (فيه شيطان)، عن الطفل (أو: أبيه). أما هنا، فالشخص الذي امتلكه الروح النجس يبدو نموذجاً عاماً، حيث سقطت التفاصيل وبقي الحدث في جوهره.
لقد لاحظ الشرّاح منذ زمن بعيد أنّ طرد الروح النجس (1: 23- 27) قد بُني حسب نموذج العاصفة المهدَّأة. أو بالأحرى اعتبرت تهدئة العاصفة وكأنها معجزة طرد الشياطين، والماء يدلّ على الشّر في عالم الشرق القديم.
طرد الشيطان (1: 23- 27) تهدئة العاصفة (4: 37- 41)
آ 23- وكان رجل فيه روح آ 37- فهبّت عاصفة شديدة
نجس، فأخذ يصيح: وأخذت الأمواج تضرب القارب...
آ 38- أيقظوه وقالوا له:
آ 24- ما لنا ولك يا يسوع الناصري أما يهمّك أننا
أجئت لتهلكنا نهلك
(= لقد هلكنا) (= لقد هلكنا)
آ 25- فانتهره يسوع آ 29- فقام وانتهر الريح
وقال للبحر:
كمّ فاك واخرج اسكت. كمّ فاك
آ 26- فخرج الروح النجس فسكنت الريح وحدث
وهو يصرخ صراخاً عظيماً هدوء عظيم
آ 27- فتعجّوا كلّهم (أمسكوا) آ 41- فأمسكهم خوف شديد
وتساءلوا وقال بعضهم لبعض:
ما هذا؟ من هذا إذن؟
ها تعليم جديد يُلقى بسلطان
يأمر حتى الأرواح النجسة حتى الرياح والبحر
فتطيعه تطيعه
نستطيع أن نستخلص من هذه الإزائية الرسمة التالية:
- إن حضور يسوع يحزك القوى المعادية (الشيطان أو البحر). نحن في حالة حرب.
- والتحدّي يصيب يسوع. يتحدّاه الشيطان ليتراجع، والتلاميذ ليفعل. وفناك فعل "هلك".
- يعبرّ النص انتصار يسوع التام بلفظتين: "انتهر" (أو: هدّد)، "كمّ فاه".
- يتأثَّر الناس ويطرحون سؤالاً حول يسوع الذي يُطاع.
تختلف البنية الأدبية لهذين الخبرين بعض الشيء عن أخبار المعجزات بحصر المعنى. في البداية، هجوم يحلّ محل مسيرة الإيمان. وفي النهاية، سؤال حول يسوع نفسّره لا كسؤال بسيط، بل كتعبير عن سّر شخصه كما تكشفه فاعلية كلمته.
هناك فعل "ابينيمان" بمعنى هدّد، انتهر. هو يعلن في العهد القديم انتصار الرب على البحر أو على العناصر في الخلق أو في عبور البحر الأحمر (أي 26: 11- 12؛ مز 104: 7؛ 106: 9؛ أش 50: 2؛ نا 1: 4)، انتصاره على الشيطان (زك 3: 2). ونجد هذا الفعل أيضاً في الأناجيل، وهو يدلّ على حرب يسوع ضدّ البحر (كما في 4: 34)، وضد الشياطين (1: 35؛ 9: 25)، وضدّ الحمّى (لو 4: 34)، وضدّ بطرس الذي تشبّه بالشيطان (8: 33)، وضد التلاميذ (8: 30). وهذا الأمر يعني عادة هويّة يسوع.
وتساءل الشرّاح عن هدف هذا الخبر الذي يبرز طابع يسوع المتعالي وانتصاره على كل قوى الشّر. هناك افتراضات. الأولى: نحن لا نعرف إلى أي حدّ كان العالم القديم خاضعاً للسحر ولكل قوى الشّر من أي جهة جاءت. الثاني: حين نقرأ أعمال الرسل، نفهم أن الكنيسة عملت الكثير لنشر الإنجيل، فبدأت بتحرير العالم من أمراضه وتغرّباته. بدأت تقسّم على العالم لتخرج منه الشياطين. الثالث: كان المسيح المحرّر الحقيقي ومدمّر قوى الشر. الرابع: حيث كان الوثني يحسّ في الأعماق بالخلاص الذي أدركه، كان يطرح عن نفسه السؤال الآتي: من هو هذا الذي يخلّص أكثر من الشفّائين والسحرة والكهنة الوثنيين والأباطرة؟ لهذا لعبت أخبار طرد الشياطين دوراً كبيراً في كرازة المرسلين. وهذا ما تدلّ عليه كرازة بطرس الأولى للوثنيين: "مسح الله يسوع بالروح والقدرة، فسار في كل مكان يعمل الخير ويشفي جميع الذين سقطوا في قبضة إبليس" (أع 10: 38).
ولكن إن تحرّر المسيحي، فالحياة المسيحية تبقى صراعاً ضدّ قوى الشر. ونصوص الرسائل تشدّد على هذه الناحية (روم 13؛ أف 6: 10- 17؛ 1 بط 5: 6- 10). وهي ترد في علاقة مع الفقاهة (التعليم) العمادية. في هذا المنظار، لعبت أخبار التقسيم دوراً كبيراً في التنشئة المسيحية (وهذا ما نجده في رتبة العماد حسب بعض الطقوس). مع المسيح، المسيحي هو أيضاً منتصر.
نحن لا نطرح السؤال في العمق، ولكننا نلاحظ تاريخية خبر طرد الشياطين: لا شكّ في أن يسوع أخرج الشياطين. وترك في عقل معاصريه صورة رجل شفى المرض وطرد الشياطين. ونرى إشارة إلى ذلك في شفاء مجنون الجراسيين والمصاب بداء الصرع. بل إن أعداءه قالوا عنه إنه يطرد الشياطين برئيس الشياطين فأجبر على الردّ عليهم. إتهمه الكتبة بأنه يمارس السحر لأنه يطرد الشياطين. يبقى علينا أن نتبع مثال يسوع والإنجيليين ونفسّر هذه الصورة التفسير الصحيح.

2- مرقس يفسّر "طرد الشياطين"
تسلّم مرقس هذا الخبر من التقليد واهتمّ به اهتماماً خاصاً. ولكنه حوّله بعض الشيء ليتوافق مع مشروعه في كتابة الإنجيل.
إن طرد الشياطين وبصورة عامة الحرب ضدّ الشياطين، يحتلاّن حيّزاً هاماً في إنجيل مرقس، إن من جهة الكمية وإن من جهة النوعية: فنحن نجد الموضوع في ثلاثة أخبار (وهناك خبران موسّعان جداً)، وفي إجمالات عديدة حول نشاط يسوع بقلم مرقس (1: 34، 39؛ 3: 11- 12)، وفي مناسبة إرسال التلاميذ (3: 15: سلطان يطردون به الشياطين؛ 6: 7، 13). في كل هذه النقاط، يبتعد متّى ولوقا عن مرقس.
إحتفظ لوقا بالخبر الذي أوردناه، وبإجمالة وحيدة قريبة مما في مرقس. وجهل متّى طرد شيطان كفرناحوم. ثم إن متّى ولوقا خفّفا (أو ألغيا) بشكل عادي الوجهة "الشيطانية" من أخبار عديدة (الكنعانية، رسالة الإثني عشر، الولد المصاب بالصرع). وهكذا ظهر تحوّل بسيط من الإمتلاك (الشيطان يمتلك إنساناً) إلى المرض، من التقسيم (طرد الشياطين) إلى الشفاء. وفي النهاية لا يتّفق الإنجيليون الثلاثة إلا على خبر مجنون الجراسيين، فيخفي متّى ولوقا الوجهة الشعبية والدراماتيكية.
ويهتمّ مرقس بالحرب ضدّ الشيطان، فيحدّد موقع مشاهد التقسيم في النقاط "الستراتيجية" من إنجيله. فقسما الإنجيل يبدآن بظهور (تيوفانيا) يتبعه انتصار على الشّر (البرية، المصاب بالصرع). وفي القسم الأول، يبدأ كل جزء بطرد الشيطان: بعد دعوة التلاميذ الأربعة الأولين، نجد تقسيم كفرناحوم، ثم نشاط يسوع العلني الأول. وإجمالة حيث التقسيم مهم، تسبق تكوين مجموعة الإثني عشر التي يتبعها الجدال حول بعل زبول (3: 22-30). وأخيراً، في الجزء الثالث، يتسلّم التلاميذ مهمة طرد الأرواح ويمارسونها (6: 7، 13).
إن مرقس يستعيد بطريقته الخاصة تفسير أخبار التقسيم فيخضعها لشيء آخر ليعبرّ عن قصده في كتابة إنجيله.
أ- "أعرف من أنت"... "أسكت"
ما هو قصد مرقس الإنجيلي؟ هو كشف عن شخص يسوع، واكتشاف تدريجي لهذا المعلّم. إذا أردنا أن نجيب عن السؤال الأساسي "من هو يسوع"؟، نطرح سؤالاً آخر: "من يستطيع أن يقول من هو يسوع"؟ إن خبر التقسيم هذا، وإن انتهى بعلامة استفهام (من هو يسوع؟)، يتضمّن جواباً. إذن، للتوتر الذي يمرّ في إنجيل مرقس معناه العميق. فهذا الإنجيلي يريد أن يقود القارىء إلى إعلان الإيمان المسيحي، إلى التعرّف إلى يسوع المسيح وابن الله. هذا ما أعلنه في الآية الأولى من انجيله: "يسوع المسيح وابن الله".
يسوع هو ابن الله. هذا هو سرّ الآب الذي سلّمه إلى يسوع وحده حين العماد في الأردن. وكشفه على جبل التجلّي لثلاثة مميّزين ستتجاوزهم الرؤيا وسيطلب منهم أن لا يخبروا أحداً بما رأوه. وطوال الإنجيل، لا يستطيع أحد أن يتلفّظ بهذه الكلمات "يسوع ابن الله". يجب أن ننتظر الآلام. فعند الصليب رأى قائد المئة (الوثني) كيف مات يسوع. كان هنا صدفة، ولكن النعمة جعلته يعلن: "حقاً هذا الرجل هو ابن الله". وهكذا التقى وسّر الآب. إذن، إن التعرّف إلى سّر يسوع ليس ممكناً ولا مفيداً إلا بعد مسيرة طويلة نقوم بها بشروط. فكل ما يحدث قبل هذا وبدل هذا، يبقى غير مقبول. فهناك طرق خاطئة. هناك فخاخ. ويهتم مرقس بأن يجعلنا نتجنّبها.
إن الأخبار التقليدية عن التقسيم هي وسيلة تربوية شرط أن نفسّر في معنى آخر عنصرين من تقنية التقسيم وجدناهما في أخبار التقسيم: التلفّظ بالإسم والسكوت (أو كمّ الفمّ). فالتلفّظ بالإسم في التقسيمات الوثنية أو اليهودية، يشكّل دفاعاً للشيطان، ومجهوداً ضروريا ليزيل سلطان الذي يريد أن يطرده. ولكن حين يتلفّظ المقسّم بدوره باسم الشيطان، فهو يكمّ فاه الخصم ويسيطر عليه ويستطيع أن يطرده.
من الواضح أن هذه الوجهة السحرية من الصراع قد زالت (زال قسمٌ كبيرٌ منها) من الخبر التقليدي، ولم تعد تهمّ مرقس. لهذا سيلغيها ويحوّل معناها. وهذا ما يظهر بوضوح في إجمالات يستهلمها مرقس من الخبر (1: 34؛ 3: 11-12). فكمّ الفمّ صار أمراً بالسكوت والتوقّف عن الكلام. وستستعمل اللفظة لمرضى نعموا بالشفاء (1: 44؛ 5: 43؛ 7: 36؛ 8: 26)، كما تستعمل للتلاميذ (8: 30؛ 9: 9). عرف الشياطين هويّة يسوع، فأسكتهم يسوع. فالإسم الذي تتلفّظ به الأرواح النجسة هو أوضح في الإجمالة الموسّعة (3: 11- 12) أكثر منه في الأخبار: "ابن الله". أي: الحقيقة التي كشف عنها الآب، واعترف بها قائد المئة.
لا نتخيّل أن الجموع استطاعت أن تسمع صيحة الشياطين، وأن الأمر بالصمت الذي فرضه يسوع لا جدوى منه. فمرقس يتوجّه إلى القارىء ليدخله في تدبير الوحي. فيلمّح بأن تكرار اسم "يسوع ابن الله" من الخارج، دون أن ندخل في السرّ، يجعلنا في إطار شيطاني يسيء في النهاية إلى مهمة يسوع ومعرفة شخصه الحقيقية. من هو يسوع؟ أساء الشياطين معرفته، وتكلّموا قبل الأوان. فالآب وحده يعرفه معرفة حقيقية. والناس سيتعرّفون إليه عند الصليب. لا يكفي أن نعرفه معرفة علوية بالدرس والبحث. بل نتقبّل هذه المعرفة في الإيمان كعطيّة من الآب. ولا نخبر عن هذه المعرفة قبل الأوان. فقد نخطىء. فالأعمال التي تجعل الجموع تتراكض إلى يسوع فتطرح أسئلة (ما هذا؟ من هو هذا؟) لا تجد معناها إلا في الآلام: لا نستطيع أن نعرف حقاً من هو يسوع إلا إذا تبعناه حتى الصليب.
هنا نتساءل: أليس لمرقس طريقة خاصة في رسم خط ينطلق من هذا "التقسيم" إلى الآلام؟ إن الشياطين يصرخون دوماً عند مرقس. والروح خرج وهو يصيح صيحة عظيمة. ويسوع، حين مات، صاح صيحة عظيمة (15: 34، 37). هذا ما يذكره النص مرتين. وهكذا يدلّ مرقس على أن موته هو الصراع النهائي والكبير، هو التقسيم الأخير الذي يجعل سّر هويته حراً والإعلان عن ابن الله ممكناً.
ب- تعليم جديد يُلقى بسلطان
لقد فسّر مرقس التقسيم بشكل آخر فأخضعه لتعليم يسوع. سبق ولاحظنا ما في هتاف الجموع من أمر غير عادي: فقبل أن تُنشد نجاح التقسيم وطرد الشيطان، تتعجّب من تعليم يُلقى بسلطان، وهذا التوالي بين التعليم والتقسيم نجده مرتين: أولاً في الخبر، ثم في الخبر النهائي. ومن جهة ثانية، فذكر التعليم بسلطان يشكّل تضميناً. إذن، هذا يعني أن مرقس يريد أن يشدّد على التعليم. إن يسوع يدلّ على سلطانه بتعليمه أكثر منه بسلطته على الشياطين.
نسمع عادة أن مرقس لا يهتمّ بتعليم يسوع، فيختلف عن لوقا، ويختلف عن متّى الذي تشكل خطبه عناصر كرازية وتعليمية هامة. ولكن الواقع هو أكثر تشعّباً. فإذا كان مرقس لا يحس مراراً (2: 13؛ 6: 2، 34؛ 10: 1؛ وخصوصاً 1: 21) بالحاجة إلى أن يقول لنا ما الذي علّمه يسوع، فهو يستعمل أكثر من متّى كلمة "علّم"، "تعليم". ما يهمّه في تعليم يسوع ليس المضمون، بل النشاط في ذاته لأنه يدلّ على هوية يسوع. ويشير مرقس إلى ميزتين: الجدة (جديد) والسلطان. هو جديد لا بما يحمله بل بنوعيّته. هو جديد لأنه يُعطى بسلطان. والسلطان لا يدلّ هنا على كفاءة "المعلم" الذي يمتلك موضوعه أو سامعيه: فالكتبة كانوا كفوئين، ولكن "يسوع لا يعلّم مثل الكتبة". يرتبط الرابي بمعلّميه ويهتمّ قبل كل شيء بتفسير حرفيّة الشريعة. وإن أظهر براعة لا تأويل الكتب المقدسة، حاز على احترام عظيم بسبب أمانته في نقل ما تسلّمه، ولأنه أعلن جهله أمام أمور من الشريعة لا تفسير لها. فالشريعة وتفسيرها هما السلطة في نظره.
أما يسوع فما تعلّم في المدارس (يو 7: 15)، ولا هو رجع إلى أحد، وليس عبداً للحرف. إنه يقدّم نفسه فوق الشريعة. إنه يفسّرها. له سلطان عليها: "ابن الإنسان هو سيّد السبت أيضاً" (2: 28). حين شفى يسوع الأبرص، دلّ على أنه أقوى من الشريعة: هي لا تستطيع إلا أن تلاحظ المرض وتطرد المريض من المجتمع. أما يسوع فيزيل النجاسة ويعيد الإنسان إلى الجماعة. والسلطة التي يمارسها هي سلطة تحرير الإنسان من كل العبوديات، حتى عبودية الخطيئة (هذه السلطة سيعارضها الكتبة بعد شفاء المخلّع، 2: 6، 16؛ 3: 22، 7: 5...) إذن، هو سلطان إلهي يظهر في تعليمه.
والطريقة التي بها يسوع يعلّم، تطرح السؤال حول شخصه. هذا ما يعبرّ عنه أهل الناصرة بشكل لافت. أعجبوا به فطرحوا السؤال عن أصله: من أين جاءه كل هذا؟ لا، يسوع ليس الرابي الذي تعوّد عليه الناس. بل هو يتصرّف كنبي يتّصل اتصالاً مباشراً بالله. إنه "قدوس الله" كما قال الشيطان، "وكان على حق فيما قال". وهذا النبي يستقي من اتصاله بالله حرية الروح وينبوع سلطانه: هذا السلطان بأن يكشف سر الله ويحرّر الإنسان. نلاحظ هنا أنه سيكون حديث عن تعليم يسوع في الأمثال والإنباءات بالآلام. وفي الحالتين، هناك وحي عن شيء خفي لا يستطيع الإنسان أن يدركه بنفسه: سّر الملكوت (4: 11) وضع عبد الله المتألم (8: 33؛ 9: 31).
في النهاية، ليس لخبر التقسيم المقحم في هذا التقديم للتعليم، إلا هدف واحد: إعطاء صورة عن سلطان التحرير الذي يمارسه يسوع على جميع المستويات وفي كل المجالات. لهذا، يجب أن نفسّره في منظار ما يظهره التعليم، لا خارج إطاره وكأنه معجزة خارقة.
ج- عمل في جميع الأمم
حدّد مرقس موقع هذا الحدث حالاً بعد نداء الصيادين الأربعة، على أنه أول نشاط علني قام به يسوع برفقة تلاميذ سيكونون دوماً معه. والحال أن يسوع أعلن في الإنجيل والخبر السعيد بأن ملكوت الله هو هنا، بأن قدرة الخلاص بدأت تعمل، بأن عالماً جديداً تدشّن. ففي الكلمة التي تحرّر، الله يفعل. ويسوع النبي القدير بالكلام والأعمال يعني أن الإنجيل بدأ مسيرته.
إن هذا الحدث هو جزء من مجموعة تسمّى "يوم كفرناحوم" (1: 21- 43). ففي وحدة الزمان (يوم السبت) والمكان (كفرناحوم) جمع مرقس عدّة أحداث: تعليم، طرد شيطان، شفاء حماة سمعان. وعند المساء لوحة إجمالية. وتحصل هذه الأحداث على التوالي في المجمع، في البيت، عند باب المدينة (أو: الساحة العامة). غير أن هذه المتتالية تنتمي الى مجموعة أوسع (1: 14- 39) حيث يظهر يسوع في الجليل، ويأتي إلى شاطىء البحر، ويدخل إلى كفرناحوم، ويذهب إلى المجمع، ويخرج من المجمع، ويذهب في المساء إلى "الساحة". وفي الغد يترك المدينة ليجول في الجليل فيكرز في المجامع ويطرد الشياطين. وبمختصر الكلام، إنه يفعل في كل مكان ما فعله في مجمع كفرناحوم: تعليم وتقسيم.
والحدث الذي ندرس هو نواة حركة تركيز وتوسيع، وهو يشكّل تكثيفاً له معناه لنشاط يسوع. فما يظهر في موضع يهودي عام، في بيت الشريعة (تحرير إنسان بيد يسوع) سينتشر في كل الجليل الذي سيصبح بعد القيامة موضع الرسالة إلى الأرض كلها. وهكذا لا نندهش حين نقرأ خاتمة المقطوعة: "وذاع صيت يسوع" (آ 28). ولكن لا ننسى التنبيه والأمر بالصمت: فهذه الشهرة لن تجد أساسها الحقيقي إلا بعد الآلام

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM