صورة مريم العذراء في العهد القديم.

صورة مريم العذراء في العهد القديم

يقول المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني في دستور عقائديّ في الكنيسة (عد 55): إنَّ الأسفار المقدَّسة في العهدين القديم والجديد تُظهر دور أمِّ المخلِّص في تدبير الخلاص. فكتب العهد القديم تظهر وجه المرأة التي هي أمُّ المخلِّص، وإليها يلمِّح الكتاب عندما يتحدَّث عن الانتصار على الحيَّة التي تمثِّل عالم الخطيئة (تك 3: 15)، وعندما يذكر العذراء التي ستحبل بابن يدعى اسمه عمّانوئيل (إش 7: 14)، فهو يجعلنا بين مساكين الربِّ وودعائه الذين توكَّلوا عليه ورجوا منه الخلاص.

على ضوء هذا الكلام نتطلَّع إلى صورة العذراء في العهد القديم. فنتوقَّف أوَّلاً على الصور والتشابيه، ثمَّ نتأمَّل في حياة كلِّ أمٍّ في شعب الله، وننهي كلامنا بلمحة عن تلك النساء اللواتي مثَّلن الشعب ولعبن دورًا مهمًّا في تاريخه.

أ‌-     الصور والتشابيه

نقرأ في طلبات العذراء المتعدِّدة أسماء تذكِّرنا بوقائع ورموز في العهد القديم.

1- كلُّ جمال في الطبيعة يذكِّرنا بمريم

مريم هي نجمة الصبح والبدر في تمامه أو الشمس المشرقة في هيكل العليّ (سي 50: 6-7). إذا كان خلق السماء والكواكب (مز 8: 4) وتنظيم دوران الشمس (مز 18: 7) علامة عن عظمة الله، فنجمة الصبح دليل على رحمته لنا لأنَّها تدلُّنا على أنَّ مجيئه صار قريبًا. ويقول سفر الأناشيد (6: 19): من هذه المشرقة كالصبح، الجميلة كالقمر، البهيَّة كالشمس؟ فكأنَّه يقول لنا إنَّ مجيء مريم مُهيَّئ مجيء يسوع كما أنَّ نجمة الصبح تعدنا بمجيء النهار وطلوع الشمس.

مريم هي قوس القزح الذي رآه نوح بعد الطوفان المريع، ففهم أنَّه علامة رضى الربِّ بعد غضبه على الخطيئة التي جعلت الفساد يعمُّ البشريَّة جمعاء (تك 6: 5). يكفي أن ينظر الربُّ إلى ابنه يسوع والعذراء مريم ليتذكَّر العهد الذي بينه وبين كلِّ كائن حيّ (تك 9: 15). إذا كانت الخطيئة دخلت العالم بإنسان واحد فنعمة الله قد فاضت بإنسان واحد هو يسوع المسيح (رو 5: 12، 15) الذي جاءنا بواسطة مريم العذراء.

مريم هي تلك الغيوم التي انتظرها شعب الله في عهد إيليّا كلّ زمن الضيق المرموز عنه بالسنوات الثلاث (1 مل 18: 1)، والتي ستسقط مطرًا غزيرًا عندما يأمر الربُّ بذلك. "أقطري أيَّتها السماوات من فوق ولتمطر الغيوم الصدِّيق"، الذي سيكون يسوع المسيح بحسب شرح آباء الكنيسة.

مريم هي الأرض الخصبة، الأرض الصالحة المليئة بالأنهار وعيون الماء (تث 8: 7) والتي تعطي ثمرًا سرِّيًّا خاصًّا (مز 84: 13) مريم هي الجبل العالي الذي يرتفع فوق التلال والجبال. إليه تتقاطر جميع الأمم وتقول: "هلمَّ نصعد إلى جبل الربّ" (إش 2: 2-3).

2- أحداث الكتاب المقدَّس تذكِّرنا بمريم

يشبِّه آباء الكنيسة مريم العذراء بالفردوس الأرضيّ الذي زرعه الربُّ بيده ليسكن فيه الإنسان بالسعادة. كان الفردوس جنّة وسط الصحراء القاحلة فتميّز عنها بسبب حضور الله فيه. وهكذا تميَّزت مريم عن سائر الناس لأنَّ الله معها وقد ملأها من نعمه فبدت كزهرة بين الأشواك. ونذكر نشيد العروس: حبيبي نزل إلى جنَّته، إلى روضة الأطياب ليرعى قطيعه في الجنائن ويجمع السوسن (نشيد 6: 2)، والحبيب صورة عن المسيح الذي حلَّ في أحشاء مريم.

ويشبِّه الآباء مريم بسفينة نوح التي تطفو على مياه الطوفان (تك 6: 18) وهي تحمل الخلاص والحياة لكلِّ الساكنين فيها. وكما كان نوح في السفينة أبا بشريّة جديدة يقيم معه الله عهدًا، كذلك سيكون يسوع الساكن في مريم أبا بشريَّة جديدة ترتبط مع الله بعهد جديد أبديّ عبر ذبيحة يسوع على الصليب.

ويشبِّه الآباء مريم بسلَّم يعقوب (تك 28: 12) التي رَبطت بين السماء والأرض، بواسطة العذراء ستكون حاضرة على الأرض، وسترتفع الأرض إلى السماء. قال يسوع: وأنا متى ارتفعت من هذه الأرض جذبت إليَّ الناس أجمعين (يو 12: 32). بموت يسوع في الجسد الذي أخذه من مريم البتول سيصالح البشريَّة مع الله وحقَّق لنا السلام (قو 1: 20).

ويشبِّه الآباء مريم بتلك العلَّيقة الملتهبة (خر 3: 2) التي بواسطتها صار الربُّ حاضرًا مع موسى. ويشبِّهونها بتابوت العهد الذي يدلُّ على سكن الله وسط شعبه (خر 40: 20) ويشبِّهونها بتلك الجزَّة التي رآها جدعون مبلَّلة بالندى (قض 6: 36-40) رغم أنَّ الأرض حولها كانت ناشفة يابسة. فإذا كان الندى رمزًا عن الكلمة المتجسِّد نفهم لماذا تتميَّز مريم عن غيرها من الخلائق.

3- الرموز الليتورجيَّة

أوَّل رمز هو أورشليم المدينة المقدَّسة التي اختارها الله وأحبَّها وفضَّلها على جميع المدن (مز 86: 2). بناها بيده، وغمرها بحمايته، وثبَّتها في الخير والسلام (مز 126: 1). فجعلها منيعة بوجه الشعوب المتمرِّدة وعناصر الكون المعادية (مز 45: 3-5)، وهيَّأها لتكون مركز سكناه (تث 12: 5). بالنسبة إلينا، مريم هي هيكل العليّ وقدس الأقداس المغشّاة بالذهب الخالص (1 مل 6: 19: 21).

وهناك رموز عديدة ترتبط بالمذبح وبحضور الربِّ عليه. غطاء التابوت المصنوع من ذهب حيث يظهر الربُّ ويحدِّث موسى (خر 25: 17-22) رمز عن العذراء مريم. وعصا هارون التي أفرخت وأورقت (عد 17: 8) رمز عن مريم التي كان ثمرة بطنها يسوع المسيح نفسه. وجرَّة الذهب المملوءة منا (خر 16: 33-34) ومذبح البخور (خر 30: 1-10) وطاولة خبز التقدمة (خر 25: 32-30) والمسرجة المسبَّعة الفروع (خر 25: 3-39) كلُّ هذه الأواني رمز عن العذراء مريم.

والرمز الأخير الذي نورده هو ذلك الباب المغلق الذي يذكره النبيّ حزقيال (44: 1-2) فيقول: إنَّ هذا الباب يكون مغلقًا لا يفتح ولا يدخل منه رجل لأنَّ الربَّ قد دخل منه (44: 2)، يعني النبيّ في كلامه باب الهيكل وعنى التقليد المسيحيّ حشا مريم العذراء الذي صار هيكلاً فحلَّ فيه الله بشخص الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.

ب‌-الأمّهات في شعب الله

مريم العذراء هي أمُّ يسوع وعبر شخصها انتقل العهد من إبراهيم وداود إلى المسيح. يقول القدّيس متّى (1: 16) في نسب يسوع: ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولدت يسوع الذي يُدعى المسيح. هذا العهد بدأ بإبراهيم عبر شخص ساره التي انتظرت طويلاً إسحق ابن الوعد، انتظرته بالإيمان بعد أن بدا الأمر مستحيلاً على البشر، وولدته مرَّة ثانية بعد التقدمة على جبل موريّة.

ساره هي مثال عن العذراء التي تقبَّلت الابن الموعود به في حشاها يوم بشَّرها الملاك وأفهمها أنَّ ما من شيء غير ممكن عند الله (لو 1: 37). لا حشاها العاقر، ولا حشا البتول، وهي التي تقبَّلت ابنها مرَّة ثانية وتقبَّلت معه جميع أبناء الله في شخص يوحنّا ساعة قال لها يسوع: يا امرأة، هذا ابنك (يو 19: 26).

رفقه، زوجة إسحق، هي مثال عن العذراء، وقد انتقل بها وبزوجها العهد إلى يعقوب، وراحيل زوجة يعقوب هي مثال عن العذراء وقد كان لها حظّ أن تدفن في أفراته بيت لحم (تك 35: 19) قرب المكان الذي وُلد فيه يسوع (مت 2: 6) وامرأة منوح، والدة شمشون، كانت عاقرًا ولكنَّ الربَّ وعدها بابن وطلب إليها أن تستعدَّ قبل الولادة ليكون ابنها مكرَّسًا للربّ، خادمًا ومتعبِّدًا له. امتنعت عن كلِّ خمر ومسكر وعن كلِّ شيء نجس بحسب الشريعة (قض 13: 4) على مثال إليصابات، أمِّ يوحنّا المعمدان (لو 1: 15)، التي ستكون بحبلها علامة لحبل مريم البتول بابنها يسوع.

أمّا حنّة، أمّ صموئيل، فهي قريبة جدًّا من مريم العذراء. ما أراد الربُّ أن يعطيها ابنًا إلاَّ بعد أن نذرت أنَّها ستكرِّسه للربِّ كلَّ أيّام حياته (1 صم 1: 11). ولمّا جاءها الابن المنتظر أنشدت نشيدًا يشبه نشيد العذراء في كثير من عباراته. قالت حنّة: ابتهج قلبي بالربّ وارتفع رأسي بإلهي. فمن يضحك في وجه أعدائي لأنّي فرحت بخلاصك. لا قدّوس كالربّ، ولا صخرة كإلهنا. الشبعان آجر نفسه ليأكل، أمّا الجوعان فاستغنى. الربُّ يُفقر ويُغني. يحطُّ من يشاء ويرفع (1 صم 2: 1ي). وقالت العذراء: "تمجِّد نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلِّصي" (لو 1: 46).

ونذكر أخيرًا من يسمِّيها التقليد شمونة أم السبعة أولاد الذين ماتوا في سبيل الله فلا يخونون عهده ولا يتعدَّون وصاياه. يقول فيها الكتاب: كانت أجدر الكلِّ بالعجب والذكر الحميد، فإنَّها عاينت بنيها السبعة يهلكون في مدَّة يوم واحد وصبرت على ذلك بنفس طيِّبة واثقة بالربّ (2 مك 7: 20). إنَّها مثال مريم العذراء الواقفة قرب صليب ابنها وهو يموت على الصليب (يو 19: 25).

ج- نساء لعبن دورًا في شعب الله

1- نذكر حوّاء التي كانت نقيض مريم في تاريخ الخلاص. حوّاء سمعت للشيطان فجلبت معها الخطيئة والموت للجنس البشريّ. ومريم انتصرت على الشيطان انتصارًا كاملاً فأعادت بواسطة ابنها يسوع إلى العالم الحياة والنعمة. إنَّ الكتاب المقدَّس يذكر التحالف بين حوّاء والحيَّة التي تمثِّل عالم الشرّ ثمّ يذكر العداوة بين من يخرج من نسل حوّاء، يسوع وأمِّه مريم، وبين الحيَّة (3: 15). نسل حوّاء يدوس رأس الحيَّة ويتغلَّب عليها بينما لا تستطيع الحيَّة أن تخدش أسفل رجله. ولقد ذكر القدّيس بولس في الرسالة إلى الرومانيّين (5: 14) والأولى إلى القرنثيّين (15: 22-45) المقابلة بين آدم الأوَّل، وهو رأس الجنس البشريّ، وآدم الثاني، وهو يسوع المسيح. حوّاء تشترك مع آدم الأوَّل في خطيئة تصل بنا إلى الموت، والعذراء تشترك مع آدم الثاني في عمل العزاء والخلاص للبشريَّة جمعاء.

نذكر أيضًا جميع النساء اللواتي نقرأ أسماءهنَّ في نسب يسوع المسيح كما يذكره القدّيس متّى (1: 1-16) فتامار دخلت في شعب الله رغم أنَّها آتية من خارج شعب الله (تك 38: 1ي). وراحاب الزانية التي استقبلت الجواسيس فنجت من الموت هي وأهل بيتها (يش 6: 21-25) وأقامت بين بني إسرائيل. وراعوت أقامت أمينة على زوجها فصارت، وهي الغريبة، جدَّة يسّى والد داود الملك (را 4: 1ي). وبتشابع امرأة أوريّا الحثّيّ، دخلت وهي الخاطئة في تاريخ العهد لمّا صارت أمَّ سليمان. هؤلاء النساء نقيضات مريم العذراء لأنَّهنَّ خاطئات بينما مريم هي مَن حبل بها بلا دنس، ولكنَّهنَّ يشبهن مريم بإيمانهنَّ (لو 1: 45 هنيئًا لك يا من آمنت) الذي سمح لهنَّ أن يدخلن في العهد. فنعمة الربِّ في العهد الجديد لا تمس فقط أتقياء الربّ، أمثال إليصابات وزكريّا ومريم العذراء، بل والخاطئين أيضًا، لأنَّ المسيح جاء إلى العالم ليخلِّص الخاطئين (1 تم 1: 15).

ونذكر أيضًا مريم، أخت موسى وهارون، واسمها هو اسم أمِّ يسوع، ودورها قرب موسى خاصَّة في طفولته (خر 2: 4ي) يشبه دور مريم ويوسف حين خلَّصا يسوع من الموت بسبب تهديد هيرودس له (مت 2: 13-15). ومريم هذه ستكون قرب موسى يوم عبر الشعب البحر الأحمر ونجا بحياته كما ستكون مريم العذراء قرب ابنها يسوع على الصليب. والنشيد الذي تنشده أخت موسى لتحتفل بخلاص الربّ (خر 15: 20-21) شبيه بما أنشدته مريم يوم كانت عند نسيبتها إليصابات: "أظهر شدَّة ساعده فبدَّد المتكبِّرين في قلوبهم، أعان عبده إسرائيل فتذكَّر رحمته" (لو 1: 51-54).

2- نساء بطلات

يروي لنا سفر القضاة (5: 1ي) قصَّة دبّورة، تلك النبيَّة التي تولَّت قضاء بني إسرائيل. أرسلت ودعت باراق القائد وأبلغته أمر الربّ. خاف باراق أن يمضي وحده فانطلقت معه. ولمّا تمَّ النصر لشعب الله أخذت دبّورة تسبِّح الله: استمعوا أيُّها الملوك، واصغوا أيُّها العظماء، أنا للربِّ أرنِّم، للربِّ إله إسرائيل أرنِّم. انقرض الحكّام في إسرائيل، انقرضوا حتّى قمت أنا دبّورة، قمت أمًّا في إسرائيل (6: 3، 7). أجل لولا دبّورة المتَّكلة على الربِّ لظلَّ بنو إسرائيل في الضيق. ولولا تدخُّلها لما اهتمَّ باراق بخلاص شعبه.

ويروي لنا سفر أستير قصَّة الفتاة التي ملكت على قلب ملك الفرس. ولمّا أراد أن يقتل أبناء شعبها (3: 1ي)، تجرَّأت وطلبت لهم الرحمة من الملك فحصلت على ما طلبته (8: 3ي). ولكنَّ طلبها إلى الملك سبقته صلاة مؤثِّرة امتزجت بلبس المسح علامة التقشُّف (14: 1ي).

"اذكرنا يا ربّ واستعلن لنا في وقت ضنكنا، وهبني ثقة أيُّها الربّ. أنقذنا بيدك، وأعنّي أنا التي لا معونة لها سواك أيُّها الربُّ العالم بكلِّ شيء. اتكَّلت على الربِّ وتشجَّعت فنجا شعبها من غضب الملك. ما يكون تدخل العذراء وهي التي طلبت إلى من ظهرت لهم في لورد (فرنسا) وفاطيما (البرتغال) أن يُصلُّوا لينصرف غضب الله عن البشريَّة الخاطئة؟

ويروي لنا سفر يهوديت قصَّة تلك الأرملة التي أنقذت بيت فلوى، وهي مدينة فلسطينيَّة على مدخل الطريق المؤدِّية إلى أورشليم. توصَّلت بالحيلة إلى أن تقتل قائد الجيش العدوّ. فيتبدَّد جيشه ويتخلَّوا عن حصار المدينة. حينئذٍ أنشدت يهوديت نشيدها للربّ. سبِّحوا الربَّ بالدفوف، رنِّموا للربِّ على الصنوج (16: 1). وامتدحها الشعب مديحًا لا نزال نردِّده في صلواتنا الطقسيَّة ونطبِّقه على مريم العذراء: أنت مجد أورشليم وفرح إسرائيل وفخر شعبنا. فإنَّك قد صنعت ببأس وثبت قلبك، فأحببت العفاف ولم تعرفي رجلاً بعد رجلك، فلهذا أيَّدتك يد الربّ. فكوني مباركة إلى الأبد (15: 10-11). ولكن ما تكون دبّورة وأستير ويهوديت تجاه مريم المباركة بين النساء (لو 1: 42) وابنها هو يسوع المسيح؟ وإذا كانت هذه النساء قد حملن هموم شعبهنَّ وآلامه، فكم يكون اهتمام مريم بنا وهي من جعلها يسوع أمًّا لنا على الصليب بشخص يوحنّا الحبيب؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM