يوسف البتول خطّيب مريم العذراء.

يوسف البتول خطّيب مريم العذراء

حين يتكلَّم الناس عن يوسف، خطِّيب مريم، يحسبونه ذاك النجّار الفقير الذي يعمل في القرية، ويصوِّرونه كذلك يعلِّم يسوع الذي صار "نجّارًا ابن نجّار". حين يتكلَّم الناس عن يوسف، يرسمونه ذاك الشيخ الذي أتى ليدافع عن مريم البتول ويحامي عن يسوع الطفل. فهو من خارج العيلة مثل "موظَّف" جعله الله هنا من أجل هدف معيَّن، ثمَّ مات فما عرفنا كيف مات ولا متى مات. حين يتكلَّم الناس عن يوسف، فهو ذاك الذي كان له أربعة أولاد دُعوا "إخوة يسوع"، فما عرف "البتوليَّة" شأنه شأن مريم. بل راحت بعض الفئات المدَّعية "المسيحيَّة" فتحدَّثت عن حياة زوجيَّة عاديَّة بين مريم ويوسف، فكان لهما الأولاد بعد يسوع، بحيث "عرف يوسف مريم بعد ولادة يسوع.

مساكين هؤلاء! يجعلون مريم على مستواهم ولا يرتفعون إلى مستواها. ولكنَّ مريم تبقى البتول كما يقول التقليد المسيحيّ، قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة. فهي كلُّها للربّ، نفسًا وجسدًا، قلبًا وعاطفة. امتلأت من النعمة فامتلأت من الربّ فما بقي مكان لشيء آخر أو لشخص آخر. ويوسف هو ذاك الذي شارك مريم، فكان بتولاً مع البتول. وإذا كانت مريم أمَّ يسوع وهو الذي وُلد منها في "ملء الزمان" (غل 4: 4)، فيوسف هو "أبو" يسوع بالتبنّي. ربَّت مريم يسوع وهو طفل، ويوسف رافق يسوع وهو شابّ، لأنَّ الإنجيل يقول إنَّ يسوع كان طائعًا لهما، ليوسف ولمريم. وهكذا نما يسوع بين "أبوين". وإذا كانت مريم نالت "الطوبى" ليس فقط لأنَّه "حملت يسوع في بطنها وأرضعته من ثدييها" بل "لأنَّها سمعت كلام الله وعملت به" (لو 11: 27-28)، فيوسف يستحقُّ هذه الطوبى لأنَّه رافق يسوع "وسمع كلام الله وعمل به".

أمّا كلامنا عن مار يوسف فيأتي في ثلاث محطّات: هو الملك النجّار. هو البتول البارّ. هو السامع الطائع الذي لا يقول كلمة، بل "يعمل ما يأمره ملاك الربّ، ما إن يقوم من نومه" (مت 1: 24).

  1. الملك النجّار

بدأ القدّيس متّى فأورد سلالة يسوع. لا من أمِّه مريم التي هي من سلالة كهنوتيَّة، لأنَّها "نسيبة" إليصابات (لو 1: 36) التي هي "من سلالة هارون" (لو 1: 5)، بل من أبيه. من هو يسوع؟ هو ابن داود. وذلك بواسطة يوسف الذي هو في النهاية ابن "متّان، ابن يعقوب" (مت 1: 15-16).

فسلالة يوسف التي وصلت إلى يسوع، هي سلالة ملوكيَّة. "وداود ولد سليمان، وسليمان ولد رحبعام، ورحبعام ولد أبيّا..." (آ6). هؤلاء هم ملوك في يهوذا وأورشليم والكتاب يتحدَّث عنهم. لا شكَّ في أنَّهم خسروا الملك مع سبي بابل، ولكنَّ الدم الملوكيّ ما زال يسري في عروقهم. أبعْد هذا نعجب إن لاحق هيرودس الطفل الإلهيّ يسوع الذي عرَف أنَّه ابن يوسف (لو 3: 23)؟ لهذا هرب يوسف بابنه وأمِّه إلى مصر، إلى خارج سلطة هيرودس.

سأل هيرودس معلِّمي الشعب: "أين يولد المسيح؟" (مت 2: 3). هناك المعنى المادّيّ، والمسيح هو الملك الذي يمسحه الله ويرسله لقيادة شعبه. هكذا مُسح شاول بيد صموئيل: "الربُّ مسحك رئيسًا على شعبه" (1 صم 10: 1). وكذلك داود: "فأخذ صموئيل قرن الزيت ومسحه (= داود) ملكًا من بين إخوته، فحلَّ روح الربِّ على داود من ذلك اليوم وصاعدًا" (1 صم 16: 13). ويسوع مُسح بشكل رسميّ في العماد، حين جاء صوت من السماء: "هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيتُ" (مت 3: 17). فهذا في خطِّ المزمور الثاني، حين يدعو الله مليكه فيقول له: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" (آ7). أي: اخترتك وتبنَّيتك. أمّا يسوع فهو ابن الله من الأزل.

لا شكَّ في أنَّ المعنى الروحيّ حاضر، ويسوع هو "الملك" كما قال لبيلاطس يوم المحاكمة (يو 18: 37)، لكنَّ "مملكته ليست من هذا العالم". ونتساءل عن معنى "المسيح". فنتذكَّر ما حصل لبولس ولسيلا حين كانا في تسالونيكي. ما إن تحدَّثا عن المسيح حتّى اتَّهمهما اليهود بأنَّهما قالا: "هناك ملك آخر اسمه يسوع" (أع 17: 8).

ولكن ما هذا الملك العائش في قرية صغيرة، لم يُذكر اسمها في الكتاب المقدَّس؟ قرية قيل فيها: لا يخرج منها شيء فيه صلاح (يو 1: 46). هذا "الملك" يعرف السياسة ويراقب الأحداث. وكيف نعرف ذلك؟ حين أراد العودة إلى "فلسطين". أوَّلاً عرف أنَّ الملك هيرودس تُوفِّي. أنريد "الفلاّح" مهجَّر وهو يكاد لا يقيم بأود أسرته. ثمَّ درس الوضع: أيرجع إلى بيت لحم أم يعود إلى الناصرة؟ إن عاد إلى بيت لحم التي هي قرية من قرى اليهوديَّة، فالخطر يبقى جاثمًا على الطفل. فأرخيلاوس يشبه أباه هيرودس. قال متّى: "ولكنَّه سمع أنَّ أرخيلاوس (الذي ملك من سنة 4 ق.م. إلى سنة 6 ب.م.) يملك على اليهوديَّة خلفًا لأبيه هيرودس، فخاف أن يذهب إليها" (مت 2: 22). فمع أنَّه من بيت لحم، لم يَعُد إلى قرية أجداده، ولاسيَّما داود، بل مضى إلى الجليل. "إلى مدينة اسمها الناصرة فسكن فيها" (آ23). وما نلاحظ في الإنجيل، هو أنَّ يوسف بعمله أتمَّ ما قاله الأنبياء. ولكن أيَّ نبيّ ذكر، ما من أحد. فتساءل العلماء: ما معنى هذا اللفظ؟ هو يقابل ربَّما: الجليليّ. فيسوع صار من الجليل. ونتذكَّر الجدال بالنسبة إلى يسوع. قال البعض: "هذا هو المسيح!" وقال آخرون: "أمن الجليل يأتي المسيح؟ أما قال الكتاب إنَّ المسيح يجيء من نسل داود، ومن بيت لحم مدينة داود؟" (يو 7: 41-42).

تحدَّث إشعيا النبيّ عن الجليل، قال: "في الزمان الأوَّل، أُهينَتْ أرض زبولون وأرضُ نفتالي. وأمّا في الزمان الأخير، فتُكرَّم تلك الأنحاء ما بين طريق البحر وعبر الأردنّ جليل الأمم" (إش 8: 23). جاءت الجيوش، دمَّرت المدن والقرى فكان "الظلام" وعرف الشعب "الضيق". هو "السواد" و"الشدَّة". ذاك ما حصل "في الزمان الأوَّل". حلَّت "الإهانة" و"الذلّ". أمّا "في الزمان الأخير" فحلَّ المجد وعادت الكرامة إلى "تلك الأنحاء" مضى العدوّ وعاد الربُّ إلى أرضه. لهذا تابع النبيّ: "الشعب السالك في الظلام رأى نورًا ساطعًا، والجالسون في أرض الظلمات (أو: ظلّ الموت) أشرق عليهم نور". الظلام، الظلمات، هذا ما يرمز إلى الشرّ والشقاء (إش 13: 9-10). أمّا النور فيرمز إلى الخلاص. أجل، تبدَّل الوضعُ تبدُّلاً تامًّا. لا في زمن إشعيا فقط، بل في زمن يسوع المسيح. لهذا أورد الإنجيل الأوَّل قول إشعيا: "يا أرض زبولون وأرض نفتالي، يا طريق البحر، يا عبر الأردنّ، يا جليل الأمم! الشعب الجالس في الظلام رأى نورًا ساطعًا، والجالسون في أرض الموت وظلاله أشرق عليهم نور" (مت 4: 15-16).

فبواسطة يوسف الذي جاء "بالصبيّ وأمِّه"، حلَّ النور في جليل الأمم. فتلك الأرض المحتقَرة، أُكرمَت بحضور يسوع فيها. في الجليل المنفتح على الأمم، بدأت بشارة يسوع (آ12). وإلى الجليل دعا يسوع تلاميذه، بعد القيامة. فمن هناك تنطلق البشارة.

*  *  *

ولكن ما هذا الملك الذي هو "نجّار" وأورث "ابنه" يسوع مهنة النجارة؟ روى إنجيل متّى أنَّ يسوع "عاد إلى بلده (أي: الناصرة) وأخذ يعلِّم في مجمعهم. فتعجَّبوا وتساءلوا: "من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات؟ أما هو ابن النجّار؟" (مت 13: 54-55). فمن يحسب يسوع هذا نفسه؟ نحن نعرفه. نعرف أمَّه: اسمها مريم. نعرف أصل عشيرته، إخوته وأخواته. ذُكر اسم الإخوة، لا اسم الأخوات، لأنَّ العالم اليهوديّ اعتاد أن يحسب الرجال وينسى "النساء والأطفال" (مت 14: 21). وجاء كلام مرقس في إطار مشابه، غير أنَّه تكلَّم عن يسوع، لا عن يوسف. "أما هو النجّار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أما أخواته عندنا هنا؟" (مر 6: 3). لم يُذكَر اسم "يوسف" في هذين المقطعين. هو شخص مجهول. تُذكَر مهنته فقط.

نحن هنا أمام حضارتين. فالحضارة اليهوديَّة تطلب من الرجال الأتقياء أن يمتلكوا مهنة يدويَّة. فشاول الفرّيسيّ مثلاً (أي: بولس)، ذاك الشخصيَّة المميَّزة، قائد فرقة رئيس الكهنة، كان له مهنة. قيل لنا في سفر الأعمال: وأقام بولس عند أكيلا وبرسكلَّة "لأنَّه كان من أهل صناعتهما، صناعة الخيام" (أع 18: 3). هو يستعمل جلود الحيوانات، أو شعر المعز، كما اعتادت كيليكية، موطن بولس، أن تفعل. وسيتحدَّث بولس مرارًا عن عمل يديه. قال في توديع شيوخ أفسس: "وأنتم تعرفون أنّي بهاتين اليدين اشتغلتُ وحصلتُ على ما نحتاج إليه أنا ورفاقي" (أع 20: 34). وقال لكنيسة كورنتوس: "نتعب عاملين بأيدينا" (1 كو 4: 12).

ومثل بولس كان يسوع. فالرسول قال: "تشبَّهوا بي كما أنا أتشبَّه بالمسيح" (1 كو 11: 1). ويوسف كان "نجّارًا"، وهذا فخرٌ له في العالم اليهوديّ، لا في العالم اليونانيّ، حيث كان العمل محفوظًا للعبيد أو للغرباء. أمّا أهل أثينة فقط فكانوا يعتبرون العمل إذلالاً، وكانوا "يصرفون أوقات فراغهم كلَّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا" (أع 17: 21).

وهكذا جمع يوسف المُلك والتقوى. هو من سلالة الملوك، فقال الناس عن يسوع إنَّه ابن داود (مت 22: 41)، مع أنَّه "ربُّ داود" (آ43). وهو ذلك التقيّ الذي يمتلك مهنة يدويَّة يعتاش منها وقت الحاجة على مثال المعلِّمين الكبار في شعبه. فرابّي عقيبة بن يوسف (45-135) كان راعيَ غنم على مثال داود قبل أن يمسحه صموئيل ملكًا. قال يهودا ماناسي: "تسلَّم إسرائيل الأمر بأن يشتغل ستَّة أيّام، كما تسلَّم الأمر بأن يرتاح في يوم السبت". وقال رابّي بن يهودا بن بتيرا: "من لا عمل له، يجب أن يعمل في حقل عقيم ولا يعيش في الكسل". رابّي هيلال كان خبّازًا. رابّي يوحنان بن زكّاي كان سكّافًا، رابّي إسحاق كان حدَّادًا.

أنعجب بعد ذلك أن يكون يوسف "نجّارًا"؟ فرابّي إسماعيل كان يقول: تترافق دراسة التوراة مع نشاط مهنيّ. وقالت المشناة: "كلُّ دراسة للتوراة لا يرافقها نشاطٌ أرضيّ، تتوقَّف في النهاية وتجرُّ إلى الخطيئة". وجاء في حكمة الشيوخ: "من يعيش من عمل يديه أعظم من الذي يخاف السماء".

  1. البتول البارّ

من هو البتول؟ في معنى أوَّل هو ذاك الذي لم يتزوَّج. عندئذٍ يكون ذلك العازب. وربَّما تقوده حياة العزوبة إلى ما يشبه الفتيات العوانس: يصبح مراهقًا شيخًا! هذا المعنى ترفضه المسيحيَّة. فالبتول، رجلاً أو امرأة، هو الذي لا يتزوَّج لكي يتفرَّغ لعمل أسمى. هنا نقرأ بولس الرسول: "غير المتزوِّج يهتمُّ بأمور الربِّ وكيف يرضي الربّ" (1 كو 7: 32). وكذلك العذراء (أو: البتول) والمرأة التي لا زوج لها، تهتمّان بأمور الربّ وكيف تنالان القداسة جسدًا وروحًا (آ34). في المقابل الرجل المتزوِّج والمرأة المتزوِّجة. الرجل المتزوِّج، يقول مار بولس، "هو منقسم" (آ34أ). "يهتمُّ بأمور العالم وكيف يُرضي امرأته" (آ33). وكذلك المرأة "المتزوِّجة، فتهتمُّ بأمور العالم وكيف ترضي زوجها" (آ34ب).

فكما كانت مريم بتولاً، كان يوسف بتولاً. هي خطبت يوسف، شأنها شأن كلِّ فتاة في العالم القديم، وكان عمرها 15 سنة أو 16. ويوسف شابّ، والشبّان يخطبون عادة في عمر 17-19 سنة. شابٌّ وشابَّة تطلَّعا إلى الحياة. وكانت مريم فرحة بأنَّ يكون لها "صبيّ" وأولاد، مثل كلِّ الأمَّهات في كلِّ العصور. أمّا الفتاة اليهوديَّة فكانت تأمل بأن تكون أمَّ المسيح. وهكذا تتميَّز عن كلِّ نساء العالم. فقال أفرام في مريم، بعد أن ذكر راحيل وصراخها (تك 30: 1) وحنّة ودموعها (1 صم 1: 12) وإليصابات وصلاتها: "طوبى لمريم. فإنَّها بلا نذور ولا صلاة، ببتوليَّتها حبلت وولدت ربَّ كلِّ أبناء رفيقاتها" (أناشيد الميلاد 8: 16).

ما هذا الشيخ الذي "خطبته" مريم؟ وماذا فعلت بالأولاد الذين كانوا له؟ لو أنَّها ربَّتهم كما ربَّت يسوع، لكانوا أقلَّه آمنوا به (يو 7: 5). بل هم اعتبروه "فقد صوابه" (مر 3: 21). فجاؤوا يعيدونه إلى البيت، إلى القبيلة. ذاك ما تقول الأناجيل المنحولة أو تلك "الروايات التقويَّة" التي نسجت الكثير حول طفولة يسوع وصباه، وعلاقته بيوسف ومريم.

قال إنجيل يعقوب التمهيديّ: إنَّ مريم أقامت في الهيكل، لا في الناصرة حيث جاء إليها الملاك يبشِّرها. ولمّا بلغت الثانية عشرة من عمرها. تساءل الكهنة: "ماذا سنفعل في شأنها؟" فقال لهم ملاك الربِّ بأن يستدعوا "الأرامل في وسط الشعب". فمن يختاره الله يعطى لمريم "ليحفظَها". ويتتابع الخبر: خرجت حمامة وحطَّت على رأس يوسف. فقال له الكاهن: "لقد عُيِّنتَ باختيار الله لتقبُّل عذراء الربِّ وحفظها قربك". فاعترض يوسف: "لي أولاد وأنا شيخ، بينما هي فتيَّة جدًّا". وبعد التهديد "تقبَّل يوسفُ مريم مرتعبًا وقال لها: "إنَّني أتقبَّلكِ من هيكل الربِّ وأتركُ لكِ المسكن، وأذهب لأزاول مهنتي نجّارًا وأعود إليك. وليحفظكِ الله كلَّ الأيّام".

لماذا كُتب هذا النصّ، وفي محيط يهوديّ؟ يردُّ على الذين يرفضون بتوليَّة مريم. وليشرح وجود "إخوة يسوع". فيوسف له أولاد. إذًا ما دُعي إخوة يسوع، ليسوا من مريم، بل من يوسف.

كلُّ هذا رواية من عالم الخيال. كلّ ما نعرف عن يوسف هو أنَّه "نجّار". فقال فيه أفرام السريانيّ: "أتى النجّارون من أجل يوسف إلى ابن يوسف: مبارك ولدُك، رئيسُ النجّارين"... (ص 161). أمّا الناس فقالوا: "يسوع ابن يوسف من الناصرة" (يو 1: 45). هذا ما قاله فيلبُّس لنتنائيل. وفي معرض الكلام عن خبز الحياة في إنجيل يوحنّا. تذمَّر اليهود على يسوع... وقالوا: "أما هو يسوع ابن يوسف؟ نحن نعرف أباه وأمَّه" (يو 6: 41-42). من هو يوسف؟ شخص من القرية. هكذا سمع اليهود عنه، وهم لم يروه لأنَّه يقيم بعيدًا عنهم، في الجليل الذي تفصله السامرةُ عن اليهوديَّة.

ما عرف يوسفَ معاصروه كما لم يعرفوا مريم فنعتوها بأبشع النعوت. أمّا يوسف فاختفى. وما قالوا عنه شيئًا. أمّا التقليد فاعتبر أنَّه مات باكرًا بين يدَي يسوع ومريم. ربَّما، ولكنَّ هذا البتول "المكرَّس لخدمة يسوع ولرعاية مريم" قام بدوره، وما أراد أن يظهر "على الشاشة". إنَّه شابه يوحنّا المعمدان الذي قال حين سألوه عن يسوع: "له هو أن يزيد، ولي أنا أن أنقص" (يو 3: 30). فآخر مرَّة يذكر الإنجيل يوسف، مناسبة الحجّ إلى أورشليم والصبيّ عمره اثنا عشر عامًا. قال: "يجب أن أكون لما هو لأبي" (لو 2: 49). تنحّى يوسف. قام بواجبه وسلَّم الوديعة لله الآب. رافق الطفل حتّى استطاع أن "يجلس مع معلِّمي الشريعة فيستمع إليهم ويسألهم" (آ46). حمل يوسف همَّ يسوع وشارك مريم في هذا الهمّ (آ48). وقالت مريم باسمها وباسم خطِّيبها: "تعذَّبنا كثيرًا ونحن نبحث عنك". وهنا لا ننسَ رمز "ثلاثة أيّام" (آ46). هي أيّام الصلب والقيامة. عاشها يوسف كما عاشتها مريم.

اختفى يوسف فشابه مثلاً برناديت التي رأت العذراء في لورد (فرنسا) سنة 1858. وتفاخر الناس بالآلاف، وهم يتقاطرون اليوم بالملايين. أمّا برناديت فمضت إلى الدير وما عاد أحدٌ يراها في لورد. انتهت مهمَّتها. دلَّت الناس على مريم وبالتالي على يسوع، لأنَّ يسوع لم يأخذ تكاوينه إلاَّ من أمِّه "التي ما عرفت رجلاً" (لو 1: 34). ويوسف أيضًا اختفى. ربَّما كان مع الجموع يستمع إلى يسوع شأنه شأن مريم. هو مثل "صديق العريس" فيقف بجانبه يصغي فرحًا" (يو 3: 29). أمّا عند الصليب، حيث كانت أمُّ يسوع والتلميذ الحبيب، فالمعنى روحيّ أكثر منه جسديّ. اعتبر التقليد أنَّ "التلميذ الحبيب" هو يوحنّا، وبُنيَ خبرٌ واسعٌ عنه. ولكنَّ الإنجيل الرابع الذي دُوِّن حول السنة مئة احتفظ بشهادة يوحنّا كما احتفظ الإنجيل الأوَّل بشهادة متّى والإنجيل الثاني بشهادة بطرس، أراد أن يتحدَّث عن إكرام المؤمنين لمريم: من يحبُّ يسوع يحبُّ أمَّه حتمًا. ومن لا يحبُّ أمَّ يسوع لا يمكن أن يكون التلميذ الحبيب مهما أطلق من إعلانات. ومن أحبَّ مريم أكثر من يوسف! أحبَّها وما أحبَّ نفسه. ضحّى بحياته لأجلها ولأجل يسوع. احترم خيارها في البتوليَّة، وأيُّ رجل لا يريد ولدًا من امرأته. هكذا تكون المحبَّة على ما قال الرسول لأهل أفسس: "أحبّوا نساءكم مثلما أحبَّ المسيح الكنيسة وضحّى بنفسه لأجلها" (أف 5: 25). قبِل يوسف أن "يضيع"، أن لا يُذكر اسمه. أمَّحى أمام يسوع وأمام مريم. لهذا دعاه متّى في إنجيله: بارًّا، صدّيقًا، صالحًا.

*  *  *

ومن هو البارّ؟ في معنى أوَّل، البارُّ هو الذي يحفظ وصايا الله ويعمل بها. هذا ما قيل عن زكريّا وإليصابات: "وكان زكريّا وإليصابات بارَّين عند الله، يتبعان جميع أحكامه ووصاياه" (لو 1: 6). والبارُّ هو الذي يدخل في مشروع الله مهما كان صعبًا. ذاك ما فعله يوسف: "ما إن قام من نومه حتّى صنع ما أمره ملاك الربّ" (مت 1: 24).

قال الباحثون: هو بارٌّ بحسب الشريعة اليهوديَّة! ولكن لو كان بارًّا على هذا المستوى لوجب عليه أن "يرجم" مريم. "تبيَّن قبل أن يسكن معها أنَّها حبلى..." (آ18). ماذا يظنُّ اليهوديّ للوهلة الأولى؟ هي زانية. وحاول بعض آباء الكنيسة أن يدافعوا عن بتوليَّة مريم في وجه العالم اليهوديّ الذي كتب التلمود وقال ما قال عن مريم. أمّا يوسف فما فكَّر دقيقة أنَّ مريم يمكن أن تكون زانية. فالبارُّ وحده يفهم البارَّة، والقدّيس وحده يفهم القدّيسة. لسنا هنا على مستوى بشريّ. وإن لبثنا على هذا المستوى نبقى مع "الذين هم من الخارج" (مر 4: 11)، من خارج الملكوت الذين لا يفهمون الأمور الروحيَّة. مثل نيقوديمس الذي لم يفهم الولادة الثانية فحسب أنَّ عليه أن "يدخل بطن أمِّه ثانية" (يو 3: 4).

يوسف أمام مريم! أتُراه يتصرَّفُ كما البشر؟ مستحيل. فإن كان يوحنّا المعمدان الذي التقى مريم الآتية إلى أمِّه، دقيقة واحدة، "تحرَّك وهو جنين في بطن أمِّه" (لو 1: 41). فماذا تكون ردَّةُ فعل يوسف أمام مريم التي تحمل في حشاها ربَّ الأكوان، التي يشعُّ النور منها ومن الذي يعيش فيها. ونعود هنا أيضًا إلى مار أفرام (2/11):

يوسف يسجد لك ويقرِّب لك الإكليل

ذاك البارُّ الذي سُحق، أراحَه الملاك

هرَّبك داخل حضنه فعظَّمتَ أجره

برارة يوسف تشهد: كم أنت طاهر!

وإلاَّ َ من يُقنع البارّ

لكي يحمل ابنَ زنى بغيضًا،

ويطارد من مكان إلى آخر.

أجل، "سُحق" يوسف بما رأى. توجَّع حين رأى تلك التي خطبها واستعدَّ أن يأخذها إلى بيته. الناس يقولون ربَّما: هو ابن زنى، ويوسف لا يقتنع. هو بغيض! أمّا يوسف فيحبُّه. واستعدَّ أن يهرب به من مكان إلى مكان، من فلسطين إلى مصر، ومن مصر إلى الجليل، إلى الناصرة، لا إلى بيت لحم اليهوديَّة (مت 2: 13-15، 19-23).

قالوا: يوسف بارّ بحسب الإنجيل، بحسب النظرة المسيحيَّة. لا شكَّ في ذلك. ولكن في المنطق المسيحيّ، ما كان له أن "يطلِّق" امرأته. فإن كانت "زانية" لا سمح الله، فهو يغفر لها، كما فعل يسوع (يو 8: 1ي). وإن تركت إيمانها، لا سمح الله، وتبعَتْ ذاك الجنديّ الرومانيّ، كما قال التلمود، فالرسول يقول: "إن كان لأخ مؤمن امرأة غير مؤمنة رضيَتْ أن تعيش معه، فلا يطلِّقها" (1 كو 7: 12). فالمسيحيّ لا يطلِّق امرأته مهما كانت العلَّة. فهو يكون زانيًا إن أخذ غيرها.

لهذا لا نقول "أراد أن يطلِّقها"، بل أن "يتركها". فلو طلَّقها سأله الناس ثمَّ يفعلون كما أراد أن يفعلوا أولئك الذين حملوا تلك الزانية إلى يسوع. وأضاف الإنجيل لفظ "سرًّا". هل هو المعنى المادّيّ؟ وكيف يكون السرُّ في هذه الحالة؟ أما يسألون يوسف: ماذا تنتظر أن تأخذ مريم إلى بيتك؟ فالخطبة لا تدوم مدى العمر. ولا شكَّ في أنَّ الوالدين يسألان. أمّا لفظ "سرِّيًّا" فتعني في المعنى الروحيّ أنَّ يوسف اعتبر نفسه غير خليق بأن يعيش مع مريم ويسوع. هذه الطهارة، هذه القداسة، إنَّه لا يستطيع أن يتحمَّلها. أحسَّ أنَّه "خاطئ" أمام هذا الطفل الإلهيّ، كما بطرس بعد الصيد العجيب: "ابتعد عنّي يا ربّ، لأنّي رجل خاطئ" (لو 5: 8). أتُراه يريد أن يبتعد عن ذاك الذي اختاره ليكون "صيّاد بشر"؟ كلاّ ثمَّ كلا. وهل يوسف يستطيع أن يترك مريم؟ مستحيل. ففيها قوَّة تجذبه. وهذه القوَّة الحاضرة في مريم بسبب الذي في حشاها، لا تزال تجذب الملايين في أيّامنا، من مسيحيّين وغير مسيحيّين.

شابه يوسف "بني إسرائيل حين رأوا وجه موسى مشعًا من مخاطبة الربّ" (خر 34: 29). "خافوا أن يقتربوا منه" (آ30). ذاك هو "خوف" من يقترب من مريم. وذاك كان خوف يوسف. لهذا أراد "أن يتركها سرًّا". يبتعد عنها، كما قال مار أفرام. يكون في خدمتها من بعيد لئلاّ يحترق بحضور "النار" التي في حشاها. أما قيل إنَّ الله نار محرقة؟

قالوا: أمّا الإنجيل فقال: "كان يوسف بارًّا فما أراد أن يكشف أمرها" (مت 1: 19). لماذا؟ لأنَّه استمع إلى صوت الله يكلِّمه أكثر من مرَّة. مرَّة أولى "كان يفكِّر" (آ20) ماذا يفعل أمام هذه القداسة الفائقة؟ يهرب. هو الخوف يسيطر عليه. لا لأنَّه يمكن أن يظنَّ أنَّ مريم "زانية" ولا يريد أن "يبلَّ" يده فيها. فهذا الخوف البشريّ لا يليق بالبرارة. بل هو خوف أمام سرِّ الله. كذا كان خوف زكريّا. فلمّا رأى الملاك "اضطرب وخاف" (لو 1: 12). وكان جواب الملاك: "لا تخف" (آ13). ويُقال ليوسف الكلام عينه: "لا تخف". الله حاضر هنا وهو لا يؤذيك، كما كان الأقدمون يظنُّونه. ومريم أيضًا "اضطربت لكلام الملاك" (آ29). هذا ما ندعوه الخوف المقدَّس.

خبرة يوسف مثل خبرة جدعون حين قال: "رأيتُ ملاك الربّ وجهًا لوجه" (قض 6: 22). فقال له الربّ: "لا تخف فإنَّك لا تموت" (آ23). ومنوح، والد شمشون، فقال لامرأته: "سنموت لأنَّنا رأينا الله". فأجابته: "لو أنَّ الربَّ أراد أن يميتنا لما قبل من أيدينا محرقة وتقدمة، ولا كان أرانا جميع ما رأينا، ولما أسمعَنا ما سمعناه الآن" (قض 13: 22-23).

وتلك كانت عاطفة يوسف: خاف. اضطرب. فتصرَّف مثل موسى الذي أراد أن يهرب من المهمَّة التي تُلقى عليه. وفي النهاية قال: "يا ربّ، أرسِلْ أحدًا غيري" (خر 4: 13). فغضب الربُّ عليه بعد أن أعطاه كلَّ الضمانات. أمّا يوسف فقال نعم حالاً. أو هو لم يتكلَّم. فاكتفى بأن يفعل، لأنَّ المحبَّة لا تكون بالقول والكلام، بل بالعمل والحقّ، كما قال يوحنّا في رسالته الأولى.

كلَّم الملاك يوسف مرَّة أولى: "لا تخف أن تأخذ مريم امرأة لك" (مت 1: 30). حالاً نفَّذ الأمر. ومرَّة ثانية: "قُمْ، خذِ الطفل وأمَّه واهرب إلى مصر..." (مت 2: 13أ). ما انتظر طلوع الفجر. "فقام يوسف وأخذ الطفل وأمَّه ليلاً" (آ14). وواصل الملاك الكلام معه: "وأقيم فيها حتّى أقول لك متى تعود" (آ13ب). فكان تجاوب يوسف كاملاً: "فأقام فيها (في مصر) إلى أن مات هيرودس" (آ15). والدليل على إتمام مشيئة الربّ ما قاله متّى حين أورد نصَّ هوشع النبيّ. وهكذا دخل يوسف في مخطَّط الله، كما أشار إليه الأنبياء، سواء مع إشعيا والحبل البتوليّ (مت 1: 23) أو مع هوشع: "من مصرَ دعوتُ ابني" (مت 2: 15). ومرَّة ثالثة "ظهر الملاك ليوسف وقال له: "قم، خذِ الطفل وأمَّه وارجع إلى أرض إسرائيل" (آ20). فما ناقش يوسف ولا جادل، كما فعل الشعب العبرانيّ الذي تمنّى البقاء في مصر مع ما فيها من خيرات، ولا هو "طُرد" طردًا مثل إبراهيم الذي "تخلّى" عن امرأته لكي ينجو بحياته. قال لسارة: "قولي إنَّك أختي، فيُحسنوا معاملتي بسببك ويُبقوا على حياتي لأجلك" (تك 12: 13).

وإلى أين يمضي يوسف؟ هل يعود إلى بيت لحم، أرض الأجداد، أم إلى الناصرة حيث كانت مريم تُقيم؟ درَس الوضع، كما سبق وقلنا. "خاف أن يذهب إلى اليهوديَّة" (مت 2: 22أ). بسبب أرخيلاوس، ابن هيرودس الكبير وخلفه. وكان بإمكانه أن يقرِّر بنفسه، ولكنَّه لم يفعل، بل انتظر إشارة من الربّ. قال الإنجيل: "فأنذره الله في الحلم، فلجأ إلى الجليل" (آ22ب). هكذا فعل يعقوب قبل أن يمضي إلى مصر. قال له ابنه يوسف أمورًا وأمورًا، ولكنَّه لم يتحرَّك. بل بدأ وذبح ذبائح لله (تك 46: 1). وسمع الله يقول له ليلاً في الرؤيا: "لا تخف أن تنزل إلى مصر..." (آ2-3). فيوسف هو في خطِّ الآباء، في الذهاب إلى مصر مع الطفل الذي يمثِّل الشعب، وفي العودة كما عاد الشعب بقيادة موسى. فالربُّ قال لفرعون: "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22). ويسوع هو "الابن البكر" الذي ولدته مريم وقمَّطته وأضجعته في مذود" (لو 2: 7)، لا شكَّ في حضرة يوسف. فكما طلب من مريم أن تعطي اسمًا لابنها "يسوع" (لو 1: 31)، كذلك قيل ليوسف: "ستلد (مريم) ابنًا (وأنت) تسمّيه يسوع، لأنَّه يخلِّص شعبه من خطاياهم" (مت 1: 21).

  1. يوسف السامع والطائع

يوسف ومعنى اسمه: الربُّ يزيد. وماذا يمكن أن يُزاد له بعدُ من عطايا؟ فلو كان يوسف رجلاً مثل سائر الرجال في أيّامه، ولو تزوَّج امرأة، كما يفعل الشابُّ في كلِّ زمان، لما كنّا نعرفه ولا نعرف اسمه ولا نسبه. لكان ضاع بين ملايين البشر في القرن الأوَّل المسيحيّ. فاسم يوسف متواتر جدًّا في فلسطين، ومثله اسم مريم. لكنَّ يوسف تميَّز حين لبّى الدعوة. ناداه الربُّ فلبّى النداء حالاً، وما انتظر. مثل إبراهيم. دعاه الربُّ: "ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك" (تك 12: 1). وكان الجواب: "فرحل أبرام كما أمره الربّ" (آ2). ما قال إبراهيم كلمة. الربُّ قال والإنسان يسمع، يطيع، وهنيئًا له إن فعل. ماذا كان إبراهيم في أرضه وعشيرته؟ راعيًا مثل سائر الرعيان. ولكن حين لبّى نداء الربّ، قال له الربّ: "أجعلك أمَّة، وأباركك وأعظِّم اسمك وتكون بركة" (آ2). هل نريد أكثر من ذلك، وله كان أبرام ليحلم بما يُعطى له. ومرَّة ثانية طلب الله من إبراهيم ابنه إسحاق (تك 22: 2). فما كان جواب إبراهيم بالجواب البشريّ: أنت تعرف يا ربّ، فابني هو وحيدي. إنَّ إسماعيل تركني، فهل تأخذ باليد ما أعطيتَ بالأخرى؟ قال الكتاب: "فبكَّر إبراهيم في الغد" (آ3). فقال له الربّ: "بنفسي أقسمتُ. بما أنَّك فعلت هذا وما بخلتَ بابنك وحيدك، فأباركك وأكثر نسلك كنجوم السماء والرمل الذي على شاطئ البحر" (آ16-17).

ويوسف خطِّيب مريم. كان بإمكانه أن يؤسِّس عائلة. لم يفعل. طلب منه الربُّ أن يأخذ عائلة هي "الطفل وأمّه". هو مربّي الطفل الإلهيّ. قالت مريم ليسوع في الهيكل: "فأبوك وأنا تعذَّبنا كثيرًا ونحن نبحث عنك" (لو 2: 48). هل نشعر بهذا الشرف الكبير الذي ناله يوسف؟ ثمَّ نتأمَّل: ذاك الذي يطيعه الكون كلُّه، كان طائعًا ليوسف ومريم (آ51). فالرجل في العالم اليهوديّ هو "من يربّي ابنه في تقاليد الآباء". ففي الأعياد، ربُّ البيت هو من يكشف معنى الاحتفال الذي تقوم به الأسرة. "وإذا سألك ابنك: ما هذا؟ فقل له: بيد قديرة أخرجنا الربّ" (خر 13: 14). الابن الأصغر يسأل والأب يجيب. وهكذا سأل يسوع فأجابه يوسف. وإذا كان يسوع أدهش "العلماء" في الهيكل بأسئلته وأجوبته، فلأنَّه تعلَّم على يد يوسف. أجل، لم يكن يسوع ذاك الأمّيّ كما تصوَّروه مرارًا، ولا ذاك الفقير الفقير والإنسان التعيس. فهذا الذي من أصل ملوكيّ، حافظ على أصله فعرف الكثير من أمور الدين والدنيا وتدبَّر العائلة المقدَّسة أفضل تدبير. ولمّا انتهى دوره اختفى. لم يحتج إلى وقت طويل لكي يفهم كلام الربّ وهو ابن اثنتي عشرة سنة.

يوسف هو السامع وهو المطيع. مثله كان التلاميذ. دعاهم الربُّ عند البحيرة، فتركوا كلَّ شيء وتبعوه. كانوا صيّادين مثل سائر الصيّادين على بحيرة طبريَّة. فجعل منهم يسوع "صيّادي بشر" (لو 5: 10). هم يجمعون المؤمنين. أما هكذا فعل بطرس يوم العنصرة. ألقى الشبكة فاصطاد "ثلاثة آلاف نفس" (أع 2: 41). فهل من شرف يضاهي شرفه؟ وكذا نقول عن متّى الذي كان على مائدة الجباية. موظَّف بين الموظَّفين. صار موظَّفًا عند الله. ترك "مامون" أو المال الذي يعطي الإنسان الأمان، والتحق بالربّ. فنحن لا نستطيع أن نخدم الله والمال (مت 6: 24). أمّا الشابُّ الغنيّ، ففضَّل خدمة المال على الله. يقول الإنجيل: "مضى حزينًا لأنَّه امتلك أموالاً كثيرة" (مر 10: 22). أمّا يوسف فتخلّى عن مُلك لكي يَدخل في مُلك من نوع آخر. اقترب ملكوت السماوات. بل إنَّ يوسف دخل فيه كما دخلت مريم حين سمعت كلام الربِّ وعملت به.

لم يفهم إبراهيم طريق الربّ، ولكنَّه استسلم إلى ندائه. كان بالإمكان أن يسأل: إلى أين أنطلق يا ربّ؟ تقتلعني من أرضي وميراثي ولا تقول لي ماذا يجب أن أفعل. تقول لي: سوف أريك. ومتى تريني؟ وبانتظار ذلك ماذا أفعل؟ لا جواب من عند الله. فيبقى على الإنسان أن يسير في "الظلام". وحده الإيمان ينيره. بشريًّا، راح إبراهيم يبحث عن الماء والكلأ. وهكذا وصل من حيث لا يدري إلى فلسطين. نستطيع أن نقول هي الصدفة أوصلته إلى هنا، كما يمكن أن نقول: الربُّ استعمل الظروف فاقتاده إلى هنا. وكذا نقول عن يوسف ابن يعقوب الذي مرَّ في محنة ولا أقسى. في كلِّ مرَّة كان الكتاب يقول لنا: كان الله معه. وسوف يقول لإخوته: ما أنتم أرسلتموني إلى هنا، بل الله أرسلني "لأحفظ حياتكم" (تك 25: 5).

ويوسف لم يفهم بشريًّا ما يُطلَب منه. مريم هي "حُبلى من الروح القدس" (مت 1: 20). هل لهذا الكلام معنى بشريّ؟ كلاّ. فهو بلاغ إلهيّ. ولكن بما أنَّ الله قال، فأنا أسمع وأعمل. وما حصل ليوسف سبق فحصل لمريم. طلب منها الربُّ أن تكون أمَّ المسيح ففهمت حالاً أنَّ عليها أن تكون "بتولاً عذراء". عندئذٍ سألت: "كيف يكون هذا وأنا لا أقدر بعد اليوم أن "أعرف رجلاً"؟ أنا بتول، واخترتُ البتوليَّة، إذًا لن يقربني رجل، فكيف يكون لي ولد؟ فأجاب الملاك: "الروح يحلُّ عليك" (لو 1: 35). وفي الحال شعرت مريم أنَّ الابن تكوَّن في حشاها. وحين زارت نسيبتها إليصابات، عرفت ما يفعل فيها هذا الابن: تحرَّك يوحنّا في بطن إليصابات، فدلَّ على فرحه بلقيا ذاك الذي سوف يهيِّئ له الطريق. إذا كانت النازفة لمست طرف ثوب يسوع فخرجت من الربِّ قوَّة (لو 8: 45-46)، فما يكون حين الربُّ كلُّه يكون في مريم!

علامتان لمريم. الأولى، الابن في حشاها. والثانية، قالها الملاك: "ها قريبتك إليصابات حُبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك التي تُدعى عاقرًا" (لو 1: 36). ويوسف؟ لا شكَّ في أنَّه سمع الصوت الإلهيّ، مثل مريم. والعلامة الخارجيَّة؟ مريم والذي في حشاها. هو متأكِّد أنَّ مريم نقيَّة، طاهرة، لأنَّ المحبَّة "لا تظنُّ السوء... بل تصدِّق كلَّ شيء، وترجو كلَّ شيء، وتصبر على كلِّ شيء" (1 كو 13: 5، 7). صبر يوسف وكان له أن يرى الطفل الإلهيّ. قال يسوع لتلاميذه: "كثير من الأنبياء تمنَّوا أن يروا ما أنتم ترون فما رأوا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون فما سمعوا" (مت 13: 17). فمن رأى الطفل الإلهيّ قبل مريم ويوسف؟ ومن سمع الطفل الإلهيّ سمع يوسف ومريم، لهذا قيل عن مريم ما يمكن أن يُقال عن يوسف. "كانت مريم تحفظ هذا كلَّه وتتأمَّله في قلبها" (لو 2: 19). الناس "يتعجَّبون" (آ18)، لا مريم ويوسف. هما مؤمنان. فالإعجاب والدهشة يبقياننا على مستوى العاطفة، أمّا الإيمان فيقودنا إلى العمل.

الخاتمة

ذاك هو وجه يوسف كما قدَّمه الإنجيل، لا كما تقدِّمه الأخبار الشعبيَّة والأقاويل المجموعة من هنا وهناك. اكتشفنا فيه تلك الصفات البشريَّة. هو ملك وابن ملك، وإن خسرت السلالة الداوديَّة التاج منذ المنفى البابليّ سنة 586 ق.م. هو عارف بالظروف السياسيَّة فاستطاع أن ينجو بالطفل من ملاحقة هيرودس، وربَّما ابنه أرخيلاوس أيضًا، لأنَّ ساعته لم تكن أتتْ بعد (يو 7: 30). وهو المتعلِّم الذي كان أوَّل من فتح الكتاب المقدَّس ليسوع بحيث يندهش سامعوه وسائلوه. وهو في شكل خاصّ رجل الإيمان وسامع كلمة الله وندائه في أصعب الظروف البشريَّة. أخيرًا هو البتول مثل البتول مريم، وهو البارُّ مثل مريم ومثل الذين انتظروا مجيء المخلِّص مثل زكريّا وإليصابات وسمعان الشيخ وحنّة النبيَّة. إن القراءة التي قُمنا بها طريق يجب أن نأخذها لكي نقرأ الكتاب المقدَّس ونكتشف عمق الوجوه ولا نبقى عند الخارج كما فعل صموئيل حين رأى ألياب (1 صم 16: 6: الربُّ ينظر إلى القلب، آ7). بل نقرأ نعمة الله التي تفعل في الإنسان، في كلِّ إنسان، كما تفعل فينا. قال الإنجيل عن مريم: هي ممتلئة نعمة، وهذا سرُّ عظمتها. فبقي لنا أن نكتشف سرَّ قداسة يوسف الذي اختاره الربُّ اختيارًا خاصًّا لأعظم مهمَّة يمكن أن يقوم بها أبٌ على الأرض. فإذا كان يسوع تحدَّث في الهيكل عن أبيه السماويّ، أما يمكن له وهو الإنسان المولود من امرأة أن يتحدَّث عن أبيه الأرضيّ؟ وهذا الأب هو يوسف.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM