دبّورة وباراق.

دبّورة وباراق

الخوري بولس الفغالي

اعتاد العالم الشرقيّ أن يذكر الرجال فقط في تاريخه. وأمّا النساء فهنَّ في خطِّ الرجل، ومرَّات عديدة لا اسم لهنَّ. وهذا ما نجده أيضًا في الكتاب المقدَّس، في العهد القديم. من هي امرأة قايين مع أنَّ نسله وصل إلى الطوفان؟ ومن هي امرأة هابيل وأنوش وأخنوخ؟ ما اسم زوجة نوح التي ساعدته بلا شكّ في "صنع السفينة"؟ وأبناؤه ثلاثة. قال له الربّ: "ادخل السفينة مع جميع أهل بيتك" (تك 7: 1). ثمَّ يقول الراوي: "ودخل نوح السفينة مع بنيه وامرأته ونساء بنيه" (آ7). فالمرأة تُنسَب إلى الرجل وفي أفضل الحالات تساعده لكي يستقبل ضيوفه، وإن أعدَّت الطعام، كما فعلت سارة، فهي لا تظهر، بل تكون في الخارج أو في خيمة أخرى. لا يحقُّ لها أن تحادث الرجال، كما لا يحقُّ للرجال أن يتحدَّثوا معها. أما تعجَّب الرسل حين رأوا يسوع يحادث السامريَّة (يو 4: 27) التي في أيِّ حال لا نعرف اسمها. ونتصوَّر إبراهيم آخذًا ابنه ليقدِّمه ذبيحة، وأمّه "غائبة"، لا نعرف عواطفها حين مضى الابن مع والده. كما لا يقال شيء عن عواطف الأمّ حين عاد ابنها سالمًا.

أمّا في هذا النصِّ من سفر القضاة (4: 1-24) فالدور الأوَّل هو للمرأة. الكلام الأساسيّ عن دبّورة (آ4)، تلك النحلة النشيطة لا في عمل بيتها فقط، بل في خلاص قبيلتها وشعبها. أمّا زوجها فيذُكر عرضًا. هو لفيدوت: الشعلة أو السراج. والدور الثاني هو للمرأة أيضًا. اسمها ياعيل، أي الظبية التي تتميَّز بالسرعة في تنفيذ ما يجب عليها أن تنفِّذه. زوجها يُذكر بالنسبة إليها، لأنَّه لم يفعل شيئًا. هو جابر أو الرفيق، رئيس مجموعة من القينيّين (أبناء قايين البعيدين) يعيش في سلام مع يابين، ملك حاصور (آ17). أمّا باراق (آ6) ومعنى اسمه البرق، فهو ذلك الخائن الذي احتاج إلى حضور دبّورة معه ليمضي إلى القتال ويزيل الضيق عن أهله. فدورُه ثانويّ مع دبّورة، وياعيل تسبقه لمعاقبة سيسرا، قائد جيش يابين، المرتبط اسمه بالبناء، ولكنَّه بالأحرى يعمل على الهدم والسلب والنهب. وجابر الذي هو "الرفيق" عمل عكس امرأته. دبّورة جمعت قبيلتَي زبولون ونفتالي (آ10) بمساعدة باراق، أمّا جابر فانفصل عن بني قومه، وصادق "القويّ" الذي يهدِّد شعبه. أتُرى نال منفعة ما؟ المهمّ أنَّه "انفرد". ترك قومه مع أنَّه رئيسهم الذي يجب عليه أن يهتمَّ به ويدافع عنهم وقت الضيق.

أقام جابر في "صفنيم". وهو موقع بين نفتالي ويسّاكر، القبيلتين اللتين جمع رجالهما باراق. كانت هناك بلّوطة، سنديانة. هذا يعني "المقام"، المكان المقدَّس، كما كان الأمر بالنسبة إلى إبراهيم في ممرا (تك 18: 1). وربَّما يكون هذا المقام خاصًّا بالكنعانيّين! في أيِّ حال، هرب من الخطر وترك امرأته وحدها في البيت. صفتها الحسنة أنَّها اتَّخذت قرارها بسرعة ولم تتخاذل ولا تراخت. ولكنَّ عملها "جرح" واجبات الضيافة كما عرفها العالم الشرقيّ القديم، وعالم الكتاب المقدَّس. لجأ إليها سيسرا. طلب منها أن تضيفه فاستضافته. فكان الواجب عليها أن تحميه وتدافع عنه، أو لا تستقبله. حسب سيسرا أنَّه في بيت صديق، ولاسيَّما حين قالت له ياعيل: "تفضَّل، يا سيِّدي تفضَّل ولا تخف" (آ18). قال أنا عطشان فسقته لبنًا. ثمَّ غطَّته، ووقفت على باب الخيمة وكأنَّها تحرسه (آ19).

ولكنَّها خانت أصول الضيافة وقتلته. نحن لا ننسى أنَّنا في قبيلة قايين. ذاك الذي هو من البدء قاتل، كما قال التقليد اليهوديّ وتبعه التقليد المسيحيّ (1 يو 3: 12). وزوجها الذي كان بين زبولون ونفتالي، لم يكن بين المقاتلين، ولا كان مع أهل بيته. هو الغائب ووجب عليه أن يكون الحاضر.

*  *  *

تلك هي اللوحة التي ضُخِّمت بعض الشيء لكي تدلُّ على الخلاص الذي حمله الله للناس المضايقين. فما هي هذه المدينة التي تمتلك "تسع مئة مركبة من حديد"؟ (آ3، 13). أهي الجيش المصريّ أو القوّات الأشوريَّة والبابليَّة؟ ومن جهة ثانية، هل تستطيع قبيلتان صغيرتان أن تجنِّدا عشرة آلاف مقاتل؟ (آ10). الأرقام الحقيقيَّة نقرأها مع جدعون: ثلاثة مئة رجل (قض 7: 6-7). هنا نتذكَّر أنَّ أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك كُتبت في نسختها الأخيرة بعد السبي (587 ق.م.) والعودة إلى الأرض، سنة 538 ق.م. لهذا وُضع النفَس الملحميّ. فمع مرور الزمن يبدو كلُّ شيء كبيرًا. والضيق بدا طويلاً: عشرين سنة. هنا نتذكَّر أنَّ سفر القضاة يعطينا أرقامًا مدوَّرة ترتبط برقم أربعين، الذي هو رقم جيل واحد. (قض 3: 11: البلاد في سلام 40 سنة؛ 5: 31؛ 8: 31 خلال حياة جدعون) والرقم 80 يدلُّ على جيلين. أمّا الرقم عشرين فيدلُّ على نصف جيل. هذا يعني أنَّ الضيق يمكن أن يزول. ولكن لا بقدرة البشر، بل بقدرة الله. هو الذي دعا دبّورة، وطلب منها أن تدعو باراق: "الربُّ الإله أمرك" (آ6).

وبدأت المعركة وكأنَّها بين جيشين كبيرين، ساعة هي في الواقع مشادّة صغيرة تذكِّرنا بما في العالم العربيّ والقديم، مثل حرب داحس والغبراء وما فيها من كرٍّ وفرّ. فكاتب سفر القضاة الآتي من بابل، عرف المعارك الكبيرة بين البابليّين والفرس حيث تعدَّت الجيوش عشرات الآلاف بل مئات الألوف. من انتصر؟ دبّورة؟ لا. باراق؟ لا. بل الربّ "فهو من ألقى الرعب" (آ15) "في قلوب الأعداء". لا شكّ في أنَّ الخوف يسيطر على جميع المقاتلين، ولاسيَّما إذا كانوا متزوِّجين وعندهم أولاد. لكنَّ المؤمن بقضيَّته والمدافع عن أرضه وشعبه يكون شجاعًا. وإذا كان مؤمن بالله، فهو لن يخاف أبدًا مهما كثرت الجيوش وتجمَّعت المركبات. ذاك ما قاله مز 20: 8-10):

8      لهم مركباتهم والخيول

ولنا اسم الربِّ إلهنا.

9      هم يرتمون ويسقطون

ونحن نقوم متأهِّبين.

10     يا ربّ، خلِّص الملك

واستجب لنا يوم ندعوك.

وكيف انتهت المعركة؟ مثل كلِّ المعارك: "وقُتل جميع عسكره (= عسكر سيسرا) بحدِّ السيف" (آ15). تلك طريقة أدبيَّة للدلالة على انتصار الله الكامل على أعدائه، أو بالأحرى "معاديه". هم يعادونه حين يضيِّقون على شعبه وعلى كلِّ شعب متألِّم. ذاك كان وضع العبرانيّين في مصر: "استعبدوهم بعنف، ونغَّصوا حياتهم بأشغال شاقَّة بالطين واللبن وسائر الأشغال في الحقول. وكانوا في هذا كلِّه يستخدمونهم بدون رحمة" (خر 1: 14). أمام هذه الحالة، قال الربّ لموسى: "نظرتُ إلى معاناة شعبي الذين في مصر، وسمعتُ صراخهم من ظلم مسخِّريهم وعلمتُ بعذابهم، فنزلتُ لأنقذهم" (هر 3: 7-8). وما اكتفى الربُّ بأن ينظر، بل فعل في النهاية: "رجعت المياه فغطَّت المركبات والفرسان وجميع جيش فرعون الذين دخلوا وراء بني إسرائيل وما بقي منهم أحد" (خر 14: 28). هي طريقة بشريَّة للكلام على خلاص الله الكامل.

*  *  *

ونعود إلى دبّورة، تُعطى صفاتٌ ثلاث لها. هي النبيَّة، هي القاضية، هي السامعة لكلام الله والعارفة ماذا يطلب الربُّ منها.

هي النبيَّة. لا نجد نبيّات كثيرات في الكتاب المقدَّس. أوَّلهنَّ مريم أخت هارون. قيل عنها في سفر الخروج: "وأخذت مريم النبيَّة، أخت هارون، دفًّا في يدها، وخرجت النساء كلُّهنَّ وراءها بدفوف ورقص. فغنَّت لهنَّ مريم: "أنشدوا للربِّ جلَّ جلاله، الخيل وفرسانُها رماهم في البحر (خر 15: 20-21). مثلها سوف تنشد دبّورة: "أنا، أنا للربِّ أرنِّم، للربِّ الإله أرتِّل" (قض 5: 3).

ثمَّ تأتي خلدة. إليها مضى حلقيا الكاهن وعدد من الرؤساء "وكانت مقيمة في الحيِّ الجديد بأورشليم، وسألوها عمّا يفعلون" (2 مل 22: 24). وهي سوف تقول لهم ما ينتظر مدينة أورشليم من شرّ. أمّا دبّورة، فما اكتفت بأن تتكلَّم، بل فعلت: "دعت باراق (البرق) بن أبينوعم (أبو النعم) من قادش (المدينة المقدَّسة) التي كانت تخصُّ الكنعانيّين فصارت لنفتالي (آ6). باراق الذي دعته هو من المدينة الكبيرة، أمّا دبّورة فكانت "تجلس تحت نخلة" (دُعيَت باسمها: نخلة دبّورة) بين الرامة وبيت إيل.

وتحدَّث إشعيا عن "امرأته النبيَّة" (إش 8: 3) التي هي امرأة النبيّ، كما نقول "الخوريَّة" التي هي "زوجة الخوري". وذكر نحميا "توعادية (موعد مع يهوه) النبيَّة (نح 6: 14) التي لم تجارِه في إصلاحاته. ودبّورة هنا رفضت أن تكون مع الذين يكتِّفون أيديهم ويتكلَّمون، أو يهربون. سلَّمها الربُّ مهمَّة الخلاص وهي ستفعل. وهكذا بدت دبّورة النبيَّة شبيهة بإيليّا النبيّ الذي عاد من جبل حوريب مع مهمَّة محدَّدة أمره الربُّ بتنفيذها.

نحن لا ننسى من هو النبيّ، وبالتالي من هي النبيَّة. النبيّ يدخل في سرِّ الله ليسمع صوته، ولا يخاف أن يحمل كلامه. هكذا كان صموئيل. كلَّمه الربُّ فهتف: "تكلَّمْ، يا ربّ، فإنَّ عبدك يسمع" (1 صم 3: 10). ثمَّ حمل كلام الربّ إلى الكاهن عالي، وإلى شاول أخيرًا مع أنَّه خاف من شاول أن يقتله (1 صم 16: 3). ودبّورة ما خافت من الشرِّ الذي قد يحصل لها ولشعبها: مدينة قويَّة، عربات الحديد، الجيوش الكثيرة. كانت شجاعة، وشجَّعت باراق الذي خاف أن يمضي وحده. قال لها: "إذا ذهبت معي ذهبتُ، وإلاَّ فلا" (آ8). فقالت له: "أذهب معك" (آ9). نتذكَّر هذه المرأة وسط الرجال، أو في قيادة الرجال مع باراق الذي "قادهم (قاد جيشه) إلى قادش بصحبة دبّورة" (آ10).

*  *  *

ودبّورة هي القاضية. نتذكَّر أنَّ سفر القضاة يورد أسماء اثني عشر قاضيًا، منهم المعروفون مثل جدعون الذي خلَّص قبيلته من بني مديان، ويفتاح الذي خلَّص شعبه من بني عمّون، في شرقيّ نهر الأردنّ، وشمشون الذي بلبل جماعة الفلسطييّن المقيمين في خمس مدن على الشاطئ القريب من العالم اليونانيّ مع أسلحة الحديد، بدل أسلحة النحاس والبرونز.

القاضي هو إنسان يقضي في الناس، يرى حاجاتهم، يساعدهم. ولاسيَّما في إطار المحكمة حيث القويّ يسيطر على الضعيف، فيعيد الحقّ إلى أصحابه ذاك ما كانته دبّورة: جلست تحت نخلة (آ5) دُعيَت باسمها. "وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم". هي خلافات على مستوى الأفراد، على ما فعل سليمان مع الامرأتين الزانيتين (1 مل 3: 16ي). وخلافات على مستوى المجموعات. شابهت دبّورة شمعيا النبيّ الذي أرسله الله فقال لرحبعام بن سليمان وكلّ بيت يهوذا وبنيامين وباقي الشعب: "لا تصعدوا، ولا تقاتلوا إخوتكم، بل ليرجعْ كلُّ رجل إلى بيته (1 مل 12: 22-24).  ذاك كان عمل دبّورة أيضًا، لأنَّ الخلاف يكون عادة بين القبائل بعد النصر. وهذا ما حصل مثلاً بعد معركة يفتاح: خاصمه رجال أفرائيم: "لماذا ذهبتَ لمحاربة بني عمّون وما دعوتنا لنذهب معك؟ سنحرق عليك بيتك بالنار" (قض 12: 1) وكانت حرب تغلَّب فيها الجلعاديّون (رجال يفتاح) على بني أفرائيم. يا ليته وُجد نبيٌّ مثل شمعيا، أو نبيَّة مثل دبّورة، لكنّا استغنينا عن هذا القتال الذي يكاد يفني القبيلتين معًا.

القاضي في العالم القديم، كما في صور وقرطاجة، هو الحاكم في منطقة من المناطق مع كلِّ السلطات اللازمة في قبائل تورد حول معبد واحد، وتخدم كلُّ قبيلة المعبدَ شهرًا واحدًا في السنة. والصورة الكاملة هي صموئيل. "وكبر صموئيل وكان الربُّ معه... وعلم بنو إسرائيل، من دان إلى بئر سبع، أنَّ الربَّ اختار صموئيل نبيًّا" (1 صم 3: 19-20). عمله واضح في السلم: "يذهبُ كلَّ سنة ويطوف بيت إيل والجلجال والمصفاة، ويقضي لإسرائيل في جميع تلك الأماكن، ثمَّ يرجع إلى بيته في الرامة، ويقضي هناك أيضًا بني إسرائيل" (1 صم 7: 17).

وهكذا كانت دبّورة تفعل. ولكن حين يأتي العدوّ، يجب على "القاضي" أن يدفعه ويدفع الضيق عن شعبه. هكذا فعل جدعون مثلاً، وهكذا فعلت دبّورة، لا بيدها، بل بيد باراق، ولكنَّ حضورها معه أعطاه القوَّة فمضى وانتصر. هرب جيش العدوّ، وأوَّل الهاربين كان سيسرا نفسه: "نزل من مركبته وهرب على قدميه" (آ15) واختبأ. وكانت نهايته كما عرفنا.

*  *  *

وأخيرًا، دبّورة هي السامعة كلام الربّ. إنَّها تشبه إلى حدٍّ بعيد والدة شمشون. غير أنَّ هذه الوالدة لا اسم لها: هي زوجة منوح (موضع الراحة). وما نعرفه عنها أنَّها "عاقر" (قض 13: 3). ولكن لها ظهر الربّ، وهي مضت فأخبرت زوجها. وبعد ذهاب "ملاك الربّ"، خاف منوح: "سنموت لأنَّنا رأينا الربّ. فقالت امرأته: "لو أراد الربُّ أن يميتنا لما قبل من أيدينا محرقة وتقدمة، ولا كان أرانا جميع ما رأينا، ولما أسمعَنا ما سمعناه الآن" (قض 13: 23).

ودبّورة سمعت كلام الله وحملته إلى باراق. ميَّزت كلام الربِّ بين الكلمات العديدة التي تدعو إلى الفطنة والانتظار والقيام بالحسابات العديدة ، ساعة الشعب يعيش في الضيق. لا يُقال لنا إنَّ الربَّ ظهر عليها، ولكنَّنا نعرف النتيجة: هي تكلَّمت باسم الربّ. فهل يحقُّ لها أن تقول: "الربُّ أمرك" (آ6). كذا كان الوضع بالنسبة إلى موسى لمّا مضى إلى الفرعون: "قال الربّ: أطلِقْ شعبي ليعيِّدوا لي في البرِّيَّة" (خر 5: 1).

قالت دبّورة مثل هذا القول لباراق. كان باستطاعته أن يقول لها ما قاله فرعون: "من هو الربُّ حتّى أسمع له؟". أو يقول لدبّورة: "ومن يقول لنا إنَّك تحملين كلام الربّ؟" ولكن كان في كلامها من الصدق بحيث لم يتساءل باراق، بل أطاع حالاً، ولكنَّه لبث خائفًا واحتاج إلى مساندة من لدن الربّ، وجدها في دبّورة التي طبعها الربُّ بحضوره.

ونحن لا ننسى الوضع الذي كانت فيه القبائل العبرانيَّة: "عملوا الشرَّ في عيني الربّ" (آ1). ونقرأ في موضع آخر: "نسوا الربَّ إلههم، وعبدوا البعل وأشيرة (زوجة الإله الكنعانيّ التي ترمز إلى الخصب) فالذين اعتادوا أن يمضوا إلى البعل، هل يعرفون بعد أن يمضوا إلى الله ويسمعوا كلامه؟ تلك كانت حالة الشعب في زمن إيليّا حيث قيل إنَّ النبيّ "رمَّم مذبح الربِّ الذي كان تهدَّم" (1 مل 18: 30). هي صعوبة أن يكون شخصٌ مثل إيليا وحده قبالة أنبياء البعل والكهنة الذين يعدُّون بالمئات. ونقول الشيء عينه عن دبّورة التي عرفت أن تحافظ على إيمانها بالله الحيّ. وأن تسمع صوت الله يكلِّمها من أجل شعبها. عنها نستطيع أن نقول ما كُتب عن زمن صموئيل "كانت كلمة الربِّ نادرة، والرؤى قليلة" (1 صم 3: 1).

ومع ذلك، سمع صموئيل صوت الربِّ ورآه في قلب الليل، قبالة الكاهن عالي الذي لم يعرف مرَّتين أنَّ الربَّ يكلِّم "حارس مصباح بيت الله بحيث لا ينطفئ" (1 صم 3: 3). ومثله سمعت دبّورة صوت الربِّ يدعوها لكي تكون "قاضية" على مثال القضاة الاثني عشر، الذين يمثِّلون القبائل الاثني عشر، ولاسيَّما تلك المقيمة في الوسط والتي تتعرَّض للأخطار من السكّان الذين أقاموا هنا منذ زمن قديم.

سمعت دبّورة كلمة الله. ونبَّهت باراق من الكبرياء، بحيث يحسب أنَّه هو الذي انتصر بيديه. من هو القائد؟ سيسرا. إذًا، يلحقه ويقتله أو يأسره، وهكذا تنتهي المعركة. لا مجال لوجود القوَّة هنا، ولا مجال لعمل الرجال بل لعمل النساء والضعف الشريّ. فالله هو الذي "يقود المعركة" بحيث يُفرَض على المؤمن أن يقول: "معونتنا باسم الربِّ الذي صنع السماوات والأرض". هذا ما وجب على باراق أن يقوله لو أصغى باهتمام إلى ما اختبرته دبّورة وتحدَّثت عنه.

مثل هذه التجربة كاد جدعون أن يقع فيها. جمع عسكرًا كبيرًا، كما تفعل مصر وأشور وبابل، تلك الشعوب التي لا تعرف الربَّ الإله، بل تحمل أصنامها على أكتافها، أصنام الحجر والخشب. قال الربُّ لجدعون: "الرجال الذين معك أكثر من أن أسلّم بني مديان إلى أيديهم لئلاَّ يفتخر عليَّ بنو إسرائيل ويقولوا: "أيدينا خلَّصتنا" (قض 7: 2). في مرحلة أولى مضى اثنان وعشرون ألفًا وبقي عشرة آلاف. وفي مرحلة ثانية، بقي فقط ثلاث مئة. هؤلاء يكفون بعد أن عرف المعادون أنَّ الربَّ "يحارب" عن شعبه.

الخاتمة

تركنا الباب مفتوحًا للتأمُّل والتفكير والصلاة. كان بالإمكان أن نشدِّد على أمور أخرى. ولكن هذا يكفي لكي نبيِّن عمل الله من خلال الإنسان، من الرجال ومن النساء على السواء، بعد أن قال لنا بولس الرسول: لا رجل ولا امرأة. الجميع خلقهم الله على صورته ومثاله. فلا فضل لواحد على آخر. وما نحسبه قويًّا لدى الناس، يكون ضعيفًا لدى الله. وما نحسبه جاهلاً لدى الناس، يكون حكيمًا في نظر الله. ذاك ما تعلَّمناه من خبر دبّورة التي كانت "قاضية" شأنها شأن سائر القضاة، في حقبة امتدَّت منذ يشوع والدخول إلى غربيّ الأردنّ التي اتَّخذت اسم فلسطين في القرن الثاني المسيحيّ، حتّى الملكيَّة مع شاول من قبيلة بنيامين، وداود من قبيلة يهوذا، كانت محطَّة في هذه الحقبة التي قد تكون امتدَّت مئتي سنة تقريبًا، وبها صنع الله خلاصًا، كما صنع مع جدعون وغيره. ولكنَّ جدعون انتهى بعودة إلى الأوثان "فصنع صنمًا ووضعه في مدينته" (قض 8: 27) وسوف يكون اسمه "يربعل" (ليُرَبعل، أو ليظهر في عظمته). أمّا دبّورة فلبثت أمينة للربّ بحيث استراحت الأرض "أربعين سنة" بعد موتها (قض 5: 31) من الحروب.

ونورد هنا ما قرأنا في كتاب العاديّات البيبليَّة، المنسوب إلى فيلون ما يلي: "ولمّا دنت أيّام موتها (= دبّورة)، أرسلت فجمعت كلَّ الشعب وقالت لهم: "اسمعوا الآن، يا شعبي. فها أنا أعلمكم كامرأة الله (تجاه: رجل الله، في 1 صم 9: 6) وأنيركم كممثِّلة النساء. أصيخوا آذانكم الآن كما لأمِّكم. وتنبَّهوا إلى أقوالي كما إلى أقوال الذاهبين إلى الموت. ها أنا أمضي اليوم في طريق كلِّ بشر، حيث ستجيئون أنتم أيضًا. ولكن وجِّهوا قلوبكم نحو الربِّ إلهكم، طوال زمن حياتكم. فبعد موتي لن تستطيعوا أن تتوبوا عمّا فعلتموه خلال حياتكم...". وأجابها الشعب: "ها أنتِ، يا أمُّ، تموتين تاركة بنيك. فمن توكِّلين بنا؟ فصلّي لأجلنا ولتذكرنا نفسُك إلى الأبد، بعد رحيلك".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM