إرميا صوت من عند الله في زمن الحرب.

إرميا صوت من عند الله في زمن الحرب.

عاش النبيّ إرميا في حقبة مظلمة من تاريخ إسرائيل فيها عرف شعبُ الله ذلَّ التهجير والنفي والجلاء، ورأى مدينته تهدم وهيكله يخرب والسلالة الملكيَّة الداوديَّة تُباد. عاش في وقت اختلطت الأصوات إلى أيِّ صوت سوف يستمع الملك والعظماء والشعب؟ لقد كلَّمهم إرميا باسم الربّ، ولكنَّهم لم يصغوا إليه فزادت مصائبهم مصائب وآلامهم آلامًا وتعاستهم تعاسة.

أ- الجوّ السياسيّ والدينيّ

1- الجو السياسيّ

عاش إرميا في الجيل السابع وبداية الجيل السادس ق.م. فعرف انحطاط سلطة الأشوريّين. وهكذا انتقلت ممكلة يهوذا في الجنوب من تبعيَّة أشور إلى تبعيَّة بابل. ولكن بقي حزب يناصر المصريّين داخل أورشليم يدفعه إلى ذلك بعض الأنبياء العائشين في البلاط الملكيّ (إر 28: 1-4) الذين ستكون نتيجة تصرُّفهم نكبة وطنيَّة.

وهكذا ستعيش مملكة أورشليم منجذبة بين الشمال والجنوب، بين بابل (أو أشور) ومصر الفراعنة. أراد يوشيّا الملك أن يقف بوجه مصر متحالفًا مع بابل فمات في معركة مجدُّو (سنة 609 ق.م.) وهو شابّ، فعطَّل إصلاحًا دينيًّا هامًّا كان قد بدأه بمعاونة إرميا والكهنة الذين بقوا أمناء على العهد. ولكنَّ مصر ما زالت تعمل في الخفاء رغم أنَّ أورشليم كانت تابعة لبابل تدفع لها الجزية. وستحاك المؤامرة إلى أن يأتي نبوكد نصَّر البابليّ فيحتلُّ المدينة ويدمِّرها (سنة 587 ق.م.) ويسبي أهلها المرَّة بعد الأخرى بينما يهرب الباقون إلى مصر وهم حاملون معهم إرميا.

اعتبر الأنبياء الكذبة أنَّ لا شرَّ آتٍ على المدينة. جحدوا الربَّ وأنكروا قدرته وقالوا لا ينزل بنا شرٌّ ولا نرى سيفًا ولا جوعًا. أمّا الأنبياء فهم نسمة ريح وكلمة الله ليست فيهم. لذلك قال الربّ: ها أنا أجلب عليكم أمَّة من بعيد يأكلون حصادك وخبزك، يأكلون كرمك وتينك، ويدمِّرون بالسيف مدنك الحصينة التي تتَّكل عليها (5: 12ي). بعد هذا التنبُّؤ بالخراب الآتي من الشمال على يد البابليّين، يطلب إرميا إلى الملك والعظماء أن يكونوا قلبًا واحدًا ويدًا واحدة فيعملوا على تخفيف آلام الشعب. ولكنَّ الكبرياء سيطرت عليهم وفضَّلوا أن يهربوا تاركين البلاد فالتة سائبة. أمّا الملك، فبعد أن شاهد قتْل عياله فُقئت عيناه.

وأمّا العظماء فمات من مات منهم والباقي ذهب إلى المنفى. وأمّا الشعب فتركوا يتخبَّطون في الفقر والشقاء عرضة لجيش البابليّين الذي سلب ونهب وقتل... ولكنَّ إرميا سيبقى شعلة رجاء في قلوب المؤمنين فيقول: ها إنَّها تأتي أيّام، يقول الربّ، تبنى فيها مدينة الربِّ على جبلها، وكلُّ الوادي سيكون قدسًا للربّ فلا يقلع ولا يهدم إلى الأبد (31: 38-40).

2- الجوّ الدينيّ

كان عهد الملك منسّى (687-642) قد أعاد إلى أورشليم العبادات الوثنيّة، عبادة البعل على مرتفعات الجبال، وعبادة عشتار في البيوت (7: 17-18)، وامتلأ الهيكل بتماثيل الآلهة المتعدِّدة إرضاء لمصر أو لأشور أو لبابل، كما انتشرت من جديد ممارسة السحر والعرافة (رج 2 مل 21: 3-7 + 23: 4-7) رغم أنَّ الله قد حرَّمها بشدَّة في شريعته (خر 22: 17). ولكنّ الإصلاح بدأ في عهد يوشيّا (640-609) الذي أزال الأصنام ومحا كلَّ ما يدلُّ على الممارسات الوثنيَّة، وهدم المعابد المتعدِّدة وقتل كهّانها. غير أنَّ الناس رأوا فشل الملك في مجدُّو واعتبروا الله وكأنَّه لم يقبل بهذا الإصلاح ولم يرضَ عنه. لذلك ما إن مات يوشيّا حتّى عادوا إلى العبادات الوثنيَّة وظنُّوا أنَّ وجود الهيكل وسط مدينتهم يعفيهم من أيِّ مجهود لحفظ وصايا الله وشرائعه. قال إرميا بلسان الربّ: تسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون بالزور وتقدِّمون البخور للبعل وتتبعون آلهة أُخر لم تعرفوها. ثمَّ تأتون أمامي في الهيكل الذي يحمل اسمي وتقولون: ها نحن بأمان (7: 9-10). وكان الأنبياء الكذبة (28: 1ي) بالاتِّفاق مع الملك والعظماء (36: 1ي) يخدِّرون الشعب ويخفون عنه الحقيقة.

كان الكهّان المستفيدون من عبادة الأوثان يوحون إلى الناس أنَّهم لمّا عبدوا البعل شبعوا خبزًا وكانوا بخير. ولمّا أهملوا البعل صاروا محتاجين إلى كلِّ شيء، وفنوا بالسيف والجوع (44: 17-18). وفوق عبادة الأوثان، وهي خطيئة ضدّ الوصيَّة الأولى، يمارس المؤمنون حياة لا تعرف العدالة والمحبَّة ولا يسيرون على الطريق التي رسمها الله لهم (6: 16). قال: ووجد بين شعبي منافقون يوصدون، وهم لاطئون، كالصيّادين. قد نصبوا الفخَّ فيقتنصون الداس. كالقفص المملوء طيورًا كذلك امتلأت بيوتهم من الغشّ فصاروا عظماء أغنياء، لا يحكمون بالعدل لليتيم ولا ينصفون المسكين (5: 26-28) فماذا يفعلون يوم يحلُّ غضب الله؟

في هذا الوضع القاسي كان على إرميا أن يتكلَّم باسم الربّ. فيلقى من جرّاء كلامه الاضطهاد والعذاب، لأنَّه جسَّد في قلبه آلام شعبه فما فهمه شعبه ولا ذووه، فصار مثالاً ليسوع المسيح الذي رفضته خاصَّته وصلبه أبناء قومه.

ب- من هو إرميا

1- ولد إرميا في عنتوت القريبة من أورشليم، من عيلة كهنوتيَّة حوالي سنة 645 ق.م. كان صاحب إحساس مرهف جدًّا، وهذا ما جعله بعض المرّات قريبًا من اليأس فقال يومًا: "ويل لي يا أمّي، لأنَّك ولدتني إنسان خصام ونزاع في البلاد" (15: 10). أبناء بلدته طردوه من بينهم وهدَّدوه بالموت (12: 6). قال محدِّثًا الربّ: قد أعلمني الربُّ فعلمت، حينئذٍ أريتني أفعالهم وكنت أنا كحمل أليف يُساق إلى الذبح ولم أعلم ما يحوكون لي في الخفاء: ليقطع من أرض الأحياء ولا يذكر اسمه بعد (11: 18-19).

أمّا أبناء أورشليم فاستعْدوه لأنَّه قال الحقيقة. وحسبوه خائنًا متعاملاً مع العدوّ لأنَّه أنبأ لهم باسم الله أنَّ المدينة سوف تُؤخذ. فلماذا تكديس القتلى وزرع الخراب والدمار؟ قرأ أمام الملك يوياقيم كلام الله مكتوبًا في "درْج"، فأحرق الملك الدرج وسمح بأن يُسجن إرميا ويعطى خبز الجوع بانتظار أن يُجعل في بئر موحلة كاد يموت فيها (38: 1-7) هذا هو مصير الأنبياء: يعيَّرون ويُضطهدون ويقال عليهم كلُّ كلمة سوء من أجل الربّ (مت 5: 11)، يقتلون ويصلبون ويجلدون ويطاردون (مت 32: 34) لأنَّهم بقوا أمناء على كلام الربّ.

سمع الكاهن فشحور كلام إرميا فضربه بالعصا وجعله في سجن الهيكل (20: 1-2). أراد سائر الأنبياء أن يستميلوا إرميا فيتكلَّم بمثل كلامهم (28: 1ي). ولم يبقَ مع إرميا إلاَّ بضعة أشخاص لهم تأثيرهم في البلاط الملكيّ (38: 7-10) منهم عبد الملك الكوشيّ وخاصَّة باروك سكرتيره الخاصّ (36: 4-8).

2- نداء الربِّ له

يروي إرميا كيف ناداه الربّ. قال الربّ: قبل أن أصوِّرك في بطن أمِّك عرفتك، أي اخترتك وأعددتك لهذا العمل الذي أدعوك إليه. قبل أن تخرج من أحشاء أمِّك كرَّستك لتكون نبيًّا. قال إرميا: آه أيُّها الربّ، أنا لا أعرف أن أتكلَّم لأنّي صبيّ، وتريدني نبيًّا أتكلَّم باسمك؟ تصرَّف إرميا مثل موسى الذي أراد أن يتهرَّب لأنَّه خاف من الملك فرعون، ولكنَّ الربَّ قال له: لا تقل إنّي صبيّ. وعليك أن تنطلق فتقوم بالعمل الذي أرسلك إليه وتقول الكلام الذي أوصيك بقوله. لا تخف منهم لأنّي أمامك لأحميك وأنقذك من أيِّ خطر. وجعل الربُّ يده على فم إرميا وقال له: ها أنا جعلت كلامي في فمك (1: 5-10). سيحاربونك ولا يقوون عليك لأنّي معك فأنقذك من أيديهم (1: 19).

وسيجدِّد الربُّ نداءه لإرميا يوم يشكو إليه النبيّ حالته التعيسة بعد أن احتمل التعيير لأجل الربّ وصار ألمه متواصلاً (15: 15، 18). قال له الربّ: إذا رجعت إليَّ بالتوبة أرجعتك إلى خدمتي، وإذا قلت الكلام النفيس لا الخسيس، كنت مثل فمي وهم يرجعون إليك. سأجعلك سورًا حصينًا، فيحاربونك ولا يقدرون عليك. لأنّي معك لأخلِّصك وأنقذك، يقول الربّ (15: 19-20). وسيكون النبيّ وحيدًا معزولاً مثل الربِّ الذي تركه شعبه، فتكون حياته علامة لبني قومه يوم طلب إليه الربُّ أن لا يتَّخذ له زوجة ولا يكون له بنون ولا بنات (16: 1). وسيلبس عواطف الربّ فيتألَّم لألمه ويطلب لهم الانتقام لأنَّهم استخفّوا بالربّ وحامل كلمته (15: 15 + 17: 18). وهكذا يقول الربّ أو نبيُّه: إنّي قد تركت بيتي (بيت النبيّ في عناتوت، أو بيت الربّ يعني هيكله المقدَّس) وهجرت أملاكي وسلَّمت ما كنت أحبّ إلى أيدي أعدائي (12: 7-8).

3- تألَّم إرميا لأنَّ الناس لم يستمعوا إلى كلام الربّ. إذا كان الشعب جماعة جهّال وحمقى فالعظماء كسروا النير وقطعوا الربط (5: 4-5) فرفضوا الانقياد للربّ ومنعوا الشعب من سماع كلامه. وسوف يقول عنهم يسوع إنَّهم أخذوا مفاتيح المعرفة فما دخلوا ولا تركوا أحدًا يدخل (لو 11: 2-5) لأنَّهم عميان قادة عميان (مت 23: 13). وصلّى لأجل شعبه وقال: أنت تعلم يا ربّ أنَّ طريق البشر ليست في يدهم، وأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يسير خطواته باستقامة، وجِّهنا يا ربّ ولكن بلطف. لا تغضب علينا فتبعدنا (10: 23-24). هو يشفق على شعبه ويطلب لهم المغفرة: تسيل عيناي بالدموع ليلاً ونهارًا ولا تسكتان لأنَّ الشعب انحطم انحطامًا عظيمًا. إن خرجت إلى الصحراء أرى القتلى بالسيف وإن دخلت المدينة أرى الرازحين جوعًا (14: 17-18). فإذا كانت آثامنا تشهد علينا يا ربّ، فلأجل اسمك افعل. كثر كذبنا كثرت خطايانا، فإكرامًا لاسمك افعل شيئًا لأجلنا. أنت فيما بيننا يا ربّ، فباسمك دعينا فلا تخذلنا (14: 7-9).

رفض الناس كلام النبيّ، ولكنَّ النبيّ بقي أمينًا لرسالته سامعًا لربِّه، رغم ما يحمل هذا الكلام من تهديد وما يتبع حمل هذه الرسالة من خطر على حياته. يقول للربّ: وجدت كلماتك فأكلتها، فكانت لي كلمتك سرورًا وفرحًا في قلبي (15-16) فتنتني يا ربّ وخدعتني فانخدعت. قلت: لا أذكرك، لن أتكلَّم باسمك. ولكنّني أحسست بنار محرقة في عظامي، اجتهدت في إمساكها فلم أقوَ على ذلك (20: 7-9). ولكن كيف السبيل إلى لقاء وجه الربّ بعد أن مُنع من الذهاب إلى الهيكل (36: 5) سيقبل بأن يعزل عن الشعب ومن جماعة المصلّين في الهيكل وسيكشف حينذاك أنَّ الله حاضر في قلبه ويكلِّمه هناك كما يكلِّم الشعب في الهيكل. وهكذا يتمُّ عهد جديد بين الله وإسرائيل. عهد غير مكتوب في ألواح من حجر، بل في ألواح قلوب أحبّائه فيكون لهم إلهًا ويكونون له شعبًا (31: 31-34). ولكنَّ هذا العهد الجديد لن يتمَّ حقًّا إلاَّ في المسيح (عب 8: 8-12).

إلى أحبّاء الله، تلك البقيَّة الباقية التي ستبقى أمينة لعهد الربّ والتي هي أساس مساكين الربّ، سيوجِّه إرميا كلامه بنوع خاصّ فيحدِّثهم عن تسامي الله الذي يعمل في التاريخ (18: 7-8)، ويحدِّثهم عن محبَّة الله لشعبه على مثال حبِّ العريس لعروسه (2: 2-5). وعندما يخون الشعب ربَّه ويتخلّى عن وصاياه يشبَّه بتلك المرأة الزانية التي تخون زوجها. ولكن يكفي أن يعود الشعب إلى ربِّه بالتوبة ليعود الربّ إلى شعبه، حينئذٍ يرسل إليهم رعاة حسب قلبه (3: 15) يكون من بينهم الملك الذي من نسل داود المسيح المنتظر، الذي يحمل الخلاص من عند الربّ (23: 5-6).

ج- الروحانيَّة التي بشَّر بها إرميا

1- عندما نقرأ حياة نبيّ نتخيَّل الرؤى المتعدِّدة وعمل الخيال كما عند إشعيا في الهيكل أو حزقيال أمام تلك العربة العجيبة. أمّا إرميا فلا نجد عنه شيئًا من ذلك بل نراه يقرأ كلام الله في إطار يوميّ بسيط. يرى لوزة مورقة، يكسر إبريقًا، يخفي زنّارًا تحت الأرض ليجده مهترئًا، يشتري أرضًا. ومن هذه الأمور العاديَّة سيعيش حوارًا مع الله، سيعيش عمق الحياة الروحيَّة مع الربِّ الذي دخل في حياته وجعله نبيًّا حتّى العظام. وضع الله يده عليه، ولكنَّه ترك له شخصيَّته الجريئة حتّى الوقاحة. "أنت عادل يا ربّ، ولكنّي أريد أن أحاجّك، أريد أن أكلمك في بعض الأمور: لماذا ينجح طريق المنافقين؟ لماذا يسعد جميع العاملين بالغدر؟" (12: 1).

أجل عرف إرميا بإيمانه أن يتبيَّن إرادة الله. عبر الحياة العاديَّة، عرف أن يفسِّر علامات الأزمنة التي تحدَّث عنها يسوع (مت 16: 3) فتطلَّع بنظره الثاقب إلى الحاضر الذي يهدِّد شعب الله وإلى المستقبل الذي يجب الإعداد له، لا بواسطة الشعب كلِّه، ولكن بواسطة جماعات صغيرة هم أتقياء الله ومساكينه. هؤلاء وهؤلاء وحدهم سيهيِّئون لمجيء الملك الذي من نسل داود والآتي من عند الربّ واسمه "الربّ صدقنا وعدلنا وبرّنا".

2- الربّ هو الإله الواحد وسلطته مطلقة على الكون والتاريخ، على الجماعات والأفراد. لا إله إلاَّ الربّ الساكن في السماوات. أمّا ما يسمّونه – آلهة كائنات ضعيفة وعدم، هي آبار مشقّقة لا تضبط ماء (2: 13). الله وحده خالق الكون. يقول: أنا صنعت الأرض والبشر والبهائم التي على وجه الأرض، صنعتها بقدرتي العظيمة ويدي الممدودة وأعطيها لمن أريد (27: 5). الله وحده سيِّد التاريخ، سيِّد تاريخ إسرائيل وهو الذي أخرجه من أرض مصر وسار به في البرِّيَّة (2: 6). وسيِّد تاريخ الكون كلِّه الذي بجسد نبوكد نصَّر كعبد من عبيده يتصرَّف معه كالفاخوريّ مع فخّاره، جميع الأمم والشعوب تتساوى أمام الله.

هذا الإله موجود في الطبيعة وفي الكون وهو موجود في قلب كلِّ إنسان. يمكن لمدينة أورشليم أن تهدم وللهيكل أن يحترق دون أن تتأثَّر قدرة الله. فحضور الربّ لا يرتبط بمكان وقدرته تعمل في الإنسان أينما كان، وشريعته لا تقتصر على شعب من الشعوب. شريعته تعبِّر عن إرادته في الزمان الحاضر وهي تدلُّ على حبِّه: تذكَّرت مودَّتك حين كنت صبيَّة، تذكَّرت محبَّتك لي يوم كنت صبيَّة فسرت ورائي في البرِّيَّة (2: 4). هكذا يحدِّث الربّ شعبه ويقول له: أحببتك حبًّا أبديًّا لذلك أظهرت لك رحمتي (31: 2-3).

3- سيكون تأثير إرميا كبيرًا على أجيال عاشت بعده. أثَّر على النبيّ حزقيال عندما حدَّثنا عن ديانة روحيَّة مطبوعة في القلوب. قال إرميا (31: 33): أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها على قلوبهم. فقال حزقيال (36: 26-27): أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. أثَّر على تلاميذ إشعيا، وعلى الذاهبين إلى المنفى، وخاصَّة على مساكين الربّ الذين أنشدوا مزامير قريبة من كلمات إرميا. نذكر المزمور 72 وفيه ما فيه من حوار مع الله وقد بلغ المرتِّل إلى حافَّة اليأس ثمَّ عاد فاعتصم بحبل رجاء الله وعرف أنَّ سعادته أن يكون بقرب الله.

4- حين كُتبت أناشيد "عبد الله" في سفر إشعيا، وفيها ذكر اختيار الله لعبده من الرحم وإرساله إيّاه وتحميله كلمته كسيف ماض وكسهم مختار (إش 49: 1-2)، وفيها صورة عن الآلام التي يتحمَّلها من أجل شعبه وفداء عن الكثيرين (إش 53: 1ي)، وفيها عبارات تدلُّ على نبيّ الله الذي سيق كغنم إلى الذبح وكشاة أمام الجزّار، حين كُتبت هذه الأناشيد رأى فيها أتقياء الله صورة عن إرميا الذي اختاره الربّ ليحمل كلمته فقاسى من جرّاء رسالته الألم والاضطهاد. ونحن المسيحيّين الذين نقرأ في أناشيد "عبد الله" صورة مسبقة عن آلام يسوع، نستطيع أن نجد في حياة إرميا رمزًا لحياة يسوع وقد نبذه شعبه ولم تعرفه خاصَّته، فمات كمجرم في نظر السلطة الرومانيَّة وككافر في نظر اليهود. ولكن كما أنَّ "عبد الله" ستكون له ذرِّيَّة كبيرة في شخص الذين برَّرهم، كذلك أُعطي ليسوع كلُّ سلطان ليجمع في ذاته كلَّ شيء في السماوات وفي الأرض" (أف 1: 10).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM