الفصل الثاني والستّون: سعادة أورشليم

الفصل الثاني والستّون

سعادة أورشليم

مع ف 62 تنتهي الثلاثيَّة 60-62 حيث تمرُّ المواضيع عينها والمفردات. بدت أورشليم، خلال المنفى، وكأنَّها أضاعت إلهها، بدت مثل عروس خسرت عريسها في خضمِّ الحرب والمحن التي أحاطت بها. لهذا "لامت" الربّ لأنَّه تركها. وها هو الربُّ يردُّ على هذا الاتِّهام، فيعد مدينته بأنَّه يعود إليها ويعيد إليها أمجادها ويهتمُّ بها بحيث لا يسيء إليها غريب. وأخيرًا، يعود إليها أبناؤها المشتَّتون الذين يتبدَّل اسمهم كما يتبدَّل اسمها لأنَّ الربَّ يطلبها لنفسه.

62: 1-5 من أجل صهيون لا أسكت

هي صيغة المتكلِّم المفرد: أنا لا أسكت، يقول الربّ. اتَّهموه في الماضي أنَّه لم يتحرَّك ولم يفعل شيئًا في الماضي. فيجيب: لن يكون الأمر هكذا. واتَّهموه أنَّه بدا لامباليًا تجاه شقاء شعبه. فيجيب: سوف ترون ماذا أفعل من أجل المدينة التي أحبّ: هي إكليل جمال (آ3)، وقد أرسل "الحرّاس" ليحرسوها (آ6). هذا الإله يتكلَّم بفم نبيِّه، والنبيّ يعلن الخلاص الذي لا يقدِّمه سوى الله. لن يتوقَّف الربُّ عن العمل حتّى تعود أورشليم ذاك النور على الجبل، فتراها الأمم من بعيد.

"فترى الأمم" (آ2). كانت أورشليم في العتمة. اعتبرت خاطئة وها "برُّها" يظهر ساطعًا، مشعًّا (ن ج ه). اعتبرت مرذولة وها "خلاصها" مثل مصباح، قنديل (ل م ف ي د، lampe) في قلب الظلام. ما عاد الملوك والأمم يعرفون إلى أين يتوجَّهون، أمّا الآن فرأوا المجد الذي تتمتَّع به أورشليم التي اتَّخذت اسمًا جديدًا يرتبط بما يغدق الله عليها من نعم. أو بالأحرى هي أسماء تذكر في آ3 وما بعد. الأوَّل، إكليل جمال أو إكليل فخر (ت ف أ ر ه). فالله نفسه يحمله ويفتخر به. هذا ما يذكِّرنا على مستوى الفرد بافتخار الربّ بأيّوب: "ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم" (أي 1: 8). والاسم الثاني القريب منه: تاج (أو: عمامة) ملكي. يجعله الله في كفِّه ليجعله على رأسه. ماذا تطلب أورشليم بعد؟

وتُنسى الأسماء القديمة: مهجورة أو متروكة (ع ز و ب ه، عازبة في اللغة العربيَّة، أي من لا زوج لها). والاسم الثاني يتعلَّق بالأرض: هي "قفر" (ش م م)، أو "موحشة" بمعنى أنَّه لا يقيم فيها سوى الوحوش. وتجاه هذين الاسمين اللذين يدلاّن على ما كانت عليه أورشليم بعد أن دخلها البابليّون، ها هما اسمان يعارضان كلِّيًّا ذاك الواقع المؤلم الذي عرفته سنة 587-586 ق.م. الأوَّل: "ح ف ص ي. ب ه" أي مسرَّتي فيها. أي: بها سررتُ وأسرُّ لكي أقيم عندها. الثاني "ب ع و ل ه"، أي ذات بعل، متزوِّجة، وليست عازبة كما قيل فيها من قبل.

فكما يتَّحد الشابُّ بعروسه (ب ت و ل ه، عذراء)، كذلك يعود الأبناء ويلتصقون بالمدينة المقدَّسة ولا يهجرونها. ونستطيع أن نقرأ بدل "الأبناء"، الباني. أي الذي يبنيك وهو الربُّ الإله. وهكذا يعود العريس إلى عروسه فتصبح "ذات بعل". ويُفهم الشطر الثاني من آ5 كما يلي: العريس يبتهج بعروسه، والله، باني المدينة، يبتهج بمدينته التي "تزوَّجها".

62: 6-9 على أسوارك يا أورشليم

الله يحبُّ مدينته، ونظره دومًا إليها، فيرسل "الحرّاس" ليكونوا مستعدِّين على الدوام، نهارًا وليلاً. لا يسكتون، بل ينبِّهون الشعب حين يطلُّ الخطر يرد أوَّلاً فعل "صمت" (ي ح ش و)، ثمَّ الموصوف "هدوء" (د م ي) مرَّتين. تحرَّكوا دومًا ولا تلبثوا مكانكم، وحرَّكوا الله لكي تبقى أورشليم موضوع مديح في الأرض. هذا يعني أنَّها تكون "ثابتة" في مكانها، بحيث لا يقتلعها العدوّ كما سبق له وفعل.

وها هو الربُّ يعد: "حلف"، ممّا يعني أنَّه لن يتراجع. ذُكرت "يمينه" ثمَّ "ذراع عزَّته". فهو القدير وما يقوله يفعله. لا مجال للعودة إلى الماضي، حين أخذ "القمح" و"الخمر"، أي أساس الطعام والعيد، وأُعطيَ "للأعداء" و"لبني الغرباء": تعبت أورشليم ولكن جاء من يسلب ثمرة تعبها. أمّا اليوم، فلن يكون هذا. حين حاصر البابليّون المدينة، خرج الربّ منها بسبب "زناها"، وأقام على الجبل لكي يرافق الماضين إلى المنفى. أمّا الآن، فهو يقيم في مدينته، فلا يتجاسر عدوٌّ أن يسلب وينهب.

فالذي "جنى" القمح هو يأكله. ويمكن أن يعيِّد كما كانوا يفعلون في عيد الأسابيع ويشكرون الله على الغلال. والذي جمع العنب وعصره، يشرب الخمر في عيد القطاف أو المظالّ، قرب الهيكل" في ديار قدسي" (آ9). وهناك يهلِّلون ويسبِّحون.

62: 10-12 "اعبروا في الأبواب"

أعيد بناء المدينة، وفُتحت الأبواب وارتفعت ليدخل ملك المجد (مز 24: 9). والآتون معه إلى الحجّ عديدون. "اعبروا". ويتكرَّر الفعل. ولكنَّ الطريق تحتاج إلى إعداد وتهيئة: ثمَّ "مهِّدوا". ويتكرَّر الفعل. لا مجال للعوائق. الحجارة تنقّى وكدت أقول: يُوضَع البلاط فتكون المسيرة سهلة كما في تطواف. فالحجّاج لا يسيرون أفرادًا كما تركوا المدينة هاربين، بل هم جماعة منظَّمة والراية في المقدِّمة، لا من أجل شعب واحد (في صيغة المفرد)، بل من أجل الشعوب (هـ ع م ي م). فالشعوب كلُّها مدعوَّة للانضمام إلى الآتين يزورون الربَّ في مدينته. فالخبر "أُسمع" إلى أقصى الأرض، والربُّ هو الذي حمله.

وما هو هذا الخبر الذي تتقبَّله "ابنة صهيون" أو شعب أورشليم؟ "الخلاص". الربُّ المخلِّص أتى. وهو يجازي كلَّ إنسان بحسب أعماله. من هم الذين ينعمون بالخلاص؟ "الشعب المقدَّس". جميع الذين دخلوا أورشليم، من نسل يعقوب أو من الغرباء. كلُّهم افتداهم الربُّ، لا فئة من الفئات. وأورشليم التي اتَّسعت وسع الكون، جاء الربُّ يطلبها عروسًا له ولا يعود يتركها بعد أن تكاثر المقيمون فيها.

لا، لم تعد القداسة محصورة في شعب من الشعوب، بل وصلت إلى جميع الشعوب[RK1] . والفداء لا يطال نسل يعقوب فقط، بل كلَّ نسل في العالم، لأنَّ الله "يريد أن يخلُص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحقّ" (1 تم 2: 3). كانت البداية مع النبوءة الإشعيائيَّة ويكون الكمال في شخص يسوع الذي أرسل ليجمع في شخصه كلَّ ما في السماء وما على الأرض (أف 1: 10).


[RK1]تأكيد جيد عن شمولية الخلاص.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM