الفصل الثالث والستّون: رحمة الله وشقاء أبنائه

الفصل الثالث والستّون

رحمة الله وشقاء أبنائه

افترق ف 63 عن ف 60-62. ففيه كلام عن الحرب والدم على ثياب المقاتلين، وعن الانتقام من أجل إفناء العدوّ. هنا يبدو الله مثل صاحب كرم يجعل الأمم في معصرته فتتلطَّخ ثيابه. استعاد سفر الرؤيا هذا النصَّ ورأى فيه انتصار يسوع على قوى الشرِّ حيث سَفك دمه لا دم الأعداء (رؤ 19: 13-16).

63: 1-6 الآتي من أدوم

أدوم الذي يرتبط باللون الأحمر، وبصرة، العاصمة، التي تشير إلى من يقطع عناقيد العنب. هما منذ القديم تسميتان للعدوّ النموذجيّ. وعقاب أدوم يترافق مع عقاب جميع الأمم التي عارضت الربّ. في هذا المجال قال النبيّ حزقيال: "في نار غيرتي تكلَّمتُ على بقيَّة الأمم وعلى أدوم كلِّها" (حز 36: 5). وفي إشعيا نفسه نعرف أنَّ ذكر أدوم وبصرة يعني يوم انتقام الربِّ وعدالته (34: 2). فهذا البلد هاجم أورشليم سنة 586 ق.م.، وبالتالي هاجم الربّ. لهذا فهو يستحقُّ العقاب مهما حاول أن يتباهى بلباسه ويختال بقوَّته.

ويأتي الربُّ الذي يأخذ جانب شعبه. نقرأ "ربّ"، عظيم. ولكن يبدو أنَّه يجب أن نقرأ مع الترجمات فعل "راب" خاصم. فالربُّ يخاصم لكي يخلِّص. ويُطرَح عليه سؤال: "ما بال لباسك...". اللون الأحمر هو لون الدم، وهو يدلُّ على أدوم. والسؤال الثاني: وثيابك... تشبه من يدوس العنب في المعصرة. هذا يعني العقاب الآتي (مرا 1: 15).

والجواب: أنا دستُ (آ3). وحدي بدون من يساعدني. فلا قوَّة تقف بوجه الله مهما عظم شأنها. نلاحظ العنف في الكلام: داس، ثمَّ داس، ثمَّ وطئ. وكان سبق اسم الفاعل في آ2: دائس. والعاطفة التي تحرِّك: الغضب، الغيظ. هو الربُّ وضع الشعوب في "دنّ" (ف و ر ه) كما يُوضع العنب. كلُّ هذا جعل العصير يصل إلى الثياب.

وما توقَّف "الدائس" حتّى النهاية، لأنَّه جعل "في قلبه" أي عزم عزمًا ولا يتراجع: أتى يوم الانتقام، أي العقاب الكبير للظالم. ولكنَّ الانتقام ليس هدفًا في حدِّ ذاته، بل يبغي تخليص الضحيَّة وافتداءها (ج أ ل). فالربُّ وليّ شعبه ويهتمُّ به. فلن يتأخَّر بعد اليوم.

ويعود في آ5 إلى عاطفة الغيظ (مرَّتين) وإلى الغضب مع فعل ثالث (أ ب و س): سحقتُ وربَّما دستُ. ماذا فعل بهؤلاء الأعداء؟ أسكرهم فما عادوا يقدرون أن يقفوا على أرجلهم. فسال "العصير" الذي يدلُّ هنا على ما عندهم من "مجد داخليّ"، فبقيت لديهم القشور. اعتاد الربُّ أن يستعين بالملك الغريب، بكورش مثلاً كما في إشعيا الثاني. أمّا هنا، فحارب بيده ومدَّ ذراعه. أسقى الأعداء من غضبه، كما أسقاهم من "دمهم"، على ما قرأنا في 49: 26: "وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرون من دمهم كما من خمر عتيقة". أجل، كلُّ عظمة الأمم المتكبِّرة تسقط تحت قدمَيْ الله.

63: 7-14 ألطاف الربِّ اذكر

هكذا نترجم "ح س د"، اللطف الذي يعني الحبّ والرحمة والأمانة. لفظ واسع جدًّا لا يمكن أن نحصره بكلمة واحدة من عندنا. هكذا يتصرَّف الله أبونا. أمّا نحن الأبناء فخطأة. لهذا ينبغي أن نعترف بذنوبنا متذكِّرين إحسانات الله لنا.

ذكر النبيّ ما فعله الربُّ لشعبه في الماضي، لأنَّهم تألَّموا من تأخُّر الخلاص فوصلت بهم الحال إلى حافَّة اليأس. إذا كان الله عمل في الماضي من الأعمال العظيمة، لماذا لا يعمل اليوم؟ وطرح المزمور السؤال: "هل تغيَّرت يمينُ العليّ؟ (77: 10). هل صارت أعماله وعجائبه ذكريات راحت مع الزمن؟ ويتأوَّه المرتِّل: "اللهمَّ، بآذاننا سمعنا، وآباؤنا أخبرونا بعمل عملته في أيّامهم، في أيّام القدم" (مز 44: 2). والآن، يواصل المرتِّل: "لكنَّك رفضتنا وأخجلتنا ولا تخرج مع جنودنا... بعتَ شعبك بغير مال، وما ربحتَ بثمنهم" (آ9، 12). وهنا قال المؤمنون: "أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه؟" (آ11).

هو كلام عن "لطف" الربِّ وإحساناته، عن "الخير الكثير". هذا ما "كافأنا" به الله، أو بالأحرى ما أعدَّه الله لنا. وما الذي دفعه إلى ذلك؟ مراحمه، ألطافه. هو الأب الذي لا يمكن أن يغضب على أبنائه على الدوام. هو الأمّ التي لا تنسى من حملتهم في رحمها. بدا لهم في الماضي أنَّه تنكَّر لهم. والآن يقول: "هم شعبي". اعتبروا أنَّهم لم يعودوا أبناءه؟ والجواب: هم بنون لي حقًّا. نقرأ "ش ق ر" الذي يعني: كذب. وهكذا نقول: هم أبنائي بدون كذب، لا غشَّ في ذلك. فعلى وجوههم سيماء أبيهم وإن علاه بعض "الوحل والطين". عاد الربُّ إليهم في ضيقهم وخلَّصهم.

هنا نقرأ في العبريَّة "ص ر"، خصم، مقاتل. ولكنَّنا نتبع اليونانيّ presbys: موفد، شيخ من الشيوخ. إذًا، ما أوفد الله من عنده إنسانًا، ولا ملاكًا بل "وجهه" (ف ن ي و). أي هو ذاته. بيده خلَّصهم. ثمَّ أربعة أفعال في المعنى ذاته: "افتداهم" كما يفعل الوليّ (ج أ ل) مع قريب لهم، ويدفع الفدية المطلوبة. "رفعهم"  (ن ط ل) بحيث لا يصل أحد إليهم ويهدِّدهم. "حملهم"، كما تحمل الأمُّ طفلها على ما قال هوشع (11: 3). وكلُّ هذا نتيجة المحبَّة (أ هـ ب ت و) والرأفة (ح م ل ت و). ويأتي بعد ذلك من يتحدَّث عن الإله القاسي، الغاضب، المعاقب!

ولكن ماذا كانت ردَّة الفعل عندهم؟ تمرَّدوا على الله كما الطفل يفعل. أغضبوا الله حين مضوا إلى آلهة أخرى. فالربُّ إله غيور لأنَّه يحبُّ كما العريس يحبُّ عروسه. قال عن نفسه: "لأنّي أنا الربُّ إلهك إله غيور" (خر 20: 5)، ولا أرضى أن يشاركني أحد. تحدَّث النصّ عن "روح قدسه" أو كما نقول: الروح القدس. رفضوا الاستماع له والطاعة، فكانت النتيجة أنَّهم تركوا طريق القداسة وجرحوا نفوسهم. عندئذٍ انقلب الحبُّ "عداء" و"حربًا". لا انتقامًا، بل تنبيهًا. ذاك هو المناخ الذي كُتب فيه سفر القضاة: فالعقاب هو نداء إلى التوبة.

عندئذٍ يتذكَّرون. وهذا في الواقع ما حصل. عاد النبيّ إلى زمن موسى وعبور البحر. والله يستطيع أن يفعل الشيء عينه فيُعبر شعبه في البرِّيَّة ويصل بهم إلى أورشليم. هم أغضبوا "روح قدسه"، وما عادوا يتذكَّرون نتيجة الاستماع إلى هذا "الروح" الذي سيَّرهم، شقَّ البحر أمامهم (آ12). أهو موسى الذي فعل؟ كلاّ، لكنَّ روح الربِّ وذراعه. لا كرامة للشعب، بل لمجد الله واسمه. فمجد الله يظهر حين يخلِّص، واسمه يُشهَر حين ترى الأمم أعماله.

63: 15-19 تطلَّع من السماوات

في الماضي نظر الربُّ إلى شعبه في العبوديَّة، في مصر. والآن شعبه يعيش السخرة في بابل. الربُّ هو في السماوات، من هناك يرى كلَّ شيء. أما يرى شقاءهم الحاضر؟ وذكَّر الشعب ربَّه بالغيرة، بالجبروت. هل زالتا؟ بل هما حاضرتان ولكنَّهما لا تفعلان. وإذا كان الله أمًّا، أين لهفته (هـ م و ن) على أولاده؟ على ثمرة أحشائه؟ ومراحمه، ألا تتحرَّك بعد وهو الذي اعتبر نفسه أكثر رحمة من أمٍّ على أولادها؟ والتذكير الأخير، الله هو "أبٌ" لنا، هو "أبونا" نحن. ويتكرَّر القول "أ ب ي ن و". ثمَّ هو "ولي أمرنا"، مفتدينا والمسؤول عنّا. ذاك هو اسم الربّ، فهل تبدَّل؟ كلاّ. فالمؤمن يستطيع أن يناديه في كلِّ وقت: "أنت أبي، أنت إلهي وخالقي ومخلِّصي" (مز 89: 27).

لا اتِّكال بعد اليوم على إبراهيم ولا على إسرائيل أو يعقوب، فنحن مسؤولون أمامك عن مسيرتنا. ولكنَّنا نضلّ، ولكنَّ قلوبنا قاسية. ما نلاحظ هو أنَّ النبيّ يعيد ذلك إلى الله، كأنَّه أوقعهم في الضلال، بسبب "الغضب" الذي يبدو في طريقهم مثل الضباب، فلا يعرفون كيف يتوجَّهون. حسبوا أنَّ الله ابتعد عنهم فطلبوا إليه أن يرجع إليهم. في الواقع، الإنسان هو الذي يبتعد عن الله وهنيئًا له إن رجع. ونلاحظ ضمير المخاطب: الشعب شعبك وإن حصل له ومضى إلى آلهة أخرى. والميراث ميراثك وأنت الذي افتديته من مصر وسيَّرته في البرِّيَّة. ونحن ننتظر أن تواصل اهتمامك بنا.

والوضع الذي يعيش فيه النبيّ، هو زمن العودة من المنفى سنة 538 ق.م. نقرأ فعل "ورث" (ي ر ش و). كما بعد الخروج ورث الشعب الأرض، كذلك بعد العودة. ولكنَّ الميراث في خطر، والمضايقين عديدون. في الماضي "سحقت، دست" (آ6). والآن، هم يسحقون (ف و س س و) يدوسون مقدسك معبدك، هيكلك. لا تنسَ، يا ربّ، زمن المنفى. عند ذاك لم تكن مسلَّطًا علينا، بل غيرك. لم يكن اسمك يُدعى علينا. فهل تبقى بعيدًا عن سمائك وتتركنا وحدنا على الأرض نتخبَّط في صعوباتنا. وجاء الطلب: "ليتك تشقُّ السماوات". ومجيئك يحرِّك الجبال التي تنزل عليها، كما سبق ونزلت على جبل سيناء "فصعد دخانه كدخان الآتون، وارتجف كلُّ الجبل جدًّا" (خر 19: 18).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM