الفصل الرابع والأربعون: بركات الربِّ لشعبه ولمدينته

الفصل الرابع والأربعون

بركات الربِّ لشعبه ولمدينته

كان 43: 22-28، جدالاً في المحكمة بين الربِّ وبني إسرائيل[RK1] . أرادوا أن يتصرَّفوا معه على مثال الفرّيسيّ في إنجيل لوقا الذي أخبر الربَّ بأنَّه يصوم ويعشِّر كلَّ ماله (لو 18: 12): هم قدَّموا له الذبائح وأحرقوا البخور وبالتالي تعبوا في التعبُّد له. كان بإمكان الربِّ أن يقول لهم إنَّه لا يحتاج ذبائحهم، على ما نقرأ في مز 50: "إن جعتُ فلا أقولُ لك، لأنَّ لي المسكونة وملأها. هل آكلُ لحم الثيران، أو أشربُ دمَ التيوس؟" (آ12-13). ولكنَّ الربَّ اكتفى بالقول بأنَّهم أتعبوه بخطاياهم منذ أبيهم الأوَّل، يعقوب، وصولاً إلى الملك وخدَّام الهيكل (1 أخ 24: 5) وأنبياء الكذب. ومع ذلك، غفر الله خطايا شعبه ودعاه ألاَّ ييأس، فوعده بالخلاص (44: 1-5) وبالنموّ وبملء البركة (44: 6-23). أمّا أداة هذا الخلاص فهو كورش (آ24-28).

44: 1-5 والآن اسمع

في الماضي كان العقاب، أمّا الآن فتبدَّلت الأمور. فالعقاب ينقّي الجماعة ولا يدمِّرها. والمحنة تنزع الزغل عن المعدن ولا تفني المعدن. وما اختبره بنو إسرائيل في الماضي من خبرات، هو عربون ما سوف يحصل عليه في الأيّام الآتية. في الماضي كان يعقوب "ح ر م"، مطرودًا نحو اللعنة (43: 28)، فصار الآن "اسمًا وكنية" (44: 5). في الماضي ارتبط يعقوب بالتجديف والشتائم (ج د و ف ي م)، أمّا الآن فيفتخر الناس بهذا الاسم. في 43: 28 كان الدمار المهدِّد لبني إسرائيل الذين تنكَّروا للربّ، أمّا الآن فملء البركة على النسل العائد إلى الربِّ في توبة صادقة.

"يعقوب عبدي" (آ1). لم يعد محرومًا ومبعدًا عن الله ومرميًّا في العالم الوثنيّ. هو القريب من الربِّ، الملتصق به كالقميص على جسم الإنسان: "كما تلتصق المنطقة بحقوي الإنسان، هكذا ألصقتُ بنفسي كلَّ بيت إسرائيل وكلَّ بيت يهوذا" (إر 13: 11). الربُّ اختار "إسرائيل" وما زال على اختياره وإن هو ابتعد عن الله مثل حمامة طائشة (هو 7: 11). ولماذا يتعلَّق الربُّ بشعبه الخائن؟ هو "صنعه"، ألا يندم على صنعته؟ هو "جبله"، كوَّنه في بطن أمِّه، أما يساعده؟ بلى. ويكرِّر الربُّ أنَّه اختاره "يشورون" لكي يكون "مستقيمًا" ويبتعد عن كلّ اعوجاج. فحين يسمع الشعب هذا الكلام، لا يحقُّ له بعدُ أن يخاف، فالماضي مضى والآتي خير وبركة.

مياه على العطاش. فالشعب المارُّ في البرِّيَّة يحتاج إلى الماء، كما يحتاج بالأحرى إلى الحرِّيَّة. مياه تنزل (ن ز ل ي م) على الأرض اليابسة، فيأكل الشعب ويشبع. عندئذٍ يكثر الشعب وينمو بعد أن يحلَّ الروح عليه، كما في بداية الخليقة (تك 1: 2). "فينبتون" (ص م ح). مرَّات ورد هذا الفعل ليدلَّ على الخصب الجديد الذي يمنحه الله على جميع المستويات. هنا نفهم أنَّ النموَّ لا يكون فقط مادِّيًّا، لكن روحيًّا أيضًا، كما في المزمور الأوَّل.

فتبدَّل الانتماء. في أيّام إيليّا، أناس لبعل وأناس ليهوه. في زمن المنفى، أناس لمردوك أمّا المؤمن فيقول: أنا للربّ، ولا يخاف أن يتكنّى باسم يعقوب. والوشم. كانوا يكتبون على يدهم اسم الإله الوثنيّ، فمنعت هذه الممارسة (لا 19: 28). ولكنَّهم الآن يكتبون اسم "يهوه". هم يخصُّون الربَّ ولا يخصّون سواه، إنَّه لشرف كبير لهم وإن بحث غيرهم عن شرفٍ آخر بانتمائهم إلى بابل وإلى إلهها. الأوَّل مردوك. مع الربِّ كثر الشعب بعد أن كاد يفنى. نال الإكرام بعد أن احتُقر احتقارًا. أزهر بعد أن كاد ييبس. كلُّ هذا نعمة من الله.

44: 6-23 محاكمة الآلهة الكاذبة

في قول احتفاليّ، يعلَن الله "الملك والفادي وربّ الجنود". هو سيِّد الكون كلِّه. الأوَّل والآخر. لا مثيل له. من يقف في وجهه؟ هل هناك إله غيره؟ ذاك هو فعل الإيمان الذي ينبغي على المنفيّين أن يردِّدوه، ولاسيَّما حين يرون كثرة الآلهة في بابل. فهذه الآلهة عدم، لاموجودة، والمؤمن لا يخافها حين يشاهد قدرة إلهه. هنا نقرأ "مصوِّر" (ص و ر) بدل "صخرة[RK2] ". هل هناك آخر "صوَّر" المؤمنين[RK3] ولم يعرف به الربّ؟

مع آ9 يبدأ هجاء للأصنام. الله "جبل" (ي ص ر) الإنسان ترابًا من الأرض. وهنا الإنسان "جبل" الصنم. إذا كان "الجابل" "ت هـ و"، خلاء، فماذا يكون الصنم الذي صنعه؟ ماذا ينفع؟ نقرأ فعل "أعال" (ي و ع ي ل و). أي اهتمَّ بمعاش عياله. ذاك ما فعل الربُّ في البرِّيَّة حين أرسل المنَّ والسلوى. والأصنام؟ حين يرى عابدو الأصنام النتيجة تنالهم الرعدة والخزي.

ونتطلَّع إلى صانعي الأصنام (آ12). يعملون في الحديد وفي الخشب، وبسرعة يتعبون. وتصوِّر النبوءة عمل هؤلاء الناس الذين يأخذون بعض الخشب ليوقدوا به النار أو ليستدفئوا، والباقي يصنعون منه صنمًا ويسجدون له، ويصلّون ويطلبون عونه (آ17).

إنَّ تعلُّقهم بالآلهة الكاذبة يمنعهم من أن يفهموا ويتبيَّنوا الأمور: لا عيونهم ترى، ولا قلوبهم تعقل. هنا نتذكَّر ما قاله بولس الرسول: "زاغت حقولهم وملأ الظلام قلوبهم الغبيَّة. زعموا أنَّهم حكماء فصاروا حمقى" (رو 1: 21-22). هذا الإله الذي عبدوه، يحترق فيصير رمادًا، أما يحسّون أنَّهم في عالم الضلال والكذب؟ لا شكَّ في أنَّ هؤلاء الناس يعرفون أنَّهم لا يعبدون الحديد والخشب، بل هم يمثِّلون إلههم بمثل هذه الأشياء. وتقول الرسالة إلى رومة[RK4] : "استبدلوا بمجد الله الخالد صورًا على شاكلة الإنسان الفاني والطيور والدواب والزحّافات" (آ23).

كلُّ هذا الهجاء درس لبني إسرائيل (آ21). يتذكَّرون أنَّ هذه الآلهة ليست بشيء، ومن تعلَّق بها تعلَّق بالكذب والعدم. والمؤمن الذي يتبع الأصنام ينسى الإله الواحد: ينسى أنَّه "عبد الربّ"، أنَّ الربَّ جبله فارتبطت حياته بحياة إلهه. فهل يربط حياته بالأصنام ويتبع المتعبِّدين لها، فيكون مثل الأكثريَّة التي يعيش في وسطها؟ يقول المثل الدارج: "إن رأيتَ الناس يعبدون العجل، خذ الحشيش وأطعمه". وقيل: "بين العور (جمع أعور) ضع يدك على عينك". أهكذا يكون المؤمن في العالم؟ قال لنا الربّ: "أنتم في العالم ولكن لستم من العالم" (يو 15: 19). إذا أردتم أن يحبَّكم العالم فاعملوا أعماله. أمّا إذا اتَّبعتم يسوع فالعالم يبغضكم. أتريد أيُّها المؤمن أن تكون شاهدًا للمسيح، فتطلَّع فيه دون غيره، ولا تبحث عن المنافع المادِّيَّة على حساب إيمانك.

الغفران جاء سريعًا مثل السحاب الذي يزيله حرُّ الشمس. فلا يبقى للشعب المؤمن سوى العودة إلى فاديه، وبالتالي العودة إلى أورشليم وإلى حبِّ الربِّ لها. عندئذٍ ينطلق الترنيم والهتاف من الخليقة كلِّها: السماوات، أسافل الأرض، الجبال، الأشجار... نال يعقوب الفداء فشاركت هي في الفداء.

خرجت الآلهة الكاذبة في نهاية المحاكمة في الخزي والعار، وانتصر الربُّ، الملك والفادي، الذي غفر لشعبه وأعاده إلى خدمة أمينة وشهادة لا تهاب أحدًا. فهو سيِّد المسكونة وربُّ القوى الكونيَّة. هو مبدأ التاريخ ونهايته، حيث تدخل جماعة المفديّين فتنشد نشيدًا تشارك فيه الخليقة كلُّها.

44: 24-28 الله يقدِّم عبده كورش

الفشل لأهل الأصنام، والخلاص لبني إسرائيل. وأداة هذا الخلاص كورش الملك الفارسيّ. فالربُّ الذي يوجِّه الكون، الذي يسود على كلِّ شيء وعلى كلِّ إنسان، يسود أيضًا على كورش. ومع أنَّ هذا الملك جهل الربّ، إلاَّ أنَّ الربَّ استعمله من أجل مقاصده تجاه شعبه وتجاه الكون: جعله ينتصر وأزال من أمامه كلَّ الصعوبات.

"فاديك". هذا ما يكرِّره الربّ. ثمَّ "جابلك". قدرته لا حدود لها: صنع كلَّ شيء. السماء نشرها، والأرض بسطها، كما الإنسان يفعل في بيته. لا صعوبة أمامه، ولا يحتاج إلى أحد. قال: من معي؟ من يكون لديّ، بقربي؟ ما قيمة العرّافين والحكماء؟ هم جهّال تجاه الربّ. لا يعرفون شيئًا ممّا سوف يصنعه.

"عبده" (كورش) تكلَّم، والربُّ يقيم كلمته. رسله ارتأوا، وهو يُنجح رأيهم ويتمِّمه. كانت أورشليم مدمَّرة، سيسكنها الناس فتكون عامرة. مدن يهوذا كانت خرابًا، سوف تُبنى. لن تبقى تحت الأنقاض، بل تقوم. من يجسر أن يقول هذا الكلام حين يمرُّ في أرض يهوذا ويعاين الحالة التي تعرفها أورشليم؟ وحده المؤمن. وحده النبيّ الذي دخل في سرِّ الله، فأعلن كلمته: "هكذا يقول الربّ". وحين يقول يفعل. لا في أرضه وحسب، بل في كلِّ مكان.

يأمر اللجَّة والأنهار فتطيعه، ولا يبقى فيها ماء. ويأمر كورش أيضًا فيطيعه. لأوَّل مرَّة يُذكر هذا الملك باسمه. وسوف يُذكر فيما بعد. هو "الراعي". فالراعي يستعين بملك وثنيّ بعد أن غاب الملك الداوديّ. كورش يعمل إرادة الربّ وهي إعادة بناء أورشليم وتأسيس الهيكل (آ28). تلك هي مسيرة الله ورضاه. أمّا ملك يهوذا، صدقيّا، فكان السبب في دمار أورشليم وحريق الهيكل، بعد أن رفض السماع لكلمة النبيّ إرميا.

عبد الربِّ هو كورش. ورسله هم موفدوه وقوّاده. هم يتمّون مسرَّة الربِّ من دون أن يدروا. وعبد الربِّ هو ذلك "الشخص السرّيّ[RK5] " الذي هو الصورة البعيدة عن يسوع السميح. ورسله هم أوَّلاً الأنبياء بانتظار الرسل الاثني عشر. وإذا كان الهيكل الجديد هو جسد الربّ (يو 2: 21)، ففي أساس أورشليم يكون الرسل الاثني عشر، ويسوع رأس الزاوية. فهو الذي أتمَّ مشيئة الآب على أكمل وجه وهو الذي قال عن نفسه: "والآب الذي أرسلني هو معي، لأنّي في كلِّ حين أعمل ما يرضيه" (يو 8: 29)، ما يسرُّه.

 


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM