الفصل الثالث والأربعون : مخلِّص الشعب هو الإله الرحوم

الفصل الثالث والأربعون

مخلِّص الشعب هو الإله الرحوم

كانت مواجهة بين الله وشعبه، فبيَّن الربُّ خطايا شعبه التي قادته إلى الدمار. ولكنَّ الدمار ليس الكلمة الأخيرة، بل البناء والخلاص. أقرَّ الشعب فقال: أخطأنا (المتكلِّم الجمع، نحن). ثمَّ عاد إلى الغائب الجمع وكأنَّ النبيّ يذكِّر المنفيّين بخطاياهم، "لم يشاءوا، لم يسمعوا". بل يذكِّر كلَّ واحد في صيغة الغائب المفرد: ما عرف، ما أمال قلبه، لأنَّه ما أراد. كلُّ هذا صار من الماضي، أمّا "الآن" (و ع ت ه). رج 43: 1. في الماضي، النار أوقدت، أحرقت، صارت الحجارة كالكلس، أمّا الآن فتبدَّل كلُّ شيء (43: 2). في 42: 25، قرأنا فعل "ل هـ ط" الذي يعني في العامِّيَّة: التهمه وأكله بسرعة. في 43: 2، نقرأ "ل هـ ب" أي اتَّقدت النار واشتعلت وتركت وراءها الرماد. الآن النار لا تلذعك، لا تكويك (ت ك و ه). ثمَّ إنَّ "اللهيب لا يحرقك". في الماضي، النار أحرقتْك. هو الفعل عينه "ب ع ر" كم تبدَّل الوضع! في الماضي كنت بعيدًا عن النار فأحرقتك. والآن، تمشي في النار فلا تحرقك. ما الذي حصل؟ الله يمنع عنك اللهيب كما منعه عن الفتية الثلاثة في الأتون (دا 3: 27). وأخيرًا، في الماضي كان الشعب جماعة من الصمّ والعميان (42: 18)، أمّا الآن فالربُّ أعطى لهم الآذان والعيون (43: 8).

هكذا قرأنا 43: 1-8 في امتداد 42: 18-25 كدرفتين[RK1] في نافذة واحدة. وما الذي كان سبب التبدُّل؟ تدخَّل الله الذي "خلق" (ب ر ا) الكون بكلمته، الذي "جبل" (ي ص ر) الإنسان من تراب الأرض، الذي "افتدى" (ج ا ل) شعبه المأمور في بابل، الذي "دعا" (ق ر ا) المسبيّين، كلَّ واحد باسمه، وقال له: "أنتَ لي". أنت ابني. أنت ابنتي. فكيف يتنكَّر الأب لأولاده! هذا مستحيل. هو لا يدعو "حشدًا من الناس"، بل البنين والبنات بأسمائهم. وقال: "لا تخف". ذاك ما قال لإبراهيم (تك 15: 1)، وقاله للمنفيّين. ويقوله لكلِّ من أضاع الطريق إليه. يقول الربُّ للمؤمن: "أنتَ لي". فيجيب المؤمن: "أنا لك" (مز 119: 94).

والأخطار؟ المياه، الأنهار، النار، اللهيب. المؤمن لا يخاف. والأساس كلام الربّ: "أنا معك" (آ2). أنا "إلهك". هي علاقة خاصَّة. فيجيب المؤمن: "أنت إلهي" (مز 31: 15). ثمَّ أنا "مخلِّصك". وتذكَّر العبرانيّون أنَّهم مرّوا في البحر"، كما عبروا "البرّيَّة" المحرقة (عد 11: 1-3، تبعيرة). ولكن كيف افتدى الله شعبه، وما كانت الفدية؟ مصر بشمالها وجنوبها. نتذكَّر هنا أنَّ قمبيز الفارسيّ احتلَّ مصر سنة 525 ق.م. وفرض الجزية على كوش وسبأ. أمّا يهوذا فكانت يدُ كورش خلاصًا له.

والسبب؟ محبَّة الربِّ الذي أكرم شعبه ومجَّده، وكلُّ هذا بعطيَّة مجّانيَّة (آ4). إذًا، لا مجال للخوف بعدُ. وها قد بدأ عمل الله يأتي ثماره حين يدعو المشتَّتين من أربعة أقطار الكون ويجمعهم حوله. وما نلاحظ هنا أنَّ الربَّ يطلب "البنين والبنات"، لا البنين وحدهم. في الماضي، كانت البنات سبايًا يمتلكهنَّ الرجل ولا يعدن إلى بيوتهنَّ.

"من دُعيَ باسمي" (آ7). أي هم شعبي. وتعود الأفعال التي تدلُّ على الخلق: خلق، جبل، صنع. فأنا مسؤول عنهم. فهم "مجدي"، بمعنى أنَّ الإنسان العائش بحسب وصايا الربِّ يمجِّد الربّ. وهكذا يفتدي الربُّ شعبه من الأسر، ويجمع المشتَّتين، ويعيد السمع إلى الصمِّ والنظر إلى العميان. فإذا أراد الشعب أن يرى، يكفي أن يفتح عينيه. وإذا أراد أن يسمع، يكفي أن يفتح أذنيه، أي يتقبَّل كلام الربِّ ويسير في هديه. فعلَ النبيُّ هنا الكثير ليردَّ على اعتراضاتهم ولينعش الرجاء في قلوبهم. فإن سمعوا كانوا الشهود للإله الحقيقيّ في خطِّ "عبد الربّ" الذي اختاره الله وجعل فيه روحه وأرسله إلى الأمم.

43: 9-21 اجتمعوا يا كلَّ الأمم

في إطار من المحاكمة، يكون الجدال كما من قبل. في 42-43، بين الله وشعبه. وهنا، بين الله والأصنام. أوَّلاً (آ9-13). يبدأ الله ويتَّهم الآلهة الكاذبة. ثانيًا (آ14-21) يعلن الربُّ الخلاص على دفعتين، وفي كلِّ مرَّة: هكذا يقول الربُّ (آ14-15، 16-21). وفي نهاية الإعلان الثاني، تتحوَّل البرِّيَّةُ دلالةً على تحوُّل الإنسان في الاقتراب من الله.

يدعو الربُّ الشعوب لكي "يدافعوا" عن آلهتهم: من أخبر بالأمور الآتية؟ أي خلاص الأسرى من "الجحيم البابليّ". وإن تكلَّمت الآلهة، فمن يجسر أن يقول: صدَّقوا، قالوا الحقيقة (ا م ت). الأمم يشهدون لآلهتهم.

والشعب الأمين يسمعون الله يقول لهم: "أنتم شهودي". يشهدون لله بحياتهم، بارتباطهم بالربِّ دون غيره، بالابتعاد عن الأصنام وعابديها. وقد يصبح الشهود شهداء فتصل بهم شهادتهم إلى الموت. وما يقال في أيّام هذه النبوءة الإشعيائيَّة يمكن أن يقال اليوم. ومن يمثِّل شهود الربّ؟ "عبدي الذي اخترتُ" (آ10). نتذكَّر هنا أنَّ الفرد يمثِّل الجماعة، والجماعة تجد نفسها في الفرد. مثلاً حين نقول "يعقوب" نعني القبائل الاثنتي عشرة. وحين نقول "آدم" نعني البشريَّة كلَّها. وهنا حين نقول "عبد الربّ" نعني جماعة المنفيّين الذين يستعدُّون للعودة إلى أورشليم وبالتالي إلى الربّ. ويأتي فعل الإيمان بالإله الواحد، مع ثلاثة أفعال: عرف، آمن، تبيَّن أو فهم. "ا ن ي. هـ و ا" أي أنا من كان والكائن. أنا هو الحاضر. لا إله قبلي ولا إله بعدي. صُنعت آلهة كثيرة في الماضي، وتُصنَع في المستقبل ولكنَّها ليست بآلهة. نقرأ في هذا المجال ما قاله بولس الرسول إلى أهل كورنتوس: "هناك كثير من هذه الآلهة والأرباب، أمّا نحن فلنا إله واحد وهو الآب، الذي منه كلُّ شيء وإليه نرجع، وربٌّ واحد وهو يسوع المسيح، الذي به كلُّ شيء وبه نحيا" (1 كو 8: 6).

ويأتي القول الأوَّل (آ14-15) مع العبارة: "هكذا يقول الربّ". هو يرسل حملة على بابل. هو الفادي والقدّوس. هو الملك، ولا يقف أحد في وجه إرادته. هؤلاء الأقوياء "يبارحون" (ب ر ي ح ي م) المكان، يهربون على السفن التي اعتادوا أن ينطلقوا عليها وهم يُنشدون. هذا يتضمَّن أنَّ الانطلاقة الحاضرة يرافقها البكاء والحزن.

والقول الثاني (آ16-21) يذكِّر المؤمنين بما فعل الربُّ في الخروج الأوَّل. ظنَّ بنو إسرائيل أنَّ ما صُنع حينذاك لا يمكن أن يكون مثله: طريق في البحر وسط المياه التي لا تقدر أن تقاوم الله، كما لا يقاومه الجيوش مهما كثروا. ناموا فما قاموا. أتوا مثل النار ولكنَّهم خمدوا سريعًا مثل فتيلة انطفأت. مثلُ هذا التذكُّر ينعشُ الأمل ويحرِّك الرجاء (63: 11-14: أين الذي أصعدهم...). ولكنَّه قد يترك الإنسان يحنُّ إلى الماضي ويبقى فيه دون أن يتطلَّع إلى الأمام. غير أنَّ الربَّ لا يكرِّر اليوم ما فعله في الماضي، بل هو يخلق "الجديد". لهذا قال لشعبه: لا حاجة إلى أن تتذكَّروا الأمور القديمة (ق د م)، بل انظروا إلى الجديد الذي بدأ يبرعم منذ الآن، مثل نبتة غرسها الربّ.

وتعود الصورة الفردوسيَّة التي اعتدنا عليها عند إشعيا: طريق في البرِّيَّة، في الصحراء. والنهر يحاذيكم. أتراهم ساروا في طريق العودة بموازاة الفرات، نحو الشمال، مثل إبراهيم الذي انطلق من أور في الجنوب، إلى حاران في الشمال (تك 11: 31)؟ تبدَّلت البرِّيَّة بالمياه التي جرت فيها، فشبع الوحش الذي "مجَّد" الربّ. فماذا يفعل الشعب والمياه جُعلت له في الدرجة الأولى، بسبب العلاقة بينه وبين ربِّه: هو شعبي أنا، هو مختاري أنا. كم مرَّة يرد الجذر "ب ح ر"، اختار، مختار. وحين يختار الربُّ فهو يخلق الشعب كما يخلق الإنسان من أجل مهمَّة يقوم بها. ويواصل الربُّ مع فعل "ي ص ر": جبل الربُّ شعبه وجعل فيه نسمته كما فعل في البدء حين جبل الإنسان من تراب الأرض (تك 2: 7). هذا الشعب يهلِّل للربّ، يسبِّحه، يروي مآثره وسط الشعوب لكي يكتشف الجميعُ المخلِّص ويحبّوه.

43: 22-28 وتتواصل الدعوى

ظنَّ بنو إسرائيل أنَّ الله مديون لهم: قدَّموا له الذبائح العديدة، خدَّروه بالبخور. فلماذا لا يهتمُّ بهم؟ لماذا يتركهم في أرص سبيهم ولا يعيدهم إلى أرضهم، إلى أرضه؟ ردَّ الربُّ عليهم فذكَّرهم بخطاياهم. من هو المديون للآخر، الشعب أم الله؟ من أمَّن لهم الطعام في البرِّيَّة بقيادة موسى؟ من منحهم الشراب لئلاَّ يموتوا عطشًا؟

"دعوتَ". يعقوب أي القبائل الاثنتي عشرة دعَتِ الربَّ إلى الطعام، أعدَّتْ له، تعبت، أتت له (هـ ب ي ا ت) بالمحرقات... واعتبروا أنَّهم مجَّدوه، تعبَّدوا له...

وكان الجواب القاسي في آ24: القصب المعطَّر هو عطيَّة من الربّ، والشعب ما اشتراه. والذبائح؟ حسب المؤمنون أنَّ الربَّ "استعبدهم"، استخدمهم (ع ب د)، فإذا هم أرادوا أن "يستعبدوه"، أن يستغلّوه، كما يستغلُّ الوثنيّون أصنامهم. يا لها من عبادة! حسبوا أنَّ الربَّ أتعبهم، فردَّ أنَّهم هم الذين أتعبوه بخطاياهم وآثامهم.

ولكنَّ الله لا تغلبه الخطيئة، بل يغلبها بحبِّه حين يغفر. فالربُّ وحده يقدر أن يمحو الخطايا لا بالنظر إلى ما يفعله البشر، بل بالنظر إلى ما هو في ذاته. غفرانه نعمة وعطاياه مجّانيَّة.

وبعد أن قال الربُّ إنَّه لن يذكر "الخطايا"، استعاد هذا الفعل "ذكِّرني" (آ26)، أي أعِدْ إلى ذاكرتي وتعالَ معي إلى المحكمة، إلى القضاء (ن ش ف ط ه). قدَّم إسرائيل "اتِّهاماته" على الله، كما ذكر "أعماله الصالحة" التي عملها له ولاسيَّما الذبائح التي قدَّمها. فردَّ الربُّ وذكَّر الشعب بخطاياه: أبوك الأوَّل، أي يعقوب (تك 25: 26؛ 27؛ 36؛ هو 12: 4)، وصولاً إلى "الوسطاء" الذين يعتبرون نفوسهم مفسِّرين للشريعة: الكهنة الأردياء والأنبياء الكذبة. ماذا فعل الربُّ بهؤلاء الذين اعتبروا نفوسهم سلطة مقدَّسة؟ "دنَّسهم" حين سلَّمهم إلى الوثنيّين الذين يُعتبَرون أنجاسًا في نظر اليهود. ثمَّ سلَّمهم "للحرم" أي لأن يُقتلوا في الحرب المقدَّسة، فاحتقرهم الغرباء وجدَّفوا عليهم.


[RK1]قد تكون هذه الكلمة غير معروفة لكل القراء العرب؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM