الفصل الخامس والثلاثون: السعادة في الأزمنة المسيحانيَّة

الفصل الخامس والثلاثون

السعادة في الأزمنة المسيحانيَّة

الدمار والخراب، القتل والذبح. ولكنَّ الصحراء تتحوَّل إلى الفردوس بعد أن يمرَّ الربُّ فيها. فالله لا يدمِّر إلاَّ ليخلُق من جديد. وإن هو أزال الشرَّ فلأنَّه يتطلَّع إلى عودة الشعب من أجل الحياة. وهكذا يقابل ف 35 ما قرأنا في ف 34: تجاه أدوم التي صارت صحراء، لأنَّها رفضت الربّ، تحوَّلت الصحراء التي يمرُّ فيها العائدون من السبي. هذا ما يعدُّ الطريق للقسم الثاني من النبوءة الإشعيائيَّة (ف 40-55). كلُّ هذا يدعو الذين فداهم الربّ إلى الفرح. أربع قطع شعريَّة في هذا الفصل.

35: 1-4 تفرح البرِّيَّة

دعوة إلى الفرح بعد الحزن الكبير. والبرِّيَّة هي أوَّلاً أرض يهوذا. ثمَّ الصحراء التي يمرُّ فيها المنفيّون. كانت الأرض "قفرًا". أزهرت بالنرجس. وتكرَّر الكلام: أزهرت إزهارًا. ابتهجت ابتهاجًا. قلبُ المؤمنين امتلأ بحضور الربّ، وها هو يعبِّر عن هذا الفرح بالكلام عن "الربيع" الآتي بأوراقه التي تفرخ (ف ر ح) وتزهر. ونلاحظ أنَّ "البرِّيَّة" صارت "شخصًا" يفرح، يبتهج، يرقص. أجل، الطبيعة تدعو المؤمنين إلى مشاركتها في تمجيد الربّ (مز 19: 1ي). وكيف التعبير عن هذا "المجد" (ك ب و د)؟ بالجمال الذي يحيط بفلسطين: جبل لبنان بأزره الأخضر، والكرمل الذي يعني الجنَّة، وشارون (أو: السهل الساحليّ) المعروف بغاباته واخضراره الواسع. رج 33: 9 وما كانت الحالة عليه من قبل (لبنان، الشارون، الكرمل). يغيب الله فتزول البركة ويتحوَّل الفردوس إلى برِّيَّة ينبتُ فيها الشوك والعوسج. يحضر الله فتصبح البرِّيَّة فردوسًا وجنَّة غنّاء.

البرِّيَّة صورة عن الإنسان. هي عادت إلى سابق رونقها، فماذا ينتظر الإنسان لكي يتحوَّل؟ "الأيادي مسترخية، الركب مرتعشة، متعثِّرة". يرد فعلان: ح ز ف: شدَّد. "أ م ص" ثبَّت. ويعود فعل "شدَّد للمتسرِّعين (م هـ ر)، للمذعورين الذين لا يعرفون كيف يتصرَّفون بسبب الخوف (ت ي ر أ و). وكيف لا يخافون وصورة العدوِّ وأعماله ما زالت ماثلة في الأذهان؟ لأنَّ الربَّ هو هنا. يبعد العدوّ ويجازيه بما يستحقُّ ويحمل إليكم الخلاص (ي ش ع ك م). نلاحظ أنَّ الفعل يذكِّرنا "بيسوع" (ي ش و ع، في العبريَّة) الذي يخلِّص شعبه من خطاياهم (مت 1: 21). وقد بدأ خلاصه قبل أن يأتي على الأرض بواسطة الذين أُرسلوا قدَّامه يهيِّئون له الطريق.

35: 5-7 العيون والآذان تُفتَح

الربُّ يأتي وترافقُ المعجزات مجيئه: العميان يرون، الصمّ يسمعون. "ف ق ح". ثمَّ "ف ت ح". العيون ترى خلاص الربّ. كانت عمياء، مغمَّضة. والآذان تسمع نداء الربّ، كما البرِّيَّة سمعَت (34: 1). الأعرج يقفز لا قفزة بطيئة، بل مثل الغزال، مثل الأيِّل. والأخرس لا يكتفي بأن يتكلَّم، بل ينشد، يرنِّم. يصبح صوته جميلاً.

هذا الكلام استعاده الإنجيل لكي يتحدَّث عن معجزات يسوع. ما كان تمنِّيًا عند إشعيا، صار حقيقة وواقعًا مع يسوع (مت 11: 5). سأل يوحنّا المعمدان إن كان يسوع هو ذاك الذي يجيء أو أنَّه يجب أن ننتظر آخر (آ3). ماذا فعل يسوع؟ ردَّد نبوءة إشعيا وطلب الإيمان (آ6). أمّا الأعرج الذي يقفز، فصار حقيقة حين شفى بطرس ذاك الذي كان عند الباب الجميل. قيل عنه أخذ "يطفر مثل الغزال" (أع 3: 8).

معجزة لدى البشر، ومعجزة في الطبيعة: المياه في البرِّيَّة، في القفار. هل هذا يصدَّق؟ ولسنا أمام مطر بسيط: هو الفعل: "انفجر". الله يفجِّرها، فيجعلها تجري مثل "الأنهار" (ن هـ ر ي م). نتذكَّر أنَّه وُجد في الفردوس أربعة أنهار (تك 2: 10) تصل إلى أربعة أقطار الأرض. لا وجود بعدُ "للسراب" وما فيه من خداع: يحسُّ الماشي في الصحراء أنَّ هناك ماء وليس ماء. فالأرض تحترق من شدَّة الحرّ. مضى الحريق وحلَّ محلَّه "أ ج م"، أي الشجر الكثير الملتفّ. ممَّا يعني أنَّ الأرض مرويَّة. لا مجال بعدُ للعطش والموت في الصحراء. "فالمعطشة" صارت "ينابيع" (م ب و ع ي) ماء. هذا ما نقرأ أيضًا في مز 84: وادي الجفاف (بكأت البئر، لا فعل "بكى") صار "عيون ماء"، بل "بِركًا" يغمرها المطر.

يمرُّون ويقولون: هنا كانت الذئاب أو بنات آوى، بسبب الجفاف. أمّا الآن، فالمياه حوَّلت كلَّ شيء: الاخضرار، القصب وخصوصًا البرديّ الذي لا ينمو إلاَّ في المياه الكثيرة.

35: 8-10 طريق القدس

ضاعت الطريق في الصحراء. ولولا سحاب الربِّ في النهار وناره في الليل، لما استطاع العبرانيّون أن يسيروا في البرِّيَّة. أمّا الآن، فالطريق هي هنا مع "السكَّة" (م س ل و ل). يستطيع المؤمنون أن يعودوا إلى المدينة المقدَّسة، لا بشكل هروب، بل بشكل حجّ والله يسير في المقدِّمة. هي طريق القداسة. لهذا يُستبعد عنها النجسون (ط م ا)، أولئك الذين تنقصهم الاستعدادات المطلوبة للمشاركة في هذه المسيرة. هي طريق سالكة (هـ ل ك. د ر ك). حتّى "الأغبياء" (ا و ي ل ي م) لا يمكن أن يتيهوا.

ولا خطر في هذه الطريق. هي آمنة، سالكة. لا أسد، لا وحش مفترس. في المعنى المادِّيِّ، كما في المعنى الرمزيّ: إذا كان الربُّ يفتح الطريق، فمن يجسر أن يقف في وجهه. ووراء الربّ يسير "المفديّون". اللفظ الأوَّل "ج أ ل". هو الذي يتولّى أمر قريبه، يفتديه إذا وقع في الأسر، ويستردّ له أرضًا خسرها. وفي أيِّ حال، يدافع عنه. فالقريب مسؤول عن قريبه، والربُّ مسؤول عن شعبه. واللفظ الثاني "ف د ه"، فدى قريبه من الأسر أي استنقذه بمال أو سواه. أمّا الربُّ فلا يحتاج إلى "المال"، بل هو افتدى شعبه بقدرته: بيد قديرة وذراع ممدودة، كما في مسيرة الخروج.

والمناخ هو غير ذاك الذي عُرف من قبل. لا مجال بعد للحزن والنواح (ا ن ح ه) والتنهُّد، بل الفرح الذي يتكرَّر، ثمَّ السرور أو البهجة، وأخيرًا الترنيم.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM