الفصل الثاني والثلاثون : مملكة البرّ والعدل

الفصل الثاني والثلاثون

مملكة البرّ والعدل

في إطار الوضع الصعب الذي عاشته مملكة إسرائيل حتّى دمارها، والذي يهدِّد مملكة يهوذا، يتطلَّع النبيّ إلى مستقبل مثاليّ يفهم فيه الرؤساء مشروع الله، ويعيشون التضامن مع الشعب ولاسيَّما البؤساء منه، والويل لمن يحسب نفسه بأمان لأنَّ الكارثة آتية. نقرأ هنا أربعة مقاطع: مملكة مثاليَّة (32: 1-5). كلام الحكماء (آ6-8). إنذار للنساء المترفات (آ9-14). السلام ثمرة العدالة (آ15-20[RK1] ).

32: 1-5 بالعدل يملك ملك

ملكٌ كامل (آ1). فالملك والرؤساء يمارسون العدل والحقّ(آ16). هما صفتان خاصَّتان بالملك المسيحانيّ عند إشعيا. وهذا الكمال في إدارة الدولة أنتج الأمان والاطمئنان. وتأتي الصور: إن جاءت الريح يكونون "مخبأ" (م ح ب ا). وإن أطلَّ السيل الجارف، يسترون الضعفاء. وإن ضربت الشمس بحرِّها، يظلِّلون مثل صخرة عظيمة (مز 121: 6: "لا تؤذيك شمس النهار). هي الحماية، وهي البركة مع "سواقي المياه" التي تجري في أرض مجدبة (آ2).

عندئذٍ تظهر المعجزة التي طالما تمنّاها النبيّ: كانت العيون مغلقة عيون الرؤساء، وها هي ترى. كانت الآذان رافضة، آذان سامعي النبيّ، وها هي سامعة، مصغية. نُزع الغشاء فاستعدَّت يهوذا للخضوع لله والطاعة. "القلب" هو مركز الفكر والإرادة. لا يعود "يتسرَّع" فيمضي إلى مصر دون أن يفكِّر بما تكون النتيجة: يحاول أن يتبيَّن الأمور، أن يعرف. ومعرفته يكون مصدرها الربّ. "واللسان" الذي "يلعج"، يتلعثم، سوف يصبح فصيحًا، ممّا يجعله لا يتردَّد (كما يقول اليونانيّ) فينشد عظائم الله في شعبه.

لا مجال بعدُ للكذب، للتملُّق: هل الغنيّ الأحمق يصبح شريفًا؟ لن يكون بعدُ. وهل يقال للماكر: أنت نبيل! كلُّ هذا مضى إلى غير رجعة. كانت الفوضى فحلَّ النظام وعرف كلُّ إنسان موقعه فما أخذ صفة ليست له.

32: 6-8 الأحمق، الماكر

أعلن إشعيا أنَّ الربَّ وضع في صهيون حجر زاوية يمكن أن تستند إليه أورشليم، مسح ملكًا جديدًا القاعدة فيه الحقّ والعدل. وها هوذا الملك انطلق مع السعادة التي يحمل إلى الشعب. ذاك كان الوضع مع بداية حكم حزقيّا، كما في بداية كلِّ حكم في المجتمع. ولكن توالت الخيبات الواحدة بعد الأخرى. لهذا، جاء تعليق الحكماء.

"الأحمق" (آ6، ن ب ل، رج 1 صم 25: 1ي وشخص نابال)، هو من يكدِّس الخطأ فوق الخطأ. لا يكتفي بأن يتكلَّم بالحماقة (ن ب ل ه). وضدّ من؟ ضدّ الربّ! فرأيه غير رأي الربّ. والأسوأ هو أنَّه يضع حماقته في موضع العمل. يصنع الإثم (أ و ن) والنفاق أو الفجور: على المستوى الخارجيّ في الذهاب إلى مصر مع أنَّ الربَّ جاء بشعبه من مصر التي لا يمكن أن تكون إلاّ أرض العبوديَّة و"أتون الحديد" (تث 4: 20). وعلى المستوى الداخليّ، يمنع الطعام عن الجائع والشراب عن العطشان، الظامئ (ص م ا). يا للخطيئة الكبيرة! فالدينونة تكون على مستوى هذه الأعمال البسيطة. قال الربّ: "كنتُ جائعًا فأطعمتموني وعطشانًا فسقيتموني... تعالوا يا مباركي أبي". ثمَّ قال: "كنت جائعًا فما أطعمتموني... امضوا يا ملاعين إلى النار الأبديَّة" (مت 25: 31ي).

و"الماكر" أو "اللئيم". يظهر شرُّه خصوصًا في القضاء: شهادة الزور على البائس والمسكين. مثل هذا "الرئيس" يهدم المملكة المثاليَّة التي يريد الربُّ أن يبنيها. الأحمق افترى على الربّ وما اهتمَّ لوصاياه في محبَّة القريب. والماكر عوَّج القضاء. تجاه هذين الشرّيرين، الشريف (ن د ي ب)، الكريم، هو نبيل في أفكاره، نبيل في أعماله. ماذا يختار الإنسان؟ حياة المكر واللؤم أو حياة النبل والكرم. ولكن هذا المتكلِّم بالحكمة لا يقول شيئًا عن دينونة الله، بل يكتفي أن يقدِّم صورتين.

32: 9-14 كلام إلى النساء

حين يسيطر الظلم فيزداد الغنيّ غنى والفقير فقرًا، حين يظهر الغنى والترف أمام أناس لا يعرفون كيف يكون غدُهم، ماذا تكون النتيجة؟ انقلاب الحالة انقلابًا تامًّا.

"أيَّتها النساء". في معنى أوَّل، نتذكَّر "نساء السامرة" اللواتي تحدَّث عنهنَّ النبيّ هوشع ونعتهنَّ بأبشع النعوت (هو 4: 1ي). وفي معنى ثانٍ، نساء كلِّ مجتمع يعشن في البذخ، ولا يبالين بشيء: استراحة، اطمئنان، ثقة. سبق إشعيا وتكلَّم عن "بنات صهيون" (3: 16ي). ولكنَّ العقاب لم يكن كبيرًا: انتقال من الجمال إلى البشاعة، من الضفائر إلى القرع والرأس الذي حُلق شعره. أمّا هنا فالعقاب يكون كبيرًا: كارثة وطنيَّة. هذا يدعونا لأن نرى في هؤلاء النساء صورة عن الشعب ورؤسائه. فحين نقول "بنت صهيون"، فنحن نعني الشعب. وهكذا الأمر بالنسبة إلى هؤلاء النسوة: يمثِّلن الأغنياء في أورشليم، الذين لا يعرفون ماذا ينتظرهم.

"اسمعن، امضين". هذا إذا أردن السماع (آ9). وتأتي الضربة القاسية: بعد سنة وبضعة أيّام (29: 1). ماذا يكون العقاب؟ الرجفة، الرعدة. والجوع آتٍ بسبب الجفاف، فلا قطاف عنب ولا جمع غلَّة. أو بسبب الحرب. يغيب الفرح وتحلُّ محلَّه علامات الحداد.

"القصر هجر". أين الملك؟ مضى إلى السبي أو هرب. الرؤساء تركوا المدينة. كانت البهجة فيها، فحلَّ الشوك والحسك. هو خراب تام. "عوفل" أي موقع صهيون القديمة، صار أرضًا موحشة.

ماذا بقي من المدينة والسكّان؟ ماذا بقي من حياة الغنى التي تستخفّ بالفقراء؟ ذاك ما حصل للسامرة سنة 722-721. وهذا ما يمكن أن يحصل لأورشليم إن هي لا ترجع إلى الربّ. ولكنَّ الربَّ لا ينتظر رجوع الخاطئ بل هو لا يستطيع أن ينتظر لأنَّ أحشاءه أحشاء أمّ. لهذا فهو يتدخَّل.

32: 15-20 الربُّ يسكب روحًا من العلاء

صرنا مثل الموتى. فلا بدَّ من خلقنا من جديد، والروح هو الذي يفعل كما في البدايات: "وكان روح الله يرفُّ على المياه" (تك 1: 2). كما العصفور يرفُّ على بيضه، فيخرج منه الحياة. وهنا حلَّ الموت والدمار في المدينة وفي أقدس موضع فيها، فجاء الروح وقلبَ الأمورَ رأسًا على عقب: "صارت البرِّيَّة (الصحراء) بستانًا، روضة" (كرملاً). وتجاه ذلك "البستان يصبح وعرًا"، بسبب كبريائه. ولكن في البستان كما في الغابة (ي ع ر) يكون الحقّ والعدل. والثمر يكون السلام والسكون والطمأنينة.

حيث كان البستان أي أشور ونينوى، تأتي الضربة، يأتي البرَد فتسقط المدينة. ذاك ما حصل لنينوى سنة 612 ق.م. أمّا البرِّيَّة حيث شعب الله الناعم بحضور الله، فتكون له السعادة. حيث لا ماء يكون الماء من أجل الزراعة، كما في جنَّة عدن. وحيث لم يكن أمان، يُترَك الثور والحمار في المرعى بدون رباط. فهما يعودان إلى البيت ولا من يخيفهما. ولا حاجة لهما أن يبتعدا عن البيت، فالماء هنا غزير والكلأ وفير. كلُّ هذا يعود على السكّان بالطمأنينة. فكأنَّنا في العصر المسيحانيّ.

وهكذا يقدِّم ف 32 المواضيع الرئيسيَّة[RK2] التي راودت قلب إشعيا وفكره منذ شبابه: مع الملك العادل يكون الأمان والازدهار، فيتحوَّل الشعب وتتحوَّل معه الطبيعة في إطار من السلام يعمُّ الكون. فما أسعد الذين يرون هذا!


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM