الفصل الثلاثون: مشاريع البشر ومشاريع الله

الفصل الثلاثون

مشاريع البشر ومشاريع الله

ما زالت أورشليم تبحث عن معاهدة مع مصر لكي تجد سندًا لها في وجه أشور. أما فهمت بعد أنَّها تبحث عن السراب وأن مصر ملجأ وهميّ. فالربُّ هو من "يدمِّر" أشور، لا مصر، ويعيد السعادة إلى أرضه ويمسح الدموع من العيون. أربع مقاطع في هذا الفصل: لا تضعوا آمالكم في مصر (30: 1-8). لماذا ترفضون أقوال أنبيائكم؟ (آ9-14). لماذا لا تعودون إلى الربّ؟ (آ15-17) فيعطيكم أزمنة سلام وراحة (آ18-26). وفي آ27-33 نعرف أنَّ الربَّ أرسل ناره فدمَّر أشورية كما سبق له فدمَّر سدوم بسبب خطيئتها.

30: 1-8 ويل للبنين المتمرِّدين

تمرَّدوا. عصوا (س و ر ر ي م). أخذوا "رأيًا" وأرادوا أن يفرضوه على الله. نقرأ هنا "ن س ك. م س ك ه" الذي قد يدلُّ على طقس يقومون به "فيسكبون السكيب" من الخمر أو يجعلون نصبًا كشهادة على معاهدة. كلُّ هذا من أجل تفاهم مع مصر امتدَّ بين سنة 713 وسنة 702. ويمكن أن يعني: نسج نسيجًا، لحم لحمة أو دبَّر مؤامرة. مثل هذه الاتِّفاقات هي خطيئة في نظر إشعيا، لأنَّها لا تأتي من عند الله بل من عند البشر.

"نزلوا إلى مصر". هو وفد مُرسَل من عند الملك (آ2)، كما سوف نرى في ف 31. ماذا يطلبون؟ اللجوء والاحتماء في حضن فرعون (العزيز، القويّ، م ع و ز) في ظلّ مصر (ص ل). فينبِّههم النبيّ: الحصن خجل، والظلّ خزي (آ3). فلماذا كلُّ هذا المجهود؟ يبدو أنَّ الوفد راح ورجع دون أيِّ نتيجة. فمتى يفهم الملك والرؤساء الذين حوله؟

راح الرؤساء إلى صوعن، المدينة الحدوديَّة (19: 11)، والرسل إلى حنفيس، إلى الجنوب من القاهرة الحاليَّة. أذلَّتهم مصر وردَّتهم خائبين (آ5). أو هي رفضت أو دلَّت على عجزها. وهل يمكن أن يمضي مثل هذا الوفد دون أن يحمل الهدايا؟

عبروا في الجنوب (أو: النقب، ن ج ب) بما فيه من أخطار ليصلوا إلى مصر. حملوا الجزية على ظهر الحمير والجمال، لينالوا مساندة الفرعون الذي قد يكون بوخوريس (720-715) المقيم في سوا (2 مل 17: 4)، في الدلتا الغربيّ. وما الفائدة من كلِّ هذا سوى إفقار أورشليم. ويأتي حكم إشعيا: "هو "شعب لا ينفع" (آ6). مضوا يطلبون المساعدة (ع ز ر) والانتفاع (هـ و ع ي ل). الجذر الأساسيّ "ع ول" هو الطفل في اللغات الساميَّة. أجل، صار الرؤساء أطفالاً يحتاجون إلى من "يعيلهم". هم في حاجة وعجز ونقول في لغتنا: هم قاصرون.

وماذا انتفع الوفد بعد كلِّ هذا التعب؟ أيَّة مساعدة (ع ز ر) نالوا؟ "الباطل" (هـ ب ل، مثل الدخان المتصاعد من النار). والعبث (ر ي ق، الفراغ وخواء البطون). لهذا دعا إشعيا مصر "رهب"، باسمها الرمزيّ (مز 87: 4). ورهب وحش من عالم الأساطير (مز 89: 11؛ أي 9: 13). أمّا معنى "ر هـ ب"، فهو "تحرَّك، هجم". ولكن ما هذا "التحرّك الذي يُسمّر التمساح في مكانه؟ نقرأ في النصِّ الماسوريّ: هـ م. ش ب ت: هم جالسة. ما هذا الجمع المذكَّر مع المفرد المؤنَّث؟ فاقتُرح أن يجمع اللفظان في لفظ واحد: هـ م ش ب ت: صار كلا شيء. قرأت السريانيَّة آ7 كما يلي: "المصريّون يعيشون في الفراغ والدجل (أو: الكذب) لأجل هذا دُعوا: اتِّكالكم هذا فارغ (س ر ي ق).

"أكتب" (آ8). في نسختين، وتبقى نسخةٌ مختومة لتكون شاهدة عمّا سيحصل سنة 701: ماذا سوف تفعل مصر حين تحاصر أورشليم؟ لا شيء.

30: 9-14 شعب لا يريدون أن يروا[RK2]

وتأتي صفتان: المتمرِّد (م ر ي)، الكاذب (أو: الجاحد، ك ح ش). والتصرُّف: لا يريدون أن يسمعوا. تلك هي الخبرة التي ترافق النبيّ في رسالته وسط شعبه: لا يريدون أن يروا ولا أن يسمعوا! بل يمنعون الرائي أن يرى والناظر أن ينظر. هم عميان ويريدون أن يكون "النبيّ" أعمى، ويطلبون الكذب وكلام التملُّق. يريدون أن يسمعوا ما يروق لهم. في هذا المجال نقرأ ما كتبه بولس لتلميذه تيموتاوس: "فسيجيء وقتٌ لا يحتمل فيه الناس التعليم الصحيح، بل يتبعون أهواءهم ويتَّخذون معلِّمين يكلِّمونهم بما يُطرِب آذانهم" (2 تم 4: 3).

في آ10، فهم الناس أنَّ النبيّ يتكلَّم بالاستقامة (ن ك ح و ت). يقدِّم طريق الله. ويسير في هذه الطريق. فماذا يطلبون منه؟ أن يأخذ طريق الكذب، لا طريق الاستقامة. أن "يحيد"، "يميل" عن السبيل، ولا يتلفَّظ باسم الربِّ أمامهم لئلاَّ يثقِّل على ضميرهم.

30: 15-17 إلى أين تهربون

ذاك هو مشروع الرؤساء في يهوذا، والشعب الذي يسير وراءهم. فماذا يكون مشروع الله؟ "هكذا قال السيِّد (أدوناي) الربّ (يهوه) قدّوس إسرائيل". كلُّ قدرته هي هنا، وهو حاضر في شعبه كما في سائر الشعوب، وهو الطالب العودة إليه من أجل الخلاص والحياة. بحثتم عن الخلاص في مصر، فماذا وجدتم؟ الخلاص يكون في الرجوع إلى الله. بحثتم عن القوَّة لدى دولة عظيمة. فماذا وجدتم إلاَّ الضعف؟ الله وحده القويّ وهو يعطيكم الهدوء والسكون والطمأنينة. قال المزمور: "باطل لكم أن تفيقوا مبكرين، وتناموا متأخِّرين فالربُّ يعطي أحبّاءه لذَّة النوم" (مز 127: 2). والثقة بالله نقرأها في مز 131: "أهدِّئ نفسي وأسكتها مثل مفطوم في حضن أمِّه. مثل مفطوم أهدِّئ نفسي" (آ2). هذا يعني أنَّ الإنسان يجعل رجاءه في الربّ (آ3)، لا في الآلهة وعابديها.

كلُّ هذا الحنان الأبويّ رفضه شعب يهوذا. قالوا: "لا نريد". وخطَّطوا لهم طريقهم: الهرب بالوسائل البشريَّة: الجواد. وماذا ينفع الجواد والمركبة السريعة؟ ولكن الذين يلاحقونكم أسرع. والخوف يستولي عليكم فتسقطون ولا يبقى منكم إلاَّ القليل (آ17).

استند هؤلاء إلى الجواد الذي هو لحم ودم، لا روح (31: 3). وقال المزمور: "الخيل لا تقود إلى الخلاص، وبشدَّة عزيمتها لا تنجّي" (مز 33: 17). ويتواصل الكلام: "عين الربِّ على خائفيه، على الذين يرجون رحمته لينقذ نفوسهم من الموت" (آ18-19).

30: 18-26 ولذلك ينتظر الربّ

لا يعود النبيّ يفكِّر بالعقاب، بل بالتوبة والغفران. فالربُّ هو الإله الصالح، المستعدُّ دومًا أن "يتحنَّن" (ح ن ن)، أن يعفو، أن يترأَّف، أن يرحم (ر ح م)، أن يجيب على النداء، أن يستجيب مع النداء. الربُّ "ينتظر" كما الأمُّ تنتظر أولادها البعيدين، وطوبى للإنسان الذي "ينتظر" هو أيضًا غفران الربِّ وعطاياه.

ماذا ينتظر الربّ؟ عودة الابن الضالّ. يهتفُّ المرتِّل: "دموعي كلَّ ليلة تفيض فأغمر بها فراشي" (مز 6: 7). ويواصل الهتاف: "الربُّ يسمع صوت بكائي، الربُّ يستمع لتضرُّعي، الربُّ يتقبَّل صلاتي" (آ9-10). في الماضي اعتادوا أن يصعدوا إلى المرتفعات لكي يبكوا مع بعل (15: 2)، أمّا الآن فهو بكاء من نوع آخر، بكاء الحزن والتوبة. لهذا "يتحنَّن" الربّ.

عاد الشعب فعاد الربُّ إليهم وأعطاهم الطعام والشراب، وأعطاهم خصوصًا التعليم: "كلمة خلفك" (آ21). هي كلمة الأنبياء التي تدلُّ على الطريق، حين يحيد الإنسان. وهكذا يُحرَس المؤمن في كلِّ طرقه (مز 91: 11). وكيف تبدو العودة إلى الربّ صادقة؟ حين يترك المؤمن الأوثان ويتعلَّق بالله وحده (آ22). صار الوثن "شخصًا" ولهذا يقول له المؤمن: "اخرج" (ص 1).

في آ23-26، تأتي البركات الوافرة: المياه، الخصب، المراعي الخضراء، المواشي الشبعانة. ومحلّ القلاع الحربيَّة التي سقطت، تكون خزّانات المياه على الجبل من أجل الريّ. تتحوَّل الأرض وتتحوَّل معها السماء: القمر يصبح مشعًّا مثل الشمس، والشمس تصير سبعة أضعاف. كم نحن بعيدون عن الوضع السابق، يوم "يخجل القمر وتُخزى الشمس" (24: 23). لا يعودان يضيئان فتحلُّ الظلمة في الأرض نهارًا وليلاً، مع الظلام كانت الجراح والرضوض، مع النور، يعود الشفاء والعافية[RK3] .

30: 27-33 ها الربُّ يأتي

الموضوع أشور. والربُّ يأتي لا ليعلن الخطر الآتي، بل ليدلَّ على تدخُّل الله: هي تيوفانيا[RK4] . الله يأتي من بعيد. هذا ما اعتدنا عليه في نصوص سابقة: "حين خرجتَ يا ربّ من سعير، ومن صحراء أدوم حين صعدت" (قض 5: 4). "اسم الربّ" أي الربّ. يكفي أن يُلفَظ اسمُه ليظهر فعلُه: الغضب، الحريق، السخط، النار. كلُّ هذا يشير إلى عقابه القريب. "نفخته" تشبه النهر الذي يجري فيصل إلى الرقبة. الأمم تمرُّ في الغربال، والشعوب يُوضع في فمها الرسن كما يُفعَل للجواد.

ذاك هو الظهور الإلهيّ بالنسبة إلى الأعداء، أمّا شعب الله فيعيش الفرح كما في يوم العيد. هو عيد الفصح باحتفاله الليليّ أو عيد القطاف في الخريف (مز 81؛ 84؛ 122). هو يوم مقدَّس، مكرَّس لله، يسيرون وراء "الربِّ" مع آلات الموسيقى. وتنطلق مسيرة الحجّ إلى جبل الربّ، أورشليم، حيث الهيكل. ويشبَّه الله "بالصخر": المتانة والرفعة. عندئذٍ يستطيع المرتِّل أن ينشد: "أحبُّك يا ربّ، يا قوَّتي. الربُّ صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي وبه أحتمي، وترسي وحصن خلاصي وملجأي" (مز 18: 2-3). كما ينشد: "الربُّ نوري وخلاصي فممَّن أخاف؟ الربُّ حصن حياتي فممَّن أرتعب؟" (مز 27: 1). ثمَّ يقول: "هناك يظلِّلني (كما في عيد المظالّ) يوم السوء، ويسترني بستر مسكنه، وعلى صخرة يرفعني" (آ5).

مع آ30 يعيدنا النبيّ إلى التدخُّل الإلهيّ: صوته هو الرعد (آ31)، ذراعه تضرب بواسطة قوى الطبيعة: النار، النوء، المطر، البرَد. ويبدو الربُّ مثل سيِّد يضرب بالقضيب والعصا. هل هي عصا موسى التي ضربت البحر فأعطت الشعب الخلاص، فأطلَّت الدفوف والعيدان؟ أما هكذا فعلت مريم بعد العبور؟ فكلُّ خلاص، كبيرًا كان أو صغيرًا، يجد جذوره في الخلاص من مصر.

"تفتة" (ت ف ت ه). هو "توفت" حيث كانت المحرقات البشريَّة (2 مل 23: 10؛ إر 7: 31). هي حرب نهاية الزمن حيث تُحرَق بقايا المحاربين أي "السلاح والتروس والدروع والأقواس والسهام والحراب والرماح" (حز 39: 9). ولا حاجة بعد إلى الحطب، فالسلاح يحلُّ محلّ الحطب (آ10). وهكذا تكون نهاية أشور، لا في قتل العدوّ، بل في إزالة السلاح ومعه شرّ البشر.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM