الفصل التاسع والعشرون:دينونة أورشليم قبل وعدها بالسعادة

الفصل التاسع والعشرون

دينونة أورشليم قبل وعدها بالسعادة

بعد سقوط السامرة، وصل التهديد إلى أورشليم. الدينونة آتية والشعب والرؤساء ما زالوا عميانًا يختبئون وراء عبادات لا تتعدَّى الشفاه. ولكنَّ الربَّ يعود سريعًا عن غضبه ويعد بأزمنة مسيحانيَّة مع تجديد الطبيعة فتكون فردوسًا. بعد قصيدة على أرييل[RK1] أي أورشليم التي تقع تحت الحصار وتنجو (29: 1-8)، يعود النبيّ فيذكر المحن الداخليَّة التي تعيشها المدينة المقدَّسة التي لا تفهم شيئًا من مخطَّط الله (آ9-16). وفي قسم ثالث (آ17-24) تعرف أورشليم السعادة. عندئذٍ تفهم محبَّة الله لها.

29: 1-8 ويل لمدينة داود

"إرييل ": مدينة إيل، مدينة الله، أورشليم. على مثال أورشليم التي هي مدينة شاليم، ذاك الإله الكنعانيّ (تك 14: 18). وهناك تفسير آخر: أسد إيل (بحسب جيروم). هناك يقيم داود ونسله (تك 49: 8-10؛ عا 1: 2). وقيل أيضًا: جبل الله. الربُّ يتكلَّم وهو وحده يستطيع أن يهدِّد بهذه اللهجة الحازمة: الهجوم آتٍ. متى؟ في مسيرة الزمن. بعد سنة فوق سنة، أو حين الاحتفال بالأعياد. يتذكَّر النصُّ الزمان الذي فيه حاصر داود أورشليم (2 صم 5: 6-9). وها هو اليوم حصارها بيد الله (أحيط بك، آ3).

"وأنا أضايق" (آ2). ها هي الحرب آتية: الضيق، المتاريس، الحصار (آ3) ولكن لا كلام عن دمار ولا سلب ولا سبي، بل إذلال فقط (آ4) تُجبَر أورشليم أن تدخل تحت الأرض. غطّاها التراب، وصار صوتها "ك أ ب"، مثل عائد من عالم الموتى (آبَ في العربيَّة )

ولكن ماذا حصل؟ تحوُّلٌ تامّ. أين هم الأعداء؟ زالوا "كالغبار الدقيق، كالعاصفة المارَّة" (آ5). وكلُّ هذا "بغتة (ل ف ت ع) فجأة (ف أ ت م)". من تدخَّل؟ ربُّ الجنود، ويُوصَف مجيئه في الصور المعروفة: الرعد، الزلزلة، الصوت العظيم، الزوبعة، العاصفة، لهيب نار آكلة (آ6). هل الناس في حلم، هل هم في يقظة؟

زيارة من عند الربّ، تيوفانيا، ظهور إلهيّ. حسبَ الأعداء أنَّهم قبضوا على أورشليم، فإذا هم يُشبهون جائعًا يأكل في الحلم وحين يستيقظ يحسُّ أنَّ بطنه فارغ (آ8). عندئذٍ يحسُّ "الذين تجنَّدوا، تجيّشوا" (ص ب ا ي م) وهدَّدوا أورشليم، بالمرارة والخيبة.

كلُّ هذا يجعلنا في إطار هجمة سنحاريب على أورشليم: ذُلَّت أورشليم، حُرمت من أرضها، خسرت قسمًا من جيشها، هُدِّدت ولكنَّها لم تدمَّر. من الذي حماها؟ من غير الربّ القدير؟! فهل يفهم الشعب، أم يذهب باحثًا عن مخلِّص بشريّ؟

29: 9-16 الصعوبات الداخليَّة في أورشليم

نجت أورشليم من الخطر الخارجيّ، ولكن من ينجِّيها من الخطر الداخليّ؟ سامعو النبيّ عميان، سكارى، كأنّي بهم لا يريدون أن يروا. ذاك ما قيل للنبيّ يوم دعاه الربّ (6: 9-10): يسمعون ولا يفهمون، يبصرون ولا يعرفون. كيف صاروا كذلك؟ "الربّ" أغمض عيونكم". هو السبب الأوَّل والمسؤول عن رفض البشر لأحكامه. هو نور قويّ يعمي العيون التي لم تصبح صافية. اعتبر "الرؤساء" نفوسهم "أنبياء"، "رائين"، مثل صموئيل وغيره (1 صم 9: 9)، فإذا العيون مغمَّضة، مغطّاة. حسبوا أنَّهم ربحوا المعركة فمضى محاصرو المدينة بلا رجعة!

"الرؤيا" (ح ز و ن) التي رأيتم بقيت مثل كتاب مختوم. ولكنَّهم لا يعرفون أن يقرأوا أعمال الله من داخل مدينته. ينقصهم الإيمان كلُّهم: "العالِم" لا يعرف أن يفتح الختم. والأمّيّ لا يعرف أن يقرأ. أو إيمانهم السطحيّ يقف عند بعض الممارسات الدينيَّة والعادات الخارجيَّة. وحده الإيمان يعطينا "عيونًا" لنرى ما لا يراه سائر البشر.

ما استطاع الأنبياء أن "يتنبَّأوا"، ولا الراؤون أن "يروا". وها هو دور الحكماء: يعتبرون أنَّهم يفهمون ويستطيعون أن يجادلوا الربّ. وأفظع من ذلك يقولون: الله لا يرى، الله لا يعرف. انقلبت الأدوار: بل هم لا يرون ولا يعرفون. لمن يسمع شعب أورشليم، لله أم لهؤلاء "الحكماء" الذين صارت حكمتهم جهالة؟ ويأتينا الجواب من سمعان بطرس: "هل الحقُّ عند الله أن نطيعكم أم نطيع الله؟" (أع 4: 19). غير أنَّ المؤمنين في أورشليم لم يحزموا بعدُ أمرهم. فهم يرون الرؤساء "يلعبون تحت الطاولة"، يعملون "في الظلمة" ويقولون: هل الله لا يرى في الظلمة؟ هي إشارة إلى معاهدة مع مصر كما سوف نقرأ في ف 30.

بعد الخلاص الذي تمَّ بشكل عجيب، لبث الشعب ناكرًا جميل الربّ. متى يميِّز بين الله الذي يجبل الطين، والطين الذي منه يُصنع الإنسان . ويقولون: الله لم يصنعنا! وإن هو صنعنا، فهو لا يفهم. نلاحظ هذا التجديف الهائل من قبل الإنسان على الله. ومع ذلك، يطيل الربُّ أناته: ما اكتفيتم بهذه العجيبة، فأنا أصنع عجيبة أخرى (آ14). ربَّما ترونها وتعرفون أنّي في وسطكم وأنّي لا أترككم. ويبقى الشعب كما قال فيهم هوشع مثل حمامة رعناء، طائشة بلا قلب ولا فهم (هو 7: 11). ومع ذلك، لا يتوقَّف الربُّ عن عطاءاته، فيعدهم بالسلام الآتي الذي يشبه ذاك الذي عرفته البشريَّة في بداياتها (تك 2: 1ي) وتنتظره في نهاياتها (9: 6ي).

29: 17-24 السعادة الآتية على أورشليم

ويحصل انقلابٌ يبدِّل وجهَ الأرض، وذلك بعد فترة قليلة. أورشليم تنجو لأنَّها ذلَّت تحت يد الله القدير، أمّا لبنان فيخرب (آ17). هي إشارة إلى ما حصل لصيدا سنة 677-676، حين سحقها أسرحدون ملك الأشوريّين. هي عجيبة أخرى، فهل يفهم الحكماء في أورشليم؟ الصمُّ سمعوا. السائرون في الظلمة رأوا (آ18). من هم هؤلاء؟

في آ19 نتعرَّف إليهم: هم مساكين (ع ن و ي) يهوه. هم لا يملكون شيئًا فجعلوا اتِّكالهم على الربِّ وعلى الربِّ وحده. وهم "المحتاجون" (ا ب ي و ن ي م) الذين يرفعون عيونهم إلى يد سيِّدهم (مز 123: 2). نتذكَّر أنَّ عبارة "مساكين الربّ" صارت عبارة لاهوتيَّة تدلُّ على الذين انتظروا مجيء المخلِّص، مثل زكريّا وإليصابات، مريم ويوسف، سمعان الشيخ وحنّة النبيَّة. باسمهم أنشد سمعان الشيخ: الآن أطلق يا ربّ عبدك بسلام، لأنَّ عينيَّ أبصرتا خلاصك . أمّا "المحتاجون" أو "الأبيونيّون" فهم فقراء الربِّ الذين كوَّنوا جماعة كنسيَّة تجمَّعت في شرقيّ نهر الأردنّ باتِّجاه الجزيرة العربيَّة.

بمن تعلَّق الفقراء والمساكين؟ بالربّ، بقدّوس إسرائيل. وحدهم عرفوا الفرح والبهجة. لماذا؟ في الخارج مضى "العاتي" بدون رجعة. رُفع الحصار عن أورشليم. والذين هزئوا بالنبيّ "انقطعوا". هم يستفيدون من الحرب. في العالم الحكميّ، "المستهزئ" هو الذي يحسب نفسه أفهم من الناس، بل "أفهم" من الله. لهذا نراهم يرفضون كلَّ تعليم ويستخفّون بالذين يسمعون وصايا الله وتنبيه المعلِّمين. فالإنسان الذي يطوِّبه الله "لا يجلس مع المستهزئين" لئلاَّ تصيبه العدوى. والذين ابتهجوا في أورشليم بعد ذهاب الطاغي، هم عكس هؤلاء المستهزئين الذين ينتظرون أيضًا أن تعود العدالة إلى المدينة. وكما زال العاتي، يترجّى المؤمنون أن ينقطع أيضًا القضاةُ الذين يحكمون على البريء، وشاهدو الزور الذين يعوِّجون الحقيقة. مثل هؤلاء يعيدون الأرض إلى الخلاء والخواء (ت هـ و)، كما قبل الخلق، ساعة الظلمة كانت تسيطر على الأرض.

وبعد الوجهة السلبيَّة وزوال كلِّ ما يعيق "الراحة" التي يريدها الربُّ لشعبه، نعود إلى النتائج الإيجابيَّة. هو تحوُّل تامّ. يتذكَّر الربُّ مواعيده منذ إبراهيم فيمحو كلَّ خزي من بيت يعقوب، فتتمُّ المصالحة. ويستعيد الله أولاده، يراهم بعينيه ويرون هم ما صنع لهم، فيقدِّسون اسمه. هو وحده القدّوس الذي يرهبونه. بعد اليوم لا يخافون البشر، كما لا يخافون الأصنام مهما تجبَّر حاملوها.

والنهاية الرائعة: الضالّون، الذين اعتبروا أنَّهم فهماء، اكتشفوا الفهم الحقيقيّ وتركوا الحكمة المزيَّفة التي تجعل الإنسان يقف في وجه خالقه. والمتذمِّرون أخذوا درسًا. سبق لهم فتمرَّدوا ورفضوا كلَّ تعليم، وها هم يعودون تلاميذ. هكذا يكون عبد الربِّ وعابده في الآتي من نبوءة إشعيا: "يوقظ الربُّ أذني كلَّ صباح لأسمع مثل التلاميذ" (50: 4).

وهكذا تصبح الأرض "جنَّة"، حين يبتعد المغتصب الآتي من الخارج، والظالم الذي يسود في الداخل. حين يعرف الشعب الله ويقدِّس اسمه ويكتشف أعماله. ويبقى أنَّ كلَّ هذا يبقى عمل الله ، ففي قلب المحن يقول لنا: "ها أنا أعود وأصنع عندكم عجائب! هلاَّ تفهمون؟"

 

 


[RK1]الكلمة في فاندايك هي "أريئيل"

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM