الفصل الرابع والثلاثون الحقبة الهلنستية

الفصل الرابع والثلاثون

الحقبة الهلنستية

تمتدّ هذه الحقبة من سنة 332 حتى المسيح. وتسمى هلنستية نسبة الى لفظة تعني اليونان، وتدل على الحضارة اليونانية (ثقافة، نظم) كما تبنّاها الشرق من تركيا إلى مصر وليبيا، ماراً بسورية ولبنان وفلسطين والاردن.
جاء حكم جديد هو أعظم حكم عرفه الشرق، هو حكم الاسكندر الكبير. به تحوّل الاقتصاد والحياة الاجتماعية، وانزاحت الحدود بين الممالك. فما هي هذه الاحداث التي سبّبت مثل هذه "الثورة الثقافية"؟
نذكر بين المؤرخين: فلافيوس يوسيفوس، ذاك الارستقراطي الذي حكم الجليل سنة 66 ب. م. دوّن "كتاب القديميات اليهودية"، فرسم تاريخ شعبه حتى سنة 66- 70. ودوّن "حرب اليهود ضدّ الرومان"، فاستعاد تاريخ شعبه منذ ثورة المكابيين.

أ- الشرق الاوسط سنة 334
منذ نهاية القرن السادس، كانت بلدان الشرق الأوسط خاضعة لسلطان الفرس. فالامبراطورية التي أسسها كورش هي واسعة جداً: تمتدّ على 127 مقاطعة، من الهند إلى الحبشة (أس 1: 1).
كانت مؤامرات البلاط وضعف الادارة المركزية تترك بعض الحرية لحكّام المقاطعات: فهم أغنياء، يصكّون العملة، ينظّمون السياسة الخارجية، ويتمرّدون مراراً على الملك. مثلاً في مصر سنة 405، في الأناضول سنة 364. وهكذا سُميت الامبراطورية الفارسية عملاق برجلين من الطين.

ب- اليونان في القرن الرابع
1- حواضر مستقلّة
توزع اليونانيون خلال القرن الرابع في بلدان عديدة، من مناطق أيونية (شاطىء تركيا الحالية) إلى صقلية في ايطاليا، وفي جنوب فرنسا الحالية (مرسيلية)، هذا عدا عن اليونان وجزر بحر ايجه.
كان يونانيو أيونية تحت حكم الفرس. أما أهل اليونان بالمعنى الحصري، فعاشوا في عدد من المدن: أثينة، تيبة، كورنتوس، اسبرطة، مسينا، دلفيس... لا سلطة سياسية مركزية توحّد هذه الحواضر التي عاشت كل منها حسب شرائعها الخاصة. فنجد مثلاً في أثينة حكومة "ديموقراطية"، لأن قسماً من الحكم كان في يد الشعب. أما إسبرطة فعرفت نظاماً ارستقراطياً، حيث يتقاسم الحكم ملكان واربعة وعشرون من الأعيان لا تقل أعمارهم عن الستين سنة.
وكانت كل حاضرة تزاحم اختها، بل تحاربها وتعقد معاهدات وأحلافاً تُنقض بالسرعة التي بها قُطعت.

2- وضع اقنصادي صعب
وكانت الصراعات والحروب المتواصلة بين الحواضر سبباً في وضع اقتصادي صعب. فعلى أثر الحرب الكبرى بين حلف حول اثينة وحلف حول اسبرطة (431- 404، دامت 30 سنة)، زاد عدد سكان المدن زيادة كبيرة. وتكوّنت مجموعة من الشبّان لا عمل لهم. فأرسلوا يستوطنون الجزر أو مناطق أخرى. سموا المستوطنين، فأقاموا في بلدان جديدة وظلّوا مواطني الوطن الأم. ولكن هذا لم يكفِ. فأجبرت أثينة بأن تستورد قمحها من تراقية، على شاطىء البحر الاحمر، من مصر أو من آسية الصغرى. والفضّة التي جاءت بكمية كبيرة من بلاد فارس، خسرت الكثير من قيمتها الشرائية. وتدنّى مستوى التبادل التجاري، لأن منتوجات المدن اليونانية (كالفخاريات) تكدّست ولم تجد من يشتريها. حينئذ أخذت المسائل الاقتصادية تثير القلق لدى اليونانيين، فأجبرتهم على الخروج من عزلتهم ومن سياسة الأنانية، وعلى التطلّع إلى العالم الواسع.

3- صعود مكدونية
وسيأتي التحوّل السياسي من شمال اليونان. ففي مكدونية، إعتلى فيلبس الثاني العرش سنة 360. في تلك البلاد، الملك هو الذي يحكم، والتقليد يفرض أن تكون السلطة قويّة ويكون النظام ملكياً.
كان فيلبس الثاني قائداً عسكرياً كبيراً. نظّم جيشاً محترفاً وفاعلاً سُمّي "الكتيبة المكدونية" (كان مرصوصاً مثا اصابع اليد). وأراد لهذا الجيش أن يخلق جبهة تجمع اليونانيين ضد الفرس. وتوصّل إلى ذلك بالدبلوماسية والحيلة، بل بالحرب، ضد أثينة بصورة خاصة. وفي سنة 338، وبعد انتصاره في خيرونيس، فرض نظرته على الحواضر اليونانية التي يمكنها أن تبقى على استقلالها شرط أن تدخل في حلف يكون سيده ملك مكدونية.
وقرّر الحلف سنة 337، وبناءً على طلب فيلبس، قرّر اعلان الحرب على الفرس. لماذا؟ اولا: لأن هذه الحرب تبرّر وحدة اليونانيين. ثانياً: إنها تتيح لملك مكدونية بأن ينهي مسألة البوسفور والدردنيل اللذين فيهما يمرّ القمح من البحر الأسود إلى البحر المتوسط. ولكن الساحل الجنوبي لهذين المضيقين كان بيد الفرس، وبالتالي لم تكن الطريق آمنة، بل مهدّدة دوماً. ثالثاً: إن هذه الحرب ستجعل الحواضر اليونانية في آسية الصغرى تعود الى العالم اليوناني بعد أن سيطر عليها الحاكم الفارسي مدة قرنين من الزمن.
ولكن فيلبس لم يستطع أن يحقق حلمه. فقد قُتل في صيف سنة 336.

ج- حكم الاسكندر الكبير
1- شاب عبقري
كان الاسكندر ابن عشرين سنة حين خلف أباه. "تعبّد" له الجنود الذين قادهم بعبقريته الفذة وبشجاعة خارقة في معركة خيرونيس المشهورة. كان أبيّ الطبع ومرهف الحس في قضايا العدالة، فاختلف يوماً مع أبيه وترك القصر فترة من الزمن. تعلّم مهنة الملك وهو الشاب الجميل الساحر، في مدرسة أرسطو، أكبر فلاسفة عصره. إعتقد أنه مولود الآلهة، غير أنه جمع بين الفطنة والمخاطرة.
ظنّت الحواضر الملكيه، يوم اعتلائه العرش، انها تستطيع أن تستعيد حريتها. ولكنهـه اغرق ثورتهم في الدم، ثم استعاد في ربيع سنة 334 مشروع أبيه فاجتاز مضيق البوسفور بجيش مؤلف مني 25000 جندي. وجد أمامه جيوشاً عديدة، ولكنها لم تكن مهيأة ولا منظمة. لم يشك الاسكندر يوماً بالنجاح بعد أن علّمه أرسطو أن "البرابرة" في الشرق هم شعوب من الدرجة الثانية.

2- حملة صاعقة
في سنة 333، صار الاسكندر سيد آسية الصغرى. في سنة 332، سيد سورية وفينيقية وفلسطبن ومصر. وفي سنة 331، سيد بابل. لاحق الملك الفارسي داريوس الثالث وادركه في الشرق سنة 330. ولكنه وجده مقتولاً بيد أحد الأمراء. وتابع الإسكنر مسيرته حتى وصل إلى حدود الهند سنة 327. وما أراد أن يتوقّف لولا التعب الذي حلّ بجنود أخذ تذمّرهم يزداد يوماً بعد يوم. ولكن طريق العودة جعلته يدفع عدداً من القتلى لم تعرفه طريق الهجوم.
وحين عاد الاسكندر إلى بابل، كان قد خلق أكبر امبراطررية حقّقها شخص حتى الآن. وذلك في سبع سنوات. بنى المدن حيث وصل. بنى أكثر من سبعين مدينة، وتسمّى معظمها باسمه (الاسكندرية). وسكنها المستوطنون والمرتزقة، وبنوا فيها معابد يونانية ومسارح، فصارت مراكز للحضارة اليونانية.
الامبراطورية هي أول مثال، "لملكية مطلقة"، ولكنها ترتبط كلّ الارتباط بمؤسسها، لانه الرباط الوحيد بين اليونانيين والشرقيين. وإذ أراد أن يصالح الغالبين والمغلوبين، أعطى المثال في نفسه فتزوّج روكسانة، إبنة أحد الاعيان العظام في إيران واحتفل في يوم واحد بزواج عشرة آلاف من جنوده في بابل.
وراح الاسكندر أبعد من هذا. فطلب أن يسجد الناس له كما كانوا يسجدون للملوك في الشرق. وأعلن نفسه ابن زوش إله الالهة في اليونان. لم يفهم اليونانيون والمكدونيون هذه الاجراءات (ولاسيّما تأليه الاسكندر) ولم يقبلوا بها، فكان الاسكندر قاسياً ضد أعزّ أصدقائه. فقتل بعضهم وأعاد الآخرين إلى مكدونية.
ولم يكن حظ الاسكندر أفضل من حظ ابيه فيلبس الثاني، فما استطاع أن يكمل بناء الامبراطورية. مات من التعب بعد عشرة أيام من المرض، في 13 حزيران سنة 323. وكان عمره آنذاك 33 سنة.

د- خلفاء الاسكندر والممالك الهلنسية
1- تفكّك الامبراطورية
ماتت امبراطورية الاسكندر بموت مؤسّسها. ولم يكن قد وُلد إبنه بعد. فخلفه رفاق سلاحه وهم انتيباترس، انطيغونيس، بطليموس، سلوقس. أراد كل منهم وحدة الامبراطورية ولكن من أجل نفسه. وبعد 45 سنة من الصراعات القاسية والحروب الغامضة، كان توازن ثابت بين عائلات ثلاثة قوّاد، سنة 277. فانقسمت الامبراطورية ثلاث ممالك. سميت هلنسية بسبب اصلها الهليني أو اليوناني، وارتباطها بحضارة خاصة هي مزيج من الشرق واليونان. إمتدت حياة هذه الممالك قرنين من الزمن. حتى مجيء الرومان الى الشرق. ولكن الحضارة الهلنسية ظلّت تطبع بطابعها حوض البحر المتوسط.

2- ممالك ثلاث
أولاً: مكدونية واليونان
ألّفت مكدونية واليونان المملكة الأولى. تحدّر ملوكها من انطيغونيس الأعور. خلّصوا اليونان من هجمة شعوب الشمال. ولكن سقطت مملكتهم بصورة نهائية في يد رومة سنة 146.

ثانياً: مملكة البطالسة
ضمت مملكة البطالسة مصر وفلسطين وعدداً من المناطق الافريقية. ظلّت المملكة قوية على عهد بطليموس الأول والثاني، ولكن بدأ الانحطاط يعمل فيها منذ شنة 205. فتخلّت عن فلسطين (أورشليم) للسلوقيين سنة 198. وسيجعل الرومان من مصر مقاطعة ذات وضع خاص سنة 30 ق. م.

ثالثاً: مملكة السلوقيين
إتخذت المملكة اسمها من القائد سلوقس، وكانت في الأصل أوسع الممالك الثلاث، بعد أن امتدت من البحر المتوسط حتى الهند. ولكن تاريخها هو تاريخ تفتت متواصل. فاستقلت المقاطعات الشرقية، لان الملك أخطأ حين جعل عاصمته على شاطىء البحر (انطاكية على العاصي) لا في وسط المملكة. زد على ذلك ان الملوك لم يكونوا على مستوى يؤهّلهم للحكم. ما عدا انطيوخس الكبير.
فأنطيوخس هذا حكم من سنة 332 حتى سنة 187. إستعاد فلسطين من أيدي البطالسة المصريين. ولكن حرمه الرومان من ممتلكاته في آسية الصغرى قبل سنة 189. وسيكدّس ابنه انطيوخس الرابع أعمال الجنون وحبّ العظمة (سمى نفسه ايبفانيوس، أي ظهور الله). وفي أيّامه كانت الثورة اليهودية بقيادة المكابيين سنة 165.
في سنة 63، ضم بومبيوس المملكة السلوقية إلى رومة، فصار الشرق الاوسط كله بيد الرومان.

هـ- العالم اليهودي قبل سنة 170
1- بعد دخول الاسكندر
عاش اليهود تحت سيطرة الفرس، ولكنهم استعادوا استقلالاً نسبياً تحت إمرة كهنتهم. قَبِل شعب يهودا بهذا النظام، اما السامريون فتأرجحوا بين التحفّظ والرفض.
لم يتأخّر الاسكندر في فلسطين، ولم يلقَ مقاومة من أحد الأ في السامرة. غير أنه لم يدمّر استقلالية اليهود الدينية. وتحرّك الأمل من جديد بعد هذا الذي حل في الشرق: سيفعل الله بشكل حاسم من أجل شعبه. هذا ما يدلّ عليه زك 9- 14.
في ذلك الوقت، تم الانفصال بين اليهود والسامريين. وحصل السامريون من السلطة الجديدة على اذن ببناء هيكل في جرزيم يزاحم هيكل اورشليم. وهكذا بدأ الانشقاق. شجب أهل يهودا هذا العمل، ودوّن كتبتُهم التاريخ من جديد وجعلوا حياتهم الدينية كلها مركّزة على اورشليم. وكان كتاب الاخبار ثمرة هذا العمل التاريخي.

2- بعد موت الاسكندر
بعد فترة الاضطراب التي تلت موت الاسكندر، وجدت الجماعة اليهودية في أورشليم نفسها تحت سلطة بطالسة مصر من سنة 312 إلى سنة 198. تعلّق شعب أورشليم بالهيكل، حول كهنة عديدين بدأوا يتملّكون اليونانية ويعيشون بحسب العادات الهلنستية. وبنوا ملاعب للرياضة وشيّدوا مدافن ومباني حسب الفن اليوناني. وأخذوا بالنقد اليوناني، وبدّلوا اسماءهم فصارت يونانية. غير أن تغلغل هذه الحضارة الجديدة أثار حذراً ومقاومة متصاعدة. فإن جماعة "حسيديم" (عرفوا بتقواهم وأمانتهم للشريعة) تحفظت من كل ما ليس بيهودي، من كل ما لا يتوافق والشريعة.
وسيبيّن سفر الجامعة ثم يشوع بن سيراخ مقاومة حكماء العالم اليهودي لما تحمل الهلينية من خطر على ايمان شعب الله.

3- يهود الشتات
عاش عدد كبير من اليهود خارج فلسطين. بعضهم ظلَّ في بابل ورفض العودة من المنفى. وأقام آخرون في سورية وآسية الصغرى. وقد تمتّعوا بوضع ثابت وبرضى السلطات المحلية. لهم دوّن طوبيا. وانجذب بعض الوثنيين إلى الايمان وأخذوا يرفعون صلواتهم إلى الإله الحقيقي.
ووُجدت في مصر أهم الجاليات اليهودية المشتّتة. إنضم يهود جدد إلى اولئك الذيم سبقوهم في زمن إرميا، فجذبهم غنى العاصمة الجديدة (الاسكندرية) وجاؤوا إليها يطلبون الثروة. تألفت المدينة من أحياء فاقام اليهود في حيّين. تركوا لغتهم واخذوا باليونانية، وجذبوا إليهم وثنيين ارتدّوا إلى شريعة الله. هم المرتدون أو "الآتون الجدد". وبما انهم لا يعرفون العبرية، ترجمت لهم أولاً اسفار الشريعة ثم الانبياء واخيراً سائر الكتب.
تمت الترجمات حسب الحاجة. ثم تنظّمت فوصلت الى توراة يونانية كاملة هي "السبعينية". جاء اسمها من اسطورة أوردتها "رسالة ارستيس" التي دوّنت سنة 80 ق. م: جاء سبعون شيخاً من أورشليم وترجموا جميع النصوص في وقت قصير (70 يوماً) في جزيرة فاروس (حيث المنارة) تجاه مرفأ الاسكندرية. أما هدف هذه الاسطورة فجعل السبعينية الترجمة الرسمية الوحيدة بعد أن ترجمها أناس جاؤوا من المدينة المقدسة.
كانت ترجمة التوراة إلى اليونانية منعطفاً هاماً. فيها انفتح النص الملهم على تأثير حضارة أخرى ستكون تعبيراً متجدّداً للايمان. هي ترجمة بل تفسير تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والحضارية والاقتصادية والسياسية. إنها تؤوّن نص التوراة، تعيد قراءته. لهذا السبب رفض الفريسيون السبعينية، وفرضوا قراءة النص العبري في كلى المجامع. فالاتجاهات المسيحانية في السبعينية بدت لهم خطراً على الايمان. وحين استعمل المسيحيون السبعينية وأوردوا نصوصها، صار اليهود اكثر حذراً منها.

و- الأزمة المكابية
1- الأسباب
إستعاد أنطيوخس الثاك الكبير فلسطين سنة 198 بعد انتصاره على البطالسة المصريين. غير أن حكمه المجيد انتهى بشكل رديء، وجعل الناس ينتظرون أياماً قاسية. فرومة طردته من آسية الصغرى سنة 189 وفرضت عليه جزية باهظة. فأين يجد المال اللازم؟ في المعابد المحلية التي يحرسها الكهنة باهتمام. ومات انطوخس مقتولاً ساعة كان يسرق معبد بابل في شوش.
كان قد منح اليهود ذات الاستقلالية التي منحهم إياها البطالسة. ولكن خلفاءه لم يعرفوا تسامحه. فاشتعلت الثورة عند اليهود. ما هي أسباب هذا الصراع؟ من جهة انحطاط الدولة السلوقية وصعوباتها المادية دفعتها للتطلّع إلى غنى الشعوب الخاضعة لها ومضايقتها. ومن جهة ثانية الانقسامات الداخلية في أورشليم. فقد أدخلت عائلات عظماء الكهنة عوائد يونانية تزلّفاً للحاكم وطلباً للربح (2 مك 4: 7- 20). تنازعت على السلطة، فأعطت انطيوخس الرابع ابيفانيوس فرصة للتدخل (2 مك 4: 21) وتسمية عظيم الكهنة.

2- الثورة
إندلعت سنة 166. في السنة السابقة، ألغى انطيوخس الرابع امتيازات اليهود، ومنع ممارسة السبت والختان، وأمر اليهود بأن يأكلوا لحم الخنزير ويضحّوا للإلهة اليونانية. واخيراً نجّس الهيكل حين جعل فيه تمثال زوش، الاله اليوناني.
طفح الكيل فثار اليهود الأتقياء (حسيديم). قادهم يهوذا المكابي، فهزموا جيوش الملك، واستعادوا أورشليم في شهر كانون الاول سنة 164، وطهّروا الهيكل وجعلوا فيه كهنة أمناء للشريعة. ودوّن كتاب يعلن تدخّل الله وحكمه بصورة نهائية. هو سفر دانيال.
ونجحت الثورة بسبب طابعها الديني والحماس الجماعي الذي حركته، كما استفادت من ضعف الدولة السلوقية المنشغلة على حدود أخرى. وقاد هذا النجاح الرؤساء ليمارسوا السياسة بحيث استغلت طبقة من السكان نتيجة النصر. وهكذا، وبعد عودة الحرب الدينية (1 مك 6: 55- 60) بدأ يهوذا ومحازبوه يحلمون باستقلال سياسي. قاموا بحملات عسكرية فتوسّعت الرقعة المحيطة بأورشليم. واعتبروا أن عظماء الكهنة السابقين دمرّوا سلطة الكهنة، فصار يوناتان وسمعان (شقيقا يهوذا) رئيسَْي الكهنة (عيّنهما الملك السلوقي).
لقد انقلبت الامور! لقد طلب المكابيون حمى الذين قاوموهم بشراسة. وبعد هذا سيعلن ارسطوبولس، حفيد سمعان، نفسه ملكاً سنة 104 ق. م ويؤسس سلالة الحشمونيين، باسم حشمون، جد يهوذا المكابي. وستبقى المملكة مستقلة حتى وصول الرومان.

3- نتائج الثورة
إن الثورة ضد أنطيوخس الرابع أبيفانيوس نجّت الشريعة اليهودية من الضياع، وبنت للمرة الأولى بعد المنفى دولة مستقلّة على بقايا الدولة السلوقية. ولكن سياسة المكابيين وصراعات خلفائهم قسّمت الشعب فرقاً وشيعاً.

أولاً: الاسيانيون
هم مجموعة متشدّدة. لم يرضوا أن يتخذ الحشمونيون لقب عظيم الكهنة. إنطلقوا من المدينة المقدسة في بداية الثورة، ولم يعودوا إليها حتى بعد تطهير الهيكل. إنتظروا "عهداً جديداً" مع الله وكوّنوا جماعة عاشت على هامش الحياة الرسمية.
واكتشفت مكتبة الاسيانيين سنة 1947 في مغاور قرب البحر الميت، في قمران. واعطتنا كتبهم معلومات عن انتظارهم المسّيحاني العظيم: ينتظرون من الله وحده النصر النهائي على الأشرار، على "أبناء الظلمة".

ثانياً: الفريسيون
الفريسيون هم "المنفصلون" عن سائر الناس. يتحدّرون من "الحسيديم" (كالاسيانيين) الذين انفصلوا عن المكابيين ساعة احسّوا أن المحاولة التي يقومون بها اتخذت منحى سياسياً. حذروا الكهنة من الخطر وتعلّقوا تعلقاً خاصاً بالشريعة التي جعلوها دستور حياتهم الدينية والاخلاقية.
سيطر الاضطراب على علاقتهم مع الحشمونيين. إضطهدهم الملك الحشموني الاسكندر يناي اضطهاداً قاسياً حوالي سنة 90، ولكن تأثيرهم زاد وسط الشعب. إنهم جماعة دينية وحزب سياسي في آن واحد. كانوا من العوام الذين نسّق عملهم اشخاص متعلّمون هم الكتبة. أما وجهة نظرهم إلى الثورة ضد أنطيوخس ابيفانيوس فنجدها في 2 مك.

ثالثاً: الصادوقيون
تعترف هذه المجموعة الثالثة بكهنوت سمعان، شقيق يهوذا المكابي. وقد صارت حزب العائلات الكهنوتية الكبرى، حزب الارستوقراطيين المهتمين بامتيازاتهم المحافظين على مستوى الدين، الانتهازيين على مستوى السياسة. حين وصل الرومان إلى البلاد انضموا اليهم. وإن 1 مك الذي هو أقرب إلى الحشمونيين منه الى الصادوقيين، يعكسه مع ذلك حكم الصادوقيين على الثورة واقامة نظام جديد.

ز- رومة
1- الامتداد الروماني
اولاً: الوضع في الداخل
تقول التقاليد إن الجمهورية الرومانية تأسست سنة 509 ق. م.، ووصلت إلى أسية الصغرى منذ سنة 196.
ولكن الجمهورية دخلت في الوقت عينه في أزمة اجتماعية خطيرة، والسبب هو الهوة المتزايدة التي حفرتها الحروب بين أصحاب الامتيازات وطبقة المستغَّلين من فلاحين صغار وعبيد. دخل الملاّكون الصغار في الجيش الروماني فخسروا أراضيهم وصاروا بدورهم فريسة الملاّكين الكبار الذين كوّنوا ضياعاً يعمل فيها مئات العبيد.
واندلعت حرب أهلية بين سنة 88 وسنة 86 ق. م.، ثم قاد ثورةَ العبيد سبارتكوس سنة 74- 73. وكانت ردّة فعل النبلاء إصلاحات وصلت بالبلاد بعد سيلا إلى خلق الامبراطورية. فالسلطة القوية وحدها تستطيع أن تلجم الطبقات المستغلة وتحافظ على امتيازات النبلاء والتجّار العظام، مع الحدّ من بعض تجاوزاتهم.

ثانياً: الوضع في الخارج
إن أزمات رومة الداخلية أتاحت للشعوب الخاضعة لها بأن ترفع رأسها. فشعوب مكدونية وأسية الصغرى تعبوا من الوجود الروماني. فالحكام يتصرفون كطغاة ويحقّقون أرباحاً هائلة، ويفرضون سلطتهم بالارهاب. يلزمون الناس بالأشغال الشاقة أو يجعلونهم جمبيداً لهم. إنتمى هؤلاء الحكام إلى طبقة جديدة هي طبقة "الخيّالة" (كانوا يحاربون على الخيل لا كمشاة)، فصاروا رجال أعمال يمسكون بيدهم التجارة ويوسّعون ممتلكات رومة.
بدأ متريداتس، ملك البنطس في آسية الصغرى (على شاطىء البحر الأسود) ثورته سنة 88. فقتل الرومان وحلفاءهم. ولكن سيلا القائد الروماني هزمه مرة أولى سنة 86. ثم هزمه مرة ثانية بومبيوس سنة 67، بعد أن أعاد الهدوء إلى رومة. وفي سنة 64، أخضع بومبيوس لسلطة رومة آخر ملوك السلوقيين، وخلق مقاطعة سورية الرومانية.

2- اليهودية والحكم الروماني
أولأ: بومبيوس في أورشليم
كيف وصل بومبيوس إلى اورشليم؟ إستفاد من الخلاف المستفحل بين اليهود، بين أرسطوبولس وهركانس الثاني. فأرسطوبولس الذي يسنده الصادوقيون يعارض اخاه البكر هركانس الثاني صديق الفريسيين. تحالف هركانس مع انتيباترس حاكم أدومية، (منطقة تقع بين يهودا والصحراء). وطلب الخصمان من بومبيوس أن يتدخّل بعد أن أرسلا إليه الهدايا العظيمة. ولكن أخذت رومة بحيلة انتيباترس فوقفت مع هركانس وحاصرت أرسطوبولس في اورشليم.
بعد ثلاثة أشهر من الحصار، دخل بومبيوس إلى المدينة، فقتل الكهنة واستباح الهيكل، وتعجّب أن يكون قدس الأقداس فارغاً. كان ذلك يوم عيد الغفران العظيم، سنة 63 ق. م.

ثانياً: هيرودوس الاكبر
لقد تبدّله كل شيء. ألغت رومة الملكية، ولكنها جعلت هركانس رئيس كهنة واتنارخساً (أي: رئيس الشعب). وطالت الحرب الاهلية. فاستولى هيرودس الاكبر، ابن انتيباترس، على السلطة سنة 37 برعاية الدولة المحتلّة.
كان هيرودس رجل بناء. فأعاد بناء الهيكل، وشيّد قلاعاً مثل مصعدة (او: هيروديوم) ومدناً لمجد الرومان: سبسطة (حيث كانت السامرة)، قيصرية الساحلية... كانت هذه المدن مراكز للحضارة الهلنستية.
عُرف هيرودس برغباته الجامحة وقساوته في معاملة الآخرين. ربح ودّ رومة، فأعلنه مجلس الشيوخ ملكاً ساعة كان الفراتيون يهابون مملكته. إستعاد من الفراتيين ما أخذوه، وقتل آخر الحشمونيين. أما الفريسيون فعارضوه ورفضوا دوماً أن يقسموا له الولاء كما سيرفضون فيما بعد أن يقسموا الولاء للامبراطور نفسه.

ثالثاً: رجاء مسيحاني
في هذا الاطار من الاحتلال الاجنبي، وفي عهد رجل غير يهودي (هيرودس هو من أدومية. في الاردن الحالي)، ووسط شيع واحزاب تتصارع، إلى أي جهة يتطّلع الشعب اليهودي؟ لجأ عدد كبير إلى انتظار محموم لتدّخل الله. فهو وحده يستطيع أن يخلّصهم. إنه "الرجاء المسيحاني" الذي تغذّيه كتب (تصدر في أماكن مختلفة) تعلن. بالرموز والصور مستقبلاً بضيئه انتصار الله ومؤمنوه في النهاية. سمّي هذا الادب "الادب الجلياني"، لانه يجلو الأمور ويكشفها.
في هذا الاطار ولد يسوع الذي من الناصرة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM