الفصل الرابع:الناجون في أورشليم

الفصل الرابع

الناجون في أورشليم

في هذه الآيات القليلة (4: 2-6) نقرأ موضوعين. الأوَّل، "البقيَّة" في أورشليم (آ2-3). لا، لا يمكن أن تفنى المدينة كلُّها، فالشعبُ يبقى شعبَ الله بالرغم من خطيئته. والعقاب لا يمكن أن يكون الكلمة الأخيرة. والموضوع الثاني، من خلال الدينونة التي تفصل فعل الغربال، يعيد الربُّ إلى أورشليم سابق عزِّها (آ4-6).

4: 2-3 البقيَّة الباقية.

هناك كلام عن "الناجين". متى؟ "في ذلك اليوم". هكذا اعتاد النبيّ أن ينتقل من فكرة إلى فكرة دون تحديد الزمان. أوَّل عبارة: "غصن الربّ". أجل، لم تقتلع الشجرة من جذورها. بقي فيها غصن. أو "نبتة" كما في العبريَّة (ص م ح). هي تنمو، تعطي ثمرًا. ونلاحظ أنَّ هذه النبتة تخصُّ الربّ، فما من أحد يستطيع أن يأخذها من يده. هذا يعني تعلُّق الربِّ بأورشليم. سوف يقول فيما بعد: "هوذا على كفّي نقشتك، وأسوارك أمامي دائمًا" (49: 16).

إذا كان من ثمر، فهذا ينفي "العقم" الذي خافت منه نساء أورشليم. ومع أنَّ "بنات صهيون" (3: 16) المتشامخات سوف يعرفن الذلّ، إلاَّ أنَّ مستقبلاً حلوًا ينتظرهنَّ، أو بالأحرى ينتظر تلك "الباقيات" (آ3). وما انتزع منهنَّ من حلق وأساور وخواتم (3: 19ي)، سوف يعود إلى أورشليم في شكل "زينة" (آ2). الربُّ هو الذي يفعل فيحوِّل ذاك الغصن إلى "بهاء ومجد". ولكنَّ هذا الغصن بدا يابسًا لا نفع منه. فيستحيل على البشر أن تخرج منه الحياة. ولكن ما يستحيل على البشر هو مستطاع على الله الذي يُعطي شعبه بعضًا من ذاته. ثمَّ يأتي "الجاه والفخر". أهكذا يكون أسرى الحرب؟ غير أنَّ الربَّ حرَّرهم بعد أن أعاد إليهم الحياة.

ومتى يكون كلُّ هذا "الثمر" في الأرض؟ متى يعرف الناجون مثل هذا الازدهار بعد كارثة أصابت الجميع؟ استعمل النبيّ ألفاظًا توجِّه الأنظار إلى الأزمنة المسيحانيَّة. قال عا 9: 13: "ها أيام تأتي، يقول الربّ، يُدركُ الحارثُ الحاصدَ، ودائسُ العنب باذرَ الزرع". نتخيَّل! يُبذَر القمح اليوم فيُحصَد اليوم أو غدًا. تُغرَس الكرمة اليوم فنقطف عنبها في الحال ويكون فائضًا فيسيل على الجبال. ويصوِّر مز 72: 16 حقول القمح بسنبلاتها التي تتمايل "مثل لبنان". الطبيعة تزدهر والإنسان أيضًا. فيعرف الشعب ولادة جديدة تدعوه إلى مستقبل باهر. والصور الأخيرة الكاملة نجدها في المسيح ذاك "الغصن" الذي يُجري الحقّ والعدل في الأرض (إر 23: 5).

وتَذكر آ3 مرَّتين هؤلاء "الناجين" في لفظين مختلفين. "ه ن ش ا ر": المُبقى، الذي بقيَ من الذين غابوا. في اللغة العربيَّة: سائر الشعب أي باقيه. ومقابل "نثر" في العربيَّة تناثر. نقرأ هنا "ن و ت ر"، ما نُثر وسقط، ما تُرك. هذا يشبه الزيتون الساقط تحت الشجرة أو حبوب العنب. لماذا يجمعونه وقيمته ليست بكبيرة؟ لا في نظر الربّ. فهذا اللامعتبر عند الناس، صار جماعة من القدّيسين. كما قالت النسخة السريانيَّة. والقدّيس هو الذي يضعه الله جانبًا، يفرزه لكي يجعله له. وسوف يدوِّنه في "كتاب الحياة". هو يحيا في أورشليم ولا يموت. هذا في المعنى المادّيّ. وفي المعنى الروحيّ، الناجون يعودون إلى الربّ ويكوِّنون جماعة جديدة من الذين اختارهم الربُّ ليعيد بهم بناء مدينته التي تُذكَر مرَّتين في هذه الآية باسم أورشليم، ومرَّة واحدة باسم صهيون، تلك القلعة التي يصونها الربُّ لأنَّ عليها بُنيَ الهيكل.

4: 4-6 الدينونة.

عادة في الدينونة، يكون فرز بين الأخيار والأشرار، بين أهل اليمين وأهل اليسار (مت 25: 33)، بين القمح والزؤان (مت 13: 24ي[RK1] )، بين السمك الجيِّد والسمك الرديء (مت 3: 48). ولكن هل من "جيِّد" في سكّان أورشليم؟ وهل "البقيَّة" كانت أفضل من الذين ماتوا أو مضوا إلى السبي؟ هنا نتذكَّر سؤال الربِّ يسوع حول الذين "سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم" (لو 13: 4). قال: "أتظنُّون أنَّ هؤلاء مذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم؟" والجواب كلاّ. ولكنَّ الربَّ ينطلق ممّا في يديه كما فعل بذاك التين الذي تحدَّث عنه إرميا: "كهذا التين الجيِّد أنظر إلى سبي يهوذا" (إر 24: 5).

إذًا، انطلق الربُّ من "البقيَّة" التي نجت من الموت ليبني شعبه من جديد. ولكن قبل ذلك هناك عمل تنقية وغسل. "بنات صهيون" أو "بنت صهيون" يعني جماعة أورشليم ببنيها وبناتها، كما قال اليونانيّ. هي "قذرة" لا بدَّ من غسلها، من رحضها (ر ح ص، في العبريَّة). هكذا يفعل المؤمن قبل الدخول إلى الهيكل إذ يجب عليه أن يكون أقلَّه "طاهر اليدين" كما يقول مز 24 ويضيف: "نقيّ القلب". والدم الذي سُفك جعل الجماعة "نجسة" فلا يمكنها أن تقوم بشعائر العبادة. وهذا الدم يجب أن يُزال كلُّ أثر له. وكيف يتمُّ هذا التطهير؟ هناك عملان: روح القضاء وروح الإحراق. الروح أو الريح. فالريح تفصل التبن عن القمح. وهي ترمز إلى الدينونة. أمّا النار فتدلُّ على حضور الله وعمله، على مثال النار التي تجعل المعدن نقيًّا.

وبعد الغسل يبدأ عمل الخلق مع فعل "ب ر ا" (آ5). يخلق الله المناخ الذي يعيش فيه شعبه، على ما سبق له وفعل في مسيرة البرِّيَّة: السحاب في النهار. فالشمس حارقة والربُّ يحمي شعبه من حرِّها في النهار، على ما يقول المزمور: "لا تضربك الشمس في النهار" (مز 122: 6). وفي الليل النار. هي تضيء بلمعانها. وتعطي الدفء بلهيبها. فماذا يحتاج بعدُ هؤلاء الناجون لكي يخرجوا من "يأسهم" وينفتحوا على عمل الله فيهم؟ ما إن ترك العبرانيّون مصر حتّى "كان الربُّ يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم. وليلاً في عمود نار ليضيء لهم" (خر 13: 21). وما فعل الله في الماضي، يفعله اليوم بعد أن عرفت أورشليمُ الخراب والشعبُ الضياع.

هكذا دلَّ الله على مجده (ك ب و د). فمجد الله هو حضوره في الكون من خلال الشمس والقمر والكواكب. أمّا هنا فظهر مجده حين صنع لشعبه "غطاء" (ح ف ه) يخفيه عن حرِّ الشمس. كما صنع له "مظلَّة" جعلته يعيش في الظلّ (ص ل، في العبريَّة)، في الفيء. إذا كانت البيوت دُمِّرت والأشجار قُطعَتْ خلال الحصار، فالربُّ يؤمِّن للمؤمنين المخبأ الذي فيه يستترون (م س ت و ر) من المطر. هكذا تجلّى الله، وهكذا ظهرت حمايته في أورشليم، فيستطيعون بالرغم من كلِّ شيء أن يحتفلوا بعيد المظالّ (س ك ت). حلَّت الحياة بعد الموت، والفرح بعد الحزن، والبناء بعد الهدم، وكلُّ هذا بيد الربِّ الذي لا يفعل بالنظر إلى أعمال أهل أورشليم، بل لكي يُظهر مجده. وهكذا يستطيع الناجون أن ينشدوا: "رنِّموا للربِّ ترنيمة جديدة... حدِّثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه" (مز 96: 1، 3).

 


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM