الفصل الثالث: الفوضى في أورشليم وما يتبعها من المآسي

الفصل الثالث

الفوضى في أورشليم وما يتبعها من المآسي

ما زلنا في إطار دينونة أورشليم ويهوذا. في 3: 1-12 هي الفوضى في بداية حكم الملك آحاز حوالي سنة 735 ق.م. القويّ يسحق الضعيف، والمسؤول ليس بمسؤول، بل يستغلّ الفقراء. لهذا يخاصم الربُّ الشيوخ والرؤساء (آ13-15) ويدينهم. في آ16-24، يهاجم القولُ النبويّ الغنى والبذخ اللذين يشكِّلان إهانة للفقراء، ومن خلال ذلك نساء أورشليم وما عندهنَّ من غرور. أمّا المصير الذي ينتظرهنَّ فمعتَّم أسود. وبين هذه النسوة، هناك كلام يتوجَّه بشكل خاصّ إلى الأرامل اللواتي يبحثن عمَّن ينتزع عنهنَّ العار (3: 25-4: 1).

3: 1-12 الفوضى في أورشليم.

نستطيع أن نقرأ هنا مقطعين. الأوَّل: الربُّ تخلّى عن مدينته (آ1-8). الثاني: ضلَّت أورشليم وامَّحت طرقها (آ9-12).

"السيِّد، الربّ" (آ1). السيِّد هو "أدوناي". الربُّ هو "ي ه و ه"، الإله الذي هو. إنَّه القدير "بجنوده" (ص ب ا و ت). فمن يقف في وجهه. "ينزع" أو: يزيل. هو وضع بائس تعيش فيه أورشليم بعد أن تخلّى عنها الربُّ وما ترك فيها شيئًا. لا شيء بعدُ تستند إليه، ولاسيَّما إذا كان الجيش يحاصرها. يرد ثلاث مرّات لفظ "سند" (م ش ع ن). فالخبز يسند الإنسان في جوعه. أمّا الماء فلا يمكن الاستغناء عنه. ولفظ "ركن" يعود إلى الجذر عينه: م ش ع ن ه. الذي يمكن أن يعني العصا الذي[RK1] نتوكَّأ عليها. وهكذا غاب كلُّ ثبات وكلُّ قوَّة.

في آ2-3، يعدِّد النبيّ ما يمكن أن يكون سندًا، وذلك أبعد من الطعام والشراب. على المستوى الحربيّ، غاب "الجبّار ورجل الحرب" ونضيف إليها "رئيس الخمسين" كما عرفناه في خبر إيليّا (2 مل 1: 9، 11-13). على المستوى الدينيِّ، لم يعد من وجود للنبيّ والحاذق بالرقيَّة (أو: العرّاف). على المستوى السياسيّ والقضائيّ: القاضي، الشيخ، المعتبَر (أو: الوجيه) والمشير (أو: المستشار). وعلى مستوى البناء: الماهر بين الصنّاع أو "المهندس" في لغتنا الحديثة. وبمختصر الكلام، كلُّ الذين يلعبون دورًا هامًّا في الحياة اليوميَّة وتنظيم المدينة. أجل، حُرمت أورشليم من كلِّ هؤلاء، فصار الباقون "شعب الأرض" الذي يعمل لكي يؤمِّن الضرائب للمحتلّ. هذا ما حصل في الواقع حين جاء البابليّون واحتلُّوا أورشليم مرَّة أولى سنة 597 ومرَّة ثانية سنة 586. هذا يعني أنَّ تلاميذ إشعيا أعادوا قراءة كلام النبيّ على ضوء الأحداث التي يعيشونها.

من حلَّ محلّ هؤلاء الأركان والأسناد؟ "صبيانًا، أطفالاً" يتبعون نزواتهم. هم شبّان مع آحاز الشابّ كما كان الأمر مع رحبعام الذي "ترك نصيحة الشيوخ" (1 مل 12: 8) وأخذ "بنصيحة الفتيان" (آ14). حكمٌ قاسٍ من قبل النبيّ. فإلى أين تسير المملكة؟

القتال والخصام. لا احترام للشيوخ والشرفاء. ضاعت أبسط التراتبيَّة في المجتمع. والمحاولات لإعادة النظام وإقامة مسؤولين باءت بالفشل. "لك ثوب". يمكن أن يعينه لكي يقضي فيه ليلته. هذا يدلُّ على الغنى تجاه أشخاص لا يملكون شيئًا. يُطلَب منه أن يكون رئيسًا فيرفض، لأنَّ الوضع ميؤوس منه. ويرد فعلان، الأوَّل يتعلَّق بأورشليم (عثرت) والثاني بيهوذا (سقطت). هي الخطيئة الكبيرة، على مستوى اللسان وعلى مستوى الأفعال. اللسان يتَّهم الله بأنَّه لا يفعل شيئًا من أجل شعبه. هكذا اعتاد الناس أن يتصرَّفوا لكي يخفوا تقاعسهم وتهاملهم. فهم لا يعملون خيرًا، بل شرًّا.

"إغاظة" (آ8). في الأصل: مرمرة (ل م ر و ت). أو تمرّد على الله. ثمَّ نقرأ: عيني مجده. سكّان أورشليم "يجدِّفون" على الله وعلى أعماله التي هي انعكاس مجده. هكذا يمكن أن نفهم لفظ "عين".

في آ9-12 جاءت الأقوال متقطِّعة: هناك التوازيات والتكرارات: ويل لنفسهم (آ9)، ويل للشرّير (آ11). ثمَّ مع "لأنَّهم": لأنَّهم يصنعون لنفوسهم شرًّا (آ9)، لأنَّهم يأكلون ثمر أعماله (آ10)، لأنَّ مجازاة يديه (آ11).

"تقطيع وجوههم" (آ9). كذا في العبريَّة. فكأنَّنا نقول في معنى إيجابيّ: سيماء وجوههم تدلُّ عليهم. هم خاطئون ويفتخرون بخطيئتهم. وتعود حالة سدوم مرَّة أخرى. ماذا ينتظرهم؟ الشقاء.

ويأتي التقابل من جديد بين "الصدّيق" (أو: البارّ) والشرّير. البارّ يأكل ثمرة عمله (آ10)، والشرّير (آ11) يحصد ما زرع كما في سفر الأمثال (أم 12: 14: الإنسان يشبع خيرًا من ثمر فمه). ونقرأ في مز 128: "لأنَّك تأكل من تعب يديك".

ويستعدُّ النبيّ لإعلان الحكم على المسؤولين. ومن هم؟ أولاد، نساء. حرفيًّا: طائش (م ع و ل ل) أو "طفل ما زال يُعال". هذا هو الملك الذي لا يقود شعبه في الطريق الصحيح. "والنساء" هم أوَّلاً أمُّ الملك التي كان لها التأثير الكبير في مملكة يهوذا (1 مل 15: 13). ومن المعنى الواقعيّ يأتي المعنى الرمزيّ: الضعف وعدم المقدرة (نا 3: 13)، في نظرة محقَّرة إلى النساء. في الترجمات: المغتصبون يتسلَّطون عليه. ونقرأ هنا فعل "بلع" بمعنى أخفى.

3: 13-15 خصومة الربّ مع الرؤساء. هو يُعين لا شعبَه فقط، بل "الشعوب" (آ13). هي نظرة شاملة مقابل نظرة خاصَّة، محلِّيَّة: إصلاح الأمور في أورشليم. ما يقال عن الشعوب نفهمه انطلاقًا ممّا يحدث في شعب خاصّ، والدينونة تبدأ بشعب الله لتصل إلى سائر شعوب الأرض. على ما قال الرسول: "شدَّة وضيق... مجد وكرامة وسلام... لليهوديّ أوَّلاً ثمَّ لليونانيّ" (رو 2: 9-10).

يتوجَّه الربُّ إلى الشيوخ (آ14) إلى الذين ذَكر خطاياهم. هو يتَّهمهم، يعلن لهم مسؤوليّاتهم ويطالبهم بالحساب. وتُذكَر الخطايا. "ب ع ر" يعني أحرق. وفي معنى ثانٍ، أكل. هي الإساءة إلى الفقير. ثمَّ "ج ز ل"، سلب. أنتم سرقتم البائس وما يشهد على سرقتكم هو أنَّ هذا "السلب" موجود حتّى الآن في بيوتكم فلا تستطيعون أن تنكروا. وفي آ15 فعلان قاسيان أيضًا ما زالا حاضرين في حياتنا اليوم. الأوَّل: سحق، دكَّ (د ك ا) كما يُدَكُّ الحائط. ثمَّ "طحن" (ط ح ن). فماذا يبقى من الشعب المسكين؟ وما يحصل في شعبي، يقول النبيّ، يحصل في جميع الشعوب. وما يحصل الآن يحصل في كلِّ يوم وإلى نهاية الأيّام.

3: 16-24 تحذير لنساء أورشليم.

بعد الفوضى في أورشليم، ها هو الهجاء والانتقاد للنساء. لم نعد أمام وضع سياسيّ محزن مع نتائجه، بل أمام "غنج" بنات صهيون وترفهنَّ في وقت من الضيق إذلالاً للفقراء. ولكن العقاب يأتي سريعًا.

صوَّر الشاعر مشية هؤلاء النسوة (آ16): ممدودات الأعناق، غامزات بالعيون، والخشاخش في أرجلهنَّ. كلُّ هذا يدلُّ على تشامخهنَّ. ولكن ماذا ينتظرهنَّ؟ الصلع والعري (آ17). راح جمالُ الشعر! وأين الثياب الجميلة الفضفاضة!

أمّا العقاب فهو حين "ينزع" الربُّ كلَّ أنواع الزينة: الحلق، الأساور... ثمَّ مختلف الثياب "المعطف، الأردية، الأكياس...". وفي النهاية يتمُّ التبادل (آ24) بين ما هو اليوم وما سيكون فيما بعد. من الطيب والعطور إلى العفونة. وبدل المنطقة التي تُبرز جمالَ المرأة إلى الحبل الذي به يجرّون الأسرى... ومحلّ الجمال يكون "الكيّ". هكذا كانوا "يختمون" الأسرى لئلاّ يهربوا، ثمَّ ليعرف كلُّ واحد أيَّ أسير أو سبيَّة هما له.

هي خطايا يتبعها عقابُها. كما يكون هذا العقاب مناسبًا مع تصرُّف هؤلاء النسوة. بعد اللباس المترف كانت علامات الحداد من مسح وسواد، وبدل الشعر الجميل والجدائل، القرع، بعد أن حُلقت الرؤوس. ذاك هو الوضع الذي ينتظر أولئك الماضون إلى السبي فيلاحقهم الجوع والعطش.

3: 25-4: 1 الأرامل في أورشليم.

صارت أورشليم "امرأة" خسرت مقاتليها، بل النخبة منهم: الرجال والجبابرة. تسقط المدينة "وتنوح" أبوابها. كلُّ امرأة صارت أورشليم الحزينة، فارتمت على التراب. أين أسرَّة العاج والمقاعد المرفَّهة؟ كلُّ هذا مضى. فرغت المدينة بعد أن سُلبت وراح الناس لا يحملون معهم سوى "بقجة" فيها بعض الثياب.

غاب الرجال الرجال فماذا تعمل النساء؟ يُذكَر الرقم "سبعة" (4: 1) كرقم رمزيّ يدلُّ على العدد الكبير. نساء يحتَجْنَ إلى "غطاء"، إلى رجل يتمسَّكن به. وهكذا يعشن انقلابًا بعد انقلاب. وآخر انقلاب، كنَّ سيِّدات فصرن أرامل وثكالى. الإماء والجواري يكون لهنَّ "الطعام والكسوة والمعاشرة" (خر 21: 10). أمّا هؤلاء الأرامل فلا يطلبن شيئًا من كلِّ هذا: يزول العار حين "يُدعى اسمك علينا". إلى هذا الذلّ وصلت حال النساء في أورشليم. جاء كلام النبيّ تنبيهًا وتحذيرًا. أتُرى سوف يبدِّلن سلوكهنَّ أم يلبثن لامباليات بما يمكن أن يحصل لهنَّ؟

كان كلام عن الفوضى الاجتماعيَّة حيث الأغنياء يظلمون الفقراء. والآن هي فوضى من نوع آخر حيث كلُّ واحد يهرب في طريقه، بعد أن دُمِّرت البنى الأساسيَّة في المجتمع وتساوى الجميع في الفقر والذلّ. فأيُّ مستقبل يبقى لأورشليم ولسكّانها؟


[RK1]الذي أو التي --- عليها أو عليه...

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM