الفصل الثاني والثلاثون الادب الحكمي

الفصل الثاني والثلاثون

الادب الحكمي

وبرز أدب جديد هو الأدب الحكمي. نتعرّف إلى بعضه في حقبة الحكم الفارسي، ونعود إلى القسم الآخر في الحقبة الهلنستية التي عرفت حضارة يونانية حاولت أن تتفاعل مع أسفار التوراة المطبوعة بالطابع الشرقي.

أ- سفر الامثال
يضمّ سفر الامثال مجموعة من الأقوال المأثورة والعبادات المختلفة عمّا يمارسه البشر في عملهم، في حياتهم العائلية والاجتماعية، في بحثهم الديني. وقد تكوّن بصورة نهائية خلال الحقبة الفارسيّة. فانزادت على مجموعات ما قبل المنفى: "اقوال آجور" (30: 1- 14)، وأقوال لموئيل (31: 1- 9) التي أُخذت من كتب حكمة أجنبية رأى فيها شعب الله اهتماماً بالعدالة من أجل صغار القوم (30: 14؛ 31: 4- 9). وأقحمت بين هاتين المجموعتين "أمثال عددّية" (30: 15- 33). سمّيت كذلك لأنها بُنيت على تدرّج عددي (3، 4) عُرف مع عا 1: 3- 2: 6.
أما الرفد الأهم الذي حصل عليه الكتاب فهو البداية (ف 1- 9) والنهاية (31: 10- 31). نجد فيهما تعليماً يوجّهه معلّم لتلميذه الذي يسمّيه ابنه (1: 8). يحذّره من حياة المجون ويدعوه لكي يبقى أميناً للتربية التي نالها، ويحب القريب (2: 27- 35). ويلحّ عليه مرات عديدة بمقاومة تجربة الزنى محذراً إياه من "المرأة الغريبة" أي امرأة غيره (2: 16- 19؛ 5: 1- 23؛ 6: 20- 35؛ 7: 5- 27). وهذا التشديد يكشف مناخاً اخلاقياً جديداً يردّ عليه ايضاً النبي ملاخي (2: 14- 16). وعن حرية بل تحرّر تعيشه المرأة في المجتمع، أقله في الطبقات الاجتماعية العليا. فالبيت الغني الذي يصوّره 7: 16- 21 هو بيت تاجر كبير، وسيدة البيت في 31: 10- 31 تعيش حياة بورجوازية. ويستفيد الكاتب من المناسبة لينشد جمال الحب بين الرجل وامرأته (5: 15- 19) بلهجة تذكّرنا بنشيد الاناشيد.
وتمتزج بهذه التعاليم مقاطع تبدو فيها الحكمة كأنها شخص يتوجّه إلى البشر (1: 20- 33؛ 8: 1- 36؛ 9: 1- 6). من هي هذه الحكمة المشخصنة؟ لاحظ الناس منذ بداية تفكيرهم أن الشرائع تشرق على الكون، على سلوك البشر، على تقنيات العمل. واستنتجوا تدريجياً ان هناك نظاماً يسود الكون، أن الكون ليس شواشاً غامضاً. فالكون معناه فيه. فاكتشاف هذا النظام ومعنى الاشياء وقيمة الانسان، وجعل سلوكنا مطابقاً للنظام، يعني أننا نعطي نفوسنا أفضل الوسائل لننجح في عملنا، في بيتنا او في إدارة البلاد. هكذا يكون الانسان حكيماً هكذا يمتلك الحكمة.
قاسَم شعب التوراة هذه الحكمة مع سائر الشعوب التي أحاطت به. وحين طرح السؤال: من أين جاءت الحكمة؟ ما الذي يعطي معنى للكون ولحياة البشر؟ أجاب الكاتب الملهم: جاءت من الرب. فقبل أن يبدأ الرب عمل الخلق "ولد" الحكمة، وهذا ما أعطى الكون المخلوف معناه، وأمّن له جماله وتناسقه (8: 22- 31). إذن، هذه الحكمة هي لغة مسكونية يستطيع كل إنسان أن يفهم تعليمها حين يبحث عن معنى لحياته وللعالم (1: 20- 22؛ 8: 1- 21؛ 9: 1- 6).
وسيتواصل هذا التفكير حتى يصل إلى زمن العهد الجديد. وسيساعد الكنيسة على فهم دور المسيح في الخلق والتاريخ (يو 1: 1- 5؛ أف 1: 3- 10؛ كو 1: 12- 20).

ب- سفر يونان
سفر يونان هو اعتراض ضد الخاصية اليهودية التي نمت في الحقبة الفارسية. فعلى أثر اصلاحات عزرا ونحميا، إهتمت الجماعة إجمالاً بشدّ الرباطات التي تؤمّن تماسكها: إعادة تنظيم العبادة في الهيكل، رفض الزواج مع الغرباء، تجميع الكتب المقدسة. ولكن هذه الاعمال عرّضت الجماعة للانغلاق على نفسها.
أما كاتب سفر يونان فوجّه نظره إلى العالم. قدّم في خبر شعبي نبياً يهودياً أعطاه اسم يونان (أي: الحمامة) ملمحاً بدعابة الى نبي آخر اسمه يونان قد ساند سياسة يربعام الثاني الوطنية (2 مل 14: 25).
رمز يونان إلى هذه الجماعة التي نسيت دعوتها الشاملة: كلّف بمهمّة لدى الوثنيين، فلم يؤمن بأن تعليمه قد يُسمع. لهذا حاول أن يتهرّب من كلمة الله. أما الوثنيون الذين التقاهم فاكتشفوا الرب وعادوا إليه (1: 5- 14؛ 3: 4- 10). غير أن يونان بدا مغضباً حتى الموت حين لاحظ أن حب الله يتغلّب دائماً على قراره بأن يعاقب، ولا سيما اذا كان الخاطئون غرباء عن شعبه (4: 1- 2).
ويسوع لم يفهمه معاصروه لأنه استقبل الخطأة والوثنيين. فأحالهم إلى شهادة سفر يونان (مت 12: 38- 41؛ لو 11: 29- 2).
دوّن سفر يونان بين سنة 400 و سنة 350 اما المزمور (ف 2) فقد أقحم فيما بعد. كتاب يونان قريب من كتب أخرى تعترض على العقلية العامة التي تسيطر على اليهود في أيام الفرس. إنه يشبه سفر راعوت وسفر أيوب.

ج- سفر راعوت
كتيّب شيّق يصوّر عادات وأعمال ذاك الزمان، في أيام القضاة (1: 1؛ 3: 1 ي). إنه يروي كيف وُلد جد داود الملك من امرأة غريبة هي راعوت الموآبية. إمتُدحت هذه المرأة لأنها تضامنت مع الرب ومع شعبه.
ولكن من خلاك هذه القصّة التقوية التي تحتفظ بلا شك بذكريات تاريخية (حسب 1صم 22: 3- 4، كان لداود أقارب في أرض موآب)، نجد اعتراضاً على قساوة نحميا وعزرا اللذين منعا الزواج بنساء غريبات. فدلّ راعوت أن مثل هذه الزواجات لا تقود حتماً إلى التخلّي عن الايمان. وصاحب الكتاب الذي يلتقي والتيار المعارض لعزرا (عز 10: 5) سينضم إلى مجهود من أجل الانفتاح نجده في سفر يونان وسفر أيوب. وحين يجعل متى راعوت في نسب يسوع (مت 1: 5) فهو يسير في الخطّ عينه فيجعل الغرباء والخاطئين في سلالة يسوع. فجميع. الناس هم إخوته.

د- سفر ايوب
ينطلق سفر أيوب من خبر نثري قديم (ف 1- 2؛ 42: 7- 17) أصله من خارج فلسطين وقد يعود إلى القرن العاشر أو التاسع. بعد المنفى أدخل اليه شخص الشيطان الذي بدأت صورته تتوضّح في ذلك الزمان (زك 3: 1- 2).
يروي هذا الكتاب كيف أن أيوب امتحن لتُعرف امانته: هل هي متجرّدة، هل تطلب منفعتها؟ حُرم أيوب من كل خيراته، من أولاده؛ ضربه المرضى ومع ذلك ظل ثابتاً في ايمانه متكلاً على الله رغم نصائح امرأته. مقابل هذا غمره الله بخيراته من جديد.
في القرن الخامس ق. م أدخل كاتب نجهل اسمه داخل الخبر القديم حواراً شعرياً طويلاً بين أيوب وثلاثة من اصدقائه (ف 4- 27). وسبق هذا الحوار مونولوج (ف 3) وتبعه مونولوج آخر (ف 29- 31). تكلّم الأصدقاء على التوالي في ثلاث سلاسل من الخطب (ف 3- 14؛ 15- 21؛ 22- 27) قطعتها أجوبة أيوب. وتبع هذه الحوارات جواب الله (38: 1- 32: 6). هذا هو أهمّ قسم في الكتاب.
وجاء كاتب في القرن الرابع فاقحم خطبة شخص رابع هو اليهو، صديق ايوب (ف 23- 27). كما أقحم ف 28 الذي يبيّن أن الحكمة بعيدة عن الانسان المتروك على أمره.
في الخبر كان أيوب صامتاً امام ألم لم يستحقة. في الحوار الشعري نجده عاتاباً على الله الذي يترك البريء يتألم ساعة ينجح الأشرار والخطأة. حاول اصدقاؤه مراراً بأن يقنعوه أن محن البار لا تدوم طويلاً، وأنه سيجازى خيراً على أعماله، وأن الاشرار يعاقبون دائماً (5: 18- 27؛ 8: 2- 22؛ 15: 17- 35؛ 18: 5- 21؛ 20: 4- 29). أما أيوب فيعرف بالاختبار أن الامور ليسست دائماً هكذا (9: 22- 24؛ 21: 3- 34). أن العمال المياومين يُستغلون دون أن يبدي الله اهتماماً بهم (24: 1- 11). هل يقرّ أيوب بخطيئته ليجعل الله واصدقاءه على حق (4: 17- 21؛ 15: 14- 16؛ 25: 4- 6)؟ لا فأيوب متمسّك بكرامته. وهو باسم براءته يقيم دعوى على الله (13: 1- 27؛ 31: 25 - 37).
واتهم أيوب الله لأحكامه الاعتباطية: إنه دوماً على حق لأنه الأقوى (9: 1- 10: 22). يجعل الانسان البريء هدفاً لسهامه (16: 6- 17) ويقتلع له رجاءه (19: 7- 21). وهاجم أيوب صلاح الله الذي خلق الانسان للسخرة والموت (7: 1- 8؛ 14: 1- 22؛ 30: 18- 23). فالله يتجسّس على الانسان ليجد ذنباً قليلاً يعاقبه عليه (7: 12- 21؛ 13: 20- 27). ويلوم أيوب الله خاصة على صمته، على ابتعاده عن الانسان الذي يطلب جواباً على أسئلته (9: 3 23: 1- 17: 30: 20). ومع هذا، فعنف اتهام أيوب لله يبقى كلام مؤمن. هو لا يهاجم الله إلا ليحصل على علامة تساعده على إقامة الحوار معه.
وأعطى الله الجواب في 38: 1- 41: 26. ولكنه جواب مدهش. حطّم أيوب بالاسئلة ليجعله يلمس لمسة اليد حدود معرفته (ف 38- 39). بسط الله أمام أيوب مشهد الخلق: من دلّ على كل هذه القدرة (38: 4- 13). من دلّ على كل هذا الاهتمام بالتفاصيل (39: 1- 4)، من دلّ على كل هذا التعلّق بأشياء قد تبدو بدون فائدة (38: 26؛ 39: 13- 17؛ 40: 15- 41: 26)؟ إذا كان الله يعتني كل هذه العناية بخليقته، فكيف لا يعتني بالانسان (ق مت 6: 25- 34). انتقد أيوب الله انتقاداً جائراً، انتقاداً لا معنى له، فأبان أنه جهل مخطّط الله في العالم وفي التاريخ، أنه أراد أن يبرّر نفسه بأي ثمن ولو على حساب الله (40: 8).
وهكذا أعاد الله أيوب الى مكانه. لم يعامله باحتقار، بل باحترام، معاملة الندّ للندّ. عامله كما يعامل الانسان: "شدّ حقويك كرجل" (38: 3؛ 40: 7). بل هو سيأخذ جانب أيوب ضد اصدقائه (32: 7). بعد هذا سكت أيوب لانه عرف الله في خبرة لا في درس تعلّمه وحفظه: "كنت اعرفك بالسماع، أما الآن فرأتك عيناي" (42: 5).
حين نقرأ الحوارات الشعرية، نكتشف الشيء الكثير عن الكتاب وعن عصره. إنه فكر منفتح على أمور الطبيعة (ف 38- 39)، على ظروف حياة البشر (24: 1- 11؛ 30: 1- 8). لقد أحسّ بالالم الفردي والجماعي. حين استعاد في ف 19 عبارات مأخوذة من سفر المراثي، بيّن أنه يرى من خلال أيوب شعباً سحقه المنفى. رفض الحلول السهلة التي تظنّ انها تفسّر هذا الألم. وشارك معاصريه شعورهم بأن الله بعيد. ولكنه اعتبر أن تناسق الكون يدل على الله، هذا التناسق هو كلام الله (رج أم 8؛ مز 136، 147، 148، وهي تعود إلى تلك الحقبة). وكان صاحب سفر ايوب بصورة خاصة ذلك المؤمن الذي يعرف أن كل الشروح على الله تبقى كلمات فارغة لدى شخص لم يختبر حضور الله بشكل او بآخر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM