الفصل السادس:ديونيسيوس برصليبي في شرح إنجيل متّى عظة الأمثال

الفصل السادس
ديونيسيوس برصليبي
في شرح إنجيل متّى
عظة الأمثال

13: 1    في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس إلى جانب البحر.
أي في اليوم الذي جاءت إليه أمُّه وإخوته ليكلِّموه وجلس بجانب بحيرة طيباريوس.
13: 2    فاجتمع إليه جموع كثيرة حتّى إنَّه ركب السفينة وجلس. وكان الجمع كلُّه قائمًا على شاطئ البحر.
كان القصد من اجتماع الناس حوله أن يسمعوا تعليمه ويشفي مرضاهم ويُشبع جوعهم ويروا جماله على ما قال الذهبيّ الفم. أمّا الكتبة والفرِّيسيُّون فكانوا يأتون إليه لكن يقرفوه بذنب ويأخذوه بكلمة ما ليشتكوه. وإنَّه ركب السفينة وجلس تخلُّصًا من مزاحمة الجموع له ولكيلا يقفوا وراءه فيمتنعوا عن سماع تعليمه.
13: 3    فكلَّمهم بأمثال كثيرة قائلاً: هوذا الزارع خرج ليزرع.
إنَّه حين كان على الجبل لم يكلِّمهم بالأمثال لأنَّهم كانوا بعدُ ساذجين. أمّا هنا فتكلَّم بالأمثال لأجل الكتبة والفرِّيسيِّين المدَّعين بالمعرفة. أمّا الفرق بين الألغاز والبراهين والأمثال والغوامض فهو أنَّ البرهان يأتي غالبًا على شهادة الناس. فيكون من المعلومات على غير المعلومات، كقوله إنَّه شعاع مجده وصورة ذاته. ومن المعلومات على المعلومات كقوله سيق كالخروف للذبح. ومن غير المعلومات على المعلومات كقول بولس الرسول رأيت ما لم تره عين ولم سمعت به أذن.
أمّا المثل على الألغاز فهو كقوله تعالى: يشبه ملكوت السماء عشر بتولات. وكقوله يشبه ملكوت السماء حبَّة خردل. والغامض هو كلمة معقَّدة كقوله خرج من الآكل أكلاً وغير ذلك. أمّا القدِّيس يوحنّا وموسى ابن الحجر فيسمُّون الأمثال ألغازًا. وقد كان يتكلَّم بالألغاز مع الجموع والتلاميذ أوَّلاً لأنَّ الفلاسفة ما كانوا يعلمون ما سيكون من تعليمهم. لأجل ذلك بنوا علومهم على الأمثال والألغاز.
أمّا هو وإن كان يلقي تعاليمه بالأمثال والألغاز، إلاَّ أنَّه أظهر ما سوف يكون من وراء تعليمه. ثانيًا، لأنَّ قوله كان ضدَّ اليهود كقوله: كرمًا كان لحبيبي. لأجل ذلك أخفى كلامه تحت طيِّ الألغاز. ثالثًا، أراد أن يجعل التلاميذ متيقِّظين ومستعدِّين لفحص الكلام. رابعًا، لأنَّه كان يتكلَّم دائمًا عن انتشار الإنجيل بين الشعوب، اقتضى أن يتكلَّم بالألغاز لئلاَّ يهيِّج اليهود ضدَّه، أو يُغضب أولئك الذين كانوا يرمون الشقاق والذين أشار عنهم قوله: احذروا من الأنبياء الكذبة. أو ربَّما لأجل الأمور غير المنظورة التي كان يتكلَّم عنها، أراد أن يتكلَّم بالألغاز لكي لا يفهم السامعون الأسرار الإلهيَّة، لأنَّه كان بينهم الذين لا يستحقُّون أن يسمعوا مثل هذه التعاليم من الكتبة والفرِّيسيِّين.
ثمَّ إنَّه تعالى ضرب هذا المثل لأولئك الذين كانوا مزمعين أن يقبلوا تعاليمه. إلاَّ أنَّ قلوبهم كانت مرتابة وقتئذٍ بتعاليمه. فشبَّه نفسه بالزارع، وتعليمَه بالزرع، والنفس وقلوبَ بني البشر الذين يزرع فيهم التعليم بالحقول والأراضي. وقوله: خرج، أشار إلى نزوله إلى الأرض من غير أن ينتقل من عند أبيه. ذلك ليفلح أرض قلوبنا وينقِّي منها الخطيئة ويزرع فيها الفضيلة.
13: 4    وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق فأتت طيور السماء وأكلته. 5. والبعض سقط على أرض حجرة حيث لم يكن له تراب كثير فللوقت نبت إذ ليس له عمق تراب. 6. فلمّا أشرقت الشمس احترق وحيث لم يكن له أصل يبس. 7. وبعض سقط في الشوك فطلع الشوك وخنقه.
إنَّه تعالى شبَّه هنا الذين يسمعون تعاليمه بالطريق والصخرة، وشبَّه الشيطان بالطائر. فالطريق هم المتهاونون والكسالى الذين لم يقبلوا تعليم الإنجيل، لكنَّهم داسوه بأرجلهم مثل الزرع الساقط على الطريق. والصخر هم الضعفاء الذين يقبلون التعليم زمانًا يسيرًا. فإذا عرض له شيء تركوه. والمراد بالأشواك أولئك الذين هم مشتبكون بأمور العالم، وقلوبهم متعلِّقة بشهواته ومقتنياته. فهؤلاء يختنقون كالزرع بين الشوك ويأبون الموعظة والتعليم. وكما أنَّ الأشواك تؤذي من يدنو منها، هكذا الغنى والعالم فإنَّهما يؤذيان الذين يحبُّونهما. أمّا الذي سقط في الأرض الجيِّدة فشبَّه به الذين يقبلون التعليم ويثبتون فيه.
13: 8    بعض سقط في الأرض الجيِّدة فأعطى ثمرًا الواحد مئة والآخر ستِّين والآخر ثلاثين.
إنَّه تعالى شبَّه بالزرع الذي أعطى ثمرًا الواحد مئة، أولئك الذين اقتنوا الفضيلة نفسًا وجسدًا، وتلمذوا الأمم وأرجعوها عن عبادة الأوثان مثل الرسل. والذين أعطى واحده ستِّين، أولئك الذين قرنوا الفضيلة الجسديَّة بالفضيلة الروحيَّة، فحوَّلوا الخدَّ للضارب، وعوض الميل مضوا ميلين. وبالذين أعطى واحده ثلاثين، الذين يمارسون الفضائل الجسديَّة فقط كالعفَّة والتقشُّف. وبقوله مئة وستِّين وثلاثين، أشار إلى أنَّ ممارسي الفضائل ليسوا على السواء. فإنَّ الذي يعطي ثمرًا واحده ثلاثين، يشبه العبد الذي يعمل خوفًا من العذاب. والذي يعطي ستِّين، يشبه الأجير الذي ينتظر أجره في العالم الآتي. والذي يعطي مئة، يشبه الابن الذي يعمل ليرث ملكوت أبيه السماويّ. فيسمِّي نفسه زارعًا، لأنَّه زرع الإنجيل المقدَّس وعلَّمه للأغنياء والفقراء وللمجتهدين والمتهاونين كي يعطوه أثمارًا.
فكما رتَّب عاملي الخيرات على ثلاث مراتب، وإن لم يعملوا على السواء، هكذا جعل عاملي السيِّئات على ثلاثة أنواع. ثمَّ إنَّ الأنبياء كانوا يضربون الأمثال بالكرم للشعب، كقول أحدهم: كان كرم لحبيبي. وكرمة أخرجت في مصر. أمّا المسيح، فكان يضرب بالحقل المزروع أمثاله للشعب، إشارة إلى أنَّ المشبَّهين بالزرع هم سريعو الانقياد والطاعة لأوامره، وأنَّهم كالزرع سريعو النموّ والإثمار، لأنَّ الزرع يثمر في ثمانية أشهر، والكرمة في ثلاث سنين.
وربَّ سائلٍ يسأل: لماذا تلف ثلاثة أجزاء الزرع ولم يثمر سوى جزء واحد منه؟ فنجيب أنَّ سبب ذلك من الأرض لا من الزرع، أو بالأحرى من النفس السامعة. ولعلَّ سائل يسأل: لماذا لم يقلِ المسيح إنَّ المتهاونين أتلفوه وهم الممثَّلون بالزرع الساقط على الصخرة، والأغنياء قبلوه ثمَّ خنقوه وهم الممثَّلون بالزرع الساقط بين الشوك؟ فنقول: إنَّه لم يشأ أن يؤلمهم كثيرًا لئلاَّ يَقطعوا رجاءهم. لكنَّه تركهم أن يوبِّخوا هم ذواتهم. ثمَّ إنَّ هذا المثَل قاله لتلاميذه لكيلا يتهاونوا بالوعظ. أمّا قوله على الصخرة والطريق والشوك، فليس المراد منه الأرض والبذار، لكن النفس القابلة للتعليم. وربَّ سائل يسأل قائلاً: إذا كانت الأرضُ جيِّدة والزرع واحدًا، فلماذا لم يثمر على السواء؟ فنقول: إنَّ هذا ليس سببه الفلاّح والزرع، لكن الأرض القابلة للزرع.
13: 9    من له أذنان سامعتان فليسمع.
أي إنَّ من كانت آذان نفسه سامعة فليسمع ويفهم ما قد قلت.
13: 10    فدنا إليه تلاميذه وقالوا له لماذا تكلِّمهم بالأمثال؟
عندما سأله تلاميذُه هذا السؤال، لم تكن الجموع حاضرة، ولكنَّها كانت بعيدة على ما ذكره مرقس البشير. فعلى هذا النحو، كان يجب أن تسأله أمُّه وإخوته. ومن هذا السؤال يتبيَّن لنا اهتمام ومحبَّة تلاميذه للجموع، لأنَّهم رأوا أنَّ الأمثال يصعب فهمها على الجموع، فطلبوا منه أن يكلِّمهم بسذاجة.
13: 11    فأجاب وقال لهم: أنتم قد أعطيتم معرفة أسرار ملكوت السموات وأمّا أولئك فلم يُعطوا.
إنَّه لم يعطِ التلاميذ فقط معرفة الأسرار، لكنَّ التلاميذ قد عرفوها بإرادتهم. كما أنَّ الجموع امتنعوا عنها بحرِّيَّتهم أيضًا. ويُعرَف هذا من قوله بعد.
13: 12    لأنَّ من له يُعطى ويُزاد، ومن ليس له فالذي له يؤخَذ منه.
أي إنَّ من له إرادة صالحة واجتهاد ويخاف الله، يُمنح معرفة أسرار ملكوت السموات كالبشارة والرموز المقولة عن آلامه وموته وقيامته. ومن ليس له هذه الإرادة فلا يُعطى له ذلك. وليس المراد من ذلك أنَّ الله يسترجع هذه المعرفة ممَّن كانت له. ولكن لا يجعله أهلاً لها، ويُقصيها عنه إذا كان مزمعًا أن ينالها.
13: 13    فلهذا أكلِّمهم بأمثال لأنَّهم يبصرون ولا يبصرون ويسمعون ولا يسمعون ولا يفهمون.
أي أنِّي أكلِّمهم بأمثال لكي أمتحن إرادتهم. وقال: يبصرون ولا يبصرون، لأنَّ شرورهم كانت سبب عَمى قلوبهم إرادةً لا طبعًا. ومعنى ذلك، هو أنَّهم ينظرون الشياطين يخرجون ولا يؤمنون كالذين لا ينظرون. وفوق ذلك يتَّهمونه أنَّه ببعل زبوب يخرج الشياطين. وكذلك، فمع أنَّهم يسمعون الأمثال والألغاز التي أقولها فلا يصدِّقونها كأنَّهم لا يسمعون. ولذا أتاهم بشهادة من إشعيا وهي:
13: 14    ففيهم تتمُّ نبوءة إشعيا المقول فيها: تسمعون سماعًا ولا تفهمون وتنظرون نظرًا ولا تبصرون.
أي أنَّكم مع سماعكم لأقوال تتجاهلون عن سمعها وتأبون معرفتها وفهمها.
13: 15    لأنَّه قد غلظ قلب هذا الشعب وثقلت آذانهم عن السماع وأغمضوا عيونهم لئلاَّ يبصروا بعيونهم ولا يسمعوا بآذانهم ولا يفهموا بقلوبهم ويرجعوا إليَّ فأشفيهم.
إنَّه تعالى يحثُّهم على التوبة والعودة إليه ليغفر لهم ويخلِّصهم. لذلك خاطب تلاميذه قائلا:
13: 16    أمّا أنتم فطوبى لعيونكم لأنَّها تنظر ولآذانكم لأنَّها تسمع.
إنَّه تعالى أعطى تلاميذه الطوبى، لأنَّهم آمنوا وصدَّقوا بما قد أبصروه وسمعوه منه بإرادة صالحة.
13: 17    الحقَّ أقول لكم إنَّ كثيرين من الأنبياء والصدِّيقين اشتهوا أن يروا ما أنتم راءون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا.
أي إنَّ الأنبياء والصدِّيقين الذين تقدَّموكم اشتهوا أن يروني ويروا ما رأيتموه من المعجزات، فلم يروا ذلك عيانًا، لكنَّهم أبصروه بالإيمان. وقال بعضهم: إنَّ الجموع ربَّما لم يؤمنوا بأقوال المسيح لغموضها وعدم فهمهم لها؟ فنجيب أنَّه كان في إمكانهم أن يسألوه عمّا أُشكل عليهم فهمه، ولكنَّهم لم يريدوا ذلك. أمّا الرسل فأرادوا واستحقُّوا الطوبى.
13: 18    فاسمعوا أنتم مثل الزارع. 19. كلُّ من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهمها يأتي الشرِّير ويخطف ما قد زرع في قلبه. هذا الذي زُرع على الطريق. 20. والذي زرع على الأرض الحجرة هو الذي يسمع الكلمة ويقبلها من ساعته بفرح. 21. ولكن ليس له فيه أصل وإنَّما هو إلى حين فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فللوقت يشكّ. 22. والذي زُرع في الشوك هو الذي يسمع الكلمة وهمُّ هذا الدهر وخداع الغنى يخنقان الكلمة فيصير بلا ثمرة. 23. وأمّا الذي زُرع في الأرض الجيِّدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم فيعطى ثمرة الواحد مئة والآخر ستِّين والآخر ثلاثين.
إنَّه تعالى وجَّه كلامه هذا إلى الرسل، لأنَّه علم أنَّ لهم إرادة صالحة في سماعه وفهمه.
13: 24    وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السموات رجلاً زرع زرعًا جيِّدًا في حقله.
إنَّ هذا المثل هو غير ما تقدَّم، لأنَّ ذلك منهم قبلوه كقوله الأرض الجيِّدة، ومنهم ما قبلوه كالطريق والصخرة والشوك. أمّا هذا الأخير فقد قبله الجميع، لأنَّه كان إشارة إلى الشيطان والرسل الكذبة والهراطقة الذين يزرعون زؤان تعليمهم بين زرع تعليمه الجيِّد.
13: 25    وفيما الناس نائمون جاء عدوُّه وزرع في وسط القمح زؤانًا ومضى.
أراد بالنوم التغافل عن عمل الفضائل، وبالعدوِّ الشيطان. أمّا الزؤان فيُراد به الأنبياء الكذبة الذين أدخلهم مع الأنبياء الحقيقيِّين، والرسل الكاذبين مع الرسل الصادقين. وقد مثَّل بالزؤان أولئك الذين هم بالاسم مسيحيُّون وبالفعل بعيدون عن الأعمال المسيحيَّة.
13: 26    فلمّا نما النبت وأخرج ثمرًا حينئذٍ ظهر الزؤان.
إنَّه يشير بذلك إلى أنَّ الهرطقات مزمعة أن تظهر عندما تنمو الديانة المسيحيَّة. وقوله «ظهر الزؤان» أي كما أنَّ الزؤان يكون خفيًّا ثمَّ يظهر، هكذا الهراطقة فإنَّهم يُخفون أنفسهم ثمَّ بعدما يقبلهم الناس معلِّمين، يُفرغون سمَّ تعليمهم.
13: 27    فجاء عبيد ربِّ البيت وقالوا له: يا سيِّد ألم تكن زرعتَ في حقلك زرعًا جيِّدًا فمن أين الزؤان؟
العبيد هم الملائكة، وربُّ البيت هو المسيح. فكأنَّهم يسألونه تعالى كيف وُجد الزؤان داخل الزرع.
13: 28    فقال لهم: إنَّ رجلاً عدوًّا فعل هذا. فقال له عبيده: أتريد أن نذهب ونجمعه؟
فالعدوُّ هو الشيطان، وسمَّاه عدوًّا لأنَّه ضدَّ الله وبني البشر. ثمَّ تأمَّل بمحبَّة الملائكة الذين يريدون إهلاك موجدي الطغيان.
13: 29     فقال لهم: لا، لئلاَّ تقلعوا الحنطة مع الزؤان عند جمعكم له.
فيمنعهم ألاَّ يجمعوه لعلَّ هؤلاء يُقلعون عن رذائلهم ويرجعون إلى الحقّ.
13: 30    دعوهما ينبتان جميعًا إلى الحصاد وفي أوان الحصاد أقول للحصّادين: اجمعوا أوَّلاً الزؤان واربطوه حزمًا ليحرق وأمّا القمح فاجمعوه إلى أهرائي.
أراد بأوان الحصاد منتهى العالم، وبالحصّادين الملائكة. فإنَّه سيأمرهم بأن يجمعوا الهراطقة ويلقوهم في النار. وقوله اجمعوا، لا يفيد أنَّ الهراطقة الآثمين يدخلون النار أوَّلاً. لكن معنى قوله أوَّلاً هو أنَّ الصالحين سيسمعون صوت الديّان العادل فيزول عنهم الخوف. أمّا الأشرار فيذهبون وحدهم إلى النار المعدَّة لإبليس معلِّمهم.
13: 31    وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السموات حبَّة خردل أخذها رجل وزرعها في حقله. 32. فإنَّها أصغر الحبوب كلِّها. فإذا نمت صارت أكبر من جميع البقول ثمَّ تصير شجرة حتّى إنَّ طيور السماء تأتي وتستظلُّ في أغصانها.
المراد بحبَّة الخردل الكرازة، وبالرجل المسيح، وبالحقل الخليقة ؛ وبطيور السماء الشعوب الحنفاء المستظلُّون في ظلِّها. فمن هذا المثل يتَّضح أنَّ مفعول بشارة الإنجيل في ابتدائها كان قليلاً وضعيفًا جدًّا أكثر من جميع العلوم. لأنَّه في الإنجيل المقدَّس مذكور عن الصليب والآلام والموت. فكلُّ هذا ممّا يبعث على عدم الثقة والإيمان به. ولكنَّها مع ذلك نمت وعظم شأنها وفاقت جميع العلوم كحبَّة الخردل التي تنمو أكثر من كلِّ الزروع الأخرى.
إنَّ خواصَّ الخردل كثيرة. منها أوَّلاً، إنَّها أصغر من الحنطة والشعير. فإذا نمت صارت أكبر منهما. وهكذا بشارة الإنجيل. ثانيًّا، إنَّها مدوَّرة ملساء فهكذا البشارة فهي صحيحة وغير منشقَّة. ثالثًا، إنَّ حبَّة الخردل لا تنقسم إلى شطرين كمثل باقي الزروع. هكذا الكرازة بالثالوث: فإنَّها تعلِّمنا أنَّ فيه طبيعة واحدة غير منقسمة. وكما أنَّ حبَّة الخردل غير متجزِّئة، هكذا يجب ألاَّ نتجزَّأ أو نبتعد عن محبَّة الله ومحبَّة بعضنا لبعض. رابعًا، أنَّ حبَّة الخردل هي أحد وأشدّ حرارة من النباتات. هكذا ؛ إنَّ المؤمنين يجب أن يكونوا حارِّين بموهبة روح القدس التي يقبلونها. خامسًا، إنَّ الذي يسحق الخردل تدمع عيناه. هكذا من يقاوم البشارة ويضطهد المبشِّرين سوف يبكي في يوم الدينونة. سادسًا، إنَّ حبَّة الخردل تحفظ الجسد من النتانة. هكذا كرازة الإنجيل فإنَّها تبيد زروع الهرطقات النجسة. ثامنًا، إنَّ حبَّة الخردل حمراء وملساء. فاحمرارها يشير إلى أنَّ المسيحيَّة لا تُكتسب إلاَّ بالدم والشدائد، وملاستها تفيد أنَّ مقاومة الأعداء لا تضرُّنا ما دمنا متَّحدين في الأعمال الصالحة. تاسعًا، إذا اختلط الخردل ببعض المأكولات اتَّصل إلى المفاصل. وهكذا الكلام عن الإيمان: يجب أن يدخل إلى أعماق قلوبنا. عاشرًا، إنَّ الخردل يهضم الأكل وينقِّي الأخلاط. هكذا يجب علينا أن نتنقَّى من الخطيئة بواسطة التعب.
13: 33    وكلَّمهم بمثل آخر قائلاً: يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبَّأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتّى اختمر الجميع.
إنَّ كلامه، لمّا كان موجَّهًا إلى أناس جهلة، استعمل أمثالاً طبيعيَّة كالخردل والخمير لكي يفهموا. أمّا المراد بالخمير فبشارة الإنجيل، لأنَّها تمتدُّ مثل الخمير وتبطل كلَّ العلوم. والمراد بالمرأة اللاهوت. ومثَّلها آخرون بالكنيسة التي بطلت الحنفيَّة واليهوديَّة والسامريَّة. أمّا الثلاثة أكيال، فترمز عن بني نوح الثلاثة الذين منهم تناسل العالم. وقال آخرون: إنَّ الثلاثة أكيال تشير إلى أجزاء النفس الثلاثة، كما يشير إليها قوله ثلاثون وستُّون ومئة. فالقمح هو الشعب والشعوب الذين آمنوا به. وكما أنَّ الخمير إذا وضع في ثلاثة أكيال دقيق يخمِّرها كلَّها ويجذبها إليه، هكذا تعليم المسيح، فإنَّه يجذب الحنفاء واليهود والسامريّين إلى وحدة الإيمان. وقال آخرون: إنَّ الضمير أخذ النعمة ودفنها في الجسد والنفس والروح. فقد أتاهم بالخمير مثلاً، ليبيِّن لهم إنَّه سيجذبهم إليه كما أنَّ الخمير يجذب العجين إليه.
13: 34    هذا كلُّه قاله يسوع للجموع بأمثال وبغير مثل لم يكن يكلِّمهم.
إنَّه لم يكلِّمهم بالأمثال بقصد أن لا يفهموا. لكن ليحثَّهم على أن يسألوه بواسطتها كما فعل التلاميذ، مع أنَّه كثيرًا ما تكلَّم معهم بغير أمثال ولكن لم يسأله أحد عن المعنى.
13: 35    لكي يتمَّ ما قيل بالنبيّ القائل: أفتح فمي بالأمثال وأنطق بالخفيَّات منذ إنشاء العالم.
أي ليبيِّن أنَّه ما عمل شيئًا جديدًا، لكنَّه كمل ما قد قاله الأنبياء. وهذا القول مذكور بالمزمور السابع والسبعين.
13: 36    حينئذٍ ترك الجموع وجاء إلى البيت فدنا إليه تلاميذه وقالوا له فسِّر لنا مثل زؤان الحقل. 37. فأجاب وقال لهم: الذي زرع الزرع الجيِّد هو ابن البشر. 38. والحقل هو العالم. والزرع الجيِّد هم بنو الملكوت. والزؤان هم بنو الشرِّير. 39. والعدوُّ الذي زرعه هو إبليس. والحصاد هو منتهى الدهر. والحصّادون هم الملائكة. 40. وكما أنَّ الزؤان يُجمع ويُحرق بالنار هكذا يكون في منتهى الدهر. 41. يُرسل ابن البشر ملائكته فيجمعون من مملكته كلَّ الشكوك وفاعلي الإثم. 42. ويلقونهم في أتون النا. هناك يكون البكاء وصريف الأسنان.
إنَّه تعالى لم يترك الجموع لأنَّهم لم يسألوه تفسير الأمثال، حال كون آباؤهم قد سألوا الأنبياء. ولكنَّه تركهم لأنَّهم أرادوا أن يقرفوه بذنب ما من كلامه.
13: 43    حينئذٍ يضيء الصدِّيقون مثل الشمس في ملكوت أبيهم. من له أذنان سامعتان فليسمع.
أي إنَّ الصالحين من أجل فضائلهم سيفوق ضياء جمالهم ضياء الشمس. أمّا قوله في ملكوت أبيهم، ذلك لأنَّهم عملوا إرادته كالولد العامل إرادة أبيه.
13: 44    يشبه ملكوت السماوات كنزًا مخفى في حقل وجده رجل فخبَّأه ومن فرحه به مضى وباع كلَّ شيء له واشترى ذلك الحقل.
أراد بملكوت السماوات بشارة الإنجيل، وبالكنز لاهوت سيِّدنا الذي كان مخفيًّا في ناسوته، وبالرجل الذي خبَّأه الشعوب الذين كانوا غريبين عن الإيمان، وعرفوا لاهوت المسيح من العجائب والإنذار به. فحفظوه في قلوبهم، وباعوا تعليمهم واشتروا غنى المسيح الذي أغناهم أكثر من كلِّ ذخيرة.
13: 45    وأيضًا يشبه ملكوت السماوات رجلاً تاجرًا يطلب لآلئ حسنة.
إنَّ الرجل التاجر هو الشعب اليهوديّ، الذي ترك الناموس العتيق، وتتلمذ لبشارة الإنجيل مثل بولس.
13: 46    فوجد لؤلؤة كثيرة الثمن فمضى وباع كلَّ ماله واشتراها.
المراد باللؤلؤة إيمان المسيح. فمضى وباع كلَّ ماله. كقول بولس: إنَّ الفرائض المفيدة لي حسبتها خسارة بالمسيح. فإنَّه سمَّى تجَّارًا أولئك اليهود الذين كانوا يظنُّون إنَّهم بالناموس يخافون الله. وبمتَل الكنز يعلِّمنا أنَّ بشارة الإنجيل تفوق كلَّ شيء لشرفها وأهمِّيَّتها. وبمتَل الخردل أفهمنا أنَّ البشارة ستمتدُّ في كلِّ المسكونة وتنمو كالخردل. وأنَّها تمجَّد وتكرَّم كاللؤلؤة، وأنَّها ممتلئة كثيرًا من الفوائد كالكنز وتجذب الكلَّ إليها كالخمير.
13: 47    وأيضًا يشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في البحر فجمعت من كلِّ جنس. 48. فلمّا امتلأت أطلعوها إلى الشاطئ وجلسوا وجمعوا الجيِّد في الأوعية والردي رموا به خارجًا. 49. هكذا يكون في منتهى الدهر. يخرج الملائكة ويميِّزون الأشرار من بين الأخيار. 50. ويلقونهم في أتون النا. هناك يكون البكاء وصريف الأسنان.
إنَّه كنَّى بالبكاء وصريف الأسنان عن العذابات الصعبة التي سوف يقاسيها الأشرار، الذين رفضوا البشارة والعمل بالأوامر الإلهيَّة.
13: 51    أفهمتم هذا كلَّه؟ قال له: نعم.
أي إنَّهم قد اعترفوا بالفهم الذي وُهب لهم. ولذلك مدحهم بقوله.
13: 52    فقال لهم: من أجل هذا كلُّ كاتب متعلِّم في ملكوت السماوات يشبه رجلاً ربَّ بيت يُخرج من كنزه جددًا وعتقًا.
إنَّه دعى الرسل وكلَّ الذين لهم معرفة بالعهدين العتيق والجديد كتابًا لأنَّهم إذا شاءوا تكلَّموا من العهد العتيق وإن شاءوا فمن الجديد. وبقوله هذا مدح العهد القديم ورذل الهراطقة ماني ومرقيان الذين يرفضونه.
13: 53    ولمّا أتمَّ يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك.
أي إنَّه انتقل إلى مكان آخر يبثُّ تعليمه النافع في كلِّ مكان.
13: 54    وجاء إلى وطنه وكان يعلِّم في مجامعهم حتّى بُهتوا وقالوا: من أين له هذه الحكمة والقوّات.
فوطنه هو الناصرة لأنَّه تربَّى فها، ودُعي بصفة كونه إنسانًا ناصريًّا نسبة إليها، وإن يكن إلهًا مثل أبيه. وكان يعلِّم في مجامعهم دائمًا، لئلاَّ إذا رأوه يعلِّم في البرِّيَّة اتَّهموه أنَّه يرمي الشقاق ويضادّ السلام.
13: 55    أليس هذا هو ابن النجّار؟ أليست أمُّه تسمَّى مريم وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا. 56. أوليست أخواته كلُّهنَّ عندنا فمن أين له هذا كلُّه؟
دعوه ابن النجّار استحقارًا له. فكان يجب أن يعرفوا أنَّه نشأ من آباء حقيرين. لا أبناء فاضلون كموسى من عمرام وداود من يسَّى. فضلاً عن أنَّه كان يجب أن يعتبروا كلامه كلام إله لا كلام إنسان. وذكر مرقس أنَّهم قالوا أليس هذا النجّار ابن مريم، كما هي العادة في تسمية الابن باسم أبيه، ولذا دعوه نجّارًا لأنَّ والده كان كذلك. أو لأنَّه كان يشتغل هو نفسه بالتجارة. وتنبَّأوا في ذلك الوقت بما لم يريدوا، فسمَّوه نجَّارًا إشارة إلى كونه خالق العوالم ومكوِّن السماء والأرض. كما تنبَّأ عنه قيافا.
13: 57    وكانوا يشكُّون فيه. فقال لهم يسوع: لا يكون نبيٌّ بلا كرامة إلاَّ في وطنه وبيته.
أي إنَّه يكون حقيرًا ومرذولاً مثله، حتّى إنَّ إخوته لم يؤمنوا به، بل كان عندهم كأحد الناصريِّين.
13: 58    ولم يصنع هناك كثيرًا من القوَّات من أجل عدم إيمانهم.
أي أنَّه لم يصنع في الناصرة قوَّات كثيرة، لئلاَّ يقلَّ إيمانهم إذا كثرت فيمتلئوا حسدًا ضدَّه ويُشجَبون. فضلاً عن أنَّه كان عارفًا أنَّهم لا يستفيدون. ولذا فقد صنع قوَّات قليلة عندهم لئلاَّ يقولوا عنه ما قالوه قبلاً: «أيُّها الطبيب اشفِ نفسك». لوقا يقول إنَّه أتاهم ببراهين من ذلك قوله، إنَّ إيليّا لم يمضِ إلى أحد من بني جنسه، لكن إلى أرملة من الشعوب. وإليشع لم يطهِّر من البرص سوى نعمان السريانيّ الذي كان من أمَّة غريبة. والمسيح فعل كما فعل قبله الأنبياء دون أن يزيد شيئًا جديدًا. وفي يومنا هذا، نرى أنَّ عظام القدِّيسين تظهر منها القوَّات للغرباء ولا تظهر لنا لقلَّة إيماننا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM