الفصل التاسع عشر:إوغريس البنطيّ

الفصل التاسع عشر
إوغريس البنطيّ

عجيب أمر إوغريس وعجيب تأثيره في التراثات اللاتينيَّة واليونانيَّة والسريانيَّة، بل العربيَّة والأرمنيَّة والجيورجيَّة. عاداه القدِّيس جيروم ولامه خصوصًا على تعليمه حول الإنهداء. ومع ذلك، كان تأثير إوغريس كبيرًا في العالم اللاتينيّ بواسطة جان كاسيان الذي أخذ الكثير من إوغريس، دون أن يذكر اسمه، من أجل صياغة تعليمه حول النسك: رمزيَّة الثوب الرهبانيّ، نظريَّة الرذائل الثمانيّ، نظريَّة الصلاة. وبفضل ترجمات مؤلَّفاته أوَّلاً بيد روفين ثمَّ بيد جناديوس، أحد كهنة مرسيليا، في فرنسا، أعلن أنَّه نقل «الردّ على التجربة» ثمَّ «المتعرِّف»، ثمَّ «الأقوال العروضيَّة»، وقدَّم ترجمة ثانية لكتاب «المتمرِّس». لم تُحفظ كلُّ هذه الترجمات، بل فقط «إلى بتول» و«إلى الرهبان» و«الأقوال العروضيَّة». عرفت انتشارًا واسعًا في الأوساط اللاتينيَّة التي احتفظت بالوجه النسكيّ لا بالتنظيرات الجريئة المستلهِمة الفكر الأوريجانيّ. ومع أنَّ تأثير إوغريس برز سريعًا، إلاَّ أنَّ الحكم عليه سنة  553، أضرَّ كثيرًا بانتقال مؤلَّفاته في اللغة الأصليَّة. فمؤلَّفه التعليميّ الكبير «الروائس الغنوصيَّة» ضاع باكرًا في التقليد اليونانيّ ولم يبقَ من ينسخُه بعد القرن السابع. وما نمتلك منه، مقاطع صغيرة في «باقات الأزهار» Florilèges. أمّا مؤلَّفاته النسكيَّة فقرأها العديدون، وحُفظت في «المتمرِّس» الذي لم يُجعَل على اسمه بل على اسم نيل. وجاءت فقرات عديدة من إوغريس في كتاب «الآباء المتعفِّفين» في «فيلوكاليا» ماكير الكورنثيّ ونيقوديم الهاغيوريّ. ومع ما حصل لإوغريس، لبث تأثيره كبيرًا على الكتّاب الروحيِّين البيزنطيِّين وصولاً إلى مكسيم المعترف ويوحنّا السلَّمي.
أمّا ما يهمُّنا فالعالم السريانيّ مع تأثير مباشر على إسطيفان برصوديلي  (+510) الذي مدَّ في الأوريجنيَّة حتَّى نتائجها الأخيرة. عبر الترجمات عرف السريان مؤلَّفات إوغريس كلَّها، وبعض الكتب تُرجمت مرَّتين أو ثلاث مرّات. والتي توجَّهت إلى الشعب، مرَّت في المصفاة فتنقَّت من الأوريجانيَّة. ذاك كان بشكل خاصّ وضع الروائس الغنوصيَّة. وما اكتفى السريان بالتنقية والشرح في خطِّ الإيمان المستقيم، بل راحوا يفسِّرون هذه الروائس بحيث وصل إلينا منها اثنان. واحد من باباي الكبير (553-628)، ذاك الكاتب النسطوريّ الذي ترك الكتب العديدة. والثاني من الأسقف اليعقوبيّ ديونيسيوس برصليبي المتوفِّي سنة 1172. لا، ما كان اسم إوغريس «مشبوهًا» في العالم السريانيّ، كما في العالم البيزنطيّ، بل نَعِمَ بإكرام كبير بحيث إنَّ ابن العبريّ، الفيلسوف واللاهوتيّ المشهور، أورد نصوصه كما أورد نصوص آباء الكنيسة، وعاد إلى مؤلَّفاته حين تحدَّث عن التصوُّف. فعند السريان، إوغريس هو معلِّم التصوُّف الكبير. أوَّلهم إسحاق النينويّ الذي نشر التعليم الإوغريّ حتّى عند اليونان. ثمَّ يوسف حزايا الذي عاش في القرن الثامن وشرح حكم إوغريس. وبعده يوحنّا بركلدون (القرن العاشر) الذي دَوَّن حياة الربّان يوسف بوسنايا، معلِّمه ومرشده الروحيّ، فتأثَّر بإوغريس.
وما توقَّف تأثير إوغريس عند السريان، بل راح إلى العالم القبطيّ والعالم العربيّ، وإلى الأرمنيِّ ومنه إلى الجيورجيّ. من أجل هذا، أردنا أن نتعرَّف إلى هذا الكاتب المتصوِّف والروحانيِّ الكبير الذي انتقلت كلُّ نصوصه تقريبًا إلى السريانيَّة، وحُفظت بفضل هذه اللغة. كما نجد العدد الكبير من نصوصه في العربيَّة.

1-    حياته ومؤلَّفاته
هو البنطيّ لأنَّه من منطقة البنط (على البحر الأسود، Pont-Euxin) ومن مدينة إيبورا. وُلد حوالى سنة 345، ورُسم قارئًا بيد باسيل أسقف قيصريَّة في الكبادوك. وبعد موت باسيل سنة 379، التحق بغريغوار النازيانزيّ واعتبره معلِّمه. قال في المتمرِّس: «البارّ غريغوار الذي غرسني». أمّا سوزومين فقال: النازينزيّ علَّم إوغريس في الفلسفة وفي العلوم المقدَّسة. نشير إلى أنَّ غريغوار رسمه شمّاسًا فرافقه إلى مجمع القسطنطينيَّة الأوَّل (381). ولمّا ترك النازينزيُّ الكرسيَّ البطريركيّ، لبث إوغريس قرب خلفِه نكتار (381-397)، الذي لاحظ قدرته في الجدال مع الهراطقة: هو «جدليٍّ ممتازٌ ضدَّ الهرطقات كافَّة. وهناك في المدينة العظمى (القسطنطينيَّة) ظهر متفوِّقًا جدًّا إذ فنَّد كلَّ هرطقة بكلِّ ما أوتيَ من حميَّة الشباب» (اللوزيّ، ص 158).
هنا حصل في حياة إوغريس حدثٌ قلب فجأة حياته رأسًا على عقب: أُغرم بامرأة هي زوجة موظَّف كبير. وعلى أثر حلم، ترك القسطنطينيَّة ليُفلت من الأخطار المتنوِّعة الذي قد يعرِّضه له هذا الهوى. تلك كانت أوَّل مرحلة في التفاته نحو الحياة النسكيَّة: انقطع عن العالم وتخلَّى عن مستقبل زاهر «حيث كان مكرَّمًا من المدينة بأسرها».
عندئذٍ مضى إلى أورشليم حيث استقبلته ميلانية الكبرى. كما استقبله روفين. أمّا ميلانية فدعته إلى اعتناق الحياة الرهبانيَّة والمضيّ إلى مصر. كان ذلك سنة 383. عاش إوغريس أوَّلاً في (نطريا) برِّيَّة النطرون سنتين، ثمَّ أربع عشرة سنة في القلاّيات. هناك اتَّصل بمقاريوس الإسكندرانيّ (اللوزيّ، ف 18) الذي كان كاهن القلاّيات، ثمَّ بمقاريوس المصريّ (اللوزيّ، ف 17) الذي كان يُقيم في «سقيتيا» (= استبوا)، في وادي النطرون، والذي كان يزوره إوغريس بين الحين والآخر.
بدا إوغريس متعلِّمًا تجاه الفلاّحين المصريِّين الأمِّيِّين، فدعوه مرارًا إلى التواضع، أو بيَّنوا له أكثر من مرَّة أنَّ كلَّ الحكمة (والفلسفة) التي وجدها في الكتب ليست بشيء تجاه الفضيلة التي اقتناها رفاقُه بالنسك. تعلَّق إوغريس براهب اسمه أمونيوس كما قال التاريخ اللوزيّ (ف 11، ص 68). قرأ أوريجان وقرأه، وقال فيه إوغريس: «لم أشاهد قطُّ إنسانًا بلغ اللاهوى نظير أمونيوس». وكان معهما إسطفان الليبيّ (اللوزيّ 24)، فكوَّنوا ما دُعيَ «الرفقة» أو: «الأخوَّة». اختار البطريرك تيوفيل واحدًا منهم، ديوسقور، ليكون أسقف الأشمونين. وأراد البطريرك عينه أن يختار إوغريس ليكون أسقف إتمويس فتهرَّب. ولكن ما عتَّم البطريرك أن ناقض الفكر الأوريجانيّ سنة 399. ووصلت ملاحقته إلى برِّيَّة نطريا في ربيع سنة 400. غير أنَّ إوغريس كان توفِّي بعد عيد الدنح الإلهيّ، بعد أن تناول القربان المقدَّس. ويذكر التقليد الأرمنيّ أنَّ ذلك حصل في 11 شباط وكان عمره آنذاك 54 سنة، كما سبق وقلنا.
*  *  *
ب- مؤلَّفاته
عن مؤلَّفات إوغريس، تحدَّث بلاديوس، وبشكل أوضح سقراط في التاريخ الكنسيّ وجناديوس في الرجال المشهورين. فذكروا الكتب التالية.
أوَّلاً: الثلاثيَّة الإوغريَّة:
•    المتمرِّس. يتألَّف من مماة Centurie واحدة مع مطلع وخاتمة. ويبدأ المطلع: «كتبتَ لي منذ مدَّة قصيرة من الجبل المقدَّس، أيُّها الأخ المحبّ أناتول (أو: أناتوليوس)، تسألني أنا الساكن في سكيتيا، أن أشرح لك رمزيَّة ثوب الرهبان المصريِّين. ظننتَ أنَّه يفترق عن لباس سائر الناس، صدفةً وبدون سبب. وها نحن نعرِّفك بما علمنا عن هذا الموضوع من الآباء القدِّيسين». نشير هنا إلى أنَّ الجبل المقدَّس صار في النسخة السريانيَّة: «صهيون، الجبل المقدَّس».
ونقرأ الرائسة الأولى: «المسيحيَّة هي تعليم المسيح مخلِّصنا الذي يتألَّف من التمرُّس، العمل بحسب الطبيعة، اللاهوت». والرائسة الثانية: «ملكوت السماوات هو انعتاق النفس الذي يرافقه علم الكائنات الحقيقيّ». والرائسة الثالثة: «ملكوت السماوات هو علم الثالوث الأقدس، الذي وسعُه وسعُ جوهر العقل ويتجاوز لافساديَّته».
في المتمرِّس يظهر تعليم إوغريس البنطيّ في أجلى مظاهره. أمّا الروائس العشر الأول فتبدو بشكل أقوال قصيرة . ثمَّ تتوسَّع. وها نحن نقدِّم مثلاً العاشرة: «يأتي الحزن بعض المرّات بحرمان الرغبات، وبعض الأفكار تمسّ النفس مسبقًا فتجذبها لكي تفكِّر بالبيت، بالوالدين، بحياتنا الماضية. وحين ترى أنَّ النفس لا تقاومها بل تسير في إثرها وتتمدَّد باطنيًّا في الملذّات، عندئذٍ تمتلك (الملذّاتُ) النفسَ وتُغرقها في الحزن، وتذكرها أنَّ الأمور السالفة زالت ولا يمكن أن تلبث بعدُ بسبب الحياة التي هي الآن حياتها. والنفس التعيسة التي سبق لها وتمدَّدت في الأفكار الأولى، هي الآن منطرحة وذليلة مع الثانية».
•    المتعرِّف. يتألَّف فقط من 50 رائسة. أي نصف مماة، وهو امتداد للمتمرِّس كما دلَّ على ذلك إوغريس في الرسالة التي بعث بها إلى أناتول: «سنعرض الآن حول حياة التمرُّس وحياة التعرُّف، لا كلَّ ما رأينا أو سمعنا، بل فقط ما تعلَّمنا منهم (= من الشيوخ) لنقوله للآخرين. كشفنا ووزَّعنا تعليم التمرُّس في مئة رائسة، وتعليم التعرُّف في خمسين...» (المتمرِّس، ص 492-493).
لم يبقَ من كتاب المتعرِّف في اليونانيَّة سوى بعض المقاطع القليلة. ووردت سبع روائس عند سقراط في التاريخ الكنسيّ (3: 7؛ 4: 23). ولم يُحفَظ المؤلَّف كلُّه إلاَّ في الترجمة السريانيَّة وفي الأرمنيَّة وكلتاهما انطلقتا من اليونانيَّة واستقلَّت الواحدة عن الأخرى.
العنوان: المتعرِّف أو إلى الذي صار أهلاً للمعرفة.
والرائسة الأولى: الممارسون يفهمون أسباب التمرُّس، أمّا أمور التعرُّف فيراها المتعرِّفون.
والرائسة الثانية: المتمرِّس هو ذاك الذي اقتنى فقط اللاهوى في جزء النفس الذي يقع في الهوى.
الرائسة الثالثة: المتعرِّف هو الذي يلعب دور الملح بالنسبة إلى اللاأطهار، ودور النور بالنسبة إلى الأطهار.
انطلق الناشران أنطوان وكلير غيُّومون من النصّ اليونانيّ كما وجداه بشكل مباشر أو غير مباشر، ثمَّ استعانا بالسريانيّ الذي جاء في ثلاث نسخات:
الأولى، سر1: نقرأه في أكبر عدد من المخطوطات. ذكرها مويلدومانس في نصوص إوغريس السريانيَّة. هي ترجمة تمَّت في الثلث الأوَّل من القرن السادس، لأنَّ المخطوط البريطانيّ مؤرَّخ سنة 534. وحين نعرف متى توفِّي إوغريس (سنة 399)، نفهم اهتمام السريانيّ بهذا الراهب الروحانيّ.  ثمَّ إنَّ فيلوكسين المنبجيّ (+523) أورد الرائستين 25، 36 في الرسالة إلى الراهب بطرينيوس، كما أوردَ في الرسالة عينها الرائسة 79 من المتمرِّس.
ثمَّ، سر 3. هي إعادة النظر في سر 1 مع اقتراب من الأصل اليونانيّ، والمحافظة على إيجازه. لهذا ألغى الإضافات والتوسُّعات التي وضعها سر 1 ليجعل النصَّ أكثر وضوحًا. أمّا سر 2 فانطلق من اليونانيِّ وحاول أن يكشف النصَّ، فأضاف الحواشي والتوضيحات، بحيث يكون النقلُ قريبًا من القارئ العاديّ. هي استقلَّت عن سر 1 وسر 3 وفصلت بين المتمرِّس وبين المتعرِّف. جاءت في مخطوطين يعود الأوَّل (Add 17165) إلى القرن السادس ويتخصَّص كلُّه لأعمال أوغريس، والثاني (Add 14616) إلى القرن 6-7 ويختار بعض أعمال أوغريس.
عاد الناشران أيضًا إلى المخطوطات الأرمنيَّة، وأقدمها يعود إلى القرن 13. أترى استفاد الأرمنيّ من السريانيّ؟ هذا ما ينفيه أنطوان غيّومون الذي درس رائستين من المتعرِّف ورأى الأرمنيّ قريبًا من السريانيّ.
•    الروائس الغنوصيَّة
هو الجزء الثالث من الثلاثيَّة: بعد المتمرِّس والمتعرِّف، ها هو المعلِّم. هذا ما نكتشفه في العنوان السريانيّ: «رؤوس المعرفة التي قيلت من أجل التعليم ومن أجل تربية (أو بالأحرى: نموّ) المتوحِّدين (أو الرهبان)».
جاءت بداية المماة (أو: مئة مقالة ) الأولى كما يلي:
1-     لا معارِضَ للخير الأوَّل (أي الله)، لأنَّه خير في كينونته (أو: ذاته)، والذات لا مُعارِضَ لها.
2-     التعارض هو في الأمزجة (أو: الصفات)، والأمزجة هي في الأجساد. إذًا، التعارض هو في البرايا (أو: المخلوقات).
3-     كلُّ كيان ناطق (أو: عاقل) هو كينونة عارفة، وإلهنا هو معروف (يمكن معرفته). يَحلُّ بشكل غير منقسم في من يحلُّ فيه مثل الفنِّ الأرضيّ، ولكنَّه يسمو على هذا (أي الفنّ)، لأنَّه يوجَد أقنوميًّا.
4-     كلُّ ما كان (أو: صار) أو هو قابل للتعارض أو هو مُقام من التعارض. ولكنَّ كلَّ ما هو قابل للتعارض لا يُكدَن (لا يُضمّ) مع الذين أقيموا من التعارض.
5-     الرؤوس (أو: المبادئ) لا تَلد ولا تُولَد. ولكنَّ الوسطيَّة تَلد وتُولَد.
6-     بالمقابلة، نحن شيء، وشيء آخر هو فينا. وشيء آخر نحن به (أو: فيه). ولكنَّ كلَّ هذا هو ما نحن فيه والذي فيه نكون نحن.
7-     حين تؤخذ كلُّ هذه معًا، يُؤخَذ العددُ أيضًا. وإذ يُؤخَذ هذا يبقى فينا شيء واحد وهذا الذي سوف نكون فيه.
8-     حين يُفصَل ما نحن مزمَعون أن نكون، يَلد ما به نحن. وحين يُخلَط هذا الذي فينا، يأخذ ما أُخذ مع العدد.
9-     حين نكون في ما هو الكائن (ܕܐܝܬܘܗܝ)، نرى ذاك الكائن وحين (نكون) في ما ليس بكائن (ܠܝܬܘܗܝ)، نلد ما ليس بكائن. وحين تُؤخَذ تلك التي نحن فيها، لا يكون بعد ما ليس بكائن.
10-     من الشياطين، من يعارضون ممارسة الوصايا، ومنهم من يعارضون فهْم الطبيعة، ومنهم من لا يعارضون الأقوال (logoi) التي على الألوهة، لأنَّ معرفة خلاصنا تقوم على هذه (الأمور) الثلاثة.
*  *  *
قرأنا من المماة الأولى عشر روائس (ܩܦܠܐܘܢ)، وهي في الدرجة الأولى فلسفيَّة ولاهوتيَّة. شدَّدت على الخير (ܛܒܬܐ) الذي هو الله، ثمَّ على الذات الإلهيَّة، وعلى الثالوث الذي لا يُدرَك. وأخيرًا، معرفةُ خلاصنا تقوم على ثلاثة أمور: حفظ الوصايا. معرفة طبيعتنا لكي نعرف كيف نتصرَّف. وأخيرًا معرفة الله.
أمّا الكتاب الذي نقرأ فيه هذه الثلاثيَّة فاسمه في اليونانيَّة «الغنوصيَّات». ودعاه سقراط في التاريخ الكنسيّ 4: 23 (الآباء اليونان 67: 516ب): «المسائل الغنوصيَّة الأولى». والتقليد السريانيّ: الروائس (أو: الرؤوس: ܪ̈ܝܫܐ) الغنوصيَّة. نشره فرنكنبرغ سنة 1912 وأعاد ترجمته إلى اليونانيَّة، عن مخطوط الفاتيكان السريانيّ 178 في رفقة تفسير باباي الكبير.
ضاع الأصل اليونانيّ في قسمه الأكبر، وعُرف فقط في النسخة السريانيَّة. هذا ما يُسمّى سر 1 (ترجمة سريانيَّة أولى). سنة 1953، كُشفت ترجمة سريانيَّة ثانية (سر 2) وقُوبلَتْ مع الأولى ومع المقاطع اليونانيَّة الباقية، فبانت أكثر أمانة للغة الأصليَّة. فصاحبُ ترجمة سر 1 (النسخة الشائعة) صحَّح وحوَّل الأصل ليخفِّف من تلوينه الأوريجانيّ.
نشر أنطوان غيّومون سر 2 كما قرأه في المخطوط البريطانيّ الذي درسه رايت. هذا المخطوط جاء من دير السيّدة للسريان، في برِّيَّة نطريا، ودخل إلى المكتبة البريطانيَّة في 11 تشرين الثاني سنة 1871. كما نشر أيضًا أ. غيّومون سر 1 واستند إلى ثمانية مخطوطات، وإلى مخطوط أرمنيّ انطلق من السريانيَّة.
هي ستُّ مماتات، وكلُّ مماة تتألَّف من 90 رائسة، ممّا يعني أنَّ المجموع هو 540 رائسة. ونمتلك في السريانيَّة والأرمنيَّة مجموعة من 60 رائسة، قُدِّمت بشكل «ملحق». هذه الروائس تنتمي في الواقع إلى مقال منفصل وُجد في السريانيَّة، عنوانه: روائس المعرفة.
وننهي المماة الأولى برائستين:
89-    كلُّ طبيعة عاقلة (ܡܠܝܠܐ) تكوَّنت لكي تكون موجودة، ولكي تكون عارفة، والله هو المعرفة الذاتيَّة (ܐܝܬܝܝܬܐ). وما يعارض الطبيعة العاقلة هو بأن لا تكون. (وما يعارض) المعرفةَ، الشرُّ واللامعرفة (أو: الجهل). لكنَّ شيئًا من هذين لا يعارض الله.
90-    إن كان اليومُ الحاضر (ܝܘܡܢ) يُقال له الجمعة الذي فيه صُلب مخلِّصنا، فجميع الذين ماتوا هم رمز إلى قبره، لأنَّ معهم (حرفيًّا: بهم) مات برُّ الله، الذي يحيا في اليوم الثالث، ويقوم لابسًا جسمًا روحيًّا إذًا «اليوم وغدًا يجري المعجزات (حرفيًّا: القوّات، ܚܝ̈ܠܐ) وفي اليوم الثالث يُتمَمّ» (لو 13: 32).
ونورد بداية المماة الثانية:
1-    مرآة صلاح الله وقدرته وحكمته، هذه الأشياء التي، في البدء، صارت شيئًا من لا شيء.
2-    في المشاهدة الطبيعيَّة الثانية نرى «الحكمة المملوءة تمييزًا» (أف 3: 10) (حكمة) المسيح التي استعملها فخلَقَ العوالم. أمّا في المعرفة على (الطبائع) العاقلة logikoi فهي تعلِّمنا عن أقنومه.
3-     أولى المعارف كلِّها، معرفة الوحودة والوحدانيَّة، وهي أقدم من كلِّ مشاهدة طبيعيَّة، المعرفةُ الروحيَّة التي خرجت في القديم من الخالق (الباري)، وظهرت مع الطبيعة التي عرفتها.
4-     ساعة التحوُّلات كثيرة، تقبَّلنا فقط معرفة أربعة (أمور): الأولى والثانية، والأخيرة والتي قبلها. الأولى هي، كما يقولون، الانتقال من الشرِّ إلى الفضيلة. والثانية (هي الانتقال) من اللاتألُّم إلى المشاهدة الطبيعيَّة الثانية. والثالثة (هي الانتقال) من هذه (المشاهدة) إلى معرفة (الطبائع) العاقلة logikoi. والرابعة هي الانتقال من (هذه) كلِّها إلى معرفة الثالوث الأقدس.
ثانيًا: الحياة الرهبانيَّة
•    الردّ على التجربة Antirrhétikos
أشار إلى هذا النصّ بلاديوس، سقراط، وجناديوس. ولكنَّه غاب في اليونانيَّة وحُفظ في السريانيَّة (فرنكنبرغ، ص 472-544) وفي الأرمنيَّة (سرغيسيان، ص 217-323) المنطلقتين من اليونانيَّة. قُسم هذا الكتاب، كما قال المؤرِّخ سقراط، «ثمانية بحسب عدد الأفكار (السيِّئة) الثمانية». وعن كلِّ «فكر» أو «تجربة» ترد النصوص الكتابيَّة التي تتيح لنا أن نطردها. هي مجموعة سلاح لمحاربة الشيطان. أمّا الإيرادات فجاءت بحسب ترتيب الأسفار المقدَّسة، من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، وعددها 487 إيرادًا.
•    سبق وأشرنا إلى الأقوال العروضيَّة الموجَّهة إلى الرهبان العائشين في الدير، لا المتوحِّدين. نُشرَتْ بعنوان «المرايا» (جمع المرآة). هي 127 آية موجَّهة إلى الرهبان و56 آية إلى إحدى البتولات، وكلُّ آية جاءت في شطرين، كما في سفر الأمثال، وقد وسَّع الكاتبُ بعض آياته. نقرأ مثلاً الآية 112 الموجَّهة إلى الرهبان:
إن كان الشابُّ وديعًا، تحمَّل أمورًا عديدة،
أمّا الشيخ الفزِّيع، الجبان، فمن يسانده؟
رأيتُ الشيخ غاضبًا، مترفِّعًا في زمانه
ولكنَّ شابًّا أصغر منه كان أكثر منه رجاء.
ثمَّ:     خيرٌ أن أكون واحدًا وسط ألفٍ، في المحبَّة
من متوحِّد (عائش) في البغض في مغاور لا وصول إليها (آية 9).
وفي المعنى عينه:    التوحُّد في المحبَّة ينقِّي القلب
والتوحُّد في البغض يبلبله (آية 8).
ونقرأ آية 41 الموجَّهة إلى إحدى البتولات:
المحبَّة تغلب السخط والغضب
والهدايا تُبعد الأحقاد.
•    أسس الحياة الرهبانيَّة. وُجد هذا النصُّ عند الآباء اليونان (40: 1253ب-1260ج). بعنوان: أسباب الأمور الرهبانيَّة. يعرض الكاتب فيه الشروط المطلوبة لكي يكون الإنسان راهبًا: لا يتزوَّج، ينعزل عن العالم، يطلب الفقر... مقال بسيط تساءل بعضهم لماذا نُسب إلى إوغريس. ولكنَّ التقليد اليونانيَّ واضح مثله مثل السريانيّ مع ثلاث ترجمات لم تُنشَر بعد. وهناك مقطع نجده عند أموناس، ذاك الراهب المصريّ.
•    سنة 1998، نُشر مقال لإوغريس عنوانه الأفكار. وها نحن نقرأ الفكر الأوَّل وعنوانه: ثلاثة أفكار أساسيَّة (بحسب الناشرين):
بين الشياطين الذين يعارضون التمرُّس، الأوائل الذين يتقدَّمون إلى القتال. هم أولئك المكلَّفون بالنزوع إلى الشراهة، أولئك الذين يشيرون إلينا بالبخل، أولئك الذين يدفعوننا إلى البحث عن المجد البشريّ. وجميع الآخرين يسيرون وراءهم ويلتقطون أولئك الذين جُرحوا. فليس بالإمكان أن نسقط في يدَيْ روح الفجور إذا كنّا لم ننحدر إلى الشراهة. وليس بالإمكان أن نبلبل الجزء الغاضب إذا كنّا لا نقاتل من أجل الأطعمة، أو الغنى، أو المجد. وليس بالإمكان أن نهرب من شيطان الحزن إذا كنّا حُرمنا من كلِّ هذا أو لم نستطع أن نحصل عليه. ولن نُفلت أيضًا من التكبُّر، الذي هو النسل الأوَّل لإبليس، إذا كنّا لم ننبذ البخل الذي هو «جذر جميع الشرور» (1 تم 6: 10). فبحسب الملك سليمان: «الفقر يجعل الإنسان متواضعًا» (أم 10: 4).
وبموجز الكلام، يستحيل على الإنسان أن يسقط على شيطان إن لم يُجرَح أوَّلاً بيد هؤلاء المهاجمين في الصفِّ الأوَّل. لهذا يقدِّم إبليس بعض المرّات هذه الأفكار الثلاثة، ويدعوه أوَّلاً لكي يحوِّل الحجارة إلى خبز، ثمَّ يعده بالعالم كلِّه إن هو ركع وسجد له، وثالثًا يقول له إنَّه إن أطاعه يمجَّد ولا ينال أيَّ أذى من مثل هذا السقوط. بان ربُّنا فوق هذه التجارب فأمر الشيطان بأن يبتعد (مت 4: 1-10). وعلَّمنا هكذا، نحن أيضًا، أنَّه لا يمكن أن نُبعد إبليس ما لم نحتقر هذه الأفكار الثلاثة.
فالمقال حول الأفكار ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالمقال حول التمرُّس الذي علَّم المتمرِّس كيفيَّة الوصول إلى عتبة اللاتألُّم. فهو توجَّه بشكل خاصّ إلى الذي تجاوز عتبة اللاتألُّم وصار «متعرِّفًا»، فبلغ إلى المعرفة الروحيَّة وأخذ يرتفع شيئًا فشيئًا، عبر مختلف درجات المشاهدة، إلى الصلاة النقيَّة ورؤية النور الإلهيّ.
•    سنة 2007، نشر بولس جيهان روائس تلاميذ إوغريس. هي في الأصل 198 رائسة (kejalaion ، يرتبط بالرأس. أفضل من فصل chapitre) جاءت من أثينة من المخطوط بيناكي. وأضيف إليها روائس، فوصل العدد إلى 211 حيث نقرأ: «تدلُّ شجرة التوت على التوبة،  والجمهور على الأهواء. فمن أبعدها وارتفع بواسطة التوبة، رأى في ذاته يسوع ورآه (حرفيًّا: رُئي منه) هو (أي يسوع). يقبله تحت سقف بيته، وينال الخلاص ويصير ابن إبراهيم» (لو 19: 2-10، مثل زكّا).
في أحد النصوص، جاء العنوان: «مقتطفات من تعاليم إوغريس». ولكن يبقى العنوان «روائس تلاميذ إوغريس» هو الأساس. أمّا التلاميذ فهم أوَّلاً، أمونيوس ثمَّ ديوسقور الذي سيكون أسقف الأشمونين، وشقيقاه أوسيب وأوتيم. كلُّ هؤلاء شكَّلوا حلقة سوف يشتِّتها تيوفيل، بطريرك الإسكندريَّة، في حربه على الأوريجانيَّة. يبدو أنَّ هؤلاء وغيرهم جمعوا هذه الأقوال في السنوات الأولى من القرن الخامس. كلُّ رائسة (ܩܦܠܐܘܢ) تبدو مستقلَّة، من حيث المبدأ، وهي ترتبط بأختها بواسطة توارد أفكار أو في لفظ يتكرَّر. وها نحن نقرأ بعضها:
1- يمتلك الطبيب، إن هو طبيب، فنَّ الطبِّ في الوقت عينه. وحين لا يمارس، يدلّون عليه حسب (هذا الفنّ)، لأنَّه يقطع أوَّلاً ثمَّ يضمِّد. والله مثله . فالمواهب الطبيعيَّة هي صفات عقليَّة، والصفات هي في اللاجسميّ، والله هو فوق اللاجسميّ.
3- مع النار نجد في الوقت عينه سلطات الحرق والإضاءة والتنشيف. ولكنَّها لا تفعل كلَّ هذا في الوقت عينه، فهي تنير حتّى عن بعد، ولا تُحرق ما هو بعيد عنها.
4- تبدو النبوءة في أربعة أشكال: مثلاً، في التاريخ، كما في ما يتعلَّق بإبراهيم: «الأشياء التي قيلت في الرمز» (غل 4: 24)، و«ساعة خروج إسرائيل من مصر» (مز 114: 1). وبواسطة كلمة كما «ها إنَّ العذراء تحبل» (إش 7: 14؛ مت 1: 23) إلخ. ثالثًا، وبشكل رمزيّ كما في خبر يونان (يون 2: 1ي؛ مت 12: 38-42). و«خذ لك أدوات راعٍ أحمق» (زك 11: 15)، إلخ. رابعًا، بواسطة الألغاز، مثل: «ماذا ترى؟» قال: «وعاء دبقِ قنَّاصِ الطيور» (عا 8: 2). وأيضًا: «غصن شجر الجوز» (إر 1: 11). و«قدرًا» (إر 1: 13). اندهشْ! كيف أنَّ في الأمور الحسِّيَّة تُوجَد الأقوال الموستيَّة عن كلِّ شيء.
5- إن تلفَّظ أحدُ الوثنيِّين بكلمة حقَّة، فلا نندهش. فهذا يأتي إمّا من الزرع الطبيعيّ، وإمّا لأنَّه سمعها من القدِّيسين أو من شيطان سمعها (بدوره)، لأنَّ (الشياطين) تصغي مرارًا إلى القدِّيسين حين يعلِّمون تلامذتهم التمرُّس في المشاهدة.
•    ونورد ممّا تركه تلاميذ إوغريس نصًّا وُجد في المكتبة البريطانيَّة نشره أنطوان غيّومون عن مخطوطين (12175 و17192)
1-     هذا العالم للذين يسلِّمون الكلمة (بيد يهوذا) هو خامس الأسبوع (أو: الخميس). أمّا للذين يُعدُّون نفوسهم لمعرفة (العالم) الآتي، فهو الجمعة. ولكن للذين، مثل التلاميذ لهم المعرفة، هو السبت. فعلى مثال هذه يُعرَف (العالم) الآتي هو أيضًا: متى يكون هذا العالمُ الجمعةَ، فذلك (أي: العالم) الآتي هو السبت الذي فيه ارتاحَ الله. ومتى يكون هذا السبتَ، فذلك (العالم) الآتي (اليومَ) الثامن والقيامة. فالكائنات العاقلة يقومون.
2-     حسب الأعمال التي تحصل يُسمّى مخلِّصُنا: إن قلتَ إنَّ الطبيعة العاقلة (أو: الناطقة) هي مريضة، يُقال: هو الطبيب. إن (قلتَ) هي نعجة، (يُقال): هو الراعي. وعن البشر (يقال): هو الملك... إلخ.
3-     كم من مرَّة قيل إنَّ العقل هو البيدر، والفضائل هي الحنطة، والأهواء هي التبن، والمعلِّمون هم الثيران. «لا تكمَّ الثور الذي يدرس (القمح)» (تث 25: 4). فعلى بيدر أرونا اليبوسيّ، بنى داود مذبحًا (2 صم 24: 18-25). إذًا في النفس التي أمسكها الخصم يُبنى هيكلٌ لله. وفي البرِّيَّة التي خربها الشرُّ في الماضي، ثبَّتَ ناموسُ الله مسكنَه.
4-     من قرَّب خاطئًا من الفضيلة (أو: طريق الفضيلة) قرَّب جَدْيًا. ومن (قرَّب) من المعرفة نفسًا نقيَّة، (قرَّب) حملاً.
5-     الجسد يُعمَّد في الماء، والعقلُ في المعرفة، أيًّا كانت: «أنتم تُعمَّدون بالروح القدس وبالنار» (مت 3: 11).
6-     اللوحة لا تشبه الملك، ولكنَّها تتقبَّل بواسطة الألوان صورة الملك أو صورة الأسد. هكذا العقل أيضًا، بواسطة العمل والمعرفة، يكوِّن صورة خالقه (لو 3: 10). والذي لا يلبس شبه السماويّ، يلبس شبه الترابيّ (1 كو 15: 49) بواسطة الشرِّ واللامعرفة (أو: الجهل).
7-     علَّمَنا مخلِّصُنا أن نحتقر الجسد بما قال: «إن ضربك إنسان على خدِّك الأيمن فرُدَّ له أيضًا الآخر. وإن سخَّرك ميلاً واحدًا، فامضِ معه اثنين» (مت 5: 39، 41). و(يعلِّمنا أن نحتقر) ما هو خارج الجسد في ما يقول: «إن أراد أحد أن يتخاصم معك ويأخذ ثوبك، فاترك له أيضًا رداءك» (مت 5: 40). و(يعلِّمنا أيضًا أن نحتقر) ما هو للطبيعة في ما (يقول): «من يأتي إليَّ ولا يبغضُ أباه وأمَّه» (لو 14: 26). و(يعلِّمنا أيضًا أن نحتقر) الحياة ܚܝ̈ܐ (أو: الإخوة إذا قرأنا ܐܚ̈ܐ) من الداخل في ما يقول: «ونفسه أيضًا».
8-     هذا (الذي قيل): «قام جبرائيل» (دا 8: 16). و«السرافيم يحيطون» (إش 6: 2). بواسطة موقفهم عرَّف معرفتهم.
ما نشير إليه هنا هو أنَّ النسخة اليونانيَّة تعود إلى القرن الثالث عشر، كما قال الأب بارامال. أمَّا النسخة السريانيَّة فتعود إلى القرن السادس، وبالتحديد إلى سنة 534 (845 لليونان). هذا يعني أنَّ أوَّل روائس تلاميذ إوغريس بدأت غداة وفاته (سنة 399) وتواصلت فيما بعد وفي أكثر من تقليد، في السريانيَّة والأرمنيَّة والعربيَّة.

ثالثًا: التفاسير الكتابيَّة
شرح إوغريس النصوص الكتابيَّة، وتوقَّف عند الصعوبات التي يمكن أن تقف في وجه الراهب عند القراءة الروحيَّة. وها نحن نقدِّم ثلاثة كتب: سفر الجامعة، سفر الأمثال، سفر المزامير. جاءت هذه التفاسير بشكل دريسات أو scholia (في اليونانيَّة: scwlion: شرح، تفسير).
سنة 1987، نشر بول جيهان الدريسات إلى سفر الأمثال. فإنَّ إوغريس البنطي عُرف في الأصل على أنَّه كاتب روحيّ، ولكن تبيَّن أنَّه شرح أسفار أيُّوب والجامعة والمزامير والأمثال. فالذي كشف هذه الوجهة عنده هو اللاهوتيّ السويسريّ فون بلتازار. وجد نصوصًا موضوعة تحت اسم أوريجان ووُجدَتْ حرفيًّا في مؤلَّفات إوغريس. وهكذا كُشفت أوَّلاً الدريسات إلى المزامير في الفاتيكانيّ السريانيّ 754 ، سنة 1960. وسنة 1966 كان الأب ريشار  يدرس مؤلَّفات هيبوليت الرومانيّ التفسيريَّة، فبيَّن أنَّ الدريسات إلى الأمثال التي نُشرت سنة 1860  ونُسبت إلى أوريجان، هي في الواقع من مؤلَّفات إوغريس. وسنة 1977، وجد بولس جيهان في المكتبة الوطنيَّة، باريس، الدريسات إلى سفر الجامعة. وهكذا إذا حسبنا ما نَنتظر نشرَه حول سفر إيُّوب، نكون أمام حوالى 2000 دريسة إوغريَّة.
•    ونبدأ مع الدريسات إلى سفر الأمثال، حيث أخذ إوغريس نصوص اليونانيَّة السبعينيَّة لا العبريَّة الماسوريَّة. أمّا عدد الدريسات فهو 382، يُضاف إليها ما وُجد في الملحقات ولاسيَّما ما يتعلَّق بالأمثال الأعداديَّة (أم 30: 15ي).
أمثال سليمان بن داود الذي مَلَكَ في إسرائيل (أم 1: 1)
1-     «المثل» هو قول يدلُّ على الأمور المعقولة بواسطة الأمور الملموسة.
2-    «ملكوت إسرائيل» يدلُّ على المعرفة الروحيَّة التي تتضمَّن الأسباب (أو: الأقوال) المتعلِّقة بالله، اللاجسدين والأجساد، الدينونة والعناية. أو التي تكشف المشاهدَة حول الخلقيَّة hqikhς والطبيعيَّة jusikhς واللاهوت qeologikhς.
نجد تفاسير مماثلة لـِ «مملكة الله» و«مملكة السماوات» في المتمرِّس: «ملكوت السماوات هو لاتألُّم النفس...». «ملكوت الله هو علم الثالوث الأقدس...» (رائسة 2-3). ونقرأ في الروائس الغنوصيَّة (5: 30): «إذا كان ملكوت السماوات مشاهدة (ܬܐܘܪܝܐ) الكائنات، وإذا كان هذا (أي الملكوت) هو في داخلنا (لو 17: 21) بحسب كلمة ربِّنا، وإذا كان داخلنا ممسوكًا بيد الشياطين (مت 12: 43-45؛ لو 11: 24-26)، فبحقٍّ قيل إنَّ الفلسطيِّين أمسكوا أرض الموعد» (1 صم 4: 1ي). فالعلم الروحيّ يُقدَّم هنا على أنَّه مجموعة الأقوال logoi الرئيسيَّة.
لمعرفة الحكمة والتعليم (أم 1: 1ب)
3-    يعني «صار ملك إسرائيل ليعرف التعليم والحكمة». و«الحكمة» هي علم الأجسام واللاجسميِّين و(علم) الدينونة والعناية اللتين تُريان فيها. «التعليم» هو اعتدال الأهواء الذي نراه حول الجزء الشهوانيّ أو اللاعقليّ في النفس.
ولتقديم الحكم (أم 1: 1ج)
4-     إنَّ الآية «لتقديم الحكم» تعني: لكي تكون ملكة الحكم عنده مستقيمة ومعصومة (غير مخطئة). إنَّ فينا ثلاث ملكاتٍ للحكم: الإحساس aisqhsiς، الذهن logoς، العقل nouς: الإحساس لما هو حسّي. الذهن للأسماء والأفعال وعناصر الخطبة، والعقل لما هو معقول.
التقوى تجاه الله هي بداية الإحساس (أم 1: 7)
5-    بالإحساس يدرك العقلُ ما هو حسّيّ. ويشاهد بالفضائل ما هو معقول. لهذا علَّمنا الحكيم سليمان أنَّ الفضائل تلعب دور الإحساس.
الأشرار يحسبون كلا شيء الحكمةَ والتعليم (أم 1: 7)
6-    الذين اقتنوا الشرَّ «يحسبون كلا شيء الحكمة والتعليم». أظنُّ أنَّ ما من إنسان يجسر أن يقول إنَّه يحسب «الحكمة والتعليم» كلا شيء.
يكون لك إكليل نعمة على رأسك وقلادة ذهب حول عنقك (أم 1: 9).
7-    كما أنَّ «قمَّة الرأس» و«العنق» يمثِّلان هنا العقل، كذلك «الإكليل» و«القلادة» يدلاَّن هنا على العلم. فقد اعتاد الروح القدس أن يستعمل كلمات عديدة لكي يدلَّ على الله وملائكته، على العقل والفضيلة والعلم، على الشرِّ والجهل (لا معرفة، agnwsian) على إبليس نفسه وملائكته. وهو لا يُعطي هذه الأسماء بشكل بسيط aplwς، كما يظنُّ البعض. هذه هي العلامات المميَّزة لمختلف الأعمال: العمل الذي يقوم به الله من أجلنا بواسطة الملائكة، وذاك الذي نقوم به لأجله، والعمل الذي يقوم به الشياطين تجاهنا وذاك الذي نقوم به تجاههم.
•    دريسات إلى سفر الجامعة
ترك إوغريس في هذا المجال 73 دريسة. وها نحن نورد بعضها:
1-    كنيسة النفوس النقيَّة هي المعرفة الحقيقيَّة، معرفة الدهور والعوالم، الدينونة والعناية (التي تتجلَّى) فيها. الكنائسيّ هو المسيح الذي يلد هذه المعرفة، أو الكنائسيّ هو الذي ينقِّي النفوس بالاستغراق الخلقيّ ويقودها إلى التأمُّل الطبيعيّ.
2-    إلى الذين يدخلون إلى الكنيسة العقليَّة ويُعجَبون بتأمُّل الكائنات المخلوقة. يقول النصّ: «لا تفكِّروا أنتم أنَّه اللفظ الأخير لكم في المواعيد، لأنَّ كلَّ هذا هو باطل الأباطيل تجاه معرفة الله نفسه. كما أنَّ الأدوية هي باطلة بعد الشفاء، كذلك أقوال (أسباب) الدهور والعوالم هي باطلة بعد معرفة الثالوث الأقدس».
3-    إن لم يكن ذكرٌ للأوَّلين، فكيف يقدر داود أن يقول: «تذكَّرتُ الأيّام القديمة أو الأولى» (مز 143: 5). و«تذكَّرتُ السنوات الدهريَّة» (مز 77: 6). ربَّما يحصل نسيانُ كلِّ هذه الأشياء حين الطبيعة العقليَّة تتقبَّل الثالوث الأقدس. فحينئذٍ يكون الله كلاًّ في الكلّ (1 كو 15: 28). إذا كانت تمثُّلات الأغراض التي تتكوَّن في الفكر تقود الذهن إلى تذكُّر الأغراض، وإذا انفصل الذهن الذي استغرق في الله عن كلِّ التمثُّلات، فالذهن الذي تقبَّل الثالوث الأقدس، ينسى إذًا كلَّ الأشياء المخلوقة (أو: المخلوقات).
نلاحظ أنَّ القسم الأوَّل من الدريسة يبدو بشكل سؤال – جواب، وهو أمرٌ لجأ إليه إوغريس مرارًا في تفاسيره حين تبدو النصوص العديدة وكأنَّها تتعارض، فيقدِّم إوغريس حلاًّ للصعوبة حين يعتبر أنَّ النصوص الثلاثة لا تكون على المستوى عينه. فآيتا المزمورين الأوَّليّين تشيران في نظره إلى الاستغراق في المشاهدة الطبيعيَّة، أمّا جا 11: 1 (ليس من ذكر للأوَّلين) فهي تدلُّ على مشاهدة الله. وفي نهاية الأزمنة، حين تمتصُّ الأذهان كلِّيًّا في مشاهدة الثالوث، «تنسى» العلم السفليّ الذي يتوقَّف على الطبائع، وتتحرَّر من جميع المضامين المرتبطة بالعالم المحسوس. وضرورة التخلُّص من المضامين هي أيضًا أحد الشروط للبلوغ منذ الآن إلى الصلاة النقيَّة التي تمثِّل الشكل الأسمى للمشاهدة.
•    دريسة إلى سفر المزامير
هذا النصُّ لم يُنشَر بعد، ولكن جاء عددٌ كبير من الآيات هنا وهناك. وها نحن نورد بعضها لكي نعطي القارئ فكرة عن طريقة إوغريس في تقديم المزامير.
7    حول مز 9: 18: «كما أنَّ الفردوس هو مدرسة paideuthrion الأبرار، كذلك الجحيم kolasthrion هو موضع العقاب».
12    حول مز 9: 26: «الذين يَنمون، يَنمون حين يخفِّفون الشرّ».
99    حول مز 16: 2: «ربَّما تُدعى "الخيرات" الأشياء التي لا نبالي بها ta mesa والتي يجعلها صالحةً الأستعمال الصحيح».
180 حول مز 17: 13: «يد الله الفاعلة هي أيديّ الملائكة القدِّيسين، التي بها يُمارس عنايَته في العالم المحسوس».
7    حول مز 31: 2: «فضَّلوا البرَّ لأنَّها تضمُّ كلَّ الفضائل».
23    حول مز 33: 9: «البداية genesiς تدلُّ على جوهر الكائنات المعقولة، والخليقة ktisiς تدلُّ على العبور من الشرِّ إلى الخير "لأنَّه إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة"» (2 كو 5: 17).
120 حول مز 35: 11: «الآن أُسمِّي معرفةً الخبرة، لأنَّ الخبرة تُسمّى أيضًا معرفة». فقد قيل: "عرف آدم امرأته" (تك 4: 1).
49    حول مز 40: 13: «بدون الأشياء المتوسِّطة، التي تعمل وظيفة المادَّة، لا تتكوَّن الأعمالُ الصالحة ولا الشرِّيرة».
108 حول مز 52: 10: «الفضلاء يُدعَون باسم الفضيلة السائدة. فنقول إنَّ أيُّوب كان شجاعًا، ويوسف عفيفًا، إلخ، حين نسمِّيهم انطلاقًا من الفضيلة السائدة».
71    حول مز 68: 32: «بالمصريِّين، أفهمَنا الاستعداد diaqesin للشرّ، وبالأحباش دلَّ على حالة exin (الشرّ)».
ماذا نكتشف في هذه الدريسات إلى الأسفار المقدَّسة؟ مراحل النموِّ الروحيّ. فتفسير الكتاب يخضع خضوعًا وثيقًا للنظرة إلى الحياة الروحيَّة. والحياة الخلقيَّة هي الشرط الأساسيّ للحياة العقليَّة. فالشرُّ والجهل هما نتيجة السقطة التي بها خسر الإنسان الفضيلة والمعرفة الأصليَّة (كان زمن لم يكن فيه الشرُّ موجودًا، وسيكون زمن لن يكون فيه موجودًا، الدريسة 62، إلى الأمثال 5: 14). وتلتقي الفضيلة مع العلم، وهما أساس الحياة الروحيَّة.
ونكتشف أيضًا الطبائع العقليَّة: إبليس والشياطين. هم أعداء البشر وخصومهم. ثمَّ الملائكة الذين يساندون الإنسان في حربه. يشكِّلون القوى المقدَّسة. في هذا الإطار، ينظر إوغريس إلى الآخرة، حيث الأبرار يُصبحون ملائكة (ويسودون على الأشرار، أم 28: 22، دريسة 354). هناك نصيبٌ تعيسٌ للأشرار فيه يخسرون العلم والفضيلة. ونقرأ دريستين إلى سفر الأمثال: 200 ثمَّ 275.
أم 19: 19     الإنسان صاحب الروح الشرِّير، ينال ضررًا خطيرًا
وإن صنع ما هو مشؤوم، يضيف ايضًا (الشؤم) على نفسه.
200: في رأيي، هذا «الضرر الخطير» يشمل الحرمان من مشاهدة الكائنات، والإضافة على النفس «هي انعدام المفاهيم الطبيعيَّة التي له عن الله، لأنَّ نفسه سقطَتْ في الجهالة التامَّة. فالمخلِّص قال في الأناجيل: "ماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم كلَّه وخسر نفسه وسبَّب لها ضررًا" (مت 16: 26). ولكن في هذا النصِّ الأخير تدلُّ "الخسارة" على جهل الأجسام والجسميِّين. و"الضرر" يدلُّ على الجهالة الكبرى.»
أم 24: 22    لأنَّهم يعاقبون الأشرار فجأة
من يعرف عقوبات الاثنين
275: كيف يستطيع المخلِّص أن يقول في الأناجيل: «الآب لا يدين أحدًا، بل أعطى الحكم كلَّه للابن»؟ (يو 5: 22) إلاَّ إذا لم يكن «العقاب» و«الحكمُ» شيئين مختلفين. فـ«العقاب» هو الحرمان من اللاألم ومن علم الله، الذي ترافقه الآلام الجسديَّة. و«الحكم» هو خلق عالم يحدِّد لكلِّ واحد من الكائنات العاقلة جسدًا يوافق حالته.
جاءت طريقة التفسير الكتابيّ عند إوغريس بشكل دريسة، تحدَّد كما يلي في تفسير سفر الجامعة (5: 17-19) مع دريسة 42:
إنَّ علْم الله يُعتبَر مثل طعام الذهن وشرابه، مثل سعادته وحظِّه، غناه، فرحه وانشغاله الإلهيّ، نوره، حياته والعطاء الذي يُعطى. طبَّق الروحُ القدس على الله أيضًا أسماء أخرى كثيرة. يستحيل الآن تعدادها، لأنَّ قاعدة الدريسة لا تسمح بذلك.
في الدرائس لا تُشرَح كلُّ الآيات، بل البعض. ويكون التفسير قصيرًا بشكل عامّ. وإذا كانت الآية طويلة، تُقسَم إلى وحدات، كما سبق وذكرنا في بداية سفر الأمثال. ففي دريستَيْ 21-22 حول جا 3: 9-22، شرح إوغريس في 21 مجمل النصّ ثمَّ عاد في 22 إلى جزء منه.
21- دعا «حظًّا» ما يحصل عادة لجميع البشر في هذا العالم، للأبرار كما للأشرار. مثل الحياة والموت، المرض والصحَّة، الغنى والفقر، خسارة الأعضاء والزوجات والأولاد والخيرات. لا تُتيح لنا هذه الأشياء أن نميِّز قبل الدينونة بين البارّ والشرِّير...
22- يدعو «خصومنا» «مظالم»، لأنَّه قيل: «تقبَّلْ عبدك مثل (رجل) صالح، فلا يظلمني المتكبِّرون» (مز 119: 122). وأيضًا بالنسبة إلى المسيح المخلِّص: «يحَطُّ الظالم ويدوم ما دامت الشمس» (مز 72: 4، 5)...
وأخيرًا جمع إوغريس في دريسة 247 حول أم 22: 20، التوازي بين الأسفار الثلاثة التي نُسبَتْ إلى سليمان. ونبدأ بقراءة سفر الأمثال:
وأنت سجِّلْها ثلاث مرَّات في نفسك
من أجل المشورة والعلم، على وُسع قلبك.
247: من وسَّع قلبه بالطهارة يفهم أقوال الله التي هي تمرُّسيَّة، طبعيَّة، لاهوتيَّة، لأنَّ كلَّ تعليم الكتاب المقدَّس ينقسم ثلاثة أقسام: خُلقيّ، طبعيّ، لاهوتيّ. سفر الأمثال يرافق الأوَّل، والجامعة الثاني، ونشيد الأناشيد الثالث.

الخاتمة
مجال واسع رحب دخلنا فيه لكي نتعرَّف على معلِّم كبير في الحياة الروحيَّة، فكان أثره كبيرًا في الشرق وفي الغرب. على الرهبان بشكل خاصّ، وعلى المؤمنين، ولاسيَّما في هذه الأيّام. ومن حسن حظِّنا أنَّ آثاره تُنشَر شيئًا فشيئًا في اللغات الأوروبيَّة بانتظار أن تُنشَر في اللغة العربيَّة... راهب راح في خطِّ أوريجان، معلِّم الإسكندريَّة، وجعل شروحه للكتاب المقدَّس في خدمة النموِّ الرهبانيّ، فصار لنصوصٍ قديمة معنى ما كنّا لنتوقَّعه. أمّا تعلُّقنا به، فلأنَّ آثاره التي ضاعت في اللغة الأصليَّة، وُجدَت في اللغة السريانيَّة وفي مخطوطات عديدة، كما في الأرمنيَّة والعربيَّة. نتاج واسع، ولو لم يختبئ وراء هذا أو ذاك من الكتّاب الشرقيِّين، مثل نيل الأنقيريّ، لكان أُتلف وضاع. وفرحُنا كبير لأنَّ ذاك الذي رافَقَنا في دراستنا الباريسيَّة هو الذي عرَّف العالم الفرنسيّ بل الأوساط العلميَّة على مثل هذا الكبير في عالم الروح، عنيتُ به الأستاذ أنطوان غيُّومون. وها هو العمل يتواصل مع صديق شاركَنا في لبنان في مؤتمرات عديدة، عنيتُ به بول جيهان. هي خطوة أولى ونرجو، إن شاء الله، أن نواصل التعرُّف إلى إوغريس البنطيّ، ابن القرن الرابع، الذي ما زال حيًّا في القرن الحادي والعشرين لمن يريد أن ينزل إلى الأعماق فيتمرَّس ويتعرَّف ويدخل إلى اللاهوت، إلى الثالوث الأقدس. عندئذٍ يمكن الاستغراق في المشاهدة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM