الفصل العشرون:الأزمنة الأخيرةعند أفرام السريانيّ

الفصل العشرون
الأزمنة الأخيرة
عند أفرام السريانيّ

مرَّات عديدة نسمع الناس في أيّامنا يتحدَّثون عن نهاية العالم وعن مجيء المسيح الثاني. وينتظرون أن يدبَّ الخرابُ في الكون على ما نقرأ في إنجيل متّى: «تسمعون بالحروب وبأخبار الحروب. وتقوم أمَّة على أمَّه، ومملكة على مملكة، وتحدث مجاعات وزلازل في أماكن كثيرة» (مت 24: 6-7). ويتواصل الكلام حول مجيء ابن الإنسان: «تظلم الشمسُ ولا يضيء القمر، وتتساقط النجوم من السماء، وتتزعزع قوّات السماء» (آ29). في هذا قال مار أفرام في الإنجيل الرباعيّ:
قال أيضًا: «هذه الساعة لا يعرفها أحد، لا الملائكة ولا الابن» (مت 24: 36) ليَمنع كلَّ سؤال عن مجيئه. «لا يخصُّكم أن تعرفوا الأيّام والأزمنة» (أع 1: 7). أخفى عنّا ذلك لكي نسهر ولكي يقدر كلُّ واحد منّا أن يفكِّر بأنَّ هذا المجيء يحصل خلال حياته. فلو كُشف زمنُ مجيئه، لكان مجيئه باطلاً ولما كان اشتهاه الأمم والأجيال حين حصوله. قال حقًّا إنَّه «يأتي» (مت 24: 30) ولكنَّه لم يحدِّد في أيِّ وقت، وهكذا تتشوَّق إليه كلُّ الأمم والأجيال. ومع أنَّه عرَّف بعلامة مجيئه، إلاَّ أنَّنا لا نرى النهاية، لأنَّ هذه العلامات، أتَتْ وعبرَتْ وتدوم دومًا في تبدُّل متواصل. فمجيئه الأخير يشبه مجيئه الأوَّل. ورغب فيه الصدّيقون والأنبياء (مت 13: 17) لأنَّهم حسبوا أنَّه يَظهر في زمانهم. وكذلك يرغب كلُّ المؤمنين اليوم أن يستقبلوه في زمانهم، لاسيَّما أنَّه لم يقُل بوضوح عن يوم ظهوره لئلاَّ يظنَّ أحد أنَّه يخضع لأمرٍ أو لساعةٍ، وهو الذي يسود الأعداد والأزمنة.
هكذا نكون في الإسكاتولوجيّا. وهي لفظة ظهرت في القرن                                         18-19  فعنت «التعليم حول الشيء الأخير» أو: حول الأخيريّات. وقيل فيما بعد: التعليم حول العواقب الأخيرة، التي هي الموت والدينونة والنعيم والجحيم. وفي كلام آخر: كيف تنتهي مسيرة الخلق والتاريخ، سواء على المستوى الفرديّ، كما على المستوى الجماعيّ. والنهاية هذه لا تكون فقط على مستوى الزمان والمكان، بحيث يصبح العالم والبشر خارج الزمان والمكان، في الأبديَّة. بل هو الرجاء المسيحيّ الذي يقول لنا كيف تصبح الأرض أرضًا جديدة، والسماوات سماوات جديدة.
أيُّها الابن الذي تنازل بنعمته
وصار إنسانًا كما حسُنَ له
وذاق الموت بإرادته
على رأس الخشبة، في الجلجلة،
هب لي، يا ربَّنا، أن أتكلَّم
على النهاية وعلى تمام (الأزمنة)
على الخلائق التي تنحلّ
والتقلُّبات التي ستكون في الخليقة.
*  *  *
يسقط الناس الواحدُ على الآخر
والشعوب تخربُ بعضها بعضًا
يتحصَّن الشرُّ في المسكونة
ويكثر الإثم في الخليقة
ويموت الملوك والصدّيقون
والأشرار يقومون في الأرض
حينئذٍ تقوم البرارة (الإلهيَّة)
وتزن البشر في ميزانها.
*  *  *
من أجل هذا، يا أحبّائي،
بلغ الزمن الأخير
وها نحن نرى العلامات
كما المسيحُ كتبَ لنا
فيقوم الملوك الواحد على الآخر
ويحلُّ الضيق في الأرض
وتتحارب الشعوب مع الشعوب،
والجيوش تهجم على الجيوش.
*  *  *
1-    الموت
حين يتحدَّث أفرام عن الموت، فهو يرى فيه شخصًا عاملاً في العالم، في خطِّ ما نعرفه عن التصاوير القديمة، مع منجل في يده. لا يفلت منه أحد، لا الكبار ولا الصغار، لا الأغنياء ولا الفقراء، لا الأبرار ولا الخطأة. ونقرأ المدراش (أو: النشيد التأمُّليّ) 37 من مدارش نصيبين:
بكى الموت أمام الشيول
لأنَّه رأى كنوزها (الشيول) تُفرَغُ
فقال: من انتزع منك غناكِ
سرق جيحزي فكُشف
وأنا كلَّ يوم أسرق
فالسرقة ليست لي أمرًا جديدًا.
أرسلت لدى الملوك،
المرضى الذي يحيط بهم حرّاسُهم
ومع أنَّ الحرّاس على الأبواب،
أمسكُ نفس الملوك وأمضي خارجًا.
الموت لصٌّ وسارق، ولا يقف في وجهه الحرّاس مهما كانوا أقوياء. أمّا حليفه فالمرض. وتعود صورة «السارق» إلى كلام الربِّ في خطبته الأخيرة (مت 24: 43)، الذي ردَّده بولس الرسول في 1 تس 5: 2، 4. فالموت يسرق النفوس ويجعلها في «الشيول» الذي هو «كنزه» (ܓܙܐ)، كما كان مخبأ لجيحزي وضع فيه ما أخذه من نعمان.
والموت ملك وعرشه في الشيول. هو لا يخاف من الناس. ولكن سوف نرى أنَّ إنسانًا أخافه لأنَّه سلبه كنوزه. وسوف يكون الكلام عنه، لأنَّ الله لا يسمح لأحبّائه أن يلبثوا في الموت ويصيبهم الفساد، على ما قال المزمور السادس عشر
في الشيول أعددتُ عرشي
وقام ميتٌ واحد (= يسوع) وطردني منه
كلُّ إنسان يخاف منّي
وأنا وحدي ما خفتُ من إنسان
الخوف والهموم في بيت الأحياء
والسلام والأمان في بيت الموتى
ورجلٌ مقتول دخل إلى الشيول وسباه.
أنا أسبي كلَّ إنسان
وابنُ السبي الذي سبيتُ سباني
فاقتاد سبيَه ومضى إلى الفردوس.
هو جدُّ الحرب والقتال، والموت الذي يخيفُ الجميع لا يخاف من أحد. فعل كما يفعل الملك حين ينتصر: يأخذ السبايا معه. بل أخذ يسوع مسبيًا مع السبايا، ولكنَّه لم يعرف ماذا يستطيع هذا المسبيّ أن يفعل: اقتاد المسبيّين إلى الفردوس.
الموت يعامل الجميع بالتساوي: العبد وسيِّده. وليس عنده أخذٌ بالوجوه. ولكنَّ الجميع يشتمونه مع أنَّه «يوزِّع خيراته». لا عرفان جميل له مع أنَّه يريح الناس من هذه الحياة.
أنا أخدم قدّام الله
الذي ليس عنده أخذٌ بالوجوه
من غيري يتحمَّل مثلي أن يعيَّر...
إذ أعمل الخير أُظلَم كلَّ يوم وأحتمل.
*  *  *
الشيوخ أنجِّيهم من كلِّ الآلام
والأطفال من كلِّ الذنوب
في الشيول تتوقَّف كلُّ الحروب
لا شرّ في موضعنا،
فالشيول والسماوات وحدها
معفيَّة من الشرور.
أمّا الأرض فمليئة بالشرور فيبقى على الإنسان. إن لم يكن له أن يصعد إلى السماء، فلماذا لا يمضي إلى الشيول وهناك يرتاح. هنا نقرأ المدراش 39 الذي يشير إلى بني قورح الذين قاوموا موسى وهارون فكان عقابهم أن «فتحت الأرض فاها فابتلعتهم هم وعيالهم» (عد 16: 32). وهكذا هبطوا إلى الشيول. قال أفرام:
عيد عظيم كان في الشيول
حين ابتلعت بيتَ قورح
صنع لي الشيطان لذّة كبيرة
صنع الشقاق بين اللاويّين،
ينبوعَ لبن وعسل،
أجرى في الأرض العطش
جماعات من الخطأة
وأنزلهم إلى الشيول.
ذاك ما قال المدراش (أو: القصيدة) 39. وبان لنا أنَّ ما كان «مثوى الأموات» (أو: الشيول) في العهد القديم، يعادل جهنَّم عند أفرام السريانيّ. وحدهم الأبرار يصعدون من هناك، والباقون يلقون العذاب. ففي هذه القصيدة عينها يقول شاعرنا:
عاد الأبرار إلى الحياة وخرجوا
موسى أنزل الأحبّاء إلى الشيول
ويسوع أراح الموتى وأصعدهم.
أجل، يذكر أفرام الموت ليقول لنا إنَّه غُلب. والشيول أُفرغت من الأبرار، لهذا نراها «تبكي». وتبدأ القصيدة 39 كما يلي:
جاء وقتي من لدن الأبرار،
لكن ما حطَّمني إنسانٌ مثل ابن مريم
فإيليّا أحيا ميتًا (واحدًا)
وإن أفلتَ من يدي كان لي بعده عزاء
لأنّي أعدتُ إليّ ذاك الميتَ الذي أحياه
وإليشع بن شافاط أحيا ميتين
بضربتين من عصاه
وأنا بضربة واحدة عدتُ وأخذتُ النبيّ
مع الميتين اللذين أحياهما.
تحدَّث أفرام عن ابن الأرملة الذي أحياه إيليّا (1 مل 17: 22-23)، وعن ابن الشونميَّة الذي أقامه إليشع (2 مل 4: 32-37). كما أقام هذا النبيّ ميتًا لمس عظامه (2 مل 13: 21). ولكن ما كلُّ هذا تجاه يسوع الذي أقام جميع الموتى! وتأتي الردّات في أناشيد نصيبين، فتشدِّد على قدرة يسوع في هذا المجال.
•    مبارك من حطَّم بصليبه شوكة الشيول (أو: الجحيم) (37)
•    مبارك من أحيا موتى الشيول بصليبه (38)
•    مبارك من فتح بصوته قبور الشيول (39).

2-    القيامة
ما الذي يقوم في الإنسان؟ النفس أم الجسد؟ فأهل اليونان شدَّدوا على خلود النفس ونسَوا الجسد. أمّا الكتاب المقدَّس فشدّد في المرحلة الأخيرة على قيامة الإنسان ككلّ، نفسًا وجسدًا، وراح في هذا الخطِّ عينه التقليد اليهوديّ. قال هوشع في نصٍّ سوف يأخذ المعنى الروحيّ عند الآباء: «بعد يومين يحيينا وفي الثالث يقيمنا» (هو 6: 2). ولا ننسَ مثَل «العظام اليابسة» في سفر حزقيال (ف 37). قال النبيّ: «دخل فيهم (الموتى) الروح فحيوا وقاموا على أرجلهم جيشًا عظيمًا جدًّا» (آ10). وإشعيا هتف: «يحيا موتاك ويقوم أشلاؤهم، فاستفيقوا ورنّموا، يا سكّان القبور» (إش 26: 19).
ترك أفرام الخطَّ اليونانيّ الذي اعتبره «سمًّا» وتحدَّث عن قيامة الإنسان نفسًا وجسدًا. فإن أقام الله النفوس فقط، كان جائرًا. فالنفس والجسد كانا معًا على هذه الأرض، وسيتجلَّيان معًا في القيامة، في السماء. وها نحن نورد بعض الردّات في أناشيد نصيبين:
•    لا يُظلم جسدُ الأبرار الذين آمنوا بك (43)
•    النفس والجسد، يا ربّ، يفرحان في انبعاثك (44)
•    في انبعاثك، ليتقبَّل الجسد رفيقته (45)
•    لا يُظلَم الجسد المقبور الذي آمن بك (46)
•    الجسد والنفس، يا ربّ، يرتِّلان في فردوسك (47)
•    طالبْ، يا ربّ، بالجسد الذي ظُلم في انبعاثك (48).
ستَّة أناشيد شدَّدت على القيامة التامَّة، لا على الجسد الذي يمضي «إلى التراب»، والنفس التي تمضي «إلى الربّ». بل بدأ النشيد 42 «نبارك القوَّة التي حلَّت في عظام القدّيسين» الذين زيَّنهم الربُّ فبان انتصارهم. وكان كلامه عن ذخائر الشهداء، التي هي أعظم تجارة. قال الشيطان: «مات توما الرسول، فسبقتني عظامه إلى الرها». نشير هنا إلى تقليد قديم يقول بأنَّ توما استُشهد في الهند، ولكن نقلت عظامه إلى الرها. وعاد أفرام إلى العهد القديم. وتساءل: لماذا حمل موسى عظام يوسف، كما نقرأ في سفر الخروج (13: 19):
كان يوسف لنفسه سورًا داخل (أرض) الأمان،
فحمل موسى عظامه لكي تكون في المخيَّم
سورًا داخل البرِّيَّة.
رأى (موسى) ذاك الشعب الذي مات بأصنامه
(ونسيَ) باريَه.
فحمل العظام الميتة لتكون، بدل الأحياء،
بخورَ غفران وشفيع الرضوان.
هل العظام مجرّد مادَّة قاسية عملَتْ عملها حين كان الإنسان حيًّا، ثمَّ رُميَتْ في القبر؟ بل هي تحمل «القوَّة». هذا يعني أنّ الجسد الذي يُوضَع في القبر ليس ميتًا كما نظنّ. فهو حيّ كما النفس حيَّة. هل نتخيَّل أن يكون «الموتى» أفضل من «الأحياء»؟ لهذا تواصلت القداسة: ترك موسى الأحياء وركض إلى الموتى: هؤلاء يعملون معه ويسيِّجون «فجوات الشعب». وبعد عظام يوسف، ها هي «عظام إليشع التي زرعت الرجاء في الشيول. فالقوَّة المخفيَّة في العظام عزَّت الموتى. فالموتُ رأى الميت يتحرَّك ويهرب. من رأى رؤية عجيبة: الميت خطف من فم الموت جثَّةً وأحياها، والمقبور رافق القابرين إلى البيت».
وتوسَّع أفرام في مشهد العظام اليابسة، فقال في النشيد 43:
لامست الشيول كنزها، أهراءَ كلِّ الأجساد
ثبَّتت أبوابها وعلى مغاليقها اتَّكلت
ما رأت أبدًا عظمًا يتحرَّك
صوت حزقيال جعلها تتيه
تحرَّكت العظام وطلبت بعضُها بعضًا وتركَّبتْ
رأتها الشيول تتركَّب فخارت قواها وانحلَّت.
*  *  *
الموتُ هرب من صوت العظام واختبأ في كهوفه.
مرضَ الموت، انتهى، ظنَّ أنَّه هلك
باري الشيول، أعطى أوامره، وأورثها قطْعَ الرجاء
سطَّر وصيَّته وهو يرتجف
أقرَّ أنَّه عابر، وكتب أنَّه مسكين
وسوف يعيد الوديعة إلى واهبها.

صور لافتة قدَّمها أفرام لكي يتحدَّث عن قيامة الأجساد: «الأموات قاموا لدى الأحياء، والمقبورون لدى القابرين، والراقدون لدى الماشين، والصامتون لدى المتكلِّمين». ولكن لماذا هذا التشديد على القيامة؟ لأنَّ برديصان الرهاويّ (154-222) رفض قيامة المسيح وبالتالي قيامة البشر بشكل عامّ. ومع أنَّه سبق أفرام، إلاَّ أنَّ تأثيره لبث كبيرًا في نصيبين والرها. وسوف يكرِّس له أفرام مع مرقيون وماني عددًا من القصائد جُمعَت في ما يُسمّى: «مدارش تردُّ على التعاليم الضالَّة». ثمَّ كانت ميامر ردَّ فيها أفرام بشكل خاصٍّ على برديصان. أمّا النقطة الأولى التي يعرضها فهي أنَّ المسيح عاد مع جسده من سفرته إلى الشيول:
ما فهم برديصان أنَّ المسيح أحيا الجسد الذي مات في آدم. فالمسامير تشهد على موته. والملاكان يشهدان على قيامته. والمسامير التي خرجت من الأتون هي أتون لإيماننا. وآثارها بيَّنت لتوما أنَّ النفس لم تقُم وحدها.
قبِل تبّاع برديصان برهان أفرام، ولكنَّهم راحوا يجادلون ليدافعوا عن نظريَّتهم بأنَّ الأجساد لا تقوم. فردَّ أفرام: «إذ رأى برديصان أنَّ جسد ربِّنا وحده قام، دون جميع أجساد المائتين، ظنَّ، ضالاًّ، أنَّ الربَّ أقام النفوس فقط». وتابع أفرام كلامه:
«شدَّد برديصان بهذه الطريقة فقال: إذا كانت هذه الأجساد ماتت في آدم، وجب على المسيح، في مجيئه، أن يقيم الأجساد من القبر. ولكن إن كان لم يُقم الأجساد، فمن الواضح أنَّ آدم أدخل، بخطيئته، موت النفس، وأنَّ النفوس التي أنزلها آدم إلى الشيول، أصعدها ربُّنا معه».
حين أراد أفرام أن يردَّ على هذه الضلالات، رفض أن يدخل إلى حقل خصومه، وما أراد أن يقدِّم ردًّا مباشرًا على براهينهم، بل اكتفى بأن يشرح نقطة أساسيَّة: العلاقة الحقيقيَّة بين موت آدم وقيامة المسيح. نلاحظ هنا أنَّ أفرام لا ينكر بأن الأنفس كانت في الشيول، إلاَّ أنَّه يشرح أنَّ عمل الفادي لم يكن نصف عمل، فأقام النفوس دون الأجساد. عمل الفادي كامل هو، فأقام النفس مع الجسد.
ما دمَّرَ آدمُ كلَّ شيء حين مات وسقط في الشيول، بل مات ساعةَ خطئ ومات العالم معه ساعة أُطلق الحكم. وكذلك ربُّنا أقام كلَّ شيء. لا ساعةَ قام، ولكنَّه يحيا بانتصاره، والعالم يحيا بالعربون الذي أعطانا.
في هذا النصّ، نشهد موازاة بين عمل آدم ونتائجه على البشر، وعمل المسيح ونتائجه على الذين آمنوا به. وانتصار يسوع يعني إقامة عالم جديد. فبالخطيئة مات العالم، وبقيامة المسيح قام العالم. في الماضي عملَ خمير الموت، والآن هو خميرُ الحياة. آدم هو البرهان على الفساد، والمسيح هو نموذج الحياة الجديدة وكافلها.
ونعود هنا إلى أناشيد نصيبين حيث تُعلَن قيامةُ آدم. جاءت الردَّة في النشيد 36، في فم آدم:
مبارك من نصرني
وأحيا الموتى ليمجِّدوه.
ويبدأ النشيد في مقابلة بين ما حصل على الجلجلة وما حصل في جنَّة عدن:
أخضع ربُّنا قدرته، أمسكها،
لكي يُحيي آدم بموته الحيّ
وهب يديه لغرز المسامير
بدل اليد التي قطفت الثمرة
في المحكمة ضُرب على فكِّه
بدل الفم الذي أكل في عدن.
ولأنَّ آدم أفلت رجلَه، ثبَّت (يسوع) رجليه
عُرِّي ربُّنا لنتعلَّم الحياء
بالمرِّ والخلِّ حلّى
مرارة الحيَّة التي تسرَّبت إلى البشر.
وتنتهي هذه القصيدة بنداء إلى يسوع الملك يُطلقه الموت:
أيُّها الملك يسوع، إقبل دعائي
ومع دعائي خذ لك رهينة،
تدبَّرْ لك آدم، الرهينة الكبيرة
الذي فيه طُمر كلُّ المائتين،
كما (كان) حين استقبلتُه
فيه يختفي كلُّ الأحياء
وهبت لك رهينةً أولى، جسد آدم،
فاصعدْ واملك على الجميع
وحين أسمع بموتك (1 تس 4: 16)
أنا، بيدي، أخرج الموتى في مجيئك.
وللكلام عن قيامة آدم، ربطَها أفرام بدخول موسى إلى أرض الموعد. قال عن موسى إنَّه رأى أرض الموعد ووقف عندها، بعد أن صدَّه نهر الأردنّ. وكذلك آدم، صدَّه الكروبيم: دفن ربُّنا آدم وموسى، والاثنان قاما. واحد دخل إلى هذه الأرض، وآخر إلى الفردوس. ونحن لا ننسى أنَّ موسى قام حقًّا، لأنَّه لاقى ربَّنا يسوع بجسده في وقت التجلّي:
وأيضًا كيف تكلَّم معه،
مع غريب على الجبل
موسى وإيليّا.
فإن تكلّما بالجسد معه،
فها هو انبعاث جسديهما.
ذاك ما قرأناه في المدراش 48 من الردَّ على التعاليم الضالَّة. وفي تفسير الإنجيل الرباعيّ كان كلام عن التجلّي في المعنى ذاته: «وأتى (الربّ) بموسى وإيليّا لكي نؤمن بالقيامة الأخيرة. فالذين ماتوا مثل موسى وإيليّا يقومون...».

3-    الفردوس
ونصل مع أفرام إلى الفردوس. ولكن هل نستطيع أن نصف هذا «المكان»؟ هذا أمر مستحيل ويتجاوز كلَّ الإمكانيّات البشريَّة. وهنا نعود إلى أناشيد الفردوس:
بين رهبة وحبّ قمت واسطًا
حبّ الفردوس إلى التنقيب يدعوني
ورهبة جلاله عن الاستقصاء تمسكني (1/2)
وفي 1/3 يعلن شاعرنا: «إنَّ تلك الجنَّة... لا طاقة لمحاول حتّى بالفكر أن يتمثَّلها، فأيُّ عقل يستطيع بوجدانه أن يبصرها، وبقواه أن يسبرها؟!» وفي النشيد الرابع يعرف أفرام أنَّ الفم لا يكفي أن يصف ما في الداخل، بل هو لا يصل إلى السياج، ومع ذلك يتجاسر وينشد:
لا يغضبنَّكم أنَّ لساني قد اجترأ أن يخبر
بما هو أكبر منه! فصغَّره لأنَّه لم يكن كفيئًا له (4: 9).
فما العمل! نعود إلى الكتاب المقدَّس وإلى الصور. فالفردوس جنَّة. والفردوس وليمة، والفردوس مائدة، والفردوس ملكوت. وأخيرًا الفردوس خيام ومظالّ.
أمّا الخيام في الفردوس فهي الأشجار
موسى علَّم الجميع أسفاره السماويَّة
زعيمُ العبرانيّين لقَّننا دروسه
التوراةَ كنز الوحي.
من خلالها تكشَّفت قصَّة الجنَّة
موصوفًا مرئيُّها، ممدوحًا خفيُّها
مقتضبًا خبرُها، مذهلةً أشجارُها (1/1).
أيَّ أشجار يذكر أفرام؟ التينة أوّلاً. هي حاضرة في أرض الرها كما هي حاضرة في أرضنا: مرآها، رائحتها، طعهما، لـمْسها.
لكنّي رأيتُ في سياجه (= الفردوس)
التينات الصوامت
وقد كنَّ لرأس الأثيمين الأوَّلين إكليلين بهيَّين
لكأنَّ أوراقهنَّ، على العريان، يعلوهنَّ الخجل.
وعاد أفرام إلى سفر التكوين (3: 7) وإلى ما فعله آدم وحوّاء بعد أن خطئ: «فخاطا من ورق التين وصنعا لهما مآذر». فالتينة ثمرها حلو، وقيل في الأمثلة القديمة: خلقتُ لكم كلَّ شيء حتّى التين. والأرض التي أعطاها الربُّ لشعبه: «أرض... تين ورمّان» (تث 8: 8). وحين تململ الشعب من الحياة في البرِّيَّة، قال: «في هذه الأرض، لا تينَ ولا كرم ولا رمّان» (عد 20: 5).
لا تستطيع العيون الكليلة
أن تحدِّق إلى أشعَّة جماله السماويّ
فالتين أشجاره أسماء أشجارنا
وبأسماء تيننا سُمِّي تينُه
وأوراقه الروحيَّة لبست جسمًا ملموسًا
فأشبه اللباسُ اللابسَ (11/8).
«الأوراق الروحيَّة». منذ البداية ينبِّهنا الشاعر القدّيس أن لا نتوقَّف عند الصور المادِّيَّة، بل نرتفع إلى الأعالي، إلى «الجمال السماويّ». فجمال الأرض يوجِّهنا إلى خالق ذلك الجمال، إلى الله.
لكنَّ الفم لا يقدر أن يكفي الداخليَّ أوصافَه
ولا يوفّي حتّى الخارجيَّ محاسنَه
بل يقصر حتّى أن يوفّي زيَنَ سياجه الساذجة
حقَّ وصفها:
فإنَّ ألوانه لزاهية وعطوره لمدهشة
ومحاسنه لمشتهاة وطعمه لفاخر.
وفي وسط هذه الجنَّة، شجرة الحياة التي هي صورة عن المسيح، ذاك الشمس بأوراقها المشعَّة، والتي تنحني قدَّامها كلُّ الأشجار كما أمام ملكها. ونستعين بأغصانها كما استعان السرافيم بأجنحتهم قدَّام الله. ذاك ما رواه إشعيا حين دعاه الربّ: «السرافيم قائمون، ولكلِّ واحد ستَّة أجنحة، باثنين يستر وجهه، وباثنين يستر رجليه...» (إش 6: 2).
لعلَّ الشجرة المباركة، شجرة الحياة
بأشعَّتها هي شمس الفردوس.
لقد صقل أوراقَها وطبعها بطابعه،
الجمالُ الروحيّ الضافي على الجنَّة
تنسَّم الريحُ على الأشجار كأنَّك بالجنس يسجد
أمام قائده، ينحني أمام مليكة الأشجار (3/2).
*  *  *
إذا كانت أشجار الفردوس كافَّة،
كلُّ واحدة منهنَّ تلبس المجد،
وتتعطَّفُ بالبهاء،
السرافون بأجنحتهم، والأشجار بأغصانهنَّ
يتحجَّبون لئلاَّ ينظروا إلى سيِّدهم... (3/15).
والفردوس وليمة، تحمل فيها الريحُ الطعامَ من شجرة إلى شجرة (9/9)
من رأى وليمة في لبِّ شجرة!
وثمارًا من كلِّ طعم في مطال اليد
نُظمت للمأكل والمشرب
وللغسل الندى، والأوراق للنشف،
هو كنز لا ينضب لسيِّدٍ هو الغنى (9/4).
وتجتمع في هذه الوليمة صورة الغمامة والمظلَّة (أو: الخيمة)، خيمة البرِّيَّة حيث يقيم الربُّ مع شعبه.
يُولمون في الأشجار خلَلَ الهواء الطلق
تحتهم الأزاهير وفوقهم الأثمار
فسماؤهم ثمر وأرضهم زهَر
من سمع قطُّ أو رأى
غمامةً فوق الرؤوس، مظلَّةً من ثمر
وبساطًا تحت الأقدام منبسَطًا من زهر (9/5).
ولكن يجب أن ننسى سريعًا هذا الإطار المادّيّ: الجنَّة، الأشجار، الزهر، الثمار، الولائم، العطور. أجل، يجب أن نترك «قصَّة الأشجار» ونتحدَّث عن «الظافرين». نترك خبر «الميراث» وننظر إلى «الوارثين» (6/14). نحن نتكلَّم عن الثمر، ولكن أهمّ منها «الكلمة». نتكلَّم عن «أصول الشجر»، ولكنَّ «الحقيقة» تسمو، وكذلك «الحبّ» (6/6). فالإنسان روحيٌّ هو، فيحتاج إلى عين روحيَّة، وإلى طعام روحيّ. فإن ارتضى أن تكون الحياة في الآخرة «أكلاً وشربًا»، لم يفترق كثيرًا عن الحيوان. والرسول قال لنا: «فما ملكوت الله طعام وشراب، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17).
لن نجادل مسألة ما زال الباحثون «الأوروبّيّون» يتجادلون فيها. ما الفرق بين الفردوس والسماء؟ ثمَّ إنَّ لفظ «أهراء» هل يعني أنَّ النفوس تبقى منتظرة إلى مجيء الربِّ الثاني؟ ففي الفكر الأفراميّ، لفظ الشيول يبقى مرتبطًا بموضع يقيم فيه الموتى بانتظار مجيء المخلِّص، ولكنَّه يعني أيضًا «الموضع» الذي فيه يقيم الهالكون.
الموت هو هو بالنسبة إلى الغنيّ وإلى لعازر. لا مجازاة بعد الموت. فالذي ما رغب فيه خادم من الخدم، حملته أيدي الملائكة. ذاك الذي لم يعطه الغنيّ موضعًا في بيته، كان مقامه حضن إبراهيم. أمّا الغنيّ فاحتمل عذابين اثنين: عذاباته الخاصَّة ومنظر فرح لعازر.
يمكن أن نتذكَّر هنا بعض اللاهوت الأرثوذكسيّ: «الانتصار النهائيّ على الموت سيتمُّ في اليوم الأخير، لأنَّ قيامة يسوع كانت الباكورة التي تظهر أنَّ البشر سوف يُقامون في يوم مجيئه الثاني». ويُطرَح السؤال: ماذا يكون للإنسان الذي توفِّي اليوم؟ هل ينتظر المجيء الثاني في «فردوس» لا يكون ملء السعادة؟ سؤال يبقى مفتوحًا مع أنَّ يسوع قال للّص على الصليب: «اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 43)؟ نتذكَّر أنَّ اللصَّ طلب من يسوع: «اذكرني حين تأتي في ملكوتك» (آ42). أمّا أفرام فقال في تفسير الإنجيل الرباعيّ: «اذكرني في ملكوتك». وشرح: «إنَّ الشعب الذي أعلن مملكة عابرة، شارك في عبوديَّته. أمّا الذين أعلنوا الملكوت الحقيقيّ فدخلوا إلى جنَّة الأفراح بحسب مواعيد الربّ». ويواصل أفرام تفسيره:
تكون معي في جنَّة الأفراح: «اذكرني في ملكوتك». لأنَّه رأى بعيني الإيمان كرامة ربِّنا في موضع ذلِّه، ومجدَه في موضع تواضعه، قال: اذكرني. فما يظهر الآن من مسامير وصليب، لا ينسيني ما يكون حين يتمُّ كلُّ شيء والذي لا ننظره بعد: الملكوت والمجد.
رأى ربُّنا أنَّ عنده (= اللصّ) إيمان أكثر من الكثيرين، وأنَّه لا يهتمُّ بألمه بل بغفران خطاياه. فرفعه فوق الكثيرين. وبما أنَّه لم يطلبْ منه أجرًا قريبًا لإيمانه... سرَّع الربُّ مجيءَ عطاياه ووعده وعدًا قريبَ النتائج: اليوم. لا: في نهاية العالم. وهكذا دلَّ على غنى رحمته. فمنذ أعطاه هذا اللصُّ إيمانه، جازاه. ومنحه مجّانًا عطايا واسعة، وبسط عليه كنوزه، وأخذه في الحال إلى فردوسه. وإذ أدخله إلى هناك، أقامه على كنوزه: تكون معي في هذه الجنَّة، جنّة الأفراح.
ونقرأ في النهاية من ميمر نُسب إلى أفرام، وفيه صلاة للحصول على السعادة بعد الموت
في ليل تسكتُ فيه كلُّ الأصوات
وتحرُّكات الناس وكلُّ أجناس البشر،
تستنير نفسنا حين تحرِّكُها،
يا يسوع، يا نور الصدِّيقين.
في وقتٍ تُفرَش الظلمة على الكلِّ مثل الثياب،
تنيرُنا نعمتُك يا ربّ بدل الشمس المحسوسة
*  *  *
في ليل تتوقَّف فيه كلُّ مساعي العالم وأعماله،
لتُقبَلْ نفسنا في هذا السكون الذي هو أعظم من الصمت
في وقت يرتاحُ فيه التعبون بواسطة نوم ساكنٍ على الجميع
لتُروَ بك أفكارُنا، يا ربّ، يا عذوبة القدّيسين
لتشرقْ علينا الشمس الجديدة في وقت الليل والظلام
وبها نطير بتلك المعرفة المحفوظة لنا في القيامة.
الخاتمة
تلك كانت مسيرتنا مع أفرام السريانيّ في كلامه عن الإسكاتولوجيّا أو الأزمنة الأخيرة. تحدَّث عن الموت وكأنَّه شخص حيّ يأخذ جميع الناس ولا يحابي الوجوه، ويجعلهم في الشيول، أي في عالم الموتى. وذلك منذ آدم. بل موسى الذي أشعَّ وجهه، أخذه الموتُ وما خاف منه. وإليشع الذي أحيا ميتًا، أخذه الموت إليه. أمّا الشيول فيحتفظ بالأموات هناك، لأنَّ أبوابه منيعة ومغاليقه صامدة. ولكن دخل إليه من حطَّم الأبواب وكسَّر المغاليق وأخرج الموتى وأوَّلهم آدم، على ما نرى في إيقونات القيامة. رأى التقليد أنَّ الذين ماتوا قبل المسيح، انتظروا قيامة المسيح ليقوموا معه. وهو أقامهم نفسًا وجسدًا. وجعل الأجساد والنفوس في «موضع» السعادة معه. وهو أقامهم نفسًا وجسدًا. وجعل الأجساد والنفوس في «موضع» السعادة معه. والمثال على ذلك «اللصّ» الذي دعاه ليذكره في ملكوته. ونحن لا ننتظر السعادة في نهاية الأزمنة والمجيء الثاني، بل منذ الآن نكون مع الربّ في كلِّ حين (1 تس 4: 17)، كما قال الرسول. والربُّ نفسه طلب من الآب أن يكون تلاميذه معه ليروا مجده (يو 17: 24). كلُّ هذا قدَّمه شاعرُ نصيبين والرها في الصور والتمثُّلات المادِّيَّة. ولكنَّه نبَّهنا، ولاسيَّما في أناشيد الفردوس، أن نرتفع من درجة إلى درجة، من المادَّة إلى الروح. «فعلى هذا الفردوس النقيّ والمقدَّس، كلُّ ما يقال فيه هو دقيق وروحيّ». ثمَّ: «وإن بدا الفردوس من الأرض، حين نتكلَّم عنه، فهو في جوهره نقيّ وروحيّ». هو فوق وفوق الفوق بالنسبة إلى البشر الذين هم على الأرض. أمّا الهالكون فهم تحت، وتحت الأرض، فلا يبقى للمؤمن سوى أن يتشبَّه بذاك اللصّ ويطلب الغفران عن خطاياه لأنَّ الربَّ هو «الرحمة اللامحدودة، وبحر الحنان، والخير الذي لا قياس له، والحبّ الذي يعجز عنه الكلام».

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM