الفصل الثاني عشر:الله يغفر ويسامح

الفصل الثاني عشر
الله يغفر ويسامح

عندما نقرأ الكتاب المقدس بعهده القديم، يلفت نظرنا المرَّات التي فيها تظهر كلمة غضب: 320 مرَّة. تتخيَّلون! وأكثرها يرتبط بالله: «فحميَ غضبُ الله على موسى» (خر 4: 14). هذا على مستوى الفرد. وعلى مستوى الجماعة: «يحمي غضبي وأقتلكم بالسيف، فتصير نساؤكم أرامل وأولادكم يتامى» (خر 22: 23). الله يغضب. الله يعاقب فدُعيَ «إله الغضب». وقال فيه بعض الشعراء إنَّه إله يلتذُّ بالدمّ! ووصلت الفكرة إلى معاصري العهد الجديد حيث العقاب يكون نتيجة الخطيئة: حصل للجليليِّين أنَّ بيلاطس خلط دماءهم بذبائحهم (لو 13: 1). فأجاب يسوع: «أتظنُّون أنَّ هؤلاء الجليليِّين خطئوا أكثر من كلِّ الجليليِّين لأنَّهم كابدوا مثل هذا؟» (آ2). والأعمى منذ مولده، قالوا عنه: «هل أخطأ هو أم والداه ليولَد أعمى؟» (يو 9: 1). وهذا الكلام ما زلنا حتّى اليوم نردِّده: الله هو ربُّ الغضب والعقاب. فنقول: «الله يُبعد الضربات». وذلك في خطِّ ما حصل في مصر في زمن خروج العبرانيِّين: عوامل الطبيعة صارت ضربات من لدن الله! وما نلاحظ هو أنَّ الله يتعامل مع الأفراد والجماعات على مستوى «سنٍّ بسنٍّ وعين بعين»: إذا عملتم سوف أعمل لكم!
غريب هذا الإله لمن لا يعرف أن يقرأ الأسفار المقدَّسة. فبعد تلك الخطيئة الفظيعة، وعلى أثر عبادة العجل الذهبيّ (خر 32: 1ي) وتوسُّل هارون إلى موسى (آ22)، فهم الكتاب أنَّ الربَّ هو «رحيم ورؤوف، بطيء عن الغضب، كثير الإحسان والوفاء، حافظُ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطيئة» (خر 34: 7). ويقول فيه النبيّ ميخا: «من هو إله مثلك، غافر الإثم وصافحٌ عن الذنب لبقيَّة ميراثه! لا يحفظ إلى الأبد غضبه. فإنَّه يُسرُّ بالرأفة. يعود يرحمنا، يدوس آثامنا وفي أعماق البحر تُطرح خطايانا» (7: 18-19). أجل، إلهنا هو من يغفر ويسامح. وبعد «الضربة» التي تأتي من البشر، فهو يعزِّي، وبعد خراب الحروب فهو يعيد البناء. أمّا غضبه فهو ألم في قلبه لأنَّ المؤمن، لأنَّ الشعب، لم يسمع لكلامه وتنبيهاته، وهو حزن وعتاب: «ماذا فعلتُ لك، يا شعبي؟!»
نظرة وثنيَّة غضب الله. كان الملك يأتي إلى مدينته، فيخاف الناس منه ومن عقابه. وهكذا رأى الناس الله على مثال ملوكهم ورؤسائهم. أمّا الربُّ فكان كلامه واضحًا: «أنا إله لا إنسان». الإنسان يغضب وينتقم وخصوصًا إذا كان قويًّا. أمّا الله فلا يفعل. ويواصل: «أنا القدُّوس في وسطكم فلا أتصرَّف بالغضب» (هو 11: 9). قيل هذا الكلام عن أفرائيم، أي مملكة السامرة، التي سقطت بيد الأشوريِّين سنة 721 ق.م. فمضى أهلها إلى السبي. ظنَّ الشعب أنَّ الله ضربهم. عمليًّا، سياسة خرقاء من قبل ملوك متعاقبين، يقتل الواحد الآخر ويحلَّ محلَّه. يسأل الربّ: هل أنا جعلتك هكذا؟ هل أنا صيّرتُك إلى ما صرت؟ هل أنا جعلتك مثل أدمة التي دمِّرت مع سدوم وعمورة، هل أنا عاملتُك مثل أختك صبوئيم؟ حين رأى الربُّ ما حصل لشعبه قال: «قلبي يضطرم في صدري، وكلُّ مراحمي تتّقد». فالله أب وأمّ. وبالأحرى أمٌّ وهو الرحيم الذي يجتذب أولاده بالرحمة وبالمحبَّة (هو 11: 4).

1-    غفران الله
الإنسان خاطئ وبه دخلت الخطيئة إلى العالم. والخطيئة تحمل وراءها الخراب والموت. «لا تقتل». تلك هي الوصيَّة منذ بداية الكون. ولكنَّ قايين قتل هابيل (تك 4: 8). فعلَ، مع أنَّ الله نبَّهه: «الخطيئة رابضة عند الباب» مثل الأسد (آ7). رفض أن يسمع. وكان بإمكان البشر أن ينتقموا من القاتل، أمّا الله فلا. «وضع له علامة» (آ15) وهدَّد من ينتقم. بل إنَّ الله استعدَّ أن يغفر لو أنَّ قايين أقرَّ بذنبه. بل هو فضَّل أن يمضي إلى البعيد، «بعيدًا عن الله» لئلاَّ يسمع توبيخ ضميره، والضمير هو صوت الله.
هنا نتذكَّر لقاء ناتان النبيّ مع داود. «لماذا احتقرتَ كلام الربِّ وعملت الشرَّ في عينيه؟ قتلتَ أوريّا الحثّيَّ بالسيف وأخذت امرأتَه لك امرأة» (2 صم 12: 9). ماذا يستحقُّ هذا الخاطئ الكبير؟ الموت. فهو حكمَ على نفسه بعد أن قدَّم له ناتان مثله: «حيٌّ الربّ! الرجل الذي فعل ذلك يجب أن يُقتَل» (آ5). ذاك منطق البشر، لا منطق الله. فحين أحسَّ داود بذنبه وقال: «خطئتُ إلى الربّ»، ردَّ ناتان حالاً: «الربُّ نقل عنك خطيئتك، وأنت لا تموت» (آ13). وارتبط بداود، الذي دُعيَ النبيّ، مزمور التوبة: «ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ».
في الكتاب المقدَّس، يبدو الإنسان مديونًا لله، ودينُه كبير جدًّا، بحيث لا يستطيع إطلاقًا أن يفيه. كيف يعوِّض قايين عن مقتل أخيه هابيل؟ كيف يعوِّض داود عمّا فعل؟ وأخاب الذي سمع من امرأته إيزابيل وقتل نابوت وأخذ له أرضه (1 مل 21: 1ي)، كيف يعيد الأمور إلى نصابها؟ مستحيل! أرسل الربُّ إليه النبيَّ إيليّا لكي يوبِّخه على خطيئته. أحسَّ هذا الملك بفظاعة ما فعل، وقام بفعلة بسيطة تدلُّ على ندامته: «شقَّ ثيابه، وجعل على جسمه مسحًا وصام...» (آ27). اكتفى الربُّ بهذا الاتِّضاع! واكتفى بكلمة من داود. واكتفى بما قاله الابن الأصغر: «خطئتُ إلى السماء وأمامك. ولستُ مستحقًّا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا» (لو 15: 21).
غفران تام. انقلاب تامّ. ممّا جعل الابن الأكبر يثور، يرفض المشاركة في الغفران كما في الوليمة. فضَّل أن يبقى في الظلمة ولا يأتي إلى نور المصابيح المضاءة، فضَّل أن يبقى وحده في أنانيَّة قاتلة ولا يكون مع هذا الخاطئ الذي بدَّد خيرات البيت مع الزواني (آ20). هكذا يفعل البشر، لا الله. ما إن رأى ابنه من بعيد حتّى «تحرَّكت أحشاؤه» (في النصّ المترجم: «تحنَّن» أو: «أشفق») مثل أمٍّ رأت ابنها يعود إليها بعد طول غياب. هو ما سأله سؤالاً واحدًا، ولا عاتبه، ولا وبَّخه. اكتفى بأن يقبِّله ويُولم له أعظم وليمة. هكذا يستقبلنا الآب السماويّ كلَّ مرَّة نعود إليه. إن كان يطلب منّا أن نغفر، فلأنَّه هو يغفر، وإن لم يرضَ عن بطرس بأن يغفر سبع مرَّات، بل طلب منه أن يغفر «سبعين مرَّة سبع مرَّات» (مت 18: 22)، أُتراه يغفر أقلَّ ممّا نغفر نحن؟ حسبوا أنَّه يعاقب إلى ثلاثة أو أربعة أجيال، فأجاب: «أصنع الإحسان إلى الألوف من محبِّيَّ وحافطي وصاياي» (خر 20: 6). وما أجمل ما يقول المزمور (30: 6) حين يحسُّ المؤمن أنَّه خاطئ: «إن كان غضبه لحظة، فرضاه مدى الحياة. عند المساء يبيت (أو: يطول) البكاء (على خطايانا) وفي الصباح نرنِّم» (لأنَّ الله غفر خطايانا). ويصلِّي حزقيّا الملك: «تشفيني وتحييني، وتطرح وراء ظهرك كلَّ خطاياي» (إش 38: 16-17). لا مجال لذكرها بعد اليوم. صارت في عالم النسيان. وإذا كان الله نساها، لماذا نتذكَّرها نحن ونتذكَّرها؟ بالنسبة إلينا، تخلق فينا عقدة، مثل تلك المرأة التي لبثت تعترف بخطيئة اقترفتها منذ 16 سنة. أين إيمانها بغفران الله؟ وهذه الجماعة التي اعترفت أنَّ مثل هذه الخطيئة لا تُغفَر بسبب شناعتها، كلاّ وألف كلاّ: لو كانت خطايانا علوَّ الجبال، فرحمة الله أعلى من الجبال. «إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج، وإن كانت حمراء كالدوديّ تصير كالصوف» (إش 1: 18).


2-    غفران مجّانيّ
سبق وألمعنا أنَّ الخاطئ مديون لله، وهو لا يستطيع أن يفي مهما فعل. ونورد مثَل «العبد الذي لا يغفر» (مت 18: 21ي). دَينه كبير جدًّا. «عشرة آلاف وزنة» (آ24). والوزنة تساوي 6000 دينار، والدينار أجرة عامل في النهار. تتخيَّلون الدين على هذا الرجل المسكين الذي استعدَّ أن يبيع نفسه وامرأته وأولاده وكلَّ ما له ليفي الدين (آ25). كلُّ هذا يساوي بضعة دنانير. ولو تعلمون ماذا قال هذا «العبد»؟ «تمهَّل عليَّ وأنا أفيك» (آ36). وكيف يفي؟ مستحيل. تألَّم سيِّده، تألَّم الربُّ أمـام هــذه الحالــة. الربُّ (كيريوس في اليونانيَّة)، (ربِّي، م ر ي في السريانيَّة). «تحرَّكت أحشاؤه وأطلقه، وترك له الدين» (كلَّه) (آ27).
ماذا فعل هذا «العبد»، هذا الرجل القريب من سيِّده، العامل عنده، لكي يستحقَّ هذا العطاء؟ لا شيء. فغفران الله مجّانيّ، وما من أحد يستحقُّه. فأعمالي السابقة من توبة وصوم وصلاة هي نقطة في بحر رحمة الله. ما يطلب منّا الربُّ هو أن نرجع إليه كما الولد إلى أبيه (وأمِّه). ذاك ما قلتُ لأحد الشباب في الإمارات، في جبل علي. كان يائسًا ويتساءل ماذا يفعل؟ كيف يستحقُّ أن يعود إلى الربّ. لا استحقاق من قبلنا. بل نرجع وهذا يكفي، فنجد قلبًا مستعدًّا لاستقبالنا.
ويروي القدِّيس لوقا خبر تلك المرأة التي أتت إلى بيت أحد الفرِّيسيِّين (لو 7: 36: 50). لا اسم لها. فاسمها الوحيد: خاطئة، زانية... وكلُّ الأسماء الشنيعة تليق بها. أمّا الفرِّيسيّ فهو من أهْل البرارة، الذي لا يختلط بالخطأة ولا يأكل معهم، بل لا يسلِّم عليهم. وهكذا يحسب نفسه «منفصلاً» عن الخطأة. وتأتي إليه هذه المرأة، ويستقبلها يسوع! ما هذا النبيّ الذي لا يعرف واجباته، الذي لا يحافظ على كرامته، ولا على كرامة البيت الذي دعاه!
أتت هذه الخاطئة عند قدمَي الربّ. أتت بكلِّ خطيئتها مع «الطيب والبكاء والدموع والشعر والقُبل». هذه التي كانت أداة الخطيئة، جعلَتْها تلميذة ليسوع. البكاء والدموع تكون على الخطايا مثل مريم المصريَّة. الطيب يكون من أجل دفن يسوع. القبلة لم تعد قبلة الزنى بل «القبلة المقدَّسة» (1 كو 16: 20) التي يتبادلها الإخوة والأخوات، للدلالة على السلام فيما بينهم قبل المشاركة في مائدة القربان والتناول.
هذه غُفرت خطاياها الكثيرة فأحبَّت كثيرًا. فالغفران سابق لحبِّها للربّ. المبادرة تأتي دومًا من عند الله. النداء من عنده ونحن نتجاوب مع هذا النداء. عندئذٍ قابلت الحبَّ بالحبّ. أحبَّت كثيرًا فغُفرت خطاياها الكثيرة. أمّا الذي «يُغفر له القليل فهذا يعني أنَّه يحبُّ قليلاً» (آ47).
نحن لا ندفع الدَين. نحن لا نستطيع أن نكفِّر عن خطايانا. نحن لا نستطيع أن نفعل وكأنَّ شيئًا لم يكن. فالمسيح سبقنا إلى ذلك، وهو الذي «بذل نفسه فدية عن كثيرين» (مر 10: 45). وقال بطرس في رسالته الأولى عن يسوع «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطيئة ونحيا للبرّ» (2: 24). وهو من دفع الثمن الذي لم يكن بمقدورنا أن ندفعه. قال بطرس أيضًا: «عالمين أنَّكم افتُديتم، لا بأشياء تَفنى، بفضَّة أو ذهب... بل بدم كريم، بدم حملٍ لا عيب فيه، دم المسيح» (1: 18-19).
ولكنْ أجمل ما يكون، يدعونا يسوع لكي نشاركه في آلامه، فنتمِّم في جسدنا ما ينقص من آلام المسيح من أجل جسده الذي هو الكنيسة (كو 1: 24). أجل، يريدنا يسوع أن نكفر معه، أن نتألَّم معه، لا يريدنا أطفالاً، قصَّارًا، يتسلَّمون كلَّ شيء مثل أشخاص غير مسؤولين. الابن الأصغر عاد ونال احتقار أخيه الأكبر، كما نال يسوع احتقار الفرِّيسيِّين والكتبة لأنَّه يقتبل الخطأة (لو 15: 2). والخاطئة وضعت «أدوات الخطيئة» عند قدمَيْ الربّ. فاحتقرها الفرِّيسيّ وما أراد النظر إليها، كما خفَّت ثقته بذاك الذي دعاه نبيًّا (لو 7: 39).
أجل، نحن مع يسوع. يرتفع ويرفعنا. هذا يعني أنَّنا نقبل دعوته، وإلاَّ نكون مثل الابن الأكبر «الذي غضب وما أراد أن يدخل» (لو 15: 28). فطيما بن طيما الأعمى قام عن حجَره حين دعاه الربّ، «وتبع يسوع في الطريق» (مر 10: 52). وسمعان القيرينيّ حمل الصليب مع يسوع ووصل معه إلى الجلجلة (مر 15: 21). فالله الذي خلقنا بدون إرادتنا، لا يخلِّصنا بدون إرادتنا. ذاك ما قال الآباء. فهو يحترمنا كلَّ الاحترام ويريدنا أن نكون معه. ونهتف مع بطرس الرسول بعد خطبة خبز الحياة: «إلى من نذهب، يا ربّ، وعندك كلام الحياة الأبديَّة؟» (يو 6: 68).

3-    إلهنا إله الغفران
تجاه الخطيئة، يكشف الإله الغيور عن نفسه أنَّه إله الغفران. عند جبل سيناء أوصى شعبه: «أنا هو الربُّ إلهك... لا يكن لك آلهة أخرى أمامي... لا تسجد لها ولا تعبدها، لأنِّي أنا الربُّ إلهك إله غيور» (خر 20: 2-5). وبلفظ آخر «مغروم» بشعبه. يحبُّه ويريد مقابلة الحبِّ بالحبّ. ويكره الخيانة التي يعتبرها «زنى»، لاسيَّما وأنَّه هو الأمين. فكيف لا يستحي الشعب من نفسه حين ينسى الأمانة؟ وكيف لا يستحي كلُّ واحد عندما يتذكَّر حسنات الله من أجله. قال للشعب: «أخرجتُك من مصر، من دار العبوديَّة» (آ2). هل حسبتَ نفسك تستحقُّ ما فعلتُ لك؟ هل حسبت نفسك أفضل من سائر الشعوب؟ كلاّ.
وكانت الخيانة العظمى. تذكَّر العبرانيُّون عبادة الثيران في مصر. ولكن، يا للسخرية! صنعوا فقط «عجلاً». والتمثال كان صغيرًا بحيث يُوضَع في الجيب. ما هذا الإله الذي تعبدون؟ وهتف هارون: «هذا عيد للربّ» (خر 32: 5). وأيُّ عيد؟ وماذا يمثِّل هذا «العجل» تجاه رهبة جبل سيناء؟ فالإنسان عبد ويبقى عبدًا، لأنَّ كلَّ من يفعل الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة، كما قال الربّ يسوع (يو 8: 34). وكيف احتفلوا بالعيد؟ «جلسوا يأكلون ويشربون، ثمَّ قاموا يلعبون» (خر 32: 6). واللعب هنا هو الزنى والبغاء المكرَّس. انحدروا على مستوى الروح، كما على مستوى الجسد. شابهوا الذين «زنوا» أمام بعل فغور، فاستحقُّوا العقاب المريع.
خان الشعبُ العهد واستحقَّ أن يُدمَّر. وتألَّم الله في قلبه «لأنَّهم زاغوا عن الطريق». توسَّل موسى، فقال الكتاب: «فندم الربُّ على الشرِّ الذي قال إنَّه يفعله لشعبه» (خر 32: 14). هم يستحقُّون العقاب لئلاَّ يعودوا إلى الشرّ. عزم الربُّ على ذلك، ثمَّ تراجع. «ندمَ». أجل، الله ندم والشعب لم يندم. الله «بكى» والشعب لم يبكِ. هنا نلتقي مع يسوع الذي بكى على أورشليم لأنَّها لم تعرف يوم افتقادها. «كم مرَّة أردتُ أن أجمع أولادكم كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا» (مت 23: 37). وتتعجَّبون أن يكون بيتكم الآن خرابًا (آ38). هو نداء إلى التوبة. «عودوا إليَّ فأعود إليكم». ويهتف هوشع بفم الله: «يسيرون وراء الربِّ وهو يزأر كالأسد (ليجمع أشباله، هؤلاء هم المؤمنون. تشجَّعوا وهم يسيرون وراء إلههم). يزأر فيسرع البنون إليَّ من جهة البحر. من مصر يسرعون إليَّ كالعصافير (وهل أضعف من العصافير؟) ومن أرض أشور كالحمام (الذي عُرف بالوداعة) فأعيدهم إلى بيوتهم، أنا الربّ» (11: 10-11). هذا هو إلهنا. نخطأ فيغفر لنا. تكثر خطيئتنا فتفيض رحمته. نبتعد عنه فلا يتخلَّى عنّا. «نزني، نخون الربّ»، ولكنَّه لا يهجرنا، بعد أن كتب اسمنا على كفِّ يده وأعطانا الثقة بأنَّه لا يتركنا، فيتفوَّق على الأمِّ التي يمكن أن تترك أولادها وتنسى رضيعها.
وبالرغم من رحمة الربِّ وحنانه، ما زلنا نعزو إلى الله «الغضب والعقاب» مع أنَّه قيل إنَّ الربَّ «ندم». وأضيف فيما بعد: «وبطش الربُّ بالشعب لأنَّهم عبدوا العجل الذي صنعه هرون» (خر 32: 35). كلُّ شيء يعود إلى الربّ. جاء العقاب من «الرئيس» واعتبر أنَّه يهدِّئ «غضب الربّ». كلُّ ما طلب الربُّ من الشعب أن «ينزع زينته» (خر 33: 5) التي تُذكِّرهم بالرقص أمام العجل الذهبيّ.
بشريًّا، نحن لا نستحقُّ سوى العقاب، بعد أن احتقرْنا قداسة الله وبرَّه. ولكنَّ الله لا يريد موت الخاطئ بل توبته ليمنح له غفرانه ويعيده إلى الحياة (حز 18: 23). نحن، في شرِّنا، نطلب وننتظر أن نرى عقاب الله على الأشرار، فنشبه يونان الذي انتظر «بشوق» دمار نينوى. ولكنَّ هذا الدمار لم يحصل على ما أنبأ به. وغضب: «خذ حياتي منِّي، فخير لي أن أموت من أن أحيا» (يون 4: 3). وندم هذا «النبيّ» وتراجع: أفكار بشريَّة خاطئة!
لهذا جاءت صلاة المزامير مليئة بالثقة: «لذلك اعترفتُ لك بخطيئتي، وما كتمتُ إثمي عنك. قلت: "أعترف للربِّ بمعاصيَّ فينسى إثمي وخطيئتي"» (مز 30: 50). فالله لا يريد هلاك الخاطئ (78: 38: «هو رحوم يكفِّر عن الإثم، ولا يريد هلاك أحد»)، ولا يحتقره (كما نفعل نحن)، بل يخلقه من جديد، وينقِّيه من آثامه («اغسلني كثيرًا من إثمي») ويملأ قلبه بالفرح والبهجة. هذا ما نقرأ في مز 51: «قلبًا طاهرًا اخلُقْ فيَّ يا الله، وروحًا جديدًا كوِّنْ في داخلي» (آ12). الله أب ويغفر لأبنائه كلَّ هفواتهم. قال عنه المرتِّل: «ينسى جميع ذنوبي ويشفي جميع أمراضي، يفتدي من الهوَّة حياتي وبالرحمة والرأفة يكلِّلني» (103: 3-4). ويتواصل الكلام: «الربُّ رحوم حنون، صبور وكثير الرحمة. لا يخاصم على الدوام ولا إلى الأبد يحقد. لا يعاملنا بحسب خطايانا، ولا حسب ذنوبنا يجازينا. كارتفاع السماء عن الأرض ترتفع رحمتُه على خائفيه: كبُعد المشرق من المغرب يُبعد عنّا معاصينا» (آ8-12).

الخاتمة
هذا هو إلهنا، لا إله الغضب وإله العقاب، بل إله الرحمة والغفران. نحن ما زلنا إلى الآن «وثنيِّين»، ولم نتعرَّف إلى الله كما هو. بل توقَّفنا عند صنم لا يحسُّ ولا يشعر. فيستعمله الذين «مسخوه» لكي يملأوا قلوبنا بالخوف، ويحفظوننا في العبوديَّة بحيث لا نخرج من تحت سلطتهم. يصبح «السلطان» صورة الله، فيضرب ويؤكِّد أنَّه يضرب باسم الله. ما أكثر ما يكون عقابُه هو عند الله، كما يقول سفر الحكمة. منذ العهد القديم تعرَّفنا إلى الربِّ الذي يحبّ، يغفر ويسامح، ويعود إلى البناء من جديد. بعد أن يكون الإنسان هدمَ ما هدم. ماذا ننتظر لنعود إليه؟ ماذا ننتظر لنرتمي في حضنه كما الطفل مع والديه. هو دعانا لكي نكون كالأطفال، فلماذا نعقِّد الأمور، ونتصوَّر الله على شاكلتنا، مليئًا بالغضب والانتقام والعقاب. كم يجب علينا أن نعرف كيف نقرأ الكتاب المقدَّس: من خلال الحرف ندخل في الروح الذي يوصلنا إلى يسوع المسيح، الذي أخذ أوجاعنا وحمل أمراضنا، الذي جاء أوَّل ما جاء من أجل الخطأة. وفي النهاية الذي يفرح ويملأ السماء فرحًا حين يعود الخاطئ إلى الربِّ. ونحن الخطأة نعود إليه فهو ذاك الذي يغفر ويسامح. فما أعظم ما تكون سعادتنا!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM